رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
أما بعد .. فاتقوا الله عباد الله، اتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله، يوم ينفخ في الصور، ويبعث من في القبور، ويظهر المستور .. يوم تبلى السرائر، وتكشف الضمائر، ويتميز البر من الفاجر.
أيها الإخوة، بين أيدينا سورة عظيمة ، ذات آيات رهيبة، تخاطب العقول، وتشفي أمراض القلوب .
إنها السورة التي كان يقرؤها النبي ، ويخطب بها على المنابر في الجُمَع والأعياد والمجامع الكبار، كما يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله لاشتمالها على ابتداء الخلق، والبعث والنشور، والمعاد والقيامة والحساب، والجنة والنار، والثواب والعقاب، والترغيب والترهيب.. تلكم هي سورة: ق وَٱلْقُرْءانِ ٱلْمَجِيدِ .
أخرج الإمام مسلم في صحيحه من حديث أم هشام بنت حارثة قالت: (لقد كان تنورنا وتنور النبي واحداً سنتين أو سنة أو بعض السنة، وما أخذت ق وَٱلْقُرْءانِ ٱلْمَجِيدِ إلا على لسان رسول الله كان يقرؤها كلَّ يوم جمعة على المنبر إذا خطب الناس) .
فتعالوا بنا ، نتفيّأ ظلالَ هذه السورةِ إحياءً للسنّة والتماسًا للهداية ووَعظًا للقلوب .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، بسم الله الرحمن الرحيم: ق وَٱلْقُرْءانِ ٱلْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُواْ أَن جَاءهُمْ مُّنذِرٌ مّنْهُمْ فَقَالَ ٱلْكَـٰفِرُونَ هَـٰذَا شَىْء عَجِيبٌ أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ ٱلأرْضَ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَـٰبٌ حَفِيظٌ بَلْ كَذَّبُواْ بِٱلْحَقّ لَمَّا جَاءهُمْ فَهُمْ فِى أَمْرٍ مَّرِيجٍ .
بدأ الله تعالى هذه السورة الكريمة بالقسم بالقرآن المجيد ، ولم يصرح الله تعالى بالأمر المقسم عليه ، بل شرع في بيان الأمر الخطير وهو تعجب الكفار واستبعادهم للمعاد بعد الهلاك.
سذاجة في التفكير، وقصور في النظر . كيف ينكرون إعادة الخلق وقد خلقوا أول مرة؟ .
ولهذا كان الرد عليهم بأعظم مما أنكروه ، (قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ) ، فالله الذي خلقهم يعلم ما تأكله الأرض من أجسادهم وأشلاءهم ، وكل ذلك مسجل عنده في كتاب حفيظ .
وواقع هؤلاء: أنهم كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج.
إن كل من انحرف عن الحق حاله مختلط، وأمره متخبِّط، تتقاذفه الأهواء ، وتمزقه الحيرة، وتقلقه الشكوك، كما هو حال الكثيرين من الفلاسفة ، والماديين ، والشيوعيين ، والعلمانيين .
ووالله ليس لهؤلاء طريقاً لعلاج هذه الشكوك والهداية إلى الحق إلا طريق القرآن .
ثم ينتقل السياق إلى إثبات البعث بالنظر في صفحات كتاب الكون الذي ينطق بالحق .
التدبر في خلق الأرض والسماء ، والنبات والماء، وكل مبثوث من الجماد والأحياء .
أَفَلَمْ يَنظُرُواْ إِلَى ٱلسَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَـٰهَا وَزَيَّنَّـٰهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ وَٱلأرْضَ مَدَدْنَـٰهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوٰسِىَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَىٰ لِكُلّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ وَنَزَّلْنَا مِنَ ٱلسَّمَاء مَاء مُّبَـٰرَكاً فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّـٰتٍ وَحَبَّ ٱلْحَصِيدِ وَٱلنَّخْلَ بَـٰسِقَـٰتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ رّزْقًا لّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذٰلِكَ ٱلْخُرُوجُ
هذه السماء وما فيها من الثبات والشموخ والجمال .. هذه الأرض ، والرواسي الثابتات، والبهجة في النبات (تبصرة وذكرى) ، تكشف الحجب ، وتنير البصيرة ، وتفتح كل قلب منيب ، يرجع إلى ربه من قريب .
(ونزلنا من السماء ماء مباركاً) .. والماء النازل من السماء آية من آيات الله ، يفرح به الكبار قبل أن يلهو به الصغار ، وتحيا به النفوس قبل أن تحيا به الأرض اليبوس .
يخرج الله به الفواكه والبساتين ، والحب المحصود ، والرطب المنضود في النخل الباسق الطويل . وما أجمل هذا الوصف .
كل هذا (رزقاً للعباد) ، فأين الشاكرين؟ .
(وأحيينا به بلدة ميتاً) فكيف نعجز عن إحياء الموتى وهو أهون علينا .
ثم تنتقل الآيات من صفحات كتاب الكون إلى صفحات كتاب التاريخ البشري ، التي تنطق بأحوال الغابرين، وعاقبة المكذبين .
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَـٰبُ ٱلرَّسّ وَثَمُودُ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوٰنُ لُوطٍ وَأَصْحَـٰبُ ٱلأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُّبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ ٱلرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ أَفَعَيِينَا بِٱلْخَلْقِ ٱلأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِى لَبْسٍ مّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ
(أفعيينا بالقلب الأول) .. يا أهل العقول أين عقولكم : كيف تكذبون بالإعادة وأنتم ترون كل هذا الكون وكل هذه المخلوقات شاهدة على الإنشاء والخلق الأول؟
ثم تنتقل الآيات لتثبت قضية البعث بدليلٍ معروف ، ومشهدٍ مألوف ، لكن النفوس كثيراً ما تغفل عنه ، بل ولا ترغب في ذكره، لأنه يفسد عليها شهواتها ، ويقطع عليها لذاتها .. إنه مشهدُ الموت وسكراتِه .. يذكر الله تعالى هذا المشهد مقروناً بمشهد الرقابة الإلهية والإحاطة الربانية التي تحيط بالإنسان من بداية حياته حتى موته .
وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَـٰنَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ ٱلْوَرِيدِ إِذْ يَتَلَقَّى ٱلْمُتَلَقّيَانِ عَنِ ٱلْيَمِينِ وَعَنِ ٱلشّمَالِ قَعِيدٌ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ
أين المفر في الحياة؟ وأنت في قبضة مولاك .. النَّفَس معدود، والهاجس معلوم، واللفظ مكتوب، واللحظ محسوب. رقابة رهيبة مضروبة على وساوس القلب كما هي مضروبة على حركات الجوارح . فلا يفوت فيها ظن ، ولا يفلت منها وسواس .
هذه الرقابة وإن كانت كافية لوحدها ، لكن الله تعالى جعل رقابة أخرى ، فإذا الإنسان يعيش ويتحرك ويأكل ويشرب ويتكلم بين ملكين عن اليمين وعن الشمال ، كلاهما موصوف بأنه رقيب أي: حفيظ، وعتيد: أي حاضر . يسجلان كل كلمة وحركة فور وقوعها .
روي عن الإمام أحمد أنه كان يئن في سكرات الموت ، فقيل له : إن الأنين يكتب ، فلم يسمع له أنين حتى مات رحمه الله. فكيف بمن ترك لسانه يفري في أعراض المسلمين ، (وإن عليكم لحافظين ، كراماً كاتبين ، يعلمون ما تفعلون) .
(وجاءت سكرة الموت بالحق) .
أين المفر عند الموت؟ وسكرة الموت ، وهي شدته وغشيته لم يسلم منها أحب الخلق إلى الله محمد ، فقد ثبت عنه أنه لما نزل به الموت كان يمسح وجهه بالماء من ركوة أو علبة بين يديه ، ويقول: ((لا إله إلا الله, إن للموت لسكرات)) .
الله ارحم ضعفنا ، وأعنا على سكرات الموت .
(ذلك ما كنت منه تحيد) ، والموت هو أشد ما يحاول الإنسان أن يهرب منه ، أو يروغ عنه ، وأنى له ذلك !!
وبعد ذكر الموت وسكراته ينتقل السياق إلى ما هو أشد منه وأفظع ، إنه مشهد البعث ، وهول المحشر، ورهبة الحساب .
وَنُفِخَ فِى ٱلصُّورِ ذَلِكَ يَوْمَ ٱلْوَعِيدِ وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ لَّقَدْ كُنتَ فِى غَفْلَةٍ مّنْ هَـٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ ٱلْيَوْمَ حَدِيدٌ
إنه تصوير حي، وشاهد قائم، يقول فيه الرسول : ((كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن، وحنى جبهته، وانتظر أن يؤذن له)). قالوا: يا رسول الله، كيف نقول؟ قال : ((قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل)) . فقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل.
(وجاءت كل نفس) .. فالنفس هنا هي التي تحاسب وتحاكم بين يدي الجبار جل جلاله ، ومعها ملكان : سائق يسوقها إلى أرض المحشر ، وشهيد يشهد عليها بما عملت من خير أو شر .
(لقد كنت في غفلة من هذا) .. كنت في الدنيا غافلاً عن القيامة والوقوف بين يدي الله ، فكشفنا عنك اليوم حجاب الغفلة ، فبصرك اليوم قوي ، فأبصرت الحق وأيقنت ، ولكن هيهات هيهات ، فهذا الملك قد تقدم ليشهد عليك .
وَقَالَ قَرِينُهُ هَـٰذَا مَا لَدَىَّ عَتِيدٌ أَلْقِيَا فِى جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ مَّنَّـٰعٍ لّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ ٱلَّذِى جَعَلَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً ءاخَرَ فَأَلْقِيَـٰهُ فِى ٱلْعَذَابِ ٱلشَّدِيدِ قَالَ قرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَـٰكِن كَانَ فِى ضَلَـٰلٍ بَعِيدٍ قَالَ لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَىَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِٱلْوَعِيدِ مَا يُبَدَّلُ ٱلْقَوْلُ لَدَىَّ وَمَا أَنَاْ بِظَلَّـٰمٍ لّلْعَبِيدِ يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ ٱمْتَلاَتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ
القرين في الآية الأولى على الأرجح هو الملك الموكل لعمل الإنسان في الدنيا يشهد عليه بما فعل ، فهو يقدم ما لديه من شهادة حاضرة . وبعد هذه الشهادة يصدر الحكم الإلهي (ألقيا في جهنم كل كفار عنيد مناع للخير معتد مريب ) من كانت هذه أعماله وصفاته في الدنيا ، فهو مستحق للعذاب الشديد .
عند ذلك يقول القرين : (ربنا ما أطغيته) وهو هنا على الأرجح الشيطان الموكل بملازمة الإنسان وإغوائه ، يقول : ما كان لي عليه سلطان ، بل هو الذي ضل وطغا بنفسه .
فيقول الله قوله الحق الذي ينهي كل قول : (لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد ، ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد) ، فالمقام ليس مقام اختصام .
ثم ينتهي المشهد بوصف رهيب لجهنم وهي تحترق تفور ، وتضطرب وتمور ، (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ ٱمْتَلاَتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ) .
إنها جهنم .. حرها شديد .. وقعرها بعيد .. يلقى فيها كل جبار عنيد .. وهي تنادي هل من مزيد ، هل من مزيد .. المزيد من الكفرة والمنافقين .. المزيد من العصاة والمجرمين .. لا تزال تنادي حتى يضع الجبار جل جلاله قدمه فيها ، فتقول : حسبي حسبي .
ثم ينتقل سياق الآيات مباشرة من مشهد العذاب والجحيم إلى مشهد السرور والنعيم .
وَأُزْلِفَتِ ٱلْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ هَـٰذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَّنْ خَشِىَ ٱلرَّحْمَـٰنَ بِٱلْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ ٱدْخُلُوهَا بِسَلَـٰمٍ ذَلِكَ يَوْمُ ٱلُخُلُودِ لَهُم مَّا يَشَاءونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ .
الله أكبر .. فالجنة تزلف وتقرّب لهم غير بعيد ، فلا يتكلفون مشقة الوصول إليها .
الله يعلم أنكم كنتم أوابين ، حفيظين ، تخشون بكم بالغيب ، وتنيبون إليه . ولهذا ، ادخلوا الجنة بسلام ، سلام من العذاب ، وسلام من الموت و المرض والهرم والأسقام .
لهم فيها ما تشتهيه أنفسهم وتلذ أعينهم ، ولهم فيها ما هو فوق ذلك وهو التمتع برؤية وجه الله الكريم .
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب .... النار وما قرب .
اللهم إنا نسألك لذة النظر .... إنك على كل شيء قدير.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي خلق فسوى، وأعاد فأبدى، وأمت وأحيا ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله ، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد .. فقد جاءت خواتم هذه السورة العظيمة؛ لتوجز ما سبق من طرق إثبات البعث، ومراحل الخلق، ومصير الخلائق، ومصارع الغابرين، وأهوال المحشر .
وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً فَنَقَّبُواْ فِى ٱلْبِلَـٰدِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ إِنَّ فِى ذٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى ٱلسَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ فَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ قَبْلَ طُلُوعِ ٱلشَّمْسِ وَقَبْلَ ٱلْغُرُوبِ وَمِنَ ٱلَّيْلِ فَسَبّحْهُ وَأَدْبَـٰرَ ٱلسُّجُودِ
انظر يا محمد في مصارع الأمم التي خلت ، قوم نوح وأصحاب الرس وثمود وعاد وفرعون وإخوان لوط كما ذكر في أول السورة ، وغيرهم من الأمم ، هل نفعتهم قوتهم ، وتنقيبهم في البلاد ، ونحتهم الجبال ، وشقهم الأرض؟ .. (هل من محيص) هل كان لهم ملجأٌ ومهربٌ من قضائنا وعقوبتنا؟ .
إن في مصارع الغابرين ذكرى ، لمن كان له قلب أي كان حي القلب ، لأن من لم تحركه هذه الآيات فقلبه ميت وإن كان يمشي بين الأحياء .
(أو ألقى السمع) ، أي تدبر هذه الآيات بإنصات ووعي ، فيتأثر قلبه .
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ ، فاصبر على ما يقولون)
يا محمد لا تأس على هؤلاء الذين ينكرون البعث .. فنحن خلقنا هذه المخلوقات العظيمة التي هي أكبر من خلقهم ولم يصبنا تعبٌ ولا إعياءٌ ولا نصب ، فاصبر وسبح واسجد وصل لربك ، والله يكفيك ويتولاك .
ثم تختم هذه السورة العظيمة بتقرير مشاهد البعث والنشور ، وتثبيت النبي وتسليته تجاه منكري البعث .
وَٱسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ ٱلْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ يَوْمَ يَسْمَعُونَ ٱلصَّيْحَةَ بِٱلْحَقّ ذَلِكَ يَوْمُ ٱلْخُرُوجِ إِنَّا نَحْنُ نُحْىِ وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا ٱلْمَصِيرُ يَوْمَ تَشَقَّقُ ٱلاْرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكّرْ بِٱلْقُرْءانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ .
إنه مشهد البعث ، حينما يُنفَخ في الصور ، وهو المراد بالصيحة ، وأما المنادي فإن الله تعالى يأمر ملكاً أن ينادي على صخرة بيت المقدس : يا أيتها العظامُ البالية ، والأوصالُ المتقطعة ، إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء . فتشقق الأرض ويخرج الناس قبورهم ، كل الأمم من آدم إلى قيام الساعة ، يخرجون سراعاً مبادرين إلى أمر الله .
أما هؤلاء المكذبون يا محمد فـ (نحن أعلم بما يقولون) .
وتأمل الآيتين : هناك قال له : فَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ ، وهنا قال سبحانه: نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ .
اصبر على ما يقولون ، فالهداية بيد الله غير خاضعة لقوة برهان، أو بلاغة بيان، ، فما عليك إلا البلاغ، وليس عليك هداهم .
أيها المسلم ، أيها العالم ، أيها الداعية : اصبر على ما يقولون
.. اصبر على أذى الكفار والمنافقين ، وتمادي المفسدين، اصبر على التهم الملفقة ، والألفاظ المعلبة المستوردة ، اصبر على اتهام النوايا والتصنيف الغاشم .
(نحن أعلم بما يقولون) فدعهم يقولون ما يقولون ، والله أعلم بما يوعون ، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
أما أنت أيها النبي ، أيها المسلم ، أيها الداعية ، فإنما أنت مذكر ، فذكر بالقرآن من يخاف وعيد .. ذكّر بالقرآن .. فهو يهز القلوب ، ويزلزل النفوس .
واعلم أنه لا يتذكر بالقرآن إلا من يخاف وعيد الله ويرجو وعده .
ومن لم يؤثر فيه القرآن ، فهو حري بأن لا تؤثر فيه أي موعظة .
اللهم اجعل القرآن ربيع قلوبنا ونور صدورنا وجلاء أحزاننا وذهاب غمومنا . وصلوا وسلموا رحمكم الله على خير البرية وأزكى البشرية فقد أمركم الله بذلك فقال : إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً )
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم..
أيها الإخوة، بين أيدينا سورة عظيمة ، ذات آيات رهيبة، تخاطب العقول، وتشفي أمراض القلوب .
إنها السورة التي كان يقرؤها النبي ، ويخطب بها على المنابر في الجُمَع والأعياد والمجامع الكبار، كما يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله لاشتمالها على ابتداء الخلق، والبعث والنشور، والمعاد والقيامة والحساب، والجنة والنار، والثواب والعقاب، والترغيب والترهيب.. تلكم هي سورة: ق وَٱلْقُرْءانِ ٱلْمَجِيدِ .
أخرج الإمام مسلم في صحيحه من حديث أم هشام بنت حارثة قالت: (لقد كان تنورنا وتنور النبي واحداً سنتين أو سنة أو بعض السنة، وما أخذت ق وَٱلْقُرْءانِ ٱلْمَجِيدِ إلا على لسان رسول الله كان يقرؤها كلَّ يوم جمعة على المنبر إذا خطب الناس) .
فتعالوا بنا ، نتفيّأ ظلالَ هذه السورةِ إحياءً للسنّة والتماسًا للهداية ووَعظًا للقلوب .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، بسم الله الرحمن الرحيم: ق وَٱلْقُرْءانِ ٱلْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُواْ أَن جَاءهُمْ مُّنذِرٌ مّنْهُمْ فَقَالَ ٱلْكَـٰفِرُونَ هَـٰذَا شَىْء عَجِيبٌ أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ ٱلأرْضَ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَـٰبٌ حَفِيظٌ بَلْ كَذَّبُواْ بِٱلْحَقّ لَمَّا جَاءهُمْ فَهُمْ فِى أَمْرٍ مَّرِيجٍ .
بدأ الله تعالى هذه السورة الكريمة بالقسم بالقرآن المجيد ، ولم يصرح الله تعالى بالأمر المقسم عليه ، بل شرع في بيان الأمر الخطير وهو تعجب الكفار واستبعادهم للمعاد بعد الهلاك.
سذاجة في التفكير، وقصور في النظر . كيف ينكرون إعادة الخلق وقد خلقوا أول مرة؟ .
ولهذا كان الرد عليهم بأعظم مما أنكروه ، (قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ) ، فالله الذي خلقهم يعلم ما تأكله الأرض من أجسادهم وأشلاءهم ، وكل ذلك مسجل عنده في كتاب حفيظ .
وواقع هؤلاء: أنهم كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج.
إن كل من انحرف عن الحق حاله مختلط، وأمره متخبِّط، تتقاذفه الأهواء ، وتمزقه الحيرة، وتقلقه الشكوك، كما هو حال الكثيرين من الفلاسفة ، والماديين ، والشيوعيين ، والعلمانيين .
ووالله ليس لهؤلاء طريقاً لعلاج هذه الشكوك والهداية إلى الحق إلا طريق القرآن .
ثم ينتقل السياق إلى إثبات البعث بالنظر في صفحات كتاب الكون الذي ينطق بالحق .
التدبر في خلق الأرض والسماء ، والنبات والماء، وكل مبثوث من الجماد والأحياء .
أَفَلَمْ يَنظُرُواْ إِلَى ٱلسَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَـٰهَا وَزَيَّنَّـٰهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ وَٱلأرْضَ مَدَدْنَـٰهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوٰسِىَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَىٰ لِكُلّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ وَنَزَّلْنَا مِنَ ٱلسَّمَاء مَاء مُّبَـٰرَكاً فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّـٰتٍ وَحَبَّ ٱلْحَصِيدِ وَٱلنَّخْلَ بَـٰسِقَـٰتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ رّزْقًا لّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذٰلِكَ ٱلْخُرُوجُ
هذه السماء وما فيها من الثبات والشموخ والجمال .. هذه الأرض ، والرواسي الثابتات، والبهجة في النبات (تبصرة وذكرى) ، تكشف الحجب ، وتنير البصيرة ، وتفتح كل قلب منيب ، يرجع إلى ربه من قريب .
(ونزلنا من السماء ماء مباركاً) .. والماء النازل من السماء آية من آيات الله ، يفرح به الكبار قبل أن يلهو به الصغار ، وتحيا به النفوس قبل أن تحيا به الأرض اليبوس .
يخرج الله به الفواكه والبساتين ، والحب المحصود ، والرطب المنضود في النخل الباسق الطويل . وما أجمل هذا الوصف .
كل هذا (رزقاً للعباد) ، فأين الشاكرين؟ .
(وأحيينا به بلدة ميتاً) فكيف نعجز عن إحياء الموتى وهو أهون علينا .
ثم تنتقل الآيات من صفحات كتاب الكون إلى صفحات كتاب التاريخ البشري ، التي تنطق بأحوال الغابرين، وعاقبة المكذبين .
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَـٰبُ ٱلرَّسّ وَثَمُودُ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوٰنُ لُوطٍ وَأَصْحَـٰبُ ٱلأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُّبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ ٱلرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ أَفَعَيِينَا بِٱلْخَلْقِ ٱلأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِى لَبْسٍ مّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ
(أفعيينا بالقلب الأول) .. يا أهل العقول أين عقولكم : كيف تكذبون بالإعادة وأنتم ترون كل هذا الكون وكل هذه المخلوقات شاهدة على الإنشاء والخلق الأول؟
ثم تنتقل الآيات لتثبت قضية البعث بدليلٍ معروف ، ومشهدٍ مألوف ، لكن النفوس كثيراً ما تغفل عنه ، بل ولا ترغب في ذكره، لأنه يفسد عليها شهواتها ، ويقطع عليها لذاتها .. إنه مشهدُ الموت وسكراتِه .. يذكر الله تعالى هذا المشهد مقروناً بمشهد الرقابة الإلهية والإحاطة الربانية التي تحيط بالإنسان من بداية حياته حتى موته .
وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَـٰنَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ ٱلْوَرِيدِ إِذْ يَتَلَقَّى ٱلْمُتَلَقّيَانِ عَنِ ٱلْيَمِينِ وَعَنِ ٱلشّمَالِ قَعِيدٌ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ
أين المفر في الحياة؟ وأنت في قبضة مولاك .. النَّفَس معدود، والهاجس معلوم، واللفظ مكتوب، واللحظ محسوب. رقابة رهيبة مضروبة على وساوس القلب كما هي مضروبة على حركات الجوارح . فلا يفوت فيها ظن ، ولا يفلت منها وسواس .
هذه الرقابة وإن كانت كافية لوحدها ، لكن الله تعالى جعل رقابة أخرى ، فإذا الإنسان يعيش ويتحرك ويأكل ويشرب ويتكلم بين ملكين عن اليمين وعن الشمال ، كلاهما موصوف بأنه رقيب أي: حفيظ، وعتيد: أي حاضر . يسجلان كل كلمة وحركة فور وقوعها .
روي عن الإمام أحمد أنه كان يئن في سكرات الموت ، فقيل له : إن الأنين يكتب ، فلم يسمع له أنين حتى مات رحمه الله. فكيف بمن ترك لسانه يفري في أعراض المسلمين ، (وإن عليكم لحافظين ، كراماً كاتبين ، يعلمون ما تفعلون) .
(وجاءت سكرة الموت بالحق) .
أين المفر عند الموت؟ وسكرة الموت ، وهي شدته وغشيته لم يسلم منها أحب الخلق إلى الله محمد ، فقد ثبت عنه أنه لما نزل به الموت كان يمسح وجهه بالماء من ركوة أو علبة بين يديه ، ويقول: ((لا إله إلا الله, إن للموت لسكرات)) .
الله ارحم ضعفنا ، وأعنا على سكرات الموت .
(ذلك ما كنت منه تحيد) ، والموت هو أشد ما يحاول الإنسان أن يهرب منه ، أو يروغ عنه ، وأنى له ذلك !!
وبعد ذكر الموت وسكراته ينتقل السياق إلى ما هو أشد منه وأفظع ، إنه مشهد البعث ، وهول المحشر، ورهبة الحساب .
وَنُفِخَ فِى ٱلصُّورِ ذَلِكَ يَوْمَ ٱلْوَعِيدِ وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ لَّقَدْ كُنتَ فِى غَفْلَةٍ مّنْ هَـٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ ٱلْيَوْمَ حَدِيدٌ
إنه تصوير حي، وشاهد قائم، يقول فيه الرسول : ((كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن، وحنى جبهته، وانتظر أن يؤذن له)). قالوا: يا رسول الله، كيف نقول؟ قال : ((قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل)) . فقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل.
(وجاءت كل نفس) .. فالنفس هنا هي التي تحاسب وتحاكم بين يدي الجبار جل جلاله ، ومعها ملكان : سائق يسوقها إلى أرض المحشر ، وشهيد يشهد عليها بما عملت من خير أو شر .
(لقد كنت في غفلة من هذا) .. كنت في الدنيا غافلاً عن القيامة والوقوف بين يدي الله ، فكشفنا عنك اليوم حجاب الغفلة ، فبصرك اليوم قوي ، فأبصرت الحق وأيقنت ، ولكن هيهات هيهات ، فهذا الملك قد تقدم ليشهد عليك .
وَقَالَ قَرِينُهُ هَـٰذَا مَا لَدَىَّ عَتِيدٌ أَلْقِيَا فِى جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ مَّنَّـٰعٍ لّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ ٱلَّذِى جَعَلَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً ءاخَرَ فَأَلْقِيَـٰهُ فِى ٱلْعَذَابِ ٱلشَّدِيدِ قَالَ قرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَـٰكِن كَانَ فِى ضَلَـٰلٍ بَعِيدٍ قَالَ لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَىَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِٱلْوَعِيدِ مَا يُبَدَّلُ ٱلْقَوْلُ لَدَىَّ وَمَا أَنَاْ بِظَلَّـٰمٍ لّلْعَبِيدِ يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ ٱمْتَلاَتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ
القرين في الآية الأولى على الأرجح هو الملك الموكل لعمل الإنسان في الدنيا يشهد عليه بما فعل ، فهو يقدم ما لديه من شهادة حاضرة . وبعد هذه الشهادة يصدر الحكم الإلهي (ألقيا في جهنم كل كفار عنيد مناع للخير معتد مريب ) من كانت هذه أعماله وصفاته في الدنيا ، فهو مستحق للعذاب الشديد .
عند ذلك يقول القرين : (ربنا ما أطغيته) وهو هنا على الأرجح الشيطان الموكل بملازمة الإنسان وإغوائه ، يقول : ما كان لي عليه سلطان ، بل هو الذي ضل وطغا بنفسه .
فيقول الله قوله الحق الذي ينهي كل قول : (لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد ، ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد) ، فالمقام ليس مقام اختصام .
ثم ينتهي المشهد بوصف رهيب لجهنم وهي تحترق تفور ، وتضطرب وتمور ، (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ ٱمْتَلاَتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ) .
إنها جهنم .. حرها شديد .. وقعرها بعيد .. يلقى فيها كل جبار عنيد .. وهي تنادي هل من مزيد ، هل من مزيد .. المزيد من الكفرة والمنافقين .. المزيد من العصاة والمجرمين .. لا تزال تنادي حتى يضع الجبار جل جلاله قدمه فيها ، فتقول : حسبي حسبي .
ثم ينتقل سياق الآيات مباشرة من مشهد العذاب والجحيم إلى مشهد السرور والنعيم .
وَأُزْلِفَتِ ٱلْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ هَـٰذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَّنْ خَشِىَ ٱلرَّحْمَـٰنَ بِٱلْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ ٱدْخُلُوهَا بِسَلَـٰمٍ ذَلِكَ يَوْمُ ٱلُخُلُودِ لَهُم مَّا يَشَاءونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ .
الله أكبر .. فالجنة تزلف وتقرّب لهم غير بعيد ، فلا يتكلفون مشقة الوصول إليها .
الله يعلم أنكم كنتم أوابين ، حفيظين ، تخشون بكم بالغيب ، وتنيبون إليه . ولهذا ، ادخلوا الجنة بسلام ، سلام من العذاب ، وسلام من الموت و المرض والهرم والأسقام .
لهم فيها ما تشتهيه أنفسهم وتلذ أعينهم ، ولهم فيها ما هو فوق ذلك وهو التمتع برؤية وجه الله الكريم .
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب .... النار وما قرب .
اللهم إنا نسألك لذة النظر .... إنك على كل شيء قدير.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي خلق فسوى، وأعاد فأبدى، وأمت وأحيا ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله ، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد .. فقد جاءت خواتم هذه السورة العظيمة؛ لتوجز ما سبق من طرق إثبات البعث، ومراحل الخلق، ومصير الخلائق، ومصارع الغابرين، وأهوال المحشر .
وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً فَنَقَّبُواْ فِى ٱلْبِلَـٰدِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ إِنَّ فِى ذٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى ٱلسَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ فَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ قَبْلَ طُلُوعِ ٱلشَّمْسِ وَقَبْلَ ٱلْغُرُوبِ وَمِنَ ٱلَّيْلِ فَسَبّحْهُ وَأَدْبَـٰرَ ٱلسُّجُودِ
انظر يا محمد في مصارع الأمم التي خلت ، قوم نوح وأصحاب الرس وثمود وعاد وفرعون وإخوان لوط كما ذكر في أول السورة ، وغيرهم من الأمم ، هل نفعتهم قوتهم ، وتنقيبهم في البلاد ، ونحتهم الجبال ، وشقهم الأرض؟ .. (هل من محيص) هل كان لهم ملجأٌ ومهربٌ من قضائنا وعقوبتنا؟ .
إن في مصارع الغابرين ذكرى ، لمن كان له قلب أي كان حي القلب ، لأن من لم تحركه هذه الآيات فقلبه ميت وإن كان يمشي بين الأحياء .
(أو ألقى السمع) ، أي تدبر هذه الآيات بإنصات ووعي ، فيتأثر قلبه .
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ ، فاصبر على ما يقولون)
يا محمد لا تأس على هؤلاء الذين ينكرون البعث .. فنحن خلقنا هذه المخلوقات العظيمة التي هي أكبر من خلقهم ولم يصبنا تعبٌ ولا إعياءٌ ولا نصب ، فاصبر وسبح واسجد وصل لربك ، والله يكفيك ويتولاك .
ثم تختم هذه السورة العظيمة بتقرير مشاهد البعث والنشور ، وتثبيت النبي وتسليته تجاه منكري البعث .
وَٱسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ ٱلْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ يَوْمَ يَسْمَعُونَ ٱلصَّيْحَةَ بِٱلْحَقّ ذَلِكَ يَوْمُ ٱلْخُرُوجِ إِنَّا نَحْنُ نُحْىِ وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا ٱلْمَصِيرُ يَوْمَ تَشَقَّقُ ٱلاْرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكّرْ بِٱلْقُرْءانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ .
إنه مشهد البعث ، حينما يُنفَخ في الصور ، وهو المراد بالصيحة ، وأما المنادي فإن الله تعالى يأمر ملكاً أن ينادي على صخرة بيت المقدس : يا أيتها العظامُ البالية ، والأوصالُ المتقطعة ، إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء . فتشقق الأرض ويخرج الناس قبورهم ، كل الأمم من آدم إلى قيام الساعة ، يخرجون سراعاً مبادرين إلى أمر الله .
أما هؤلاء المكذبون يا محمد فـ (نحن أعلم بما يقولون) .
وتأمل الآيتين : هناك قال له : فَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ ، وهنا قال سبحانه: نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ .
اصبر على ما يقولون ، فالهداية بيد الله غير خاضعة لقوة برهان، أو بلاغة بيان، ، فما عليك إلا البلاغ، وليس عليك هداهم .
أيها المسلم ، أيها العالم ، أيها الداعية : اصبر على ما يقولون
.. اصبر على أذى الكفار والمنافقين ، وتمادي المفسدين، اصبر على التهم الملفقة ، والألفاظ المعلبة المستوردة ، اصبر على اتهام النوايا والتصنيف الغاشم .
(نحن أعلم بما يقولون) فدعهم يقولون ما يقولون ، والله أعلم بما يوعون ، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
أما أنت أيها النبي ، أيها المسلم ، أيها الداعية ، فإنما أنت مذكر ، فذكر بالقرآن من يخاف وعيد .. ذكّر بالقرآن .. فهو يهز القلوب ، ويزلزل النفوس .
واعلم أنه لا يتذكر بالقرآن إلا من يخاف وعيد الله ويرجو وعده .
ومن لم يؤثر فيه القرآن ، فهو حري بأن لا تؤثر فيه أي موعظة .
اللهم اجعل القرآن ربيع قلوبنا ونور صدورنا وجلاء أحزاننا وذهاب غمومنا . وصلوا وسلموا رحمكم الله على خير البرية وأزكى البشرية فقد أمركم الله بذلك فقال : إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً )
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم..
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى