رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
بسم الله الرحمن الرحيم
القضاء والقدر
التأريخ: 3/11/1427هـ
المكان: جامع الرضوان بالدمام
الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران:102].
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ﴾ [النساء:1].
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ﴾ [الأحزاب: 70 و71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله وأحسن الهدي هدي محمد ص وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
عباد الله:
في لقاء في قناة فضائية مع أحد رؤوس الصوفية سأله المذيع: هل يجوز مقاومة الاحتلال اليهودي في فلسطين؟ فقال الشيخ الصوفي: لا يجوز ذلك، لأن الله جل وعلا هو الذي سلطهم علينا!!!.
وبهذا المنطلق الجبري المتخاذل احتلت بلاد المسلمين، ودمرت مدنهم..
وفي مشهد آخر
نرى كثيرا من أهل الكبائر والعصاة يقولون: لو شاء الله لهدانا!!
إنه الاحتجاج بالقضاء والقدر على ترك الواجبات وفعل المحرمات
عباد الله:
حتى نفهم القضاء والقدر لابد أن نتوقف عند قوله ^: (إن أول ما خلق الله القلم، فقال له اكتب، قال: ما أكتب؟ قال: اكتب القدر، ما كان وما هو كائن إلى الأبد) فالله جل وعلا بعلمه الكامل الذي لا يخفى عليه شيء مما سبق ولا ما يأتي أَمَرَ القلم أن يكتب كل شيء في اللوح المحفوظ، وهذه الكتابة لا تتغير ولا تتبدل، بل لقد حدد الله أهل الجنة والنار!! فعن عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعُلِمَ أَهْلُ الْجَنَّةِ مَنْ أَهْلِ النَّارِ؟ فَقَالَ: (نَعَمْ) قِيلَ: فَفِيمَ يَعْمَلُ الْعَامِلُونَ؟ قَالَ: (كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ)
فلعل قائلا أن يقول: إذا حدد أهل الجنة فلماذا أعمل؟
فالجواب: أن الله بعلمه الغيب عَلِمَ أنك عبدٌ صالح مؤمن تحب ربك وتطيعه فهداك ووفقك وسددك، كما عَلِمَ جل وعلا أن فلان الآخر من أهل المعاصي والفجور فأبعده وأضله وضرب على قلبه بالنفاق.
ويتضح كمال علم الله، وأن ما كتبه جل وعلا كتبه بحكمة بالغة وعدل تام بقوله جل وعلا (( وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ* بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ *وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ )) [الأنعام: 27، 29] فهؤلاء الكفار كفرعون وهامان وأبو لهب لو عادوا للدنيا بعد أن شاهدوا العذاب المبين لعادوا كفارا ضلالا مجرمين!!.وذلك لأن نفوسهم خبيثة خسيسة.
قال ابن كثير /: (يذكر تعالى حال الكفار إذا وقفوا يوم القيامة على النار، وشاهدوا ما فيها من السلاسل والأغلال، ورأوا بأعينهم تلك الأمور العظام والأهوال، فعند ذلك يتمنون أن يردوا إلى الدار الدنيا، ليعملوا عملا صالحا، ولا يكذبوا بآيات ربهم ويكونوا من المؤمنين. وهم ما طلبوا العود إلى الدنيا رغبة ومحبة في الإيمان، بل خوفا من العذاب الذي عاينوه جزاء ما كانوا عليه من الكفر، فسألوا الرجعة إلى الدنيا ليتخلصوا مما شاهدوا من النار؛ ولهذا قال: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} أي: في تمنيهم الرجعة رغبة ومحبة في الإيمان.ثم قال مخبرًا عنهم: إنهم لو ردّوا إلى الدار الدنيا، لعادوا لما نهوا عنه من الكفر والمخالفة) ()
عباد الله:
إن الله جل وعلا خلق الأسباب والمسببات، وأمرنا بالأخذ بالأسباب والتوكل عليه، فعن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ:قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْقِلُهَا وَأَتَوَكَّلُ؟ أَوْ أُطْلِقُهَا وَأَتَوَكَّلُ؟قَالَ:اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ) فأمر النبي ^ الرجل أن يربط ناقته ويتوكل على الله جل وعلا، فلا يقبل العقل من رجل يقول: أريد أولادا وهو لم يتزوج، أو المال ولم يعمل، وكذلك لا يقبل العقل قول من يقول أريد الهداية وهو لم يسلك طريقها
ترجوا النجاة ولم تسلك مسالكها * إن السفينة لا تجري على اليبسِ
عباد الله:
كتابة القدر تنقسم إلى أربعة أقسام
الأول: التقدير العام؛ الذي هو العلم بالموجودات كلها من أول ما خلقت إلى ما لا نهاية له، وهذا هو الذي في اللوح المحفوظ وفيه ورد الحديث: (إن أول ما خلق الله القلم، فقال له اكتب، قال: ما أكتب؟ قال: اكتب القدر، ما كان وما هو كائن إلى الأبد)
الثاني: التقدير العمري؛ وهو ما يكتب للإنسان وهو في بطن أمه قال تعالى:﴿ يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾ [الرعد:39] وأخرج مسلم في صحيحه عن ابن مسعود في حديث الصادق المصدوق: (ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح. ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد...)
الثالث: التقدير السنوي؛ وهو أنه في ليلة القدر، فيقدر الله ما يكون في تلك السنة إلى مثلها مما يكون على وجه الأرض، يكتب في تلك الليلة ما سوف يوجد، وما سوف يحصل؛ يقول الله تعالى(( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ *فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْراً مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ )) [الدخان:5، 3]يعني: في ليلة القدر. قال ابن كثير /: وقوله: (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) أي في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى الكتبة أمر السنة، وما يكون فيها من الآجال والأرزاق وما يكون فيها إلى آخرها.
الرابع: التقدير اليومي؛ وهو وقوع ما يحصل في يوم، وهو المذكور في قوله تعالى: (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) (الرحمن:29). قال البخاري: وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ:{كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ}يَغْفِرُ ذَنْبًا وَيَكْشِفُ كَرْبًا وَيَرْفَعُ قَوْمًا وَيَضَعُ آخَرِينَ)
وهنا مسألة: هل تتغير هذه التقادير؟
أما الأول فلا يتغير، ولا يتبدل، وفيه حديث البخاري: (يا أبا هريرة، جف القلم بما أنت لاق..)، أما البقية فتتغير، لحديث (لا يرد القضاء إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر) () وكذلك ما أخرجه مسلم أن النبي ص كان (يتعوذ من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء) وكذلك ما ورد في دعاء القنوت: (...وقني شر ما قضيت، فإنك تقضي ولا يقضى عليك..) ()
عباد الله:
هنا مسألة مهمة ألا وهي مسألة الإنسان مخير أم مسير، وهي مما كثر عنه السؤال بين الناس، والصحيح أن الإنسان مسير في التقادير الكونية كيوم ولادته وموته وبلوغه، وما يجرى عليه من حوادث الزمان فهذه فوق اختياره، ومخير في جميع أفعاله الأخرى، ولم يجبرالله أحدا على الإيمان كما لم يجبر أحدا على الكفر، ولكنه جل وعلا علم ذلك منذ الأزل، فكتبه عليه وشاءه له، وخلق أفعاله، والناس يؤمنون بذلك في أمور دنياهم فتجدهم حرصين عليها، ولا يتواكلون فيها، أما في أمور الآخرة فمتواكلين، ويرددون: لو شاء الله لهدانا، والجواب عليهم: ((.. إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.. )) [الرعد:11]، فإن قيل: إن الله قد كتب علينا ألا نكون مؤمنين، فالجواب: وما أدراك؟ اعمل والله لن يخزيك.
ولكن ثمة نفوس مجبولة على الكفر والإلحاد والزندقة ولو رأت الحق أبلج، بل لو رأو النار صراحة ثم عادوا للدنيا لعادوا كفارا ملاحدة كما سبق ذكره.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي هدانا للإيمان والصلاة والسلام على سيد الأنام وآله وصحبه وسلم، أما بعد:
فياعباد الله:
للإيمان بالقدر آثار كبيرة على الفرد وعلى المجتمع نجملها فيما يلي:
1. القدر من أكبر الدواعي التي تدعو إلى العمــل والنشاط والسعي بما يرضي الله في هذه الحياة، والإيمان بالقدر من أقوى الحوافز للمؤمن لكي يعمل ويقدم على عظائم الأمور بثبات وعزم ويقين.
2. ومن آثار الإيمان بالقدر أن يعرف الإنسان قدْر نفسه، فلا يتكبر ولا يبطر ولا يتعالى أبدًا؛ لأنه عاجز عن معرفة المقدور، ومستقبل ما هو حادث، ومن ثمّ يقر الإنسان بعجزه وحاجته إلى ربه تعالى دائمًا. وهذا من أسرار خفاء المقدور.
3. ومن آثار الإيمان بالقدر أنه يطرد القلق والضجر عند فوات المراد أو حصول مكروه، لأن ذلك بقضاء الله تعالى الذي له ملك السموات والأرض وهو كائن لا محالة، فيصبر على ذلك ويحتسب الأجر.
4. الإيمان بالقدر يقضي على كثير من الأمراض التي تعصف بالمجتمعات وتزرع الأحقـاد بين المؤمنين، وذلك مثل رذيلة الحسد.
5. والإيمان بالقدر يبعث في القلوب الشجاعة على مواجهة الشدائد، ويقوي فيها العزائم.
6. والإيمان بالقدر يغرس في نفس المؤمن حقائق الإيمان المتعددة، فهو دائم الاستعانة بالله، يعتمد على الله ويتوكل عليه مع فعل الأسباب، وهو أيضًا دائم الافتقار إلى ربه – تعالى – يستمد منه العون على الثبات، ويطلب منه المزيد، وهو أيضًا كريم يحب الإحسان إلى الآخرين، فتجده يعطف عليهم.
7.والإيمان بالقدر يكسب المسلم القناعة بما قسم الله له من مالٍ، أو ولدٍ، أو أي حظ من حضوظ الدنيا.
8. ومن آثار الإيمان بالقدر أن الداعي إلى الله يصدع بدعوته، ويجهر بها أمام الكافرين والظالمين، والمبتدعين، لا يخاف في الله لومة لائم. ()
القضاء والقدر
التأريخ: 3/11/1427هـ
المكان: جامع الرضوان بالدمام
الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران:102].
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ﴾ [النساء:1].
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ﴾ [الأحزاب: 70 و71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله وأحسن الهدي هدي محمد ص وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
عباد الله:
في لقاء في قناة فضائية مع أحد رؤوس الصوفية سأله المذيع: هل يجوز مقاومة الاحتلال اليهودي في فلسطين؟ فقال الشيخ الصوفي: لا يجوز ذلك، لأن الله جل وعلا هو الذي سلطهم علينا!!!.
وبهذا المنطلق الجبري المتخاذل احتلت بلاد المسلمين، ودمرت مدنهم..
وفي مشهد آخر
نرى كثيرا من أهل الكبائر والعصاة يقولون: لو شاء الله لهدانا!!
إنه الاحتجاج بالقضاء والقدر على ترك الواجبات وفعل المحرمات
عباد الله:
حتى نفهم القضاء والقدر لابد أن نتوقف عند قوله ^: (إن أول ما خلق الله القلم، فقال له اكتب، قال: ما أكتب؟ قال: اكتب القدر، ما كان وما هو كائن إلى الأبد) فالله جل وعلا بعلمه الكامل الذي لا يخفى عليه شيء مما سبق ولا ما يأتي أَمَرَ القلم أن يكتب كل شيء في اللوح المحفوظ، وهذه الكتابة لا تتغير ولا تتبدل، بل لقد حدد الله أهل الجنة والنار!! فعن عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعُلِمَ أَهْلُ الْجَنَّةِ مَنْ أَهْلِ النَّارِ؟ فَقَالَ: (نَعَمْ) قِيلَ: فَفِيمَ يَعْمَلُ الْعَامِلُونَ؟ قَالَ: (كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ)
فلعل قائلا أن يقول: إذا حدد أهل الجنة فلماذا أعمل؟
فالجواب: أن الله بعلمه الغيب عَلِمَ أنك عبدٌ صالح مؤمن تحب ربك وتطيعه فهداك ووفقك وسددك، كما عَلِمَ جل وعلا أن فلان الآخر من أهل المعاصي والفجور فأبعده وأضله وضرب على قلبه بالنفاق.
ويتضح كمال علم الله، وأن ما كتبه جل وعلا كتبه بحكمة بالغة وعدل تام بقوله جل وعلا (( وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ* بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ *وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ )) [الأنعام: 27، 29] فهؤلاء الكفار كفرعون وهامان وأبو لهب لو عادوا للدنيا بعد أن شاهدوا العذاب المبين لعادوا كفارا ضلالا مجرمين!!.وذلك لأن نفوسهم خبيثة خسيسة.
قال ابن كثير /: (يذكر تعالى حال الكفار إذا وقفوا يوم القيامة على النار، وشاهدوا ما فيها من السلاسل والأغلال، ورأوا بأعينهم تلك الأمور العظام والأهوال، فعند ذلك يتمنون أن يردوا إلى الدار الدنيا، ليعملوا عملا صالحا، ولا يكذبوا بآيات ربهم ويكونوا من المؤمنين. وهم ما طلبوا العود إلى الدنيا رغبة ومحبة في الإيمان، بل خوفا من العذاب الذي عاينوه جزاء ما كانوا عليه من الكفر، فسألوا الرجعة إلى الدنيا ليتخلصوا مما شاهدوا من النار؛ ولهذا قال: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} أي: في تمنيهم الرجعة رغبة ومحبة في الإيمان.ثم قال مخبرًا عنهم: إنهم لو ردّوا إلى الدار الدنيا، لعادوا لما نهوا عنه من الكفر والمخالفة) ()
عباد الله:
إن الله جل وعلا خلق الأسباب والمسببات، وأمرنا بالأخذ بالأسباب والتوكل عليه، فعن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ:قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْقِلُهَا وَأَتَوَكَّلُ؟ أَوْ أُطْلِقُهَا وَأَتَوَكَّلُ؟قَالَ:اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ) فأمر النبي ^ الرجل أن يربط ناقته ويتوكل على الله جل وعلا، فلا يقبل العقل من رجل يقول: أريد أولادا وهو لم يتزوج، أو المال ولم يعمل، وكذلك لا يقبل العقل قول من يقول أريد الهداية وهو لم يسلك طريقها
ترجوا النجاة ولم تسلك مسالكها * إن السفينة لا تجري على اليبسِ
عباد الله:
كتابة القدر تنقسم إلى أربعة أقسام
الأول: التقدير العام؛ الذي هو العلم بالموجودات كلها من أول ما خلقت إلى ما لا نهاية له، وهذا هو الذي في اللوح المحفوظ وفيه ورد الحديث: (إن أول ما خلق الله القلم، فقال له اكتب، قال: ما أكتب؟ قال: اكتب القدر، ما كان وما هو كائن إلى الأبد)
الثاني: التقدير العمري؛ وهو ما يكتب للإنسان وهو في بطن أمه قال تعالى:﴿ يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾ [الرعد:39] وأخرج مسلم في صحيحه عن ابن مسعود في حديث الصادق المصدوق: (ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح. ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد...)
الثالث: التقدير السنوي؛ وهو أنه في ليلة القدر، فيقدر الله ما يكون في تلك السنة إلى مثلها مما يكون على وجه الأرض، يكتب في تلك الليلة ما سوف يوجد، وما سوف يحصل؛ يقول الله تعالى(( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ *فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْراً مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ )) [الدخان:5، 3]يعني: في ليلة القدر. قال ابن كثير /: وقوله: (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) أي في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى الكتبة أمر السنة، وما يكون فيها من الآجال والأرزاق وما يكون فيها إلى آخرها.
الرابع: التقدير اليومي؛ وهو وقوع ما يحصل في يوم، وهو المذكور في قوله تعالى: (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) (الرحمن:29). قال البخاري: وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ:{كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ}يَغْفِرُ ذَنْبًا وَيَكْشِفُ كَرْبًا وَيَرْفَعُ قَوْمًا وَيَضَعُ آخَرِينَ)
وهنا مسألة: هل تتغير هذه التقادير؟
أما الأول فلا يتغير، ولا يتبدل، وفيه حديث البخاري: (يا أبا هريرة، جف القلم بما أنت لاق..)، أما البقية فتتغير، لحديث (لا يرد القضاء إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر) () وكذلك ما أخرجه مسلم أن النبي ص كان (يتعوذ من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء) وكذلك ما ورد في دعاء القنوت: (...وقني شر ما قضيت، فإنك تقضي ولا يقضى عليك..) ()
عباد الله:
هنا مسألة مهمة ألا وهي مسألة الإنسان مخير أم مسير، وهي مما كثر عنه السؤال بين الناس، والصحيح أن الإنسان مسير في التقادير الكونية كيوم ولادته وموته وبلوغه، وما يجرى عليه من حوادث الزمان فهذه فوق اختياره، ومخير في جميع أفعاله الأخرى، ولم يجبرالله أحدا على الإيمان كما لم يجبر أحدا على الكفر، ولكنه جل وعلا علم ذلك منذ الأزل، فكتبه عليه وشاءه له، وخلق أفعاله، والناس يؤمنون بذلك في أمور دنياهم فتجدهم حرصين عليها، ولا يتواكلون فيها، أما في أمور الآخرة فمتواكلين، ويرددون: لو شاء الله لهدانا، والجواب عليهم: ((.. إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.. )) [الرعد:11]، فإن قيل: إن الله قد كتب علينا ألا نكون مؤمنين، فالجواب: وما أدراك؟ اعمل والله لن يخزيك.
ولكن ثمة نفوس مجبولة على الكفر والإلحاد والزندقة ولو رأت الحق أبلج، بل لو رأو النار صراحة ثم عادوا للدنيا لعادوا كفارا ملاحدة كما سبق ذكره.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي هدانا للإيمان والصلاة والسلام على سيد الأنام وآله وصحبه وسلم، أما بعد:
فياعباد الله:
للإيمان بالقدر آثار كبيرة على الفرد وعلى المجتمع نجملها فيما يلي:
1. القدر من أكبر الدواعي التي تدعو إلى العمــل والنشاط والسعي بما يرضي الله في هذه الحياة، والإيمان بالقدر من أقوى الحوافز للمؤمن لكي يعمل ويقدم على عظائم الأمور بثبات وعزم ويقين.
2. ومن آثار الإيمان بالقدر أن يعرف الإنسان قدْر نفسه، فلا يتكبر ولا يبطر ولا يتعالى أبدًا؛ لأنه عاجز عن معرفة المقدور، ومستقبل ما هو حادث، ومن ثمّ يقر الإنسان بعجزه وحاجته إلى ربه تعالى دائمًا. وهذا من أسرار خفاء المقدور.
3. ومن آثار الإيمان بالقدر أنه يطرد القلق والضجر عند فوات المراد أو حصول مكروه، لأن ذلك بقضاء الله تعالى الذي له ملك السموات والأرض وهو كائن لا محالة، فيصبر على ذلك ويحتسب الأجر.
4. الإيمان بالقدر يقضي على كثير من الأمراض التي تعصف بالمجتمعات وتزرع الأحقـاد بين المؤمنين، وذلك مثل رذيلة الحسد.
5. والإيمان بالقدر يبعث في القلوب الشجاعة على مواجهة الشدائد، ويقوي فيها العزائم.
6. والإيمان بالقدر يغرس في نفس المؤمن حقائق الإيمان المتعددة، فهو دائم الاستعانة بالله، يعتمد على الله ويتوكل عليه مع فعل الأسباب، وهو أيضًا دائم الافتقار إلى ربه – تعالى – يستمد منه العون على الثبات، ويطلب منه المزيد، وهو أيضًا كريم يحب الإحسان إلى الآخرين، فتجده يعطف عليهم.
7.والإيمان بالقدر يكسب المسلم القناعة بما قسم الله له من مالٍ، أو ولدٍ، أو أي حظ من حضوظ الدنيا.
8. ومن آثار الإيمان بالقدر أن الداعي إلى الله يصدع بدعوته، ويجهر بها أمام الكافرين والظالمين، والمبتدعين، لا يخاف في الله لومة لائم. ()
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى