رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
من أحكام السفر وآدابه (1)
السفر بين الطاعة والمعصية
إبراهيم بن محمد الحقيل
6\5\1427
الحمد لله؛ خلق البشر ليعبدوه، ورزقهم ليشكروه ولا يكفروه، نحمده على عظيم نعمه، ونشكره على تتابع مننه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ خزائن السماوات والأرض بيده، وكل شيء هالك إلا وجهه [مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ الله بَاقٍ]{النحل:96} وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ بشر أمته وأنذرهم، وما من خير إلا دلهم عليه، ولا شر إلا حذرهم منه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وراقبوه فلا تعصوه، اتقوه في أنفسكم ورعاياكم، واتقوه في حلكم وترحالكم؛ فإنه سبحانه على كل شيء رقيب، وبكل شيء عليم، ولا تخفى عليه خافية من أقوالكم وأعمالكم ومقاصدكم [إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا] {الأحزاب:54} [وَإِنْ تَجْهَرْ بِالقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى * اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى] {طه:7-8}
أيها الناس: للنفوس البشرية إقبالها وإدبارها، ولها ضروراتها وحاجاتها، وقد راعى الإسلام ما في النفس البشرية من حب للشهوات؛ فأباح من الشهوات ما ينفعها وينشطها، وحرم عليها ما يضرها ويوبقها، وما من شهوة محرمة في دين الله تعالى إلا ويغني عنها ما هو خير وأنفع منها.
إن الإسلام وإن كان دين الجد والعمل، ويربي أتباعه على الاقتصاد في اللهو والعبث، ويوجههم إلى الآخرة عوضا عن الدنيا وملذاتها؛ فإنه كذلك أباح لهم من لذائذ الدنيا ما يكون عونا على الطاعة، وسببا لاجتناب المحرم.
وتكون هذه اللذات المباحة عبادات يؤجر عليها صاحبها إذا أحسن فيها النية؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم :(وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجرا) رواه مسلم.
ولما قال حنظلة الأسيدي رضي الله عنه:( يا رسول الله، نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنَّا رأيُ عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيرا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده إنْ لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم ولكن يا حنظلة ساعة وساعة، ثلاث مرات)رواه مسلم.
ولما أراد عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن يأخذ نفسه بالجد، ويفرغها للعمل الصالح؛ رغبة في الآخرة، وإعراضا عن الدنيا؛ تعقبه النبي صلى الله عليه وسلم في سيرته تلك فقال عليه الصلاة والسلام: يا عبد الله، ألم أُخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل؟ قلت: بلى يا رسول الله، قال: فلا تفعل، صم وأفطر، وقم ونم؛ فإن لجسدك عليك حقا، وإن لعينك عليك حقا وإن لزوجك عليك حقا)رواه الشيخان.
فأخذ النفس بالجد دائما قد يؤدي إلى الملل والسأم، ومن ثم ترك كل العمل، وقد نقل عن علي رضي الله عنه قوله: (أجـمُّوا هذه القلوب، والتمسوا لها طرائف الحكمة؛ فإنها تمل كما تمل الأبدان).
وكذلك الزيادة في اللهو والترويح، والانغماس في الملذات ولو كانت مباحة سبب لموت القلب، والإقبال على الدنيا، والإعراض عن الآخرة، والخيار في ذلك الموازنة بين حقوق الآخرة، وحظوظ النفس من الدنيا.
وللناس في الترويح والسعة مذاهب يتبعونها، وطرائق يسلكونها: من اتخاذ المزارع والضيعات، والخروج إلى المتنزهات والاستراحات، في أنواع من اللهو المباح وغير المباح.
ومن أشهر أنواع الترويح والتنفيس عن النفس البشرية : السفر من بلده إلى بلاد أخرى، إما لأنها مسقط رأسه، وبلد آبائه وأجداده، وإما لميزات أخرى دعته إليها، وجعلته يقدمها على غيرها.
وغالب البشر يُقَدِّمون السفر كنوع من أنواع التنفيس على غيره من أنواع الترفيه والترويح، ويجعلونه تاجها ورأسها، ولا بدَّ منه في كل عام عند أكثر الناس ممن يطيقونه ويجدون نفقاته.
والسفر إما أن يكون سفر طاعة، وإما أن يكون سفر معصية، والمباح منه يؤول بالنية والعمل إلى أحدهما ولا بد.
ومن سفر الطاعة: السفر للجهاد أو الرباط، أو طلب العلم، أو صلة الرحم، أو زيارة الإخوان في الله تعالى.
ومن سفر المعصية: السفر للسرقة، أو قطع الطريق، أو الزنا، أو القمار، أو الخمر، أو غير ذلك من أنواع المحرمات.
والسفر للترويح والترفيه هو من المباحات التي تؤول إلى الطاعة أو إلى المعصية.
فإن سافر إلى بلد يقام فيها دين الله تعالى، ويحكم فيه بين أهلها بشريعته، وأحكام الإسلام فيها ظاهرة، والدين فيها عزيز، مع قيامه في نفسه وأهله ورفقته بما أمر الله تعالى من فعل المأمورات، واجتناب المحظورات، فهذا سفر مباح لا ضير على العبد فيه، ولا فيما أنفقه من نفقات عليه.
فإن اقترن بذلك نية صالحة من قصد إدخال السرور على أهله وولده، وجَعْلهم تحت علمه وبصره، وحفظهم من الفراغ ورفقة السوء في بلده، أو أراد بسفره نشاط نفسه وأهله على طاعة الله تعالى، والتفكر في عجائب خلقه وقدرته؛ كان سفره سفر طاعة، وله من الأجر فيه على حسب نيته، ونفقته فيه مخلوفة عليه إن شاء الله تعالى.
وأما إن كانت وجهة سفره إلى بلاد كافرة، الكفر فيها عزيز، والإسلام فيها ضعيف، وحرمات الله تعالى تنتهك فيها جهارا نهارا ولا نكير، فهذا سفر معصية لا خير فيه، وإثمه أكبر من نفعه. وهكذا إن سافر إلى بلاد تتسمى بالإسلام وليس الإسلام فيها ظاهرا، بل الظاهر فيها الكفر والفسوق والعصيان.ولم يرخص العلماء في السفر إليها إلا لضرورة لا بد منها، أو حاجة ملحة، بشرط أن يكون عند هذا المسافر ومن معه من رفقته علم يدفع به الشبهات، وأن يكون عنده دين يمنعه من الشهوات.
فإن خشي على نفسه من الزيغ والضلال، أو كان ضعيفا أمام الشهوات، فالسلامة لا يعدلها شيء، ولعل ضرورته أو حاجته تندفع بغير هذا السفر، ومن يتق الله يجعل له مخرجا، ومن ترك شيئا لله تعالى عوضه الله تعالى خيرا منه.
إن السفر إلى بلاد تعج بأنواع الكفر والفسوق لمما يضر المسلم في دينه، فكيف إذا اصطحب معه أهله وولده، وهم أمانة في عنقه، وأضرار ذلك كثيرة، وآثامه عظيمة:
فمن اختار بلادا كافرة موطنا لسياحته، ومقرا لإجازته فقد أجاز لنفسه الإقامة بين ظهراني المشركين بلا ضرورة ولا حاجة، فيخشى عليه من براءة النبي صلى الله عليه وسلم منه؛ كما قال عليه الصلاة والسلام (أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين).
فإن وقعت له مشكلة اضطرته إلى محاكمهم فقد تحاكم إلى الطاغوت بلا اختيار منه، وقد كان في عافية من ذلك.
ولو لم يكن في السفر من الحرج والإثم إلى بلاد يظهر فيها الكفر والفجور، ويعلن الناس به إلا أن هذا المسافر المسلم يرى المنكر فلا ينكره، فضلا عن أن يغيره ويزيله؛ لكان كافيا في صرفه عنه، والاستعاضة بما هو خير منه. وكم يمر به في يومه وليلته من منكرات يأثم بحضورها وعدم إنكارها؟ ولازمٌ على من حضر منكرا أن ينكره، فإن لم يستطع وجب عليه أن يفارق مكانه.
بل إن إدمانه على مشاهدة المنكرات يكون سببا في تغير قلبه، ورقة دينه؛ فإن سلم هو من أكثر ذلك لعزلته في مسكنه أو منتجعه؛ لم يسلم من معه من أهل وولد ورفقة، وآثامهم على رقبته.
وإن تغير أخلاق كثير من نساء المجتمع وفتياته فيما يتعلق بالحجاب الشرعي حتى استبدل به اللثام والنقاب واللباس الضيق، والتوسع في كشف الوجه، وإظهار الزينة، في أنواع من الغرور والاستعراض ما هو إلا من بلاء السفر والإعلام، فالمرأة الرحَّالة مع أهلها شرقا وغربا قد ألفت نزع الحجاب في غير بلدها، مع اختلاطها بالرجال، وبنزعها لحجابها نزع حياؤها، فثقل عليها أن تعيده كما كان إذا عادت إلى بلدها!! وكل هذه الآثام يتحملها وليها، مع بقاء إثمها عليها. نسأل الله تعالى أن يخفف عنا وعن المسلمين.
ومن أعظم ما يكون سببا للإعجاب بالكفار ومذاهبهم وأخلاقهم وطرائق عيشهم مثل هذه الأسفار المشؤومة؛ حتى صارت المجاهرة بمديحهم علانية في الصحف وغيرها مع نهاية كل صيف، فكل كاتب معجب بهم، أقام صيفه في أحضانهم، يعود إلى بلده لينفث جهالاته وضلالاته على الناس، مدحا للكفار، وإعجابا بهم، وشتما في بلده وأهله وبغضا لهم، وهو يأكل من خيرهم، ويتفيأ ظلالهم، فما أجحده وما أنكره [قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ] {عبس:17}.
وما علم هذا المسكين المعجب بما لا يُعجب العقلاء من بني آدم أن الكفر أعظم الذنوب، وأن المتلبس به مهما كانت أخلاقه عالية، وابتسامته عريضة، وتعامله حسنا؛ فإن ذلك لا يقربه عند الله تعالى طرفة عين، بل هو ممقوت عند الله تعالى، وإن عمل صالحا في الدنيا عجلت له حسنته فيها؛ حتى لا يبقى له شيء عند الله تعالى يحاججه به ، فيوافي يوم القيامة حين يوافي ولا حسنة له، وقد استحق النار خالدا فيها مخلدا إن مات على كفره، فمن يُعْجَب بمن كانت هذه حالَه ومنزلتَه عند الله تعالى، وتلك نهايته في الدار الآخرة؟
والله لا يُعْجَب به، ولا يُثني عليه، ولا يرضى بحاله إلا مريض القلب، مغموص عليه في النفاق، أو جاهل أخرق لا يدري ما يقول.
وكل الذين ينادون بالمشاريع التغريبية في بلاد المسلمين ما هم إلا ضحايا لهذه الأسفار المحرمة حتى لُوثت عقولهم بالشبهات، وتملكهم حبُ الشهوات، فهي التي تسيرهم في دعواتهم التخريبية في بلاد المسلمين، نسأل الله تعالى لنا ولهم الهداية، وأن يكفي المسلمين شرور دعواتهم ومشاريعهم.
وإذا كانت هذه بعض أضرار السفر لبلاد الكفر والفجور فكيف يسوغ لعاقل أن يورد نفسه ومن يحب من أهله وولده هذه المهالك في الدين من أجل متعة عابرة، ولذة زائلة؟!
هذا إن سلم هو وأهله وولده من الوقوع في كبائر الذنوب، وعظائم الموبقات، وقلّ من الناس من يسلم؛ لغلبة الشهوة، وقوة الدافع، وغياب الرادع، إلا من عصمه الله تعالى، وقليل ما هم.
وكم نقل كثير من المسافرين أمراضا جنسية لأهلهم ومجتمعهم لا عافية منها إلا باجتناب ما حرم الله تعالى من الخبائث، والاكتفاء بالحلال الطيب.
ألا فاتقوا الله ربكم -أيها المسلمون- واجتنبوا ما حرم الله تعالى عليكم، وراقبوه في كل أحوالكم، واستعيضوا بالحلال الطيب عن الحرام الخبيث؛ فإن فيه الخير والبركة، وإن الحرام لا يُشبع منه، وعاقبته شقاء في الدنيا، وعذاب في الآخرة، واحفظوا أنفسكم ورعاياكم من أهل وولد من موجبات غضب الله تعالى
[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ]{التَّحريم:6} .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية
الحمد الله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، ولا أمن إلا للمؤمنين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله النبي الأمين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- وراقبوه، والزموا طاعته ولا تعصوه [وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَائِزُونَ]{النور:52}.
أيها المسلمون: خلق الله تعالى الخلق لعبادته، وواجب على من رضي بالله تعالى ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا؛ أن يراقب الله تعالى في كل أحواله، وأن يصدر عن شريعته، وليس له أن يقدم هواه وهوى أهله وولده على أمر الله تعالى؛ فإن ذلك سبب الزيغ والضلال [فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] {النور:63} [وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا] {الأحزاب:36}.
وقد جعل الله تعالى في الترويح الحلال، والسفر المباح؛ مندوحة وغنىً للمؤمن عن كل سفر محرم.
ومن عجيب أمر بعض المسافرين أنهم ينفقون مالا عظيما في أسفارهم، لا ينفقون عشره في مجالات الخير، ونفع الناس، والصدقة على الفقراء.
وأعجب من ذلك أن واحدهم يزعم محبة الله تعالى، ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو في كل سنة يقطع آلاف الأميال في سفر محرم، ويُصَبِّر نفسه على الرَّهَق والعُسْر والزحام في المطارات وغيرها، ومكة والمدينة قريبتان منه، فيغيب عنهما سنة وسنتين، بل عشرا وعشرين، ولربما أنكر على ولده أو قرابته كثرة العمرة وزيارة المدينة، بحجة الزحام والحر ونحو ذلك، وهو لم يمنعه تكلف صعاب أعظم، ومسافات أطول، ونفقات أكثر من سفره المحرم، فأي حرمان وخذلان لمن كان هذا حالَه؟ نسأل الله تعالى السلامة والهداية.
ومن أبى مع ذلك كله إلا أن يختار السفر المحرم، ولم يقدر على كبح جماح شهوته، فعليه أن يتقي الله تعالى في سفره، وأن يراقب أهله وولده، وأن يدعو إلى الإسلام من خالطه من أهل الكفر، أو إلى الطاعة من رآه من المسلمين على معصية؛ لعله بذلك أن يُكفِّر بعض سيئات سفره.
وأما تركه لأهله وولده يسرحون ويمرحون كيف شاءوا، ويأتون من المنكرات ما أرادوا؛ فذلك من تضييع الأمانة، وخيانة الديانة، وهم متعلقون في رقبته يوم القيامة لا محالة، وكلكم راع ومسؤول عن رعيته.
كما يجب عليه أن يلزم زوجه وبناته الحجاب الشرعي حتى لو كانوا في بلاد لا يلتزمه أهلها؛ إذ إن الوقوع في المحرم -وهو السفر إلى تلك البلاد- لا يسوغ المحرمات الأخرى.
ويجب عليه أن يلزم رفقته إقامة الصلاة في وقتها، فكم تنسى الصلاة في بلاد لا تُرى فيها المساجد إلا قليلا، ولا يُعلن بالنداء للصلاة فيها، فلعل من حافظ على دينه أن يرزقه الله تعالى وأهله وولده خشية وصلاحا في قلوبهم، تجعلهم يستغنون عما حرم الله تعالى عليهم بما أحل لهم، فيُعتقون من أَسر هذه المعاصي والآثام.
ولا يحل لمسلم أن يبدي إعجابه بأحوال الكفار، وما هم عليه من حسن المعيشة والحال دون أن يقرن ذلك بالتحذير من كفرهم، وبيان سوء عاقبتهم؛ لئلا يغتر بمديحه ضعاف القلب والإيمان.
والثناء على الكفار ومدحهم بإطلاق سبب لمحبتهم ومودتهم، ومحبة مناهجهم وطرائق عيشهم؛ والله تعالى يقول: [لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِالله وَاليَوْمِ الآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ الله أَلَا إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ المُفْلِحُونَ] {المجادلة:22} .
كما أنه سبب لتوليهم والله تعالى يقول: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا اليَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ] {المائدة:51} .
وهو كذلك سبب لتقليدهم، والتشبه بهم فيما أُعجب به منهم؛ والنبي صلى الله عليه وسلم يقول (من تشبه بقوم فهو منهم).
والواجب عليه إبراز قبائحهم، وإظهار معايبهم، وانتقاد طرائق عيشهم؛ تحذيرا لنفسه وأهله وللمسلمين من سلوك مسلكهم، وانتهاج نهجهم؛ لأنهم أهلُ النار إن لقوا الله تعالى على كفرهم، وأهلُ النار لا يمدحون بإطلاق، بل هم أهل المذمة والقدح، نسأل الله تعالى العافية من حالهم.
وصلوا وسلموا....
على نبيكم
السفر بين الطاعة والمعصية
إبراهيم بن محمد الحقيل
6\5\1427
الحمد لله؛ خلق البشر ليعبدوه، ورزقهم ليشكروه ولا يكفروه، نحمده على عظيم نعمه، ونشكره على تتابع مننه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ خزائن السماوات والأرض بيده، وكل شيء هالك إلا وجهه [مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ الله بَاقٍ]{النحل:96} وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ بشر أمته وأنذرهم، وما من خير إلا دلهم عليه، ولا شر إلا حذرهم منه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وراقبوه فلا تعصوه، اتقوه في أنفسكم ورعاياكم، واتقوه في حلكم وترحالكم؛ فإنه سبحانه على كل شيء رقيب، وبكل شيء عليم، ولا تخفى عليه خافية من أقوالكم وأعمالكم ومقاصدكم [إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا] {الأحزاب:54} [وَإِنْ تَجْهَرْ بِالقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى * اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى] {طه:7-8}
أيها الناس: للنفوس البشرية إقبالها وإدبارها، ولها ضروراتها وحاجاتها، وقد راعى الإسلام ما في النفس البشرية من حب للشهوات؛ فأباح من الشهوات ما ينفعها وينشطها، وحرم عليها ما يضرها ويوبقها، وما من شهوة محرمة في دين الله تعالى إلا ويغني عنها ما هو خير وأنفع منها.
إن الإسلام وإن كان دين الجد والعمل، ويربي أتباعه على الاقتصاد في اللهو والعبث، ويوجههم إلى الآخرة عوضا عن الدنيا وملذاتها؛ فإنه كذلك أباح لهم من لذائذ الدنيا ما يكون عونا على الطاعة، وسببا لاجتناب المحرم.
وتكون هذه اللذات المباحة عبادات يؤجر عليها صاحبها إذا أحسن فيها النية؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم :(وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجرا) رواه مسلم.
ولما قال حنظلة الأسيدي رضي الله عنه:( يا رسول الله، نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنَّا رأيُ عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيرا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده إنْ لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم ولكن يا حنظلة ساعة وساعة، ثلاث مرات)رواه مسلم.
ولما أراد عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن يأخذ نفسه بالجد، ويفرغها للعمل الصالح؛ رغبة في الآخرة، وإعراضا عن الدنيا؛ تعقبه النبي صلى الله عليه وسلم في سيرته تلك فقال عليه الصلاة والسلام: يا عبد الله، ألم أُخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل؟ قلت: بلى يا رسول الله، قال: فلا تفعل، صم وأفطر، وقم ونم؛ فإن لجسدك عليك حقا، وإن لعينك عليك حقا وإن لزوجك عليك حقا)رواه الشيخان.
فأخذ النفس بالجد دائما قد يؤدي إلى الملل والسأم، ومن ثم ترك كل العمل، وقد نقل عن علي رضي الله عنه قوله: (أجـمُّوا هذه القلوب، والتمسوا لها طرائف الحكمة؛ فإنها تمل كما تمل الأبدان).
وكذلك الزيادة في اللهو والترويح، والانغماس في الملذات ولو كانت مباحة سبب لموت القلب، والإقبال على الدنيا، والإعراض عن الآخرة، والخيار في ذلك الموازنة بين حقوق الآخرة، وحظوظ النفس من الدنيا.
وللناس في الترويح والسعة مذاهب يتبعونها، وطرائق يسلكونها: من اتخاذ المزارع والضيعات، والخروج إلى المتنزهات والاستراحات، في أنواع من اللهو المباح وغير المباح.
ومن أشهر أنواع الترويح والتنفيس عن النفس البشرية : السفر من بلده إلى بلاد أخرى، إما لأنها مسقط رأسه، وبلد آبائه وأجداده، وإما لميزات أخرى دعته إليها، وجعلته يقدمها على غيرها.
وغالب البشر يُقَدِّمون السفر كنوع من أنواع التنفيس على غيره من أنواع الترفيه والترويح، ويجعلونه تاجها ورأسها، ولا بدَّ منه في كل عام عند أكثر الناس ممن يطيقونه ويجدون نفقاته.
والسفر إما أن يكون سفر طاعة، وإما أن يكون سفر معصية، والمباح منه يؤول بالنية والعمل إلى أحدهما ولا بد.
ومن سفر الطاعة: السفر للجهاد أو الرباط، أو طلب العلم، أو صلة الرحم، أو زيارة الإخوان في الله تعالى.
ومن سفر المعصية: السفر للسرقة، أو قطع الطريق، أو الزنا، أو القمار، أو الخمر، أو غير ذلك من أنواع المحرمات.
والسفر للترويح والترفيه هو من المباحات التي تؤول إلى الطاعة أو إلى المعصية.
فإن سافر إلى بلد يقام فيها دين الله تعالى، ويحكم فيه بين أهلها بشريعته، وأحكام الإسلام فيها ظاهرة، والدين فيها عزيز، مع قيامه في نفسه وأهله ورفقته بما أمر الله تعالى من فعل المأمورات، واجتناب المحظورات، فهذا سفر مباح لا ضير على العبد فيه، ولا فيما أنفقه من نفقات عليه.
فإن اقترن بذلك نية صالحة من قصد إدخال السرور على أهله وولده، وجَعْلهم تحت علمه وبصره، وحفظهم من الفراغ ورفقة السوء في بلده، أو أراد بسفره نشاط نفسه وأهله على طاعة الله تعالى، والتفكر في عجائب خلقه وقدرته؛ كان سفره سفر طاعة، وله من الأجر فيه على حسب نيته، ونفقته فيه مخلوفة عليه إن شاء الله تعالى.
وأما إن كانت وجهة سفره إلى بلاد كافرة، الكفر فيها عزيز، والإسلام فيها ضعيف، وحرمات الله تعالى تنتهك فيها جهارا نهارا ولا نكير، فهذا سفر معصية لا خير فيه، وإثمه أكبر من نفعه. وهكذا إن سافر إلى بلاد تتسمى بالإسلام وليس الإسلام فيها ظاهرا، بل الظاهر فيها الكفر والفسوق والعصيان.ولم يرخص العلماء في السفر إليها إلا لضرورة لا بد منها، أو حاجة ملحة، بشرط أن يكون عند هذا المسافر ومن معه من رفقته علم يدفع به الشبهات، وأن يكون عنده دين يمنعه من الشهوات.
فإن خشي على نفسه من الزيغ والضلال، أو كان ضعيفا أمام الشهوات، فالسلامة لا يعدلها شيء، ولعل ضرورته أو حاجته تندفع بغير هذا السفر، ومن يتق الله يجعل له مخرجا، ومن ترك شيئا لله تعالى عوضه الله تعالى خيرا منه.
إن السفر إلى بلاد تعج بأنواع الكفر والفسوق لمما يضر المسلم في دينه، فكيف إذا اصطحب معه أهله وولده، وهم أمانة في عنقه، وأضرار ذلك كثيرة، وآثامه عظيمة:
فمن اختار بلادا كافرة موطنا لسياحته، ومقرا لإجازته فقد أجاز لنفسه الإقامة بين ظهراني المشركين بلا ضرورة ولا حاجة، فيخشى عليه من براءة النبي صلى الله عليه وسلم منه؛ كما قال عليه الصلاة والسلام (أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين).
فإن وقعت له مشكلة اضطرته إلى محاكمهم فقد تحاكم إلى الطاغوت بلا اختيار منه، وقد كان في عافية من ذلك.
ولو لم يكن في السفر من الحرج والإثم إلى بلاد يظهر فيها الكفر والفجور، ويعلن الناس به إلا أن هذا المسافر المسلم يرى المنكر فلا ينكره، فضلا عن أن يغيره ويزيله؛ لكان كافيا في صرفه عنه، والاستعاضة بما هو خير منه. وكم يمر به في يومه وليلته من منكرات يأثم بحضورها وعدم إنكارها؟ ولازمٌ على من حضر منكرا أن ينكره، فإن لم يستطع وجب عليه أن يفارق مكانه.
بل إن إدمانه على مشاهدة المنكرات يكون سببا في تغير قلبه، ورقة دينه؛ فإن سلم هو من أكثر ذلك لعزلته في مسكنه أو منتجعه؛ لم يسلم من معه من أهل وولد ورفقة، وآثامهم على رقبته.
وإن تغير أخلاق كثير من نساء المجتمع وفتياته فيما يتعلق بالحجاب الشرعي حتى استبدل به اللثام والنقاب واللباس الضيق، والتوسع في كشف الوجه، وإظهار الزينة، في أنواع من الغرور والاستعراض ما هو إلا من بلاء السفر والإعلام، فالمرأة الرحَّالة مع أهلها شرقا وغربا قد ألفت نزع الحجاب في غير بلدها، مع اختلاطها بالرجال، وبنزعها لحجابها نزع حياؤها، فثقل عليها أن تعيده كما كان إذا عادت إلى بلدها!! وكل هذه الآثام يتحملها وليها، مع بقاء إثمها عليها. نسأل الله تعالى أن يخفف عنا وعن المسلمين.
ومن أعظم ما يكون سببا للإعجاب بالكفار ومذاهبهم وأخلاقهم وطرائق عيشهم مثل هذه الأسفار المشؤومة؛ حتى صارت المجاهرة بمديحهم علانية في الصحف وغيرها مع نهاية كل صيف، فكل كاتب معجب بهم، أقام صيفه في أحضانهم، يعود إلى بلده لينفث جهالاته وضلالاته على الناس، مدحا للكفار، وإعجابا بهم، وشتما في بلده وأهله وبغضا لهم، وهو يأكل من خيرهم، ويتفيأ ظلالهم، فما أجحده وما أنكره [قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ] {عبس:17}.
وما علم هذا المسكين المعجب بما لا يُعجب العقلاء من بني آدم أن الكفر أعظم الذنوب، وأن المتلبس به مهما كانت أخلاقه عالية، وابتسامته عريضة، وتعامله حسنا؛ فإن ذلك لا يقربه عند الله تعالى طرفة عين، بل هو ممقوت عند الله تعالى، وإن عمل صالحا في الدنيا عجلت له حسنته فيها؛ حتى لا يبقى له شيء عند الله تعالى يحاججه به ، فيوافي يوم القيامة حين يوافي ولا حسنة له، وقد استحق النار خالدا فيها مخلدا إن مات على كفره، فمن يُعْجَب بمن كانت هذه حالَه ومنزلتَه عند الله تعالى، وتلك نهايته في الدار الآخرة؟
والله لا يُعْجَب به، ولا يُثني عليه، ولا يرضى بحاله إلا مريض القلب، مغموص عليه في النفاق، أو جاهل أخرق لا يدري ما يقول.
وكل الذين ينادون بالمشاريع التغريبية في بلاد المسلمين ما هم إلا ضحايا لهذه الأسفار المحرمة حتى لُوثت عقولهم بالشبهات، وتملكهم حبُ الشهوات، فهي التي تسيرهم في دعواتهم التخريبية في بلاد المسلمين، نسأل الله تعالى لنا ولهم الهداية، وأن يكفي المسلمين شرور دعواتهم ومشاريعهم.
وإذا كانت هذه بعض أضرار السفر لبلاد الكفر والفجور فكيف يسوغ لعاقل أن يورد نفسه ومن يحب من أهله وولده هذه المهالك في الدين من أجل متعة عابرة، ولذة زائلة؟!
هذا إن سلم هو وأهله وولده من الوقوع في كبائر الذنوب، وعظائم الموبقات، وقلّ من الناس من يسلم؛ لغلبة الشهوة، وقوة الدافع، وغياب الرادع، إلا من عصمه الله تعالى، وقليل ما هم.
وكم نقل كثير من المسافرين أمراضا جنسية لأهلهم ومجتمعهم لا عافية منها إلا باجتناب ما حرم الله تعالى من الخبائث، والاكتفاء بالحلال الطيب.
ألا فاتقوا الله ربكم -أيها المسلمون- واجتنبوا ما حرم الله تعالى عليكم، وراقبوه في كل أحوالكم، واستعيضوا بالحلال الطيب عن الحرام الخبيث؛ فإن فيه الخير والبركة، وإن الحرام لا يُشبع منه، وعاقبته شقاء في الدنيا، وعذاب في الآخرة، واحفظوا أنفسكم ورعاياكم من أهل وولد من موجبات غضب الله تعالى
[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ]{التَّحريم:6} .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية
الحمد الله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، ولا أمن إلا للمؤمنين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله النبي الأمين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- وراقبوه، والزموا طاعته ولا تعصوه [وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَائِزُونَ]{النور:52}.
أيها المسلمون: خلق الله تعالى الخلق لعبادته، وواجب على من رضي بالله تعالى ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا؛ أن يراقب الله تعالى في كل أحواله، وأن يصدر عن شريعته، وليس له أن يقدم هواه وهوى أهله وولده على أمر الله تعالى؛ فإن ذلك سبب الزيغ والضلال [فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] {النور:63} [وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا] {الأحزاب:36}.
وقد جعل الله تعالى في الترويح الحلال، والسفر المباح؛ مندوحة وغنىً للمؤمن عن كل سفر محرم.
ومن عجيب أمر بعض المسافرين أنهم ينفقون مالا عظيما في أسفارهم، لا ينفقون عشره في مجالات الخير، ونفع الناس، والصدقة على الفقراء.
وأعجب من ذلك أن واحدهم يزعم محبة الله تعالى، ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو في كل سنة يقطع آلاف الأميال في سفر محرم، ويُصَبِّر نفسه على الرَّهَق والعُسْر والزحام في المطارات وغيرها، ومكة والمدينة قريبتان منه، فيغيب عنهما سنة وسنتين، بل عشرا وعشرين، ولربما أنكر على ولده أو قرابته كثرة العمرة وزيارة المدينة، بحجة الزحام والحر ونحو ذلك، وهو لم يمنعه تكلف صعاب أعظم، ومسافات أطول، ونفقات أكثر من سفره المحرم، فأي حرمان وخذلان لمن كان هذا حالَه؟ نسأل الله تعالى السلامة والهداية.
ومن أبى مع ذلك كله إلا أن يختار السفر المحرم، ولم يقدر على كبح جماح شهوته، فعليه أن يتقي الله تعالى في سفره، وأن يراقب أهله وولده، وأن يدعو إلى الإسلام من خالطه من أهل الكفر، أو إلى الطاعة من رآه من المسلمين على معصية؛ لعله بذلك أن يُكفِّر بعض سيئات سفره.
وأما تركه لأهله وولده يسرحون ويمرحون كيف شاءوا، ويأتون من المنكرات ما أرادوا؛ فذلك من تضييع الأمانة، وخيانة الديانة، وهم متعلقون في رقبته يوم القيامة لا محالة، وكلكم راع ومسؤول عن رعيته.
كما يجب عليه أن يلزم زوجه وبناته الحجاب الشرعي حتى لو كانوا في بلاد لا يلتزمه أهلها؛ إذ إن الوقوع في المحرم -وهو السفر إلى تلك البلاد- لا يسوغ المحرمات الأخرى.
ويجب عليه أن يلزم رفقته إقامة الصلاة في وقتها، فكم تنسى الصلاة في بلاد لا تُرى فيها المساجد إلا قليلا، ولا يُعلن بالنداء للصلاة فيها، فلعل من حافظ على دينه أن يرزقه الله تعالى وأهله وولده خشية وصلاحا في قلوبهم، تجعلهم يستغنون عما حرم الله تعالى عليهم بما أحل لهم، فيُعتقون من أَسر هذه المعاصي والآثام.
ولا يحل لمسلم أن يبدي إعجابه بأحوال الكفار، وما هم عليه من حسن المعيشة والحال دون أن يقرن ذلك بالتحذير من كفرهم، وبيان سوء عاقبتهم؛ لئلا يغتر بمديحه ضعاف القلب والإيمان.
والثناء على الكفار ومدحهم بإطلاق سبب لمحبتهم ومودتهم، ومحبة مناهجهم وطرائق عيشهم؛ والله تعالى يقول: [لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِالله وَاليَوْمِ الآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ الله أَلَا إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ المُفْلِحُونَ] {المجادلة:22} .
كما أنه سبب لتوليهم والله تعالى يقول: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا اليَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ] {المائدة:51} .
وهو كذلك سبب لتقليدهم، والتشبه بهم فيما أُعجب به منهم؛ والنبي صلى الله عليه وسلم يقول (من تشبه بقوم فهو منهم).
والواجب عليه إبراز قبائحهم، وإظهار معايبهم، وانتقاد طرائق عيشهم؛ تحذيرا لنفسه وأهله وللمسلمين من سلوك مسلكهم، وانتهاج نهجهم؛ لأنهم أهلُ النار إن لقوا الله تعالى على كفرهم، وأهلُ النار لا يمدحون بإطلاق، بل هم أهل المذمة والقدح، نسأل الله تعالى العافية من حالهم.
وصلوا وسلموا....
على نبيكم
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى