رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنظُرْ نَفسٌ مَا قَدَّمَت لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بما تَعمَلُونَ . وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنسَاهُم أَنفُسَهُم أُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ . لا يَستَوِي أَصحَابُ النَّارِ وَأَصحَابُ الجَنَّةِ أَصحَابُ الجَنَّةِ هُمُ الفَائِزُونَ "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، قَضَى اللهُ أَن يَكُونَ لِكُلِّ بِدَايَةٍ نِهَايَةٌ ، وَأَن يَعقُبَ الحَيَاةَ مَوتٌ وَفَنَاءٌ ، وَأَن يَكُونَ بَعدَ القَرَارِ مُضِيٌّ وَرَحِيلٌ ، وَإِذَا كَانَت حَقَائِقُ الأَشخَاصِ وَمَكَانَتُهُم في مُجتَمَعَاتِهِم إِنَّمَا تَتَّضِحُ في الغَالِبِ بَعدَ رَحِيلِهِم ، فَإِنَّ ثَمَّةَ سُؤَالاً يَحسُنُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا وَقَد عَاشَ في هَذِهِ الدُّنيَا مَا عَاشَ وَفَعَلَ مَا فَعَلَ أَن يَسأَلَهُ نَفسَهُ ، لِيَتَبَيَّنَ بِهِ أَثرَهُ فِيمَن حَولَهُ ، قَبلَ أَن يَأتِيَهُ رَسُولُ رَبِّهِ يَومًا مَا ، فَيُوَافِيَ بما عَمِلَ ، وَيُرتَهَنَ في قَبرِهِ بما قَدَّمَ ، ثُمَّ يَكُونَ بَعدَ ذَلِكَ فَوزُهُ بِدَارِ النَّعِيمِ إِنْ هُوَ أَبلَى وَأَحسَنَ ، أَو خَسَارَتُهُ في الجَحِيمِ إِنْ أَسَاءَ وَقَصَّرَ . ذَلِكُمُ السُّؤَالُ هُوَ : مَاذَا سَيَخسَرُ النَّاسُ بِمَوتي ؟! نَعَم ، مَاذَا سَيَخسَرُ النَّاسُ بِمَوتي ؟! إِنَّهُ سُؤَالٌ قَد يَتَرَاءَى لِسَامِعِهِ أَنَّهُ عَرِيضٌ وَكَبِيرٌ ، وَمِن ثَمَّ فَهُوَ يَتَسَاءَلُ : وَمَاذَا يُمكِنُ لِفَردٍ لا يُمَثِّلُ في هَذَا الكَونِ الضَّخمِ سِوَى ذَرَّةٍ أَو هَبَاءَةٍ أَن يَفعَلَ ؟! وَهَل يُتَصَوَّرُ أَن يَخسَرَ النَّاسُ بِمَوتِ فَردٍ وَاحِدٍ شَيئًا ؟! هَكَذَا يُفَكِّرُ الكَثِيرُونَ ، وَهَكَذَا يَقتُلُونَ أَنفُسَهُم وَهُم أَحيَاءٌ ، غَيرَ أَنَّ مَن أَنعَمَ النَّظَرَ فِيمَا حَولَهُ وَأَطَالَ التَّأَمُّلَ ، عَلِمَ أَنَّهُ لا بُدَّ أَن يَكُونَ لَهُ أَثَرٌ في هَذَا العَالَمِ يَقِلُّ أَو يَكثُرُ ، وَأَنَّ هَذِهِ الحَرَكَةَ الدَّائِبَةَ في الكَونِ وَالصَّخَبَ المُرتَفِعَ في الحَيَاةِ ، مَا هُوَ إِلاَّ تَجَمُّعُ هَذِهِ النُّقَطِ مِنَ النَّاسِ نُقطَةً مَعَ الأُخرَى ، حَتَّى صَارَ مِنهَا ذَلِكُمُ الغَيثُ الهَادِرُ وَالسَّيلُ الجَرَّارُ . وَلَو أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ احتَقَرَ نَفسَهُ وَطامَنَ مِن ذَاتِهِ ، وَاستَصغَرَ شَأنَهُ وَلم يَتَصَوَّرْ أَنَّ لَهُ ذَاكَ التَّأثِيرَ في الكَونِ ، لَتَوَقَّفَتِ الحَيَاةُ حِينَئِذٍ وَتَعَطَّلَتِ المَصَالِحُ ، وَلأَصبَحَتِ البُيُوتُ قُبُورًا لا حَيَاةَ فِيهَا ، وَلَصَارَ النَّاسُ جَمَادَاتٍ لا تَضُرُّ وَلا تَنفَعُ . وإِنَّنَا ـ نَحنُ المُسلِمِينَ ـ خَيرُ أُمَّةٍ أُخرِجَت لِلنَّاسِ ، أَخرَجَنَا اللهُ ـ تَعَالى ـ لِتَقوِيمِ العِوَجِ وَإِصلاحِ الفَسَادِ ، وَبَعَثَنَا المَولى ـ تَبَارَكَ وَتَعَالى ـ لِهِدَايَةِ العِبَادِ ، وَأَرسَلَنَا لِتَخلِيصِهِم مِن رِقِّ العِبَادِ إِلى عِبَادَةِ رَبِّ العِبَادِ ، وَنَقلِهِم مِن جَورِ الأَديَانِ إِلى عَدلِ الإِسلامِ ، وَإِخرَاجِهِم مِن ضِيقِ الدُّنيَا وَظُلُمَاتِ الجَهلِ إِلى سَعَةِ الآخِرَةِ وَنُورِ العِلمِ والدِّينِ " كُنتُم خَيرَ أُمَّةٍ أُخرِجَت لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالمَعرُوفِ وَتَنهَونَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤمِنُونَ بِاللهِ " وَمِن ثَمَّ فَإِنَّ مَن عَاشَ هَذِهِ الخَيرِيَّةَ وَأَرَادَ أَن يَحيَا عَظِيمًا وَيَمُوتَ كَرِيمًا ، فَإِنَّهُ لا بُدَّ أَن يَسأَلَ نَفسَهُ : مَاذَا سَيَخسَرُ النَّاسُ بِمَوتي ؟ ؟! هَل سَيَخسَرُونَ عَالِمًا يَنشُرُ العِلمَ وَيَبُثُّ المَعرِفَةَ وَيُفَقِّهُ النَّاسَ في الدِّينِ ؟ هَل سَيَخسَرُونَ دَاعِيَةً حَكِيمًا وَوَاعِظًا مُؤَثِّرًا وَنَاصِحًا مُخلِصًا ؟ هَل سَيَخسَرُونَ جَوَادًا مُنفِقًا مَالَهُ في طُرُقِ الإِصلاحِ وَدَعمِ مَشرُوعَاتِ الخَيرِ وَأَعمَالِ البِرِّ ؟ هَل سَيَخسَرُونَ مُؤْثِرًا عَلَى نَفسِهِ بَاذِلاً وَقتَهُ وَجُهدَهُ في نَفعِ الأُمَّةِ وَقَضَاءِ الحَاجَاتِ وَتَفرِيجِ الكُرُبَاتِ ؟ هَل سَيَخسَرُونَ إِمَامًا لِلمُتَّقِينَ آمِرًا بِالمَعرُوفِ نَاهِيًا عَنِ المُنكَرِ حَافِظًا لِحُدُودِ اللهِ ؟ هَل سَيَخسَرُونَ قَوَّامًا لِلَّيلِ صَوَّامًا لِلنَّهَارِ يَحفَظُ اللهُ بِبَرَكَتِهِ بَيتَهُ وَمَن حَولَهُ ؟! اللهُ أَعلَمُ مَاذَا سَيَخسَرُ النَّاسُ بِمَوتِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا وَ" قَد عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشرَبَهُم " " وَلِكُلٍّ وِجهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا " غَيرَ أَنَّ مِنَ المُؤَكَّدِ وَلِشَدِيدِ الأَسَفِ أَنَّ في المُجتَمَعِ أَقوَامًا لَن يَخسَرَ النَّاسُ بِمَوتِهِم شَيئًا ، وَلَن يُقِيمُوا لِرَحِيلِهِم وَزنًا ، لَن تَذَرِفَ لِفَقدِهِم عُيُونٌ ، وَلَن تُسكَبَ عَلَى وَدَاعِهِم عَبَرَاتٌ ، وَلَن تَجِفَ لَنَبَأِ وَفَاتِهِم قُلُوبٌ وَلَن تَتَحَرَّكَ بِهِ أَفئِدَةٌ ، وَلَن يَحزَنَ النَّاسُ بَعدَ دَفنِهِم لأَنَّهُم لَن يَرَوهُم عَلَى وَجهِ الأَرضِ مَرَّةً أُخرَى ؛ لأَنَّ حَيَاتَهُم وَمَوتَهُم سَوَاءٌ ، بَل إِنَّ ثَمَّةَ أُنَاسًا سَيَكسَبُ الآخَرُونَ بِمَوتِهِم بَعضَ المَكَاسِبِ ، وَمَن ثَمَّ فَسَيَفرَحُونَ بِمَوتِهِم بَاطِنًا وَإِن لم يُعلِنُوا ذَلِكَ ظَاهِرًا ، إِذْ سَيَفقِدُونَ مُفسِدِينَ في الأَرضِ ، يُؤتُونَ مِن أَنفُسِهِم الفِتنَةَ مَتى مَا سُئِلُوهَا ، إِن وَجَدُوا مُغتَابًا شَارَكُوهُ ، أَو نَمَّامًا أَيَّدُوهُ ، أَو حَاسِدًا أَوقَدُوهُ ، أَو صَاحِبَ شَرٍّ دَعَمُوهُ وسَانَدُوهُ ، يُؤذُونَ الجِيرَانَ ، وَلا يَصِلُونَ الأَرحَامَ ، وَيَغُشُّونَ النَّاسَ وَلا يُوفُونَ المَكَايِيِلَ ، هُم مَعَ زَوجَاتِهِم غَلِيظُونَ جَبَّارُونَ ، وَعَلَى النَّاسِ مُتَفَيهِقُونَ مُتَكَبِّرُونَ ، وَلِلأَموَالِ جَمَّاعُونَ وَللخَيرِ مَنَّاعُونَ ، إِنْ تَوَلىَّ أَحَدُهُم سَعَى في الأَرضِ لِيُفسِدَ فِيهَا ، وَإِنْ كَانَت لِلنَّاسِ عِندَهُ حَاجَةٌ أَو مُعَامَلَةٌ شَقَّ عَلَيهِم ، وَإِن كَانَ عَلَى مَالٍ عَامٍّ لم يَألُ مَا نَهَبَ مِنهُ وَحَازَهُ لِنَفسِهِ ، فَسُبحَانَ مَن جَعَلَ بَينَ النَّاسِ كَمَا بَينَ السَّمَاءِ وَالأَرضِ !! أَقوَامٌ طَهُرَت قُلُوبُهُم فَسَمَت هِمَمُهُم ، وَزَكَت نُفُوسُهُم فَصَلَحَت أَعمَالُهُم ، فَهُم كَالنَّحلِ لا يَأكُلُ إِلاَّ طَيِّبًا وَلا يُخرِجُ إِلاَّ طَيِّبًا ، وَآخَرُونَ أَظلَمَت قُلُوبُهُم فَسَفُلَت إِرَادَاتُهُم ، وَخَبُثَت نُفُوسُهُم فَانحَطَّت أَعمَالُهُم ، فَهُم كَالَذُّبَابِ لا يَحُومُ إِلاَّ عَلَى المَزَابِلِ وَلا يَقَعُ إِلاَّ عَلَى الجُرُوحِ . وَإِذَا أَرَدتَ أَن تَرَى الفَرقَ بَينَ هَؤُلاءِ وَأُولَئِكَ ، فَإِنَّكَ لَن تَحتَاجَ إِلى كَبِيرِ تَأَمُّلٍ ، بَلِ انظُرْ إِلى مَن حَولَكَ مُنذُ أَن يُصبِحُوا إِلى أَن يُمسُوا ، فِيمَ يَقضُونَ أَوقَاتَهُم ؟ وَبِمَ يَشتَغِلُونَ ؟ وَفِيمَ يَكُونُ ذَهَابُهُم وَمِجِيئُهُم ؟ مَاذَا يَقرَؤُونَ وَإِلى أَيِّ شَيءٍ يَنظُرُونَ ؟ وَفِيمَ يُفَكِّرُونَ وَإِلامَ يَهدِفُونَ ؟ وَعَلامَ يَجتَمِعُونَ وَعَمَّ يَتَفَرَّقُونَ ؟ إِنَّكَ إِن نَظَرتَ بِعَينِ البَصِيرَةِ وَقَلَّبتَ النَّظَرَ ، وَجَدتَ فَرقًا بَينَ الثَّرَى وَالثُّرَيَّا ، بَينَ قَومٍ هَمُّهُم اللهُ وَالدَّارُ الآخِرَةُ ، وَآخَرِينَ هَمُّهُمُ الدُّنيَا الدَّنِيَّةُ وَالمُتَعُ الرَّخِيصَةُ ، الأَوَّلُونَ مُنتَهَى غَايَتُهُم الجَنَّةُ ، وأَسمَى مَطَالِبُهُم مُجَاوَرَةُ الحَبِيبِ في الفِردَوسِ الأَعلَى ، مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ، وَالآخَرُونَ هَمُّهُمُ الدُّنيَا وَتَقَلُّدُ مَنَاصِبِهَا وَنَيلُ زِينَتِهَا وَزَخَارِفِهَا ، وَمِن ثَمَّ فَتَرَى السَّابِقِينَ يَجتَمِعُونَ في مَجَالِسِ ذِكرٍ وَتِلاوَةِ قُرآنٍ أَو تَعَلُّمِ عِلمٍ ، وَالآخَرُونَ عَلَى غَيرِ ذَلِكَ ، في مَجَالِس لَغوٍ لا يُذكَرُ فِيهَا اسمُ اللهِ إِلاَّ قَلِيلاً ، وَاجتِمَاعَاتِ فَخرٍ وَمُفَاخَرَةٍ وَمُكَاثَرَةٍ ، وَعَلَى مِثلِ هَذَا فَقِسِ النَّاسَ في سَائِرِ أُمُورِهِم ، فَثَمَّةَ مَن يَسعَى لإِصلاحِ مُجتَمَعِهِ في دِينِهِ وَدُنيَاهِ ، وَهُنَاكَ مَن هُوَ مِعوَلُ هَدمٍ وَخَرَابٍ ، وَفي النَّاسِ مَن يَجمَعُ المَالَ مِن حَلالٍ وَيُنفِقُهُ فِيمَا يُرضِيَ اللهَ ، وَهُنَاكَ مَن يَجمَعُهُ مِن حَرَامٍ وَيُنفِقُهُ في سَبِيلِ الشَّيطَانِ ، وَفِيهِم مَن هُوَ شَاكِرٌ ذَاكِرٌ صَابِرٌ ، وَفِيهِم مَن هُوَ طَعَّانٌ لَعَّانٌ فَاحِشٌ بَذِيءٌ ، وَتَرَى مَن يُحَافِظُ عَلَى صَلَوَاتِهِ وَيَتَزَوَّدُ مِنَ النَّوَافِلِ ، وَمَن لا يَأتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُم كُسَالى وَلا يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُم كَارِهُونَ . أَلا فَاتَّقُوا اللهَ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ، أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ : " أَم حَسِبَ الَّذِينَ اجتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَجعَلَهُم كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحيَاهُم وَمَمَاتُهُم سَاءَ مَا يَحكُمُونَ . وَخَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضَ بِالحَقِّ وَلِتُجزَى كُلُّ نَفسٍ بما كَسَبَت وَهُم لا يُظلَمُونَ "
أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تعالى ـ حَقَّ تُقَاتِهِ ، وَسَارِعُوَا إِلى مَغفِرَتِهِ وَمَرضَاتِهِ " وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجعَلْ لَهُ مَخرَجًا "
أَيُّهَا المُسلِمُ الكَرِيمُ ، أَن يَخسَرَ النَّاسُ بِمَوتِكَ كَثِيرًا ، أَو يَأسَفُون عَلَى رَحِيلِكَ طَوَيلاً ، فَلَيسَ مَعنى ذَلِكَ أَن تَكُونَ رَئِيسَ دَولَةٍ أَو وَزَيرًا أَو كَبِيرًا ، أَو صَاحِبَ جَاهٍ عَرِيضٍ في قَومِكَ أَو مَكَانَةٍ عَالِيَةٍ في وَطَنِكَ ، أَو ذَا مَنصِبٍ مَرمُوقٍ بَينَ أَقرَانِكَ وَأَخدَانِكَ ، أَو مَالِكًا لأَموَالٍ طَائِلَةٍ مُستَولِيًا عَلَى ثَرَوَاتٍ وَاسِعَةٍ ، فَكَم مِن غَنِيٍّ لم يَذُقْ أَهلُهُ وَأَبنَاؤُهُ لِلحَيَاةِ طَعمًا إِلاَّ بِمَوتِهِ وَتَصَرُّفِهِم فِيمَا وَرَاءَهُ ! وَكَم مِن دَائِرَةٍ أَو مُؤَسَّسَةٍ لم تَنجَحْ إِلاَّ بِفِرَاقِ مُدِيرِهَا ! بَلْ وَكَم مِن شَعبٍ لم يَتَحَرَّرْ وَيَعِيشَ عِيشَةَ الكَرَامَةِ إِلاَّ بِرَحِيلِ رَئِيسِهِ ، وَهَا نَحنُ نَرَى هَذِهِ الأَيَّامَ بَعضَ شُعُوبِ عَالَمِنَا العَرَبيِّ تَحتَفِلُ عَلَى فِرَاقِ رُؤَسَائِهَا وَحَلِّ حُكُومَاتِهَا ، وَتُعلِنُ الفَرحَ بِرَحِيلِهِم في مَيَادِينِهَا وَشَوَارِعِهَا ، وَتَحظُرُ عَلَى وُزَرَاءَ وَمَسؤُولِينَ سَابِقِينَ السَّفَرَ وَتُجَمِّدُ أَرصِدَتَهُم ، في حِينِ نَرَى تِلكَ الشُّعُوبَ تَبكِي وَهيَ تُشَيِّعُ عَالِمًا رَبَّانِيًا ، وَتَتَفَطَّرُ قُلُوبُهَا حُزنًا وَهِيَ تُوَدِّعُ دَاعِيَةً مُجَاهِدًا ، وَتَتَبَادَلُ التَّعَازِيَ وَهِيَ تُفَارِقُ مُحسِنًا بَرًّا رَحِيمًا ، إِنَّهَا مَحَبَّةُ اللهِ لِلعَبدِ الطَّائِعِ البَارِّ المُحسِنِ في السَّمَاءِ ، تَنَزِلُ في قُلُوبِ العِبَادِ في الأَرضِ ، فَيَكُونُ لَهُ مِنَ القَبُولِ مَا يُغبَطُ عَلَيهِ ، وَمِثلُهَا بُغضُهُ ـ تَعَالى ـ لِلعَاصِي وَالظَّالِمِ الطَّاغِي ، تَتَنَادَى بها مَلائِكَةُ السَّمَاءِ ، ثُمَّ تُملأُ بها قُلُوبُ الخَلقِ ، فَيُبغِضُهُ كُلُّ شَيءٍ ، قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " إِنَّ اللهَ إِذَا أَحَبَّ عَبدًا دَعَا جِبرِيلَ فَقَالَ : إِنِّي أُحِبُّ فُلانًا فَأَحِبَّهُ . قَالَ : فَيُحِبُّهُ جِبرِيلُ ثُمَّ يُنَادِي في السَّمَاءِ فَيَقُولُ : إِنَّ اللهَ يُحِبُّ فُلانًا فَأَحِبُّوهُ ، فَيُحِبُّهُ أَهلُ السَّمَاءِ ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ القَبُولُ في الأَرضِ . وَإِذَا أَبغَضَ عَبدًا دَعَا جِبرِيلَ فَيَقُولُ : إِنِّي أُبغِضُ فُلانًا فَأَبغِضْهُ . فَيُبغِضُهُ جِبرِيلُ ثُمَّ يُنَادِي في أَهلِ السَّمَاءِ : إِنَّ اللهَ يُبغِضُ فُلانًا فَأَبغِضُوهُ . قَالَ : فَيُبغِضُونَهُ . ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ البَغضَاءُ في الأَرضِ " رَوَاهُ مُسلِمٌ . وَقَد قَالَ ـ تَعَالى ـ عَن فِرعَونَ وَقَومِهِ : " فَمَا بَكَت عَلَيهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ " فَاحرِصُوا ـ رَحِمَكُمُ اللهُ ـ عَلَى نَفعِ إِخوَانِكُمُ المُسلِمِينَ وَالإِحسَانِ إِلَيهِم بما تَستَطِيعُونَهُ مِن مَالٍ أَو عِلمٍ أَو دَعوَةٍ للخَيرِ ، فَإِنَّهُ مَا استُمِيلَتِ القُلُوبُ بِمِثلِ الإِحسَانِ .
أَحسِنْ إِلى النَّاسِ تَستَعبِدْ قُلُوبَهُمُ
فَطَالَمَا استَعبَدَ الإِنسَانَ إِحسَانُ
فَمَن لم يَستَطِعْ فَلْيَتَحَلَّ بِالخُلُقِ الحَسَنِ وَلْيَلِنْ في مُعَامَلَتِهِ وَلتَطِبْ كَلِمَتُهُ ، فَمَن لم يَستَطِعْ فَلْيَكُفَّ شَرَّهُ ، فَإِنَّهَا لَهُ صَدَقَةٌ . اللَّهُمَّ زَيِّنَا بِزِينَةِ الإِيمَانِ وَاجعَلْنَا هُدَاةً مُهتَدِينَ ، اللَّهُمَّ وَاجعَلْ لَنَا لِسَانَ صِدقٍ في الآخِرِينَ ، وَلا تُخزِنَا يَومَ يُبعَثُونَ يَومَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلاَّ مَن أَتَى اللهَ بِقَلبٍ سَلِيمٍ .
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، قَضَى اللهُ أَن يَكُونَ لِكُلِّ بِدَايَةٍ نِهَايَةٌ ، وَأَن يَعقُبَ الحَيَاةَ مَوتٌ وَفَنَاءٌ ، وَأَن يَكُونَ بَعدَ القَرَارِ مُضِيٌّ وَرَحِيلٌ ، وَإِذَا كَانَت حَقَائِقُ الأَشخَاصِ وَمَكَانَتُهُم في مُجتَمَعَاتِهِم إِنَّمَا تَتَّضِحُ في الغَالِبِ بَعدَ رَحِيلِهِم ، فَإِنَّ ثَمَّةَ سُؤَالاً يَحسُنُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا وَقَد عَاشَ في هَذِهِ الدُّنيَا مَا عَاشَ وَفَعَلَ مَا فَعَلَ أَن يَسأَلَهُ نَفسَهُ ، لِيَتَبَيَّنَ بِهِ أَثرَهُ فِيمَن حَولَهُ ، قَبلَ أَن يَأتِيَهُ رَسُولُ رَبِّهِ يَومًا مَا ، فَيُوَافِيَ بما عَمِلَ ، وَيُرتَهَنَ في قَبرِهِ بما قَدَّمَ ، ثُمَّ يَكُونَ بَعدَ ذَلِكَ فَوزُهُ بِدَارِ النَّعِيمِ إِنْ هُوَ أَبلَى وَأَحسَنَ ، أَو خَسَارَتُهُ في الجَحِيمِ إِنْ أَسَاءَ وَقَصَّرَ . ذَلِكُمُ السُّؤَالُ هُوَ : مَاذَا سَيَخسَرُ النَّاسُ بِمَوتي ؟! نَعَم ، مَاذَا سَيَخسَرُ النَّاسُ بِمَوتي ؟! إِنَّهُ سُؤَالٌ قَد يَتَرَاءَى لِسَامِعِهِ أَنَّهُ عَرِيضٌ وَكَبِيرٌ ، وَمِن ثَمَّ فَهُوَ يَتَسَاءَلُ : وَمَاذَا يُمكِنُ لِفَردٍ لا يُمَثِّلُ في هَذَا الكَونِ الضَّخمِ سِوَى ذَرَّةٍ أَو هَبَاءَةٍ أَن يَفعَلَ ؟! وَهَل يُتَصَوَّرُ أَن يَخسَرَ النَّاسُ بِمَوتِ فَردٍ وَاحِدٍ شَيئًا ؟! هَكَذَا يُفَكِّرُ الكَثِيرُونَ ، وَهَكَذَا يَقتُلُونَ أَنفُسَهُم وَهُم أَحيَاءٌ ، غَيرَ أَنَّ مَن أَنعَمَ النَّظَرَ فِيمَا حَولَهُ وَأَطَالَ التَّأَمُّلَ ، عَلِمَ أَنَّهُ لا بُدَّ أَن يَكُونَ لَهُ أَثَرٌ في هَذَا العَالَمِ يَقِلُّ أَو يَكثُرُ ، وَأَنَّ هَذِهِ الحَرَكَةَ الدَّائِبَةَ في الكَونِ وَالصَّخَبَ المُرتَفِعَ في الحَيَاةِ ، مَا هُوَ إِلاَّ تَجَمُّعُ هَذِهِ النُّقَطِ مِنَ النَّاسِ نُقطَةً مَعَ الأُخرَى ، حَتَّى صَارَ مِنهَا ذَلِكُمُ الغَيثُ الهَادِرُ وَالسَّيلُ الجَرَّارُ . وَلَو أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ احتَقَرَ نَفسَهُ وَطامَنَ مِن ذَاتِهِ ، وَاستَصغَرَ شَأنَهُ وَلم يَتَصَوَّرْ أَنَّ لَهُ ذَاكَ التَّأثِيرَ في الكَونِ ، لَتَوَقَّفَتِ الحَيَاةُ حِينَئِذٍ وَتَعَطَّلَتِ المَصَالِحُ ، وَلأَصبَحَتِ البُيُوتُ قُبُورًا لا حَيَاةَ فِيهَا ، وَلَصَارَ النَّاسُ جَمَادَاتٍ لا تَضُرُّ وَلا تَنفَعُ . وإِنَّنَا ـ نَحنُ المُسلِمِينَ ـ خَيرُ أُمَّةٍ أُخرِجَت لِلنَّاسِ ، أَخرَجَنَا اللهُ ـ تَعَالى ـ لِتَقوِيمِ العِوَجِ وَإِصلاحِ الفَسَادِ ، وَبَعَثَنَا المَولى ـ تَبَارَكَ وَتَعَالى ـ لِهِدَايَةِ العِبَادِ ، وَأَرسَلَنَا لِتَخلِيصِهِم مِن رِقِّ العِبَادِ إِلى عِبَادَةِ رَبِّ العِبَادِ ، وَنَقلِهِم مِن جَورِ الأَديَانِ إِلى عَدلِ الإِسلامِ ، وَإِخرَاجِهِم مِن ضِيقِ الدُّنيَا وَظُلُمَاتِ الجَهلِ إِلى سَعَةِ الآخِرَةِ وَنُورِ العِلمِ والدِّينِ " كُنتُم خَيرَ أُمَّةٍ أُخرِجَت لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالمَعرُوفِ وَتَنهَونَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤمِنُونَ بِاللهِ " وَمِن ثَمَّ فَإِنَّ مَن عَاشَ هَذِهِ الخَيرِيَّةَ وَأَرَادَ أَن يَحيَا عَظِيمًا وَيَمُوتَ كَرِيمًا ، فَإِنَّهُ لا بُدَّ أَن يَسأَلَ نَفسَهُ : مَاذَا سَيَخسَرُ النَّاسُ بِمَوتي ؟ ؟! هَل سَيَخسَرُونَ عَالِمًا يَنشُرُ العِلمَ وَيَبُثُّ المَعرِفَةَ وَيُفَقِّهُ النَّاسَ في الدِّينِ ؟ هَل سَيَخسَرُونَ دَاعِيَةً حَكِيمًا وَوَاعِظًا مُؤَثِّرًا وَنَاصِحًا مُخلِصًا ؟ هَل سَيَخسَرُونَ جَوَادًا مُنفِقًا مَالَهُ في طُرُقِ الإِصلاحِ وَدَعمِ مَشرُوعَاتِ الخَيرِ وَأَعمَالِ البِرِّ ؟ هَل سَيَخسَرُونَ مُؤْثِرًا عَلَى نَفسِهِ بَاذِلاً وَقتَهُ وَجُهدَهُ في نَفعِ الأُمَّةِ وَقَضَاءِ الحَاجَاتِ وَتَفرِيجِ الكُرُبَاتِ ؟ هَل سَيَخسَرُونَ إِمَامًا لِلمُتَّقِينَ آمِرًا بِالمَعرُوفِ نَاهِيًا عَنِ المُنكَرِ حَافِظًا لِحُدُودِ اللهِ ؟ هَل سَيَخسَرُونَ قَوَّامًا لِلَّيلِ صَوَّامًا لِلنَّهَارِ يَحفَظُ اللهُ بِبَرَكَتِهِ بَيتَهُ وَمَن حَولَهُ ؟! اللهُ أَعلَمُ مَاذَا سَيَخسَرُ النَّاسُ بِمَوتِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا وَ" قَد عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشرَبَهُم " " وَلِكُلٍّ وِجهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا " غَيرَ أَنَّ مِنَ المُؤَكَّدِ وَلِشَدِيدِ الأَسَفِ أَنَّ في المُجتَمَعِ أَقوَامًا لَن يَخسَرَ النَّاسُ بِمَوتِهِم شَيئًا ، وَلَن يُقِيمُوا لِرَحِيلِهِم وَزنًا ، لَن تَذَرِفَ لِفَقدِهِم عُيُونٌ ، وَلَن تُسكَبَ عَلَى وَدَاعِهِم عَبَرَاتٌ ، وَلَن تَجِفَ لَنَبَأِ وَفَاتِهِم قُلُوبٌ وَلَن تَتَحَرَّكَ بِهِ أَفئِدَةٌ ، وَلَن يَحزَنَ النَّاسُ بَعدَ دَفنِهِم لأَنَّهُم لَن يَرَوهُم عَلَى وَجهِ الأَرضِ مَرَّةً أُخرَى ؛ لأَنَّ حَيَاتَهُم وَمَوتَهُم سَوَاءٌ ، بَل إِنَّ ثَمَّةَ أُنَاسًا سَيَكسَبُ الآخَرُونَ بِمَوتِهِم بَعضَ المَكَاسِبِ ، وَمَن ثَمَّ فَسَيَفرَحُونَ بِمَوتِهِم بَاطِنًا وَإِن لم يُعلِنُوا ذَلِكَ ظَاهِرًا ، إِذْ سَيَفقِدُونَ مُفسِدِينَ في الأَرضِ ، يُؤتُونَ مِن أَنفُسِهِم الفِتنَةَ مَتى مَا سُئِلُوهَا ، إِن وَجَدُوا مُغتَابًا شَارَكُوهُ ، أَو نَمَّامًا أَيَّدُوهُ ، أَو حَاسِدًا أَوقَدُوهُ ، أَو صَاحِبَ شَرٍّ دَعَمُوهُ وسَانَدُوهُ ، يُؤذُونَ الجِيرَانَ ، وَلا يَصِلُونَ الأَرحَامَ ، وَيَغُشُّونَ النَّاسَ وَلا يُوفُونَ المَكَايِيِلَ ، هُم مَعَ زَوجَاتِهِم غَلِيظُونَ جَبَّارُونَ ، وَعَلَى النَّاسِ مُتَفَيهِقُونَ مُتَكَبِّرُونَ ، وَلِلأَموَالِ جَمَّاعُونَ وَللخَيرِ مَنَّاعُونَ ، إِنْ تَوَلىَّ أَحَدُهُم سَعَى في الأَرضِ لِيُفسِدَ فِيهَا ، وَإِنْ كَانَت لِلنَّاسِ عِندَهُ حَاجَةٌ أَو مُعَامَلَةٌ شَقَّ عَلَيهِم ، وَإِن كَانَ عَلَى مَالٍ عَامٍّ لم يَألُ مَا نَهَبَ مِنهُ وَحَازَهُ لِنَفسِهِ ، فَسُبحَانَ مَن جَعَلَ بَينَ النَّاسِ كَمَا بَينَ السَّمَاءِ وَالأَرضِ !! أَقوَامٌ طَهُرَت قُلُوبُهُم فَسَمَت هِمَمُهُم ، وَزَكَت نُفُوسُهُم فَصَلَحَت أَعمَالُهُم ، فَهُم كَالنَّحلِ لا يَأكُلُ إِلاَّ طَيِّبًا وَلا يُخرِجُ إِلاَّ طَيِّبًا ، وَآخَرُونَ أَظلَمَت قُلُوبُهُم فَسَفُلَت إِرَادَاتُهُم ، وَخَبُثَت نُفُوسُهُم فَانحَطَّت أَعمَالُهُم ، فَهُم كَالَذُّبَابِ لا يَحُومُ إِلاَّ عَلَى المَزَابِلِ وَلا يَقَعُ إِلاَّ عَلَى الجُرُوحِ . وَإِذَا أَرَدتَ أَن تَرَى الفَرقَ بَينَ هَؤُلاءِ وَأُولَئِكَ ، فَإِنَّكَ لَن تَحتَاجَ إِلى كَبِيرِ تَأَمُّلٍ ، بَلِ انظُرْ إِلى مَن حَولَكَ مُنذُ أَن يُصبِحُوا إِلى أَن يُمسُوا ، فِيمَ يَقضُونَ أَوقَاتَهُم ؟ وَبِمَ يَشتَغِلُونَ ؟ وَفِيمَ يَكُونُ ذَهَابُهُم وَمِجِيئُهُم ؟ مَاذَا يَقرَؤُونَ وَإِلى أَيِّ شَيءٍ يَنظُرُونَ ؟ وَفِيمَ يُفَكِّرُونَ وَإِلامَ يَهدِفُونَ ؟ وَعَلامَ يَجتَمِعُونَ وَعَمَّ يَتَفَرَّقُونَ ؟ إِنَّكَ إِن نَظَرتَ بِعَينِ البَصِيرَةِ وَقَلَّبتَ النَّظَرَ ، وَجَدتَ فَرقًا بَينَ الثَّرَى وَالثُّرَيَّا ، بَينَ قَومٍ هَمُّهُم اللهُ وَالدَّارُ الآخِرَةُ ، وَآخَرِينَ هَمُّهُمُ الدُّنيَا الدَّنِيَّةُ وَالمُتَعُ الرَّخِيصَةُ ، الأَوَّلُونَ مُنتَهَى غَايَتُهُم الجَنَّةُ ، وأَسمَى مَطَالِبُهُم مُجَاوَرَةُ الحَبِيبِ في الفِردَوسِ الأَعلَى ، مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ، وَالآخَرُونَ هَمُّهُمُ الدُّنيَا وَتَقَلُّدُ مَنَاصِبِهَا وَنَيلُ زِينَتِهَا وَزَخَارِفِهَا ، وَمِن ثَمَّ فَتَرَى السَّابِقِينَ يَجتَمِعُونَ في مَجَالِسِ ذِكرٍ وَتِلاوَةِ قُرآنٍ أَو تَعَلُّمِ عِلمٍ ، وَالآخَرُونَ عَلَى غَيرِ ذَلِكَ ، في مَجَالِس لَغوٍ لا يُذكَرُ فِيهَا اسمُ اللهِ إِلاَّ قَلِيلاً ، وَاجتِمَاعَاتِ فَخرٍ وَمُفَاخَرَةٍ وَمُكَاثَرَةٍ ، وَعَلَى مِثلِ هَذَا فَقِسِ النَّاسَ في سَائِرِ أُمُورِهِم ، فَثَمَّةَ مَن يَسعَى لإِصلاحِ مُجتَمَعِهِ في دِينِهِ وَدُنيَاهِ ، وَهُنَاكَ مَن هُوَ مِعوَلُ هَدمٍ وَخَرَابٍ ، وَفي النَّاسِ مَن يَجمَعُ المَالَ مِن حَلالٍ وَيُنفِقُهُ فِيمَا يُرضِيَ اللهَ ، وَهُنَاكَ مَن يَجمَعُهُ مِن حَرَامٍ وَيُنفِقُهُ في سَبِيلِ الشَّيطَانِ ، وَفِيهِم مَن هُوَ شَاكِرٌ ذَاكِرٌ صَابِرٌ ، وَفِيهِم مَن هُوَ طَعَّانٌ لَعَّانٌ فَاحِشٌ بَذِيءٌ ، وَتَرَى مَن يُحَافِظُ عَلَى صَلَوَاتِهِ وَيَتَزَوَّدُ مِنَ النَّوَافِلِ ، وَمَن لا يَأتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُم كُسَالى وَلا يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُم كَارِهُونَ . أَلا فَاتَّقُوا اللهَ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ، أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ : " أَم حَسِبَ الَّذِينَ اجتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَجعَلَهُم كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحيَاهُم وَمَمَاتُهُم سَاءَ مَا يَحكُمُونَ . وَخَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضَ بِالحَقِّ وَلِتُجزَى كُلُّ نَفسٍ بما كَسَبَت وَهُم لا يُظلَمُونَ "
أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تعالى ـ حَقَّ تُقَاتِهِ ، وَسَارِعُوَا إِلى مَغفِرَتِهِ وَمَرضَاتِهِ " وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجعَلْ لَهُ مَخرَجًا "
أَيُّهَا المُسلِمُ الكَرِيمُ ، أَن يَخسَرَ النَّاسُ بِمَوتِكَ كَثِيرًا ، أَو يَأسَفُون عَلَى رَحِيلِكَ طَوَيلاً ، فَلَيسَ مَعنى ذَلِكَ أَن تَكُونَ رَئِيسَ دَولَةٍ أَو وَزَيرًا أَو كَبِيرًا ، أَو صَاحِبَ جَاهٍ عَرِيضٍ في قَومِكَ أَو مَكَانَةٍ عَالِيَةٍ في وَطَنِكَ ، أَو ذَا مَنصِبٍ مَرمُوقٍ بَينَ أَقرَانِكَ وَأَخدَانِكَ ، أَو مَالِكًا لأَموَالٍ طَائِلَةٍ مُستَولِيًا عَلَى ثَرَوَاتٍ وَاسِعَةٍ ، فَكَم مِن غَنِيٍّ لم يَذُقْ أَهلُهُ وَأَبنَاؤُهُ لِلحَيَاةِ طَعمًا إِلاَّ بِمَوتِهِ وَتَصَرُّفِهِم فِيمَا وَرَاءَهُ ! وَكَم مِن دَائِرَةٍ أَو مُؤَسَّسَةٍ لم تَنجَحْ إِلاَّ بِفِرَاقِ مُدِيرِهَا ! بَلْ وَكَم مِن شَعبٍ لم يَتَحَرَّرْ وَيَعِيشَ عِيشَةَ الكَرَامَةِ إِلاَّ بِرَحِيلِ رَئِيسِهِ ، وَهَا نَحنُ نَرَى هَذِهِ الأَيَّامَ بَعضَ شُعُوبِ عَالَمِنَا العَرَبيِّ تَحتَفِلُ عَلَى فِرَاقِ رُؤَسَائِهَا وَحَلِّ حُكُومَاتِهَا ، وَتُعلِنُ الفَرحَ بِرَحِيلِهِم في مَيَادِينِهَا وَشَوَارِعِهَا ، وَتَحظُرُ عَلَى وُزَرَاءَ وَمَسؤُولِينَ سَابِقِينَ السَّفَرَ وَتُجَمِّدُ أَرصِدَتَهُم ، في حِينِ نَرَى تِلكَ الشُّعُوبَ تَبكِي وَهيَ تُشَيِّعُ عَالِمًا رَبَّانِيًا ، وَتَتَفَطَّرُ قُلُوبُهَا حُزنًا وَهِيَ تُوَدِّعُ دَاعِيَةً مُجَاهِدًا ، وَتَتَبَادَلُ التَّعَازِيَ وَهِيَ تُفَارِقُ مُحسِنًا بَرًّا رَحِيمًا ، إِنَّهَا مَحَبَّةُ اللهِ لِلعَبدِ الطَّائِعِ البَارِّ المُحسِنِ في السَّمَاءِ ، تَنَزِلُ في قُلُوبِ العِبَادِ في الأَرضِ ، فَيَكُونُ لَهُ مِنَ القَبُولِ مَا يُغبَطُ عَلَيهِ ، وَمِثلُهَا بُغضُهُ ـ تَعَالى ـ لِلعَاصِي وَالظَّالِمِ الطَّاغِي ، تَتَنَادَى بها مَلائِكَةُ السَّمَاءِ ، ثُمَّ تُملأُ بها قُلُوبُ الخَلقِ ، فَيُبغِضُهُ كُلُّ شَيءٍ ، قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " إِنَّ اللهَ إِذَا أَحَبَّ عَبدًا دَعَا جِبرِيلَ فَقَالَ : إِنِّي أُحِبُّ فُلانًا فَأَحِبَّهُ . قَالَ : فَيُحِبُّهُ جِبرِيلُ ثُمَّ يُنَادِي في السَّمَاءِ فَيَقُولُ : إِنَّ اللهَ يُحِبُّ فُلانًا فَأَحِبُّوهُ ، فَيُحِبُّهُ أَهلُ السَّمَاءِ ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ القَبُولُ في الأَرضِ . وَإِذَا أَبغَضَ عَبدًا دَعَا جِبرِيلَ فَيَقُولُ : إِنِّي أُبغِضُ فُلانًا فَأَبغِضْهُ . فَيُبغِضُهُ جِبرِيلُ ثُمَّ يُنَادِي في أَهلِ السَّمَاءِ : إِنَّ اللهَ يُبغِضُ فُلانًا فَأَبغِضُوهُ . قَالَ : فَيُبغِضُونَهُ . ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ البَغضَاءُ في الأَرضِ " رَوَاهُ مُسلِمٌ . وَقَد قَالَ ـ تَعَالى ـ عَن فِرعَونَ وَقَومِهِ : " فَمَا بَكَت عَلَيهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ " فَاحرِصُوا ـ رَحِمَكُمُ اللهُ ـ عَلَى نَفعِ إِخوَانِكُمُ المُسلِمِينَ وَالإِحسَانِ إِلَيهِم بما تَستَطِيعُونَهُ مِن مَالٍ أَو عِلمٍ أَو دَعوَةٍ للخَيرِ ، فَإِنَّهُ مَا استُمِيلَتِ القُلُوبُ بِمِثلِ الإِحسَانِ .
أَحسِنْ إِلى النَّاسِ تَستَعبِدْ قُلُوبَهُمُ
فَطَالَمَا استَعبَدَ الإِنسَانَ إِحسَانُ
فَمَن لم يَستَطِعْ فَلْيَتَحَلَّ بِالخُلُقِ الحَسَنِ وَلْيَلِنْ في مُعَامَلَتِهِ وَلتَطِبْ كَلِمَتُهُ ، فَمَن لم يَستَطِعْ فَلْيَكُفَّ شَرَّهُ ، فَإِنَّهَا لَهُ صَدَقَةٌ . اللَّهُمَّ زَيِّنَا بِزِينَةِ الإِيمَانِ وَاجعَلْنَا هُدَاةً مُهتَدِينَ ، اللَّهُمَّ وَاجعَلْ لَنَا لِسَانَ صِدقٍ في الآخِرِينَ ، وَلا تُخزِنَا يَومَ يُبعَثُونَ يَومَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلاَّ مَن أَتَى اللهَ بِقَلبٍ سَلِيمٍ .
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى