رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
على شاطئ البحر يوم الجمعة الموافق : 30/05/1423هـ
الملخص:
1- تأملات في بديع صنع الله. 2- تعريف البحر. 3- البحر آية من آيات الله. 4- حكم ماء البحر وميتته. 5-نبذٌ من أسرار البحر وأخباره. 6- مخلوقات البحر وعجائبه. 7 -غزو البحر على غزو البر وفضل الشهادة فيه. 8-خوض المسلمين غمار البحر للغزو والجهاد. 9- الصلاة على الشاطئ وعلى السفينة. 10- التحذير من فعل المعاصي على الشواطئ والمتنزهات.
أما بعد: فإن الوصية المؤدَّاة والنصيحة المنتقاة هي الوصية بتقوى الله, فإن فيها العز بعد الذل، وبها الأمن بعد الخوف، وبها النجاة يوم الورود: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً % ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً} [مريم:71،72], وإياكم والركون إلى الدنيا, إذ من ذا الذي يبني على موج البحر دارا، تلكم الدنيا فلا تتخذوها قرارا.
أيها الناس: الكون كتابٌ مفتوح يُقرأ بكل لغة, ويُدرك بكل وسيلة, يُطالعه ساكن الخيمة والكوخ, كما يطالعه ساكن العمارة والقصر, كلٌ يجد فيه زاداً موصلاً إلى الحق، كتابٌ مفتوح في كل زمان ومكان تبصرةً لكل عبد منيب، يأخذك كتاب الله في صولات وجولات, ترتاد آفاق السماء صُعَّداً في الجو تنظر في مدارات النجوم والأفلاك، ويعود بك إلى نبات الأرض وعالم الأحياء عند زهرات الحقول وينابيع الأنهار, يفتح بصرك وبصيرتك إلى خلق بلغ الغاية في إحكام وإتقان ماله مثيل, {صُنْع اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} [النمل:88] ثم يقرع الفؤاد مثل قول الله عز وجل: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل:63], ثم يطرق الآذان ويصك الأسماع مثل قوله سبحانه وتعالى: {لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر:21], كل هذا وناسٌ عنه معرضون, {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونًَ} [الفرقان:44], إنه خطاب تسكن له النفس ويتلذذ به السمع, ينبه الغافل ويدمغ المجادل, والحق يصدع ويقطع, وهو أحق أن يتبع.
ولنا اليوم جولة في بديع صنع الله أرجو ألاّ يستكثرها ملول, وألاّ يستطيلها مشغول, {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 164].
تأمل في الوجـود بعين فكر ترى الدنيا الدنيئة كالخيـال
ومن فيها جميعا سوف يفنى ويبقى وجه ربك ذو الجلال
ولئن كان انصراف الناس إلى شواطئ البحار ومجاري الأنهار يتكثف ويزداد في مثل هذه الأوقات من كل عام, تحت مسميات السياحة والترفيه والعطلة، فإننا وفي هذا المقام نقف على شاطئ البحر ونرتاد لجته, ونطرق البحر بحديث آخر أكثر إشراقاً لا بمفهوم المترفين الغافلين.
عباد الله: البحر هو الماء الكثير ملحاً كان أو عذباً وهو خلاف البر, سمى بحراً لسعته وانبساطه, وكثر استعماله في الماء المالح وقلّ في العذب, وجمعه أبحر وبحار وبحور, ولَجَّةُ البحر حيث لا يرى طرفاه وقيل تردد أمواجه.
البحر آية من آيات الله، منه يصطاد اللحم الطريّ, وجعل في سمكه طعام سكان البر والبحر, ومنه تستخرج الجواهر والدرر, وعليه تسير الفلك الماخرات بأمر الله, تقودها الرياح المسخرة, {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِي فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ % إِنْ يَشَأْ يُسْكِنْ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [الشورى: 32، 33].
أخوة الإسلام: ماء البحر طاهرٌ مطًهِّرٌ باق على أصل خلقته, فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سأل رجل النبي $ فقال يا رسول الله: إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء فإن توضأنا به عطشنا أفنتوضأ بماء البحر؟, فقال $ :((هو الطهور ماءه والحل ميتته)) رواه الخمسة.
وصيد البحر حلال كله حَيُّه وميتته, لقول الله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} [المائدة: 96]، واستثنى جمع من أهل العلم الضفدع من ذلك, لما ثبت عند أحمد والبيهقي من أن النبي $ نهى عن قتله, وروي عن عبد الله بن عمر قوله: لا تقتلوا الضفادع فإن نقيقها تسبيح، واختص البحر بحلِّية ميتته دون مطعومات البر لما سبق من قول النبي $: ((هو الطهور ماءه والحل ميتته)), قال أبو بكر رضي الله عنه:"كل دابة تموت في البحر فقد ذكاها الله لكم"، وثبت قول النبي $: ((أحلت لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان فالسمك والجراد، وأما الدمان فالكبد والطحال)) رواه ابن ماجه والدارقطني.
اتفق عقلاء العالم على أن الماء يغطي ثلاثة أرباع الكرة الأرضية واليابس جزءها الباقي, وحار عقلاء الطبائعيين في سبب بروز هذا الجزء من الأرض مع أن طبيعة الماء العُلُوّ, فكان ذلك يقتضي أن يغمر الماء سطح الأرض, ولكن حكمة الله تعالى اقتضت ذلك ليحيا على الأرض ناس لله يتعبدون, فأين العصاة المجاهرون بصنوف العصيان وألوان الإجرام, أما بلغهم ما يرويه عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي $ أنه قال: ((ليس من ليلة إلا والبحر يشرف فيها ثلاث مرات على الأرض يستأذن الله أن ينفضخ عليهم فيكفه الله عز وجل)) رواه أحمد (1/303) قال تعالى: {أَمْ أَمِنتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً مِنْ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً} [الإسراء : 69]، وعلى هذا فسر أهل العلم قول الله تعالى: {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} [الطور:6] أي: المحبوس، فلولا أن الله حبس البحر وأمسكه لفاض على الأرض, ثم تأمل تارة أخرى حين تسير مياه البحار فلا يبغي بحر على بحر, ولا يختلط ماء بحر بماء بحر آخر, {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ} [الرحمن:20] فتبارك {الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُورا} [الفرقان:53] {لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:31].
عباد الله: كم في البحر من أسرار وأخبار, وكم في البحر من صريع, وفي محيطه من غريق, إبتداءً بقوم نوح ومروراً بفرعون وأتباعه, وانتهاءً بكل جبار عنيد ممن كتب الله عليهم القلة والذلة, فيه أُغرق فرعون وقومه, وبطوفانه أُهلك قوم نوح, وعلى شاطئه مسخ قوم من اليهود لصيدهم الحيتان يوم السبت، وفيه التقمَ الحوتُ يونس, وعنده جاء موسى يبحث عن عالم زمانه الخضر, ويوم القيامة تتفجر البحار وتسجر إيذاناً باليوم الموعود, وفي أواخر القرن التاسع عشر الميلادي صنع الإنجليز باخرة عظيمة هي فخر صناعاتهم زعموا، وانطلقت بعلية القوم ونخبة المجتمع في رحلة ترفيهية, وبلغ الفخر والغرور بصناع السفينة أوجه من الصلف فسموها الباخرة التي لا تقهر، بل سمع بعض الملاحة يتشدق بما ترجمته: حتى الله نفسه لا يستطيع أن يغرق هذا المركب جل الله تعالى وتقدس، وفي اليوم الثالث من سيرها في المحيط الأطلسي تصطدم بجبل جليدي عائم فيغرقها غرقاً كبيراً، وبعد ساعتين ونصف تستقر السفينة التي لا تقهر في قعر المحيط وعليها ما يزيد على ألف وخمسمأة شخص فضلاً عن عشرات آلاف الأطنان من الأمتعة, {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت: 40] و {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:14].
أيها الناس: في البحر أنواع من المخلوقات, وصنوف من المبتدعات أكثر من أن تحصى, وأعظم من أن يحاط بها, قال الغزالي رحمه الله: "السمك أكثر خلق الله تعالى"، وقال ابن القيم في مفتاح السعادة:"وإذا تأملت عجائب البحر وما فيه من الحيوانات على اختلاف أجناسها وأشكالها ومقاديرها ومنافعها ومضارها وألوانها حتى أن فيها حيواناً أمثال الجبال لا يقوم له شيء، وفيها من الحيوانات ما يرى ظهورها فيظن أنها جزيرة فينزل الركاب عليها فتحس بالنار إذا أوقدوا عليها فتتحرك فيعلم أنه حيوان، وما من صنف من أصناف حيوان البر إلا وفي البحر أمثاله حتى الإنسان والفرس والبعير وأصنافها، وفيها أصناف لا يعهد لها نظير في البر أصلاً، هذا مع ما فيه من الجواهر واللؤلؤ والمرجان فترى اللؤلؤة كيف أودعت في كن كالبيت وهو الصدف تكنها وتحفظها, ومنه اللؤلؤ المكنون وهو الذي في صدفه لم تمسه الأيدي، وتأمل كيف نبت المرجان في قعره في الصخرة الصماء تحت الماء على هيئة الشجر, مع ما فيه من العنبر وأصناف النفائس التي يقذفها البحر وتستخرج منه"، انتهى كلامه رحمه الله.
عجائب البحر أعظم من أن يحصيها أحد إلا الله, فعلماء البحار اكتشفوا في النصف الثاني من القرن العشرين أن في قاع البحار اللجية أمواجاً عاتية دهماء مظلمة, فبعد ستين متراً تحت البحر يصبح كل شيء مظلماً فلا تكاد ترى يدك إذا أخرجتها, ولذلك زود الله الحيوانات التي تعيش في تلك الأعماق بنور تولده لنفسها, {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُور} [النور:40]، وجهل هؤلاء أن الله ذكر تلك الظلمات في كتابه العزيز قبل أن يُخلقوا وآبائهم وأجدادهم بمئات الأعوام: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40].
عباد الله: عدَّ النبي $ من مات في البحر غرقاً شهيداً, فقال $: ((الشهداء خمسة، المطعون والمبطون والغريق وصاحب الهدم والشهيد في سبيل الله)) متفق عليه, وذكر جمع من أهل العلم لغزو البحر فضلاً أكثر على غزو البر, فمن أصح ما ورد في ذلك أن النبي $ دخل على الرميصاء بنت ملحان فأطعمته ثم جلست تفلي رأسه فنام رسول الله $ ثم استيقظ وهو يضحك, فقالت: ما يضحكك يا رسول الله؟, قال: ((ناس من أمتي عرضوا عليَّ غزاة في سبيل الله يركبون ثبج البحر- أي وسطه وظهره- ملوكاً على الأسرة, أو مثل الملوك على الأسرة)) فضحك النبي $ فقالت: أدع الله أن يجعلني منهم يا رسول الله قال: ((أنتِ منهم)), ثم استيقظ رسول الله $ وهو يضحك فسألته فقال مثل قولته الأولى, فقالت: أدع الله أن يجعلني منهم, قال: ((أنتِ من الأولين)), فركبت البحر إلى قبرص مع الغزاة في سبيل الله فلما نزلت من المركب قربت لها دابتها فصرعتها فاندقت عنقها فماتت رضي الله عنها, متفق عليه, ويا لها من بشارة يبشر ها النبي $ أمته بأنهم سيركبون البحار والمحيطات, ويستقلون المراكب والناقلات, ويسخرون الأساطيل البحرية غزاة في سبيل الله, وكان أولُّ الأمر أنه وبعد الفتح الإسلاميّ للشام ألحَّ معاوية على عمر بن الخطاب رضي الله عنهما في غزو البحر, وأخبره بقرب الروم من حمص وأن قرية من قرى حمص يسمع أهلها نباح كلابهم وصياح دجاجهم, حتى إذا كاد ذلك يأخذ بقلب عمر أحب أن يزود عنه, فكتب إلى عمرو بن العاص:"صف لي لبحر وراكبه فإن نفسي تنازعني إليه وإني أشتهي خلافها", فكتب إليه عمرو بن العاص:"إني رأيت خلقا كبيرا يركبه خلق صغير, إن سكن خوف القلوب, وإن تحرك راع العقول, يزداد فيه اليقين قلة, والشك كثرة, هم فيه كدود على عود, إن مال غرق وإن نجا فرق", فلما جاءه كتاب عمرو كتب إلى معاوية:"لا والذي بعث محمدا بالحق بشيرا ونذيرا لا أحمل فيه مسلما أبدا, ما كان الله ليسألني عن امرئ من المسلمين الذين حملتهم فيه، لا حاجة لنا به, والله لمسلم واحد أحب إلي مما حوت الروم".
فلما ولي عثمان بن عفان كان الأسطول الإسلامي قد تشكلت نواته, وازداد المسلمون دراية بالبحر وجرأة عليه, فلم يزل معاوية يلح على عثمان رضي الله عنهما حتى عزم على ذلك وقال له:"لا تنتخب الناس ولا تقرع بينهم, خيرهم فمن اختار الغزو طائعا فاحمله وأعنه", ففعل ذلك معاوية واستعمل على البحر عبد الله بن قيس الجاسي حليف بني فزارة, فغزا خمسين غزاة من بين صائفة وشاتية في البر والبحر ولم يغرق معه أحد في البحر ولا نكب, هذه بعض أخبار أهل الإسلام مع البحار وما حديث القسطنطينية التي نصفها في البر ونصفها في البحر عنا ببعيد, يوم يأتيها المسلمون فيفتحونها بالتكبير كما أخبر بذلك البشير النذير $, وهكذا هم المسلمون يبلغون بلا إله إلا الله الآفاق, فيظهر الإسلام وينتشر, فدولة الحق إلى قيام الساعة.
كنـا جبالاً في الجبـال وربما صرنا على موج البحار بحاراً
بمعـابد الإفرنج كـان أذاننا قبل الكتائب تفتح الأمصار
لم تنس إفريقيا ولا صحراؤها سجداتنا والأرض تقذف ناراً
أيها المسلم يا من قصدت الشاطئ من أجل النزهة وقضاء العطلة، ليس معنى العطلة أن تعطل نفسك عن عبادة الله، فتؤخر الصلاة عن وقتها أو تتركها، وإذا كنت مسافرا فإنه يشرع لك القصر ولو كنت في سفر نزهة، لأن علة ثبوت الرخصة هي السفر لا المشقة, وصلاة المسافر على السفينة تصح شريطة أن يكون المصلي مستقبلاً القبلة عند افتتاح الصلاة, وأن يدور جهة القبلة إن دارت السفينة لغير جهتها إن أمكنه ذلك لوجوب الاستقبال, ولا فرق بين النافلة والفريضة لتيسر استقباله، فحذار حذار من التهاون في الصلاة حضراً أو سفراً، سلماً أو حرباً، قال الله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} [النساء:103], ولا يجوز للرجل أن يصلي كاشفا عن أعلى جسمه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يصلى الرجل في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء)) متفق عليه، والواجب ستر العورة وحد عورة الرجل الواجب سترها ما بين السرة والركبة, لقول النبي صلى الله عليه وسلم لجرهد: ((غط فخذك فإن الفخذ عورة)), رواه أبو داود والترمذي، فمن أظهر شيئا من عورته فهو آثم، ولا يجوز للمسلم أن يقصد الشواطئ التي يعصى فيها الله تعالى، سواء بكشف العورات أو بالغناء أو شرب الخمور أو غير ذلك، قال سبحانه في صفة المؤمنين: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} [الفرقان:72], ومما يتواصى به المحافظة على نظافة الشواطئ، فإن الحفاظ على النظافة علامة الإيمان، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)) متفق عليه، فالحذر يا عباد الله من عصيان المولى جل وعلا في المتنزهات وعلى الشواطئ, فإن البحر يعظم عليه أن يرى ابن آدم يعصى الله مع حلم الله عليه, والبحر يتمعر من فعال العصاة، إن في ذلك لآية وكم لله من آية، عبر وآيات تدل وتنطق بوحدانية رب الأرض والسماوات فاعتبروا يا أولي الألباب.
الشمس والبـدر من أنوار حكمته والبر والبحر فيض من عطاياه
الطير سبـحه والوحـش مجـده والموج كبره والحوت ناجـاه
والنمل تحت الصخور الصم قدسه والنحل يهتف حمداً في خلاياه
والناس يعصونه جهـراً فيسترهم والعبد ينسى وربي ليس ينساه
كتبه: بلال بن عبد الصابر قديري
الملخص:
1- تأملات في بديع صنع الله. 2- تعريف البحر. 3- البحر آية من آيات الله. 4- حكم ماء البحر وميتته. 5-نبذٌ من أسرار البحر وأخباره. 6- مخلوقات البحر وعجائبه. 7 -غزو البحر على غزو البر وفضل الشهادة فيه. 8-خوض المسلمين غمار البحر للغزو والجهاد. 9- الصلاة على الشاطئ وعلى السفينة. 10- التحذير من فعل المعاصي على الشواطئ والمتنزهات.
أما بعد: فإن الوصية المؤدَّاة والنصيحة المنتقاة هي الوصية بتقوى الله, فإن فيها العز بعد الذل، وبها الأمن بعد الخوف، وبها النجاة يوم الورود: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً % ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً} [مريم:71،72], وإياكم والركون إلى الدنيا, إذ من ذا الذي يبني على موج البحر دارا، تلكم الدنيا فلا تتخذوها قرارا.
أيها الناس: الكون كتابٌ مفتوح يُقرأ بكل لغة, ويُدرك بكل وسيلة, يُطالعه ساكن الخيمة والكوخ, كما يطالعه ساكن العمارة والقصر, كلٌ يجد فيه زاداً موصلاً إلى الحق، كتابٌ مفتوح في كل زمان ومكان تبصرةً لكل عبد منيب، يأخذك كتاب الله في صولات وجولات, ترتاد آفاق السماء صُعَّداً في الجو تنظر في مدارات النجوم والأفلاك، ويعود بك إلى نبات الأرض وعالم الأحياء عند زهرات الحقول وينابيع الأنهار, يفتح بصرك وبصيرتك إلى خلق بلغ الغاية في إحكام وإتقان ماله مثيل, {صُنْع اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} [النمل:88] ثم يقرع الفؤاد مثل قول الله عز وجل: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل:63], ثم يطرق الآذان ويصك الأسماع مثل قوله سبحانه وتعالى: {لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر:21], كل هذا وناسٌ عنه معرضون, {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونًَ} [الفرقان:44], إنه خطاب تسكن له النفس ويتلذذ به السمع, ينبه الغافل ويدمغ المجادل, والحق يصدع ويقطع, وهو أحق أن يتبع.
ولنا اليوم جولة في بديع صنع الله أرجو ألاّ يستكثرها ملول, وألاّ يستطيلها مشغول, {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 164].
تأمل في الوجـود بعين فكر ترى الدنيا الدنيئة كالخيـال
ومن فيها جميعا سوف يفنى ويبقى وجه ربك ذو الجلال
ولئن كان انصراف الناس إلى شواطئ البحار ومجاري الأنهار يتكثف ويزداد في مثل هذه الأوقات من كل عام, تحت مسميات السياحة والترفيه والعطلة، فإننا وفي هذا المقام نقف على شاطئ البحر ونرتاد لجته, ونطرق البحر بحديث آخر أكثر إشراقاً لا بمفهوم المترفين الغافلين.
عباد الله: البحر هو الماء الكثير ملحاً كان أو عذباً وهو خلاف البر, سمى بحراً لسعته وانبساطه, وكثر استعماله في الماء المالح وقلّ في العذب, وجمعه أبحر وبحار وبحور, ولَجَّةُ البحر حيث لا يرى طرفاه وقيل تردد أمواجه.
البحر آية من آيات الله، منه يصطاد اللحم الطريّ, وجعل في سمكه طعام سكان البر والبحر, ومنه تستخرج الجواهر والدرر, وعليه تسير الفلك الماخرات بأمر الله, تقودها الرياح المسخرة, {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِي فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ % إِنْ يَشَأْ يُسْكِنْ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [الشورى: 32، 33].
أخوة الإسلام: ماء البحر طاهرٌ مطًهِّرٌ باق على أصل خلقته, فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سأل رجل النبي $ فقال يا رسول الله: إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء فإن توضأنا به عطشنا أفنتوضأ بماء البحر؟, فقال $ :((هو الطهور ماءه والحل ميتته)) رواه الخمسة.
وصيد البحر حلال كله حَيُّه وميتته, لقول الله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} [المائدة: 96]، واستثنى جمع من أهل العلم الضفدع من ذلك, لما ثبت عند أحمد والبيهقي من أن النبي $ نهى عن قتله, وروي عن عبد الله بن عمر قوله: لا تقتلوا الضفادع فإن نقيقها تسبيح، واختص البحر بحلِّية ميتته دون مطعومات البر لما سبق من قول النبي $: ((هو الطهور ماءه والحل ميتته)), قال أبو بكر رضي الله عنه:"كل دابة تموت في البحر فقد ذكاها الله لكم"، وثبت قول النبي $: ((أحلت لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان فالسمك والجراد، وأما الدمان فالكبد والطحال)) رواه ابن ماجه والدارقطني.
اتفق عقلاء العالم على أن الماء يغطي ثلاثة أرباع الكرة الأرضية واليابس جزءها الباقي, وحار عقلاء الطبائعيين في سبب بروز هذا الجزء من الأرض مع أن طبيعة الماء العُلُوّ, فكان ذلك يقتضي أن يغمر الماء سطح الأرض, ولكن حكمة الله تعالى اقتضت ذلك ليحيا على الأرض ناس لله يتعبدون, فأين العصاة المجاهرون بصنوف العصيان وألوان الإجرام, أما بلغهم ما يرويه عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي $ أنه قال: ((ليس من ليلة إلا والبحر يشرف فيها ثلاث مرات على الأرض يستأذن الله أن ينفضخ عليهم فيكفه الله عز وجل)) رواه أحمد (1/303) قال تعالى: {أَمْ أَمِنتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً مِنْ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً} [الإسراء : 69]، وعلى هذا فسر أهل العلم قول الله تعالى: {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} [الطور:6] أي: المحبوس، فلولا أن الله حبس البحر وأمسكه لفاض على الأرض, ثم تأمل تارة أخرى حين تسير مياه البحار فلا يبغي بحر على بحر, ولا يختلط ماء بحر بماء بحر آخر, {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ} [الرحمن:20] فتبارك {الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُورا} [الفرقان:53] {لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:31].
عباد الله: كم في البحر من أسرار وأخبار, وكم في البحر من صريع, وفي محيطه من غريق, إبتداءً بقوم نوح ومروراً بفرعون وأتباعه, وانتهاءً بكل جبار عنيد ممن كتب الله عليهم القلة والذلة, فيه أُغرق فرعون وقومه, وبطوفانه أُهلك قوم نوح, وعلى شاطئه مسخ قوم من اليهود لصيدهم الحيتان يوم السبت، وفيه التقمَ الحوتُ يونس, وعنده جاء موسى يبحث عن عالم زمانه الخضر, ويوم القيامة تتفجر البحار وتسجر إيذاناً باليوم الموعود, وفي أواخر القرن التاسع عشر الميلادي صنع الإنجليز باخرة عظيمة هي فخر صناعاتهم زعموا، وانطلقت بعلية القوم ونخبة المجتمع في رحلة ترفيهية, وبلغ الفخر والغرور بصناع السفينة أوجه من الصلف فسموها الباخرة التي لا تقهر، بل سمع بعض الملاحة يتشدق بما ترجمته: حتى الله نفسه لا يستطيع أن يغرق هذا المركب جل الله تعالى وتقدس، وفي اليوم الثالث من سيرها في المحيط الأطلسي تصطدم بجبل جليدي عائم فيغرقها غرقاً كبيراً، وبعد ساعتين ونصف تستقر السفينة التي لا تقهر في قعر المحيط وعليها ما يزيد على ألف وخمسمأة شخص فضلاً عن عشرات آلاف الأطنان من الأمتعة, {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت: 40] و {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:14].
أيها الناس: في البحر أنواع من المخلوقات, وصنوف من المبتدعات أكثر من أن تحصى, وأعظم من أن يحاط بها, قال الغزالي رحمه الله: "السمك أكثر خلق الله تعالى"، وقال ابن القيم في مفتاح السعادة:"وإذا تأملت عجائب البحر وما فيه من الحيوانات على اختلاف أجناسها وأشكالها ومقاديرها ومنافعها ومضارها وألوانها حتى أن فيها حيواناً أمثال الجبال لا يقوم له شيء، وفيها من الحيوانات ما يرى ظهورها فيظن أنها جزيرة فينزل الركاب عليها فتحس بالنار إذا أوقدوا عليها فتتحرك فيعلم أنه حيوان، وما من صنف من أصناف حيوان البر إلا وفي البحر أمثاله حتى الإنسان والفرس والبعير وأصنافها، وفيها أصناف لا يعهد لها نظير في البر أصلاً، هذا مع ما فيه من الجواهر واللؤلؤ والمرجان فترى اللؤلؤة كيف أودعت في كن كالبيت وهو الصدف تكنها وتحفظها, ومنه اللؤلؤ المكنون وهو الذي في صدفه لم تمسه الأيدي، وتأمل كيف نبت المرجان في قعره في الصخرة الصماء تحت الماء على هيئة الشجر, مع ما فيه من العنبر وأصناف النفائس التي يقذفها البحر وتستخرج منه"، انتهى كلامه رحمه الله.
عجائب البحر أعظم من أن يحصيها أحد إلا الله, فعلماء البحار اكتشفوا في النصف الثاني من القرن العشرين أن في قاع البحار اللجية أمواجاً عاتية دهماء مظلمة, فبعد ستين متراً تحت البحر يصبح كل شيء مظلماً فلا تكاد ترى يدك إذا أخرجتها, ولذلك زود الله الحيوانات التي تعيش في تلك الأعماق بنور تولده لنفسها, {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُور} [النور:40]، وجهل هؤلاء أن الله ذكر تلك الظلمات في كتابه العزيز قبل أن يُخلقوا وآبائهم وأجدادهم بمئات الأعوام: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40].
عباد الله: عدَّ النبي $ من مات في البحر غرقاً شهيداً, فقال $: ((الشهداء خمسة، المطعون والمبطون والغريق وصاحب الهدم والشهيد في سبيل الله)) متفق عليه, وذكر جمع من أهل العلم لغزو البحر فضلاً أكثر على غزو البر, فمن أصح ما ورد في ذلك أن النبي $ دخل على الرميصاء بنت ملحان فأطعمته ثم جلست تفلي رأسه فنام رسول الله $ ثم استيقظ وهو يضحك, فقالت: ما يضحكك يا رسول الله؟, قال: ((ناس من أمتي عرضوا عليَّ غزاة في سبيل الله يركبون ثبج البحر- أي وسطه وظهره- ملوكاً على الأسرة, أو مثل الملوك على الأسرة)) فضحك النبي $ فقالت: أدع الله أن يجعلني منهم يا رسول الله قال: ((أنتِ منهم)), ثم استيقظ رسول الله $ وهو يضحك فسألته فقال مثل قولته الأولى, فقالت: أدع الله أن يجعلني منهم, قال: ((أنتِ من الأولين)), فركبت البحر إلى قبرص مع الغزاة في سبيل الله فلما نزلت من المركب قربت لها دابتها فصرعتها فاندقت عنقها فماتت رضي الله عنها, متفق عليه, ويا لها من بشارة يبشر ها النبي $ أمته بأنهم سيركبون البحار والمحيطات, ويستقلون المراكب والناقلات, ويسخرون الأساطيل البحرية غزاة في سبيل الله, وكان أولُّ الأمر أنه وبعد الفتح الإسلاميّ للشام ألحَّ معاوية على عمر بن الخطاب رضي الله عنهما في غزو البحر, وأخبره بقرب الروم من حمص وأن قرية من قرى حمص يسمع أهلها نباح كلابهم وصياح دجاجهم, حتى إذا كاد ذلك يأخذ بقلب عمر أحب أن يزود عنه, فكتب إلى عمرو بن العاص:"صف لي لبحر وراكبه فإن نفسي تنازعني إليه وإني أشتهي خلافها", فكتب إليه عمرو بن العاص:"إني رأيت خلقا كبيرا يركبه خلق صغير, إن سكن خوف القلوب, وإن تحرك راع العقول, يزداد فيه اليقين قلة, والشك كثرة, هم فيه كدود على عود, إن مال غرق وإن نجا فرق", فلما جاءه كتاب عمرو كتب إلى معاوية:"لا والذي بعث محمدا بالحق بشيرا ونذيرا لا أحمل فيه مسلما أبدا, ما كان الله ليسألني عن امرئ من المسلمين الذين حملتهم فيه، لا حاجة لنا به, والله لمسلم واحد أحب إلي مما حوت الروم".
فلما ولي عثمان بن عفان كان الأسطول الإسلامي قد تشكلت نواته, وازداد المسلمون دراية بالبحر وجرأة عليه, فلم يزل معاوية يلح على عثمان رضي الله عنهما حتى عزم على ذلك وقال له:"لا تنتخب الناس ولا تقرع بينهم, خيرهم فمن اختار الغزو طائعا فاحمله وأعنه", ففعل ذلك معاوية واستعمل على البحر عبد الله بن قيس الجاسي حليف بني فزارة, فغزا خمسين غزاة من بين صائفة وشاتية في البر والبحر ولم يغرق معه أحد في البحر ولا نكب, هذه بعض أخبار أهل الإسلام مع البحار وما حديث القسطنطينية التي نصفها في البر ونصفها في البحر عنا ببعيد, يوم يأتيها المسلمون فيفتحونها بالتكبير كما أخبر بذلك البشير النذير $, وهكذا هم المسلمون يبلغون بلا إله إلا الله الآفاق, فيظهر الإسلام وينتشر, فدولة الحق إلى قيام الساعة.
كنـا جبالاً في الجبـال وربما صرنا على موج البحار بحاراً
بمعـابد الإفرنج كـان أذاننا قبل الكتائب تفتح الأمصار
لم تنس إفريقيا ولا صحراؤها سجداتنا والأرض تقذف ناراً
أيها المسلم يا من قصدت الشاطئ من أجل النزهة وقضاء العطلة، ليس معنى العطلة أن تعطل نفسك عن عبادة الله، فتؤخر الصلاة عن وقتها أو تتركها، وإذا كنت مسافرا فإنه يشرع لك القصر ولو كنت في سفر نزهة، لأن علة ثبوت الرخصة هي السفر لا المشقة, وصلاة المسافر على السفينة تصح شريطة أن يكون المصلي مستقبلاً القبلة عند افتتاح الصلاة, وأن يدور جهة القبلة إن دارت السفينة لغير جهتها إن أمكنه ذلك لوجوب الاستقبال, ولا فرق بين النافلة والفريضة لتيسر استقباله، فحذار حذار من التهاون في الصلاة حضراً أو سفراً، سلماً أو حرباً، قال الله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} [النساء:103], ولا يجوز للرجل أن يصلي كاشفا عن أعلى جسمه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يصلى الرجل في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء)) متفق عليه، والواجب ستر العورة وحد عورة الرجل الواجب سترها ما بين السرة والركبة, لقول النبي صلى الله عليه وسلم لجرهد: ((غط فخذك فإن الفخذ عورة)), رواه أبو داود والترمذي، فمن أظهر شيئا من عورته فهو آثم، ولا يجوز للمسلم أن يقصد الشواطئ التي يعصى فيها الله تعالى، سواء بكشف العورات أو بالغناء أو شرب الخمور أو غير ذلك، قال سبحانه في صفة المؤمنين: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} [الفرقان:72], ومما يتواصى به المحافظة على نظافة الشواطئ، فإن الحفاظ على النظافة علامة الإيمان، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)) متفق عليه، فالحذر يا عباد الله من عصيان المولى جل وعلا في المتنزهات وعلى الشواطئ, فإن البحر يعظم عليه أن يرى ابن آدم يعصى الله مع حلم الله عليه, والبحر يتمعر من فعال العصاة، إن في ذلك لآية وكم لله من آية، عبر وآيات تدل وتنطق بوحدانية رب الأرض والسماوات فاعتبروا يا أولي الألباب.
الشمس والبـدر من أنوار حكمته والبر والبحر فيض من عطاياه
الطير سبـحه والوحـش مجـده والموج كبره والحوت ناجـاه
والنمل تحت الصخور الصم قدسه والنحل يهتف حمداً في خلاياه
والناس يعصونه جهـراً فيسترهم والعبد ينسى وربي ليس ينساه
كتبه: بلال بن عبد الصابر قديري
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى