رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
بسم الله الرحمن الرحيم
غـض البصر
التأريخ: 15/4/1430هـ
المكان: جامع الإمام مالك بن أنس رحمه الله بالدمام
الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران:102]
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ﴾ [النساء:1]
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ﴾ [الأحزاب: 70 و71]. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله وأحسن الهدي هدي محمد ص وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
عباد الله:
إن الله تعالى نوع العبادات فأمر بكل ما يصلح المجتمعات ونهى عن كل مايفسدها ويخل بأمنها، ومما يصلح المجتمعات غض البصر عن الحرام،فإن الرجل إذا أتبع بصره تحرك قلبه في طلب ما يراه فقد يقع فيما يغضب الله جل شأنه، والذي نراه من ارتفاع مستمر في نسب الجريمة الخلقة والخطف، والاغتصاب سببه إطلاق البصر في الحرام، بل لقد بدأ المجتمع يتناقل ما يقع من زنا المحارم، بل لقد بلغ الأمر لوقوع بعض كبار السن ممن تجاوز الستين والسبعين في مثل هذا، وكل هذا بسبب إطلاق النظر في القنوات الفضائية الفاسدة المفسدة، وغيرها كالمجلات مثلا.
عباد الله:
(والنظر أصل عامة الحوادث التي تصيب الإنسان؛ فإن النظرة تولد خطرة، ثم تولد الخطرة فكرة، ثم تولد الفكرة شهوة، ثم تولد الشهوة إرادة، ثم تقوى فتصير عزيمة جازمة، فيقع الفعل، ولا بد، ما لم يمنع منه مانع.
وفى هذا قيل:الصبر على غضّ البصر أيسرُ من الصبر على ألم ما بعده.
قال الشاعر:
كلُّ الحوادثِ مبدأها من النظرِ ومُعظَمُ النارِ مِنْ مُستصغَر الشَّررِ
كمْ نظرةٍ بلَغَت منْ قلْبِ صاحبِها كمبلغِ السهْم بينَ القوسِ والوتر
والعبدُ ما دام ذا طَرْفٍ يُقَلِّبُه في أعُين الغيْدِ مَوقوفٌ على الخَطَرِ
يَسُرُّ مُقْلَتَهُ ما ضَرَّ مُهْجَته لا مَرْحباً بِسُرورٍ عادَ بالضَّررِ)()
وإن ترك المحرمات داخل في الإيمان، لأن الإيمان هو الاستسلام لله والانقياد لشرعه، والله جل وعلا يقول: ((قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ))، وغض البصر ليس أمرا خاصا بالرجال من دون النساء بل حتى المرأة مأمورة بغض بصرها قال تعالى: ((وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فروجهن)).
وقد ورد في السنة أحاديث كثيرة تأمر بغض البصر، ومنها قوله ^: {غضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم، واحفظوا فروجكم} صححه الألباني().
وكان النبي ^ يمنع أصحابه من إطلاق أبصارهم فهذا الفضل بن العباس وكان شابا فوقفت أمامه شابة من خثعم وضيئة تستفتي رسول اللّه ^، فطفق الفضل ينظر إليها وأعجبه حسنها، فالتفت النّبيّ ^، والفضل ينظر إليها، فأخلف بيده فأخذ بذقن الفضل فعدل وجهه عن النّظر إليها..).
وفي الحديث المشهور الذي رواه مسلم أن النبي ^ قال: أعطوا الطريق حقه. فقالوا:وما حقه قال: «غض البصر وكف الأذى ورد السلام والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر».
وكان النبي ^ يناصح كبار أصحابه بغض البصر فقد قال لعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه: «يا عليّ، لا تتبع النّظرة النّظرة؛ فإنّ لك الأولى وليست لك الآخرة» قال أحمد شاكر: إسناده صحيح().
والنظرة ياعباد الله سهم مسموم من سهام إبليس من تركها من مخافة الله أعطاه الله إيمانا يجد حلاوته في قلبه، أما من أطلق بصره فإنه يجد لها أثرا في قلبه؛قال ابن مسعود- رضي اللّه عنه- «الإثم حوّاز القلوب ـ أي يترك أثرا في القلب ـ، وما من نظرة إلّا وللشّيطان فيها مطمع)()
ولعل الحزازة التي يقصدها ابن مسعود هي النكتة السوداء في الحديث الصحيح «تعرض الفتن على القلوب عرض الحصير عودا عودا، فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء»()
قال العلاء بن زياد العدويّ - رحمه اللّه تعالى -: لا تتبع بصرك حسن ردف المرأة، فإنّ النّظر يجعل الشّهوة في القلب.
وحِفْظُ البصر ليس بالأمر الهين خاصة في هذه الأزمان والتي كثرت فيها الفتن في الأسواق والشوارع بل حتى في البيوت لذا قال عبد اللّه بن مسعود - رضي اللّه عنه: «حفظ البصر أشدّ من حفظ اللّسان».
وقد أكد الصحابة الكرام على هذا المعنى الجليل، وأمروا به قال أنس بن مالك - رضي اللّه عنه-: «إذا مرّت بك امرأة فغمّض عينيك حتّى تجاوزك».
ومما يؤثر عن جريج العابد رحمه الله ورضي عنه أن المرأة الغانية الفاجرة لما تعرضت له غض بصره وأعرض عنها ولم يلتفت لها.
قال الشاعر الجاهلي عنترة بن شداد:
وأغض طرفي ما بدت لي جارتي حتى يوارى جارتي مأواها
إني امرؤ سمح الخليقة ماجد لا أتبع النفس اللجوج هواها
وبعض الناس يعتذر بأعذار شيطانية فيقول: هذه المرأة هي التي كشفت عن مفاتنها لذا أنا أنظر لها، فالجواب: أنت مأمور بغض بصرك ولو عصت هي الله فلا تعصه أنت، وقد سَأَلَ سعيد بن أبي الحسن الحسن البصري فقال: «إنّ نساء العجم يكشفن صدورهنّ ورؤوسهنّ». فقال الحسن: «اصرف بصرك يقول اللّه تعالى: ((قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ))».
عباد الله:
قال شيخ الإسلام ابن تيميّة - رحمه اللّه تعالى -: قد أمر اللّه في كتابه بغضّ البصر وهو نوعان: غضّ البصر عن العورة، وغضّه عن محلّ الشّهوة.
فالأوّل منهما: كغضّ الرّجل بصره عن عورة غيره، كما قال النّبيّ ^ «لا ينظر الرّجل إلى عورة الرّجل ولا المرأة إلى عورة المرأة» ويجب على الإنسان أن يستر عورته.
وأمّا النّوع الثّاني: فهو غضّ البصر عن الزّينة الباطنة من المرأة الأجنبيّة وهذا أشدّ من الأوّل.
الحمد لله...
فيا عباد الله لغض البصر فوائد عديدة منها:
أنه امتثال لأمر الله الذي هو غاية سعادة العبد في معاشه ومعاده وليس للعبد في دنياه وآخرته أنفع من امتثال أوامر ربه تبارك وتعالى وما سعد من سعد في الدنيا والآخرة إلا بامتثال أوامره وما شقي من شقى في الدنيا والآخرة إلا بتضييع أوامره.
حلاوة الإيمان ولذته التي هي أحلى وأطيب وألذ مما صرف بصره وتركه لله تعالى فإن من ترك شيئا لله عوضه الله عز و جل خيرا منه والنفس مولعة بحب النظر إلى الصور الجميلة،والعين رائد القلب فيبعث رائده لنظر ما هناك فإذا أخبره بحسن المنظور إليه وجماله تحرك اشتياقا إليه وكثيرا ما يتعب ويتعب رسوله ورائده كما قيل:
وكُنْتَ متى أرسلْتَ طَرْفَكَ رائِداً لقلْبكَ يوماً أتعبتْكَ المناظِرُ
رأيتَ الذي لا كُلُّهُ أنتَ قادرٌ عليهِ ولا عنْ بعضهِ أنتَ صابرُ
فإذا كف الرائد عن الكشف والمطالعة استراح القلب من كلفة الطلب والإرادة فمن أطلق لحظاتُه دامت حسراتُه فإن النظر يولد المحبة والتعلق.
نور القلب والفراسة، ولذلك ذكر اللّه عزّ وجلّ، عقب آيات غضّ البصر الّتي في سورة النّور قوله تعالى ﴿اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ﴾ [النور:53] وذلك لأنّ اللّه- عزّ وجلّ- يجزي العبد على عمله بما هو من جنسه. فلمّا منع العبد نور بصره أن ينفذ إلى ما لا يحلّ، أطلق نور بصيرته وفتح عليه باب العلم والمعرفة.
أنه يورث القلب أنسا بالله، فان إطلاق البصر يفرق القلب ويشتته ويبعده من الله وليس على العبد شيء أضر من إطلاق البصر فانه يوقع الوحشة بين العبد وبين ربه
قوّة القلب وثباته وشجاعته فيجعل اللّه له سلطان البصيرة مع سلطان الحجّة
فيه راحة للنّفس والبدن.
يصون المحارم ويجنّب الوقوع في الزّلل.
يجعل المجتمع المتحلّي بهذه الصّفة مجتمعا آمنا.
يصون المجتمع من انتشار الزّنى.
يضرّ بالشّيطان وأعوانه ويستجلب العفّة.
عباد الله:
آفات النظر في المحرمات كثيرة، ويكفي أنها معصية لجبار الأرض والسموات، ومؤذنة بعذاب الله جل في علاه، والنظرة تورث الحسرات والزفرات، فيرى العبد ما ليس قادراً عليه ولا صابرا عنه، وهذا من أعظم العذاب: أن ترى ما لا صبر لك عنه ولا عن بعضه ولا قدرة لك عليه ولا عن بعضه،وقد قيل: إن حبس اللحظات أيسرُ من دوام الحسرات.
وإن كثرة النظر إلى المحرمات جعل عددا من الأزواج يزهدون في زوجاتهم ويهجرهن بحثا عن غيرهن مما أدى لكثير من الفتن والفساد، والعياذ بالله.
التأريخ: 27/6/1425هـ
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره. ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا.
من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
((يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون)) [آل عمران: 102]
((يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا)) [النساء: 1]
((يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا. يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيماً)) [الأحزاب: 70 و71]. أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
فهذه المقدمة التي أكررها دائما تسمى عند أهل العلم بخطبة الحاجة، وكان رسول الله ^ يعلمها أصحابة، وقد اتفق أهل العلم أنها سنة في عقد النكاح، والصحيح أنها سنة في الجمعة كذلك. وهذه الخطبة هي التي خطبها رسول الله ص على ضماد الأزدي"فأبهرت ضمادا فقال: أَعِدْ عَلَيَّ كَلِمَاتِكَ هَؤُلَاءِ فَأَعَادَهُنَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ^ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَقَالَ: لَقَدْ سَمِعْتُ قَوْلَ الْكَهَنَةِ وَقَوْلَ السَّحَرَةِ وَقَوْلَ الشُّعَرَاءِ فَمَا سَمِعْتُ مِثْلَ كَلِمَاتِكَ هَؤُلَاءِ وَلَقَدْ بَلَغْنَ نَاعُوسَ الْبَحْرِ ـ وناعوس البحر أي آخره ولجته ومراده أن هذه الكلمات بلغة مبلغا عظيما ـ ثم قال ضماد لرسول الله ص: هَاتِ يَدَكَ أُبَايِعْكَ عَلَى الْإِسْلَامِ) الحديث رواه مسلم.
وقال عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود"قال: عَلَّمَنَا رَسُولُ اللَّهِ ^ التَّشَهُّدَ فِي الصَّلَاةِ وَالتَّشَهُّدَ فِي الْحَاجَةِ قَالَ:.... وَالتَّشَهُّدُ فِي الْحَاجَةِ إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا وذكرها بنحوه).
فما معاني هذه الكلمات التي أبهرت عقل ضماد فأسلم فور سماعها؟
وما معاني هذه الكلمات التي علمها رسول الله ص لأصحابه ي؟
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:: بعد أن ذكر حديث ضماد الأزدي": (ولهذا استحبت وفعلت ـ أي هذه الخطبة ـ في مخاطبة الناس بالعلم عموما وخصوصا: من تعليم الكتاب والسنة والفقه في ذلك. وموعظة الناس ومجادلتهم أن يفتتح بهذه الخطبة الشرعية النبوية....) ثم ذكر بعض الخطب التي كانت تقال في زمانه ثم علق بقوله:.. إن حديث ابن مسعود لم يخص النكاح وإنما هي خطبة لكل حاجة في مخاطبة العباد بعضهم بعضا والنكاح من جملة ذلك فإن مراعاة السنن الشرعية في الأقوال والأعمال في جميع العبادات والعادات هو كمال الصراط المستقيم وما سوى ذلك إن لم يكن منهيا عنه فإنه منقوص مرجوح إذ خير الهدي هدي محمد ^) () ا.هـ
عباد الله:
نبدأ بذكر بعض معان هذه الخطبة العظيمة فقوله: {إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره}
فالحمد هو الوصف بالجميل، وهو مطلق الثناء بكل أنواعه، فهو منتهى الثناء، قال العلامة الطاهر ابن عاشور::(الحمد يشمل سائر صفات الكمال التي استحق الله لأجلها حصر الحمد له تعالى بناء على ما تدل عليه جملة الحمد لله من اختصاص جنس الحمد به تعالى واستحقاقه لذلك الاختصاص … والحمد هو الثناء على الجميل أي الوصف الجميل الاختياري فعلا كان كالكرم وإغاثة الملهوف أم غيره كالشجاعة. وقد جعلوا الثناء جنسا للحمد فهو أعم منه ولا يكون ضده. فالثناء الذكر بخير مطلقا،) () ا.هـ(والحمد لله هو الشعور الذي يفيض به قلب المؤمن بمجرد ذكره لله.. فإن وجوده ابتداء ليس إلا [نعمة من النعم] الإلهية التي تستجيش الحمد والثناء. وفي كل لمحة وفي كل لحظة وفي كل خطوة تتوالى آلاء الله وتتواكب وتتجمع، وتغمر خلائقه كلها وبخاصة هذا الإنسان.. ومن ثم كان الحمد لله ابتداء، وكان الحمد لله ختاما قاعدة من قواعد التصور الإسلامي المباشر ((وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)) [القصص:70] والتوجه إلى الله بالحمد يمثل شعور المؤمن الذي يستجيشه مجرد ذكره لله) () (نستعينه) أي في حمده [والثناء عليه بما هو أهله] وغير ذلك،وهو وما بعده جمل مستأنفة مبيّنة لأحوال الحامدين (ونستغفره) أي في تقصير عبادته وتأخير طاعته() فالعبد يتابع الاستغفار دائما يستغفر ربه بعد الطاعة لأنه لم يطعه كما أمره، ويستغفر بعد معصيته لأنه عصاه وهو خالقه، فالاستغفار إظهار الفقر لله تعالى، وقد أمر الله نبيه بالاستغفار في أشد ما يكون فرحه وهو يوم أن نصره الله على أعداءه الذين آذوه وقاتلوه فقال تعالى: ((إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ* وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً *فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً)) (والاستغفار لملابسات نفسية كثيرة دقيقة لطيفة المدخل: الاستغفار من الزهو الذي قد يساور القلب[بعد الطاعة] والاستغفار من التقصير في حمد الله وشكره. فجهد الإنسان، مهما كان، ضعيف محدود، وآلاء الله دائمة الفيض والهملان.. (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها).. فمن هذا التقصير يكون الاستغفار.. وهناك لطيفة أخرى للاستغفار [بعد الطاعة].. ففيه إيحاء للنفس وإشعار في لحظة الزهو والفخر بأنها في موقف التقصير والعجز. فأولى أن تطامن من كبريائها. وتطلب العفو من ربها. وهذا يصد قوى الشعور بالزهو والغرور.. ثم إن ذلك الشعور بالنقص والعجز والتقصير والاتجاه إلى الله طلبا للعفو والسماحة والمغفرة يضمن كذلك عدم الطغيان..)() (ونعوذ به من شرور أنفسنا) أي من ظهور شرور أخلاق نفوسنا الردية وأحوال طباع هوائنا الدنية().
وقال ابن القيم:: (وهذا الشر [والسيئات]بذنوبكم فاستغفروه يرفعه عنكم، وأصله من شرور أنفسكم فاستعيذوا به يخلصكم منها.ولا يتم ذلك إلا بالإيمان بالله وحده، وهو الذي يهدي ويضل، وهو الإيمان بالقدر، فادخلوا عليه من بابه، فإن أزمة الأمور بيده، فإذا فعلتم ذلك صدق منكم شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. فهذه الخطبة العظيمة عقد نظام الإسلام والإيمان)().
الخطبة الثانية:
الحمد لله العظيم المعبود الواحد الأحد الذي خلق الخلق ففريق إلى الجنة وفريق إلى السعير والصلاة والسلام على عبده ورسوله وآله وسلم تسليما كثيرا:
وصلنا يا عباد الله إلى قوله ص: (من يهده الله) أي من يوفقه للعبادة (فلا مضل له) أي من شيطان ونفس وغيرهما (ومن يضلل فلا هادي له) أي لا من جهة العقل ولا من جهة النقل ولا من ولي ولا نبي) ()
وهنا مسألة عقدية مهمة ضل فيها كثير من الناس، ومن لم يفهما فعله السؤال عنها بعد الخطبة ألا وهي: من هو الذي يهدي ويضل؟ فإن كان الله فلم يدخل الناس النار؟
أهل السنة والجماعة يقولون: أن الله تعالى هو الذي يهدي ويضل وخلق العباد ولهم قدرة،فعَنْ عَلِيٍّ" قالَ: (كَانَ النَّبِيُّ ^ فِي جَنَازَةٍ فَأَخَذَ شَيْئًا فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِهِ الْأَرْضَ فَقَالَ مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنْ النَّارِ وَمَقْعَدُهُ مِنْ الْجَنَّةِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا نَتَّكِلُ عَلَى كِتَابِنَا وَنَدَعُ الْعَمَلَ؟ قَالَ: اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ أَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاءِ فَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ)ثُمَّ قَرَأَ (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى) الْآيَةَ) رواه البخاري، فالله جل وعلا بعلمه الغيب علم أن أبا بكر وعمر وعثمان وعلي ي صالحين مصلحين وأصحاب نفوس طاهرة فكتبهم كذلك وجعلهم من أهل الجنة قبل خلقهم، ولذا لما سمعوا أن رسول الله ^ قال: أَبُو بَكْرٍ فِي الْجَنَّةِ وَعُمَرُ فِي الْجَنَّةِ وَعُثْمَانُ فِي الْجَنَّةِ وَعَلِيٌّ فِي الْجَنَّةِ زادوا في أعمال البر والتقوى، بل إن رسول الله ص وهو في الجنة بلا ريب كان يكثر من أعمال الخير فعَنْ عَائِشَةَ لقَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ^ إِذَا صَلَّى قَامَ حَتَّى تَفَطَّرَ رِجْلَاهُ قَالَتْ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَصْنَعُ هَذَا وَقَدْ غُفِرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ فَقَالَ يَا عَائِشَةُ أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا؟) رواه مسلم، وعلم الله أن فرعون وهامان وأبا لهب وأبا جهل فاسدين الطوية خبثاء النفوس أرجاس أنجاس لذا كتبهم في النار قبل أن يخلقهم ودليل ذلك قوله تعالى: (وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) [الأنعام:28،27] قال ابن كثير: شارحا هذه الآية: (يذكر تعالى حال الكفار، إذا وقفوا يوم القيامة على النار، وشاهدوا ما فيها من السلاسل والأغلال، ورأوا بأعينهم تلك الأمور العظام والأهوال، فعند ذلك، قالوا (يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ) يتمنون أن يردوا إلى الدار الدنيا، ليعملوا عملاً صالحاً، ولا يكذبوا بآيات ربهم، ويكونوا من المؤمنين... [ثم قال تعالى مبينا سبب طلبهم العودة إلى الدنيا] (بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ) فإنهم ما طلبوا العود إلى الدنيا رغبة ومحبة في الإيمان، بل خوفاً من العذاب الذي عاينوه، جزاء على ما كانوا عليه من الكفر، فسألوا الرجعة إلى الدنيا، ليتخلصوا مما شاهدوا من النار، ولهذا قال (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) أي في طلبهم الرجعة، رغبة ومحبة في الإيمان، ثم قال مخبراً عنهم أنهم لو ردوا إلى الدار الدنيا (لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ)، من الكفر والمخالفة (وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُون) أي في قولهم يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا، ونكون من المؤمنين، أي لعادوا لما نهوا عنه، ولقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا أي ما هي إلا هذه الحياة الدنيا ثم لا معاد بعدها) () ا.هـ. فهؤلاء الكفرة لو عادوا للدنيا كفروا مرة أخرى، ولو عاد المؤمنون إلى الدنيا لعادوا مؤمنين مرة أخرى في بعض الآثار أن عمر بن الخطاب"خطب بالجابية فحمد الله وأثنى عليه وعنده جاثليق يترجم له ما يقول فقال: من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، فنفض جنبيه كالمنكر لما يقول، قال عمر: ما يقول؟ قالوا: يا أمير المؤمنين يزعم أن الله لا يضل أحدا، قال عمر: كذبت أي عدو الله، بل الله خلقك وقد أضلك ثم يدخلك النار، أما والله لولا عهد لك لضربت عنقك، إن الله عز وجل خلق أهل الجنة وما هم عاملون، وخلق أهل النار وما هم عاملون، فقال: هؤلاء لهذه.، فتفرق الناس وما يختلفون في القدر ()
وقال ابن القيم:: (فهذه شهادة للرب بأنه المتصرف في خلقه بمشيئته وقدرته وحكمته وعلمه، وأنه يهدي من يشاء ويضل من شاء، فإذا هدى عبدا لم يضله أحد وإذا أضله لم يهده أحد. وفي ذلك إثبات ربوبيته وقدرته وعلمه وحكمته وقضائه وقدره الذي هو عقد نظام التوحيد وأساسه. وكل هذا مقدمة بين يدي قوله: وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله فإن الشهادتين إنما تتحققان بحمد الله واستعانته واستغفاره واللجوء إليه والإيمان بأقداره. والمقصود أنه سبحانه فرق بين الحسنات والسيئات بعد أن جمع بينهما في قوله كل من عند الله فجمع بينهما الجمع الذي لا يتم الإيمان إلا به وهو اجتماعها في قضائه وقدره ومشيئته وخلقه، ثم فرق بينهما الفرق الذي ينتفعون به وهو أن هذا الخير والحسنة نعمة منه فاشكروه عليه يزدكم من فضله ونعمه)() ولنا وقفات أخرى في أسابيع قادمة ـ إن شاء الله مع هذه الخطبة العظيمة
غـض البصر
التأريخ: 15/4/1430هـ
المكان: جامع الإمام مالك بن أنس رحمه الله بالدمام
الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران:102]
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ﴾ [النساء:1]
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ﴾ [الأحزاب: 70 و71]. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله وأحسن الهدي هدي محمد ص وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
عباد الله:
إن الله تعالى نوع العبادات فأمر بكل ما يصلح المجتمعات ونهى عن كل مايفسدها ويخل بأمنها، ومما يصلح المجتمعات غض البصر عن الحرام،فإن الرجل إذا أتبع بصره تحرك قلبه في طلب ما يراه فقد يقع فيما يغضب الله جل شأنه، والذي نراه من ارتفاع مستمر في نسب الجريمة الخلقة والخطف، والاغتصاب سببه إطلاق البصر في الحرام، بل لقد بدأ المجتمع يتناقل ما يقع من زنا المحارم، بل لقد بلغ الأمر لوقوع بعض كبار السن ممن تجاوز الستين والسبعين في مثل هذا، وكل هذا بسبب إطلاق النظر في القنوات الفضائية الفاسدة المفسدة، وغيرها كالمجلات مثلا.
عباد الله:
(والنظر أصل عامة الحوادث التي تصيب الإنسان؛ فإن النظرة تولد خطرة، ثم تولد الخطرة فكرة، ثم تولد الفكرة شهوة، ثم تولد الشهوة إرادة، ثم تقوى فتصير عزيمة جازمة، فيقع الفعل، ولا بد، ما لم يمنع منه مانع.
وفى هذا قيل:الصبر على غضّ البصر أيسرُ من الصبر على ألم ما بعده.
قال الشاعر:
كلُّ الحوادثِ مبدأها من النظرِ ومُعظَمُ النارِ مِنْ مُستصغَر الشَّررِ
كمْ نظرةٍ بلَغَت منْ قلْبِ صاحبِها كمبلغِ السهْم بينَ القوسِ والوتر
والعبدُ ما دام ذا طَرْفٍ يُقَلِّبُه في أعُين الغيْدِ مَوقوفٌ على الخَطَرِ
يَسُرُّ مُقْلَتَهُ ما ضَرَّ مُهْجَته لا مَرْحباً بِسُرورٍ عادَ بالضَّررِ)()
وإن ترك المحرمات داخل في الإيمان، لأن الإيمان هو الاستسلام لله والانقياد لشرعه، والله جل وعلا يقول: ((قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ))، وغض البصر ليس أمرا خاصا بالرجال من دون النساء بل حتى المرأة مأمورة بغض بصرها قال تعالى: ((وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فروجهن)).
وقد ورد في السنة أحاديث كثيرة تأمر بغض البصر، ومنها قوله ^: {غضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم، واحفظوا فروجكم} صححه الألباني().
وكان النبي ^ يمنع أصحابه من إطلاق أبصارهم فهذا الفضل بن العباس وكان شابا فوقفت أمامه شابة من خثعم وضيئة تستفتي رسول اللّه ^، فطفق الفضل ينظر إليها وأعجبه حسنها، فالتفت النّبيّ ^، والفضل ينظر إليها، فأخلف بيده فأخذ بذقن الفضل فعدل وجهه عن النّظر إليها..).
وفي الحديث المشهور الذي رواه مسلم أن النبي ^ قال: أعطوا الطريق حقه. فقالوا:وما حقه قال: «غض البصر وكف الأذى ورد السلام والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر».
وكان النبي ^ يناصح كبار أصحابه بغض البصر فقد قال لعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه: «يا عليّ، لا تتبع النّظرة النّظرة؛ فإنّ لك الأولى وليست لك الآخرة» قال أحمد شاكر: إسناده صحيح().
والنظرة ياعباد الله سهم مسموم من سهام إبليس من تركها من مخافة الله أعطاه الله إيمانا يجد حلاوته في قلبه، أما من أطلق بصره فإنه يجد لها أثرا في قلبه؛قال ابن مسعود- رضي اللّه عنه- «الإثم حوّاز القلوب ـ أي يترك أثرا في القلب ـ، وما من نظرة إلّا وللشّيطان فيها مطمع)()
ولعل الحزازة التي يقصدها ابن مسعود هي النكتة السوداء في الحديث الصحيح «تعرض الفتن على القلوب عرض الحصير عودا عودا، فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء»()
قال العلاء بن زياد العدويّ - رحمه اللّه تعالى -: لا تتبع بصرك حسن ردف المرأة، فإنّ النّظر يجعل الشّهوة في القلب.
وحِفْظُ البصر ليس بالأمر الهين خاصة في هذه الأزمان والتي كثرت فيها الفتن في الأسواق والشوارع بل حتى في البيوت لذا قال عبد اللّه بن مسعود - رضي اللّه عنه: «حفظ البصر أشدّ من حفظ اللّسان».
وقد أكد الصحابة الكرام على هذا المعنى الجليل، وأمروا به قال أنس بن مالك - رضي اللّه عنه-: «إذا مرّت بك امرأة فغمّض عينيك حتّى تجاوزك».
ومما يؤثر عن جريج العابد رحمه الله ورضي عنه أن المرأة الغانية الفاجرة لما تعرضت له غض بصره وأعرض عنها ولم يلتفت لها.
قال الشاعر الجاهلي عنترة بن شداد:
وأغض طرفي ما بدت لي جارتي حتى يوارى جارتي مأواها
إني امرؤ سمح الخليقة ماجد لا أتبع النفس اللجوج هواها
وبعض الناس يعتذر بأعذار شيطانية فيقول: هذه المرأة هي التي كشفت عن مفاتنها لذا أنا أنظر لها، فالجواب: أنت مأمور بغض بصرك ولو عصت هي الله فلا تعصه أنت، وقد سَأَلَ سعيد بن أبي الحسن الحسن البصري فقال: «إنّ نساء العجم يكشفن صدورهنّ ورؤوسهنّ». فقال الحسن: «اصرف بصرك يقول اللّه تعالى: ((قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ))».
عباد الله:
قال شيخ الإسلام ابن تيميّة - رحمه اللّه تعالى -: قد أمر اللّه في كتابه بغضّ البصر وهو نوعان: غضّ البصر عن العورة، وغضّه عن محلّ الشّهوة.
فالأوّل منهما: كغضّ الرّجل بصره عن عورة غيره، كما قال النّبيّ ^ «لا ينظر الرّجل إلى عورة الرّجل ولا المرأة إلى عورة المرأة» ويجب على الإنسان أن يستر عورته.
وأمّا النّوع الثّاني: فهو غضّ البصر عن الزّينة الباطنة من المرأة الأجنبيّة وهذا أشدّ من الأوّل.
الحمد لله...
فيا عباد الله لغض البصر فوائد عديدة منها:
أنه امتثال لأمر الله الذي هو غاية سعادة العبد في معاشه ومعاده وليس للعبد في دنياه وآخرته أنفع من امتثال أوامر ربه تبارك وتعالى وما سعد من سعد في الدنيا والآخرة إلا بامتثال أوامره وما شقي من شقى في الدنيا والآخرة إلا بتضييع أوامره.
حلاوة الإيمان ولذته التي هي أحلى وأطيب وألذ مما صرف بصره وتركه لله تعالى فإن من ترك شيئا لله عوضه الله عز و جل خيرا منه والنفس مولعة بحب النظر إلى الصور الجميلة،والعين رائد القلب فيبعث رائده لنظر ما هناك فإذا أخبره بحسن المنظور إليه وجماله تحرك اشتياقا إليه وكثيرا ما يتعب ويتعب رسوله ورائده كما قيل:
وكُنْتَ متى أرسلْتَ طَرْفَكَ رائِداً لقلْبكَ يوماً أتعبتْكَ المناظِرُ
رأيتَ الذي لا كُلُّهُ أنتَ قادرٌ عليهِ ولا عنْ بعضهِ أنتَ صابرُ
فإذا كف الرائد عن الكشف والمطالعة استراح القلب من كلفة الطلب والإرادة فمن أطلق لحظاتُه دامت حسراتُه فإن النظر يولد المحبة والتعلق.
نور القلب والفراسة، ولذلك ذكر اللّه عزّ وجلّ، عقب آيات غضّ البصر الّتي في سورة النّور قوله تعالى ﴿اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ﴾ [النور:53] وذلك لأنّ اللّه- عزّ وجلّ- يجزي العبد على عمله بما هو من جنسه. فلمّا منع العبد نور بصره أن ينفذ إلى ما لا يحلّ، أطلق نور بصيرته وفتح عليه باب العلم والمعرفة.
أنه يورث القلب أنسا بالله، فان إطلاق البصر يفرق القلب ويشتته ويبعده من الله وليس على العبد شيء أضر من إطلاق البصر فانه يوقع الوحشة بين العبد وبين ربه
قوّة القلب وثباته وشجاعته فيجعل اللّه له سلطان البصيرة مع سلطان الحجّة
فيه راحة للنّفس والبدن.
يصون المحارم ويجنّب الوقوع في الزّلل.
يجعل المجتمع المتحلّي بهذه الصّفة مجتمعا آمنا.
يصون المجتمع من انتشار الزّنى.
يضرّ بالشّيطان وأعوانه ويستجلب العفّة.
عباد الله:
آفات النظر في المحرمات كثيرة، ويكفي أنها معصية لجبار الأرض والسموات، ومؤذنة بعذاب الله جل في علاه، والنظرة تورث الحسرات والزفرات، فيرى العبد ما ليس قادراً عليه ولا صابرا عنه، وهذا من أعظم العذاب: أن ترى ما لا صبر لك عنه ولا عن بعضه ولا قدرة لك عليه ولا عن بعضه،وقد قيل: إن حبس اللحظات أيسرُ من دوام الحسرات.
وإن كثرة النظر إلى المحرمات جعل عددا من الأزواج يزهدون في زوجاتهم ويهجرهن بحثا عن غيرهن مما أدى لكثير من الفتن والفساد، والعياذ بالله.
التأريخ: 27/6/1425هـ
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره. ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا.
من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
((يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون)) [آل عمران: 102]
((يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا)) [النساء: 1]
((يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا. يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيماً)) [الأحزاب: 70 و71]. أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
فهذه المقدمة التي أكررها دائما تسمى عند أهل العلم بخطبة الحاجة، وكان رسول الله ^ يعلمها أصحابة، وقد اتفق أهل العلم أنها سنة في عقد النكاح، والصحيح أنها سنة في الجمعة كذلك. وهذه الخطبة هي التي خطبها رسول الله ص على ضماد الأزدي"فأبهرت ضمادا فقال: أَعِدْ عَلَيَّ كَلِمَاتِكَ هَؤُلَاءِ فَأَعَادَهُنَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ^ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَقَالَ: لَقَدْ سَمِعْتُ قَوْلَ الْكَهَنَةِ وَقَوْلَ السَّحَرَةِ وَقَوْلَ الشُّعَرَاءِ فَمَا سَمِعْتُ مِثْلَ كَلِمَاتِكَ هَؤُلَاءِ وَلَقَدْ بَلَغْنَ نَاعُوسَ الْبَحْرِ ـ وناعوس البحر أي آخره ولجته ومراده أن هذه الكلمات بلغة مبلغا عظيما ـ ثم قال ضماد لرسول الله ص: هَاتِ يَدَكَ أُبَايِعْكَ عَلَى الْإِسْلَامِ) الحديث رواه مسلم.
وقال عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود"قال: عَلَّمَنَا رَسُولُ اللَّهِ ^ التَّشَهُّدَ فِي الصَّلَاةِ وَالتَّشَهُّدَ فِي الْحَاجَةِ قَالَ:.... وَالتَّشَهُّدُ فِي الْحَاجَةِ إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا وذكرها بنحوه).
فما معاني هذه الكلمات التي أبهرت عقل ضماد فأسلم فور سماعها؟
وما معاني هذه الكلمات التي علمها رسول الله ص لأصحابه ي؟
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:: بعد أن ذكر حديث ضماد الأزدي": (ولهذا استحبت وفعلت ـ أي هذه الخطبة ـ في مخاطبة الناس بالعلم عموما وخصوصا: من تعليم الكتاب والسنة والفقه في ذلك. وموعظة الناس ومجادلتهم أن يفتتح بهذه الخطبة الشرعية النبوية....) ثم ذكر بعض الخطب التي كانت تقال في زمانه ثم علق بقوله:.. إن حديث ابن مسعود لم يخص النكاح وإنما هي خطبة لكل حاجة في مخاطبة العباد بعضهم بعضا والنكاح من جملة ذلك فإن مراعاة السنن الشرعية في الأقوال والأعمال في جميع العبادات والعادات هو كمال الصراط المستقيم وما سوى ذلك إن لم يكن منهيا عنه فإنه منقوص مرجوح إذ خير الهدي هدي محمد ^) () ا.هـ
عباد الله:
نبدأ بذكر بعض معان هذه الخطبة العظيمة فقوله: {إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره}
فالحمد هو الوصف بالجميل، وهو مطلق الثناء بكل أنواعه، فهو منتهى الثناء، قال العلامة الطاهر ابن عاشور::(الحمد يشمل سائر صفات الكمال التي استحق الله لأجلها حصر الحمد له تعالى بناء على ما تدل عليه جملة الحمد لله من اختصاص جنس الحمد به تعالى واستحقاقه لذلك الاختصاص … والحمد هو الثناء على الجميل أي الوصف الجميل الاختياري فعلا كان كالكرم وإغاثة الملهوف أم غيره كالشجاعة. وقد جعلوا الثناء جنسا للحمد فهو أعم منه ولا يكون ضده. فالثناء الذكر بخير مطلقا،) () ا.هـ(والحمد لله هو الشعور الذي يفيض به قلب المؤمن بمجرد ذكره لله.. فإن وجوده ابتداء ليس إلا [نعمة من النعم] الإلهية التي تستجيش الحمد والثناء. وفي كل لمحة وفي كل لحظة وفي كل خطوة تتوالى آلاء الله وتتواكب وتتجمع، وتغمر خلائقه كلها وبخاصة هذا الإنسان.. ومن ثم كان الحمد لله ابتداء، وكان الحمد لله ختاما قاعدة من قواعد التصور الإسلامي المباشر ((وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)) [القصص:70] والتوجه إلى الله بالحمد يمثل شعور المؤمن الذي يستجيشه مجرد ذكره لله) () (نستعينه) أي في حمده [والثناء عليه بما هو أهله] وغير ذلك،وهو وما بعده جمل مستأنفة مبيّنة لأحوال الحامدين (ونستغفره) أي في تقصير عبادته وتأخير طاعته() فالعبد يتابع الاستغفار دائما يستغفر ربه بعد الطاعة لأنه لم يطعه كما أمره، ويستغفر بعد معصيته لأنه عصاه وهو خالقه، فالاستغفار إظهار الفقر لله تعالى، وقد أمر الله نبيه بالاستغفار في أشد ما يكون فرحه وهو يوم أن نصره الله على أعداءه الذين آذوه وقاتلوه فقال تعالى: ((إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ* وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً *فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً)) (والاستغفار لملابسات نفسية كثيرة دقيقة لطيفة المدخل: الاستغفار من الزهو الذي قد يساور القلب[بعد الطاعة] والاستغفار من التقصير في حمد الله وشكره. فجهد الإنسان، مهما كان، ضعيف محدود، وآلاء الله دائمة الفيض والهملان.. (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها).. فمن هذا التقصير يكون الاستغفار.. وهناك لطيفة أخرى للاستغفار [بعد الطاعة].. ففيه إيحاء للنفس وإشعار في لحظة الزهو والفخر بأنها في موقف التقصير والعجز. فأولى أن تطامن من كبريائها. وتطلب العفو من ربها. وهذا يصد قوى الشعور بالزهو والغرور.. ثم إن ذلك الشعور بالنقص والعجز والتقصير والاتجاه إلى الله طلبا للعفو والسماحة والمغفرة يضمن كذلك عدم الطغيان..)() (ونعوذ به من شرور أنفسنا) أي من ظهور شرور أخلاق نفوسنا الردية وأحوال طباع هوائنا الدنية().
وقال ابن القيم:: (وهذا الشر [والسيئات]بذنوبكم فاستغفروه يرفعه عنكم، وأصله من شرور أنفسكم فاستعيذوا به يخلصكم منها.ولا يتم ذلك إلا بالإيمان بالله وحده، وهو الذي يهدي ويضل، وهو الإيمان بالقدر، فادخلوا عليه من بابه، فإن أزمة الأمور بيده، فإذا فعلتم ذلك صدق منكم شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. فهذه الخطبة العظيمة عقد نظام الإسلام والإيمان)().
الخطبة الثانية:
الحمد لله العظيم المعبود الواحد الأحد الذي خلق الخلق ففريق إلى الجنة وفريق إلى السعير والصلاة والسلام على عبده ورسوله وآله وسلم تسليما كثيرا:
وصلنا يا عباد الله إلى قوله ص: (من يهده الله) أي من يوفقه للعبادة (فلا مضل له) أي من شيطان ونفس وغيرهما (ومن يضلل فلا هادي له) أي لا من جهة العقل ولا من جهة النقل ولا من ولي ولا نبي) ()
وهنا مسألة عقدية مهمة ضل فيها كثير من الناس، ومن لم يفهما فعله السؤال عنها بعد الخطبة ألا وهي: من هو الذي يهدي ويضل؟ فإن كان الله فلم يدخل الناس النار؟
أهل السنة والجماعة يقولون: أن الله تعالى هو الذي يهدي ويضل وخلق العباد ولهم قدرة،فعَنْ عَلِيٍّ" قالَ: (كَانَ النَّبِيُّ ^ فِي جَنَازَةٍ فَأَخَذَ شَيْئًا فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِهِ الْأَرْضَ فَقَالَ مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنْ النَّارِ وَمَقْعَدُهُ مِنْ الْجَنَّةِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا نَتَّكِلُ عَلَى كِتَابِنَا وَنَدَعُ الْعَمَلَ؟ قَالَ: اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ أَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاءِ فَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ)ثُمَّ قَرَأَ (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى) الْآيَةَ) رواه البخاري، فالله جل وعلا بعلمه الغيب علم أن أبا بكر وعمر وعثمان وعلي ي صالحين مصلحين وأصحاب نفوس طاهرة فكتبهم كذلك وجعلهم من أهل الجنة قبل خلقهم، ولذا لما سمعوا أن رسول الله ^ قال: أَبُو بَكْرٍ فِي الْجَنَّةِ وَعُمَرُ فِي الْجَنَّةِ وَعُثْمَانُ فِي الْجَنَّةِ وَعَلِيٌّ فِي الْجَنَّةِ زادوا في أعمال البر والتقوى، بل إن رسول الله ص وهو في الجنة بلا ريب كان يكثر من أعمال الخير فعَنْ عَائِشَةَ لقَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ^ إِذَا صَلَّى قَامَ حَتَّى تَفَطَّرَ رِجْلَاهُ قَالَتْ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَصْنَعُ هَذَا وَقَدْ غُفِرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ فَقَالَ يَا عَائِشَةُ أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا؟) رواه مسلم، وعلم الله أن فرعون وهامان وأبا لهب وأبا جهل فاسدين الطوية خبثاء النفوس أرجاس أنجاس لذا كتبهم في النار قبل أن يخلقهم ودليل ذلك قوله تعالى: (وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) [الأنعام:28،27] قال ابن كثير: شارحا هذه الآية: (يذكر تعالى حال الكفار، إذا وقفوا يوم القيامة على النار، وشاهدوا ما فيها من السلاسل والأغلال، ورأوا بأعينهم تلك الأمور العظام والأهوال، فعند ذلك، قالوا (يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ) يتمنون أن يردوا إلى الدار الدنيا، ليعملوا عملاً صالحاً، ولا يكذبوا بآيات ربهم، ويكونوا من المؤمنين... [ثم قال تعالى مبينا سبب طلبهم العودة إلى الدنيا] (بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ) فإنهم ما طلبوا العود إلى الدنيا رغبة ومحبة في الإيمان، بل خوفاً من العذاب الذي عاينوه، جزاء على ما كانوا عليه من الكفر، فسألوا الرجعة إلى الدنيا، ليتخلصوا مما شاهدوا من النار، ولهذا قال (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) أي في طلبهم الرجعة، رغبة ومحبة في الإيمان، ثم قال مخبراً عنهم أنهم لو ردوا إلى الدار الدنيا (لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ)، من الكفر والمخالفة (وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُون) أي في قولهم يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا، ونكون من المؤمنين، أي لعادوا لما نهوا عنه، ولقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا أي ما هي إلا هذه الحياة الدنيا ثم لا معاد بعدها) () ا.هـ. فهؤلاء الكفرة لو عادوا للدنيا كفروا مرة أخرى، ولو عاد المؤمنون إلى الدنيا لعادوا مؤمنين مرة أخرى في بعض الآثار أن عمر بن الخطاب"خطب بالجابية فحمد الله وأثنى عليه وعنده جاثليق يترجم له ما يقول فقال: من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، فنفض جنبيه كالمنكر لما يقول، قال عمر: ما يقول؟ قالوا: يا أمير المؤمنين يزعم أن الله لا يضل أحدا، قال عمر: كذبت أي عدو الله، بل الله خلقك وقد أضلك ثم يدخلك النار، أما والله لولا عهد لك لضربت عنقك، إن الله عز وجل خلق أهل الجنة وما هم عاملون، وخلق أهل النار وما هم عاملون، فقال: هؤلاء لهذه.، فتفرق الناس وما يختلفون في القدر ()
وقال ابن القيم:: (فهذه شهادة للرب بأنه المتصرف في خلقه بمشيئته وقدرته وحكمته وعلمه، وأنه يهدي من يشاء ويضل من شاء، فإذا هدى عبدا لم يضله أحد وإذا أضله لم يهده أحد. وفي ذلك إثبات ربوبيته وقدرته وعلمه وحكمته وقضائه وقدره الذي هو عقد نظام التوحيد وأساسه. وكل هذا مقدمة بين يدي قوله: وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله فإن الشهادتين إنما تتحققان بحمد الله واستعانته واستغفاره واللجوء إليه والإيمان بأقداره. والمقصود أنه سبحانه فرق بين الحسنات والسيئات بعد أن جمع بينهما في قوله كل من عند الله فجمع بينهما الجمع الذي لا يتم الإيمان إلا به وهو اجتماعها في قضائه وقدره ومشيئته وخلقه، ثم فرق بينهما الفرق الذي ينتفعون به وهو أن هذا الخير والحسنة نعمة منه فاشكروه عليه يزدكم من فضله ونعمه)() ولنا وقفات أخرى في أسابيع قادمة ـ إن شاء الله مع هذه الخطبة العظيمة
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى