رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
إنَّ الحمدَ لِله نحمدهُ ونستعينهُ , ونستغفرهُ , ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسنا , ومن سيِّئاتِ أعمالِنا , منْ يَهدهِ اللهُ فلا مُضلَ لـهُ , ومنْ يُضلل فلا هاديَ له .
وأشهدُ أنَّ لا إله إلا الله وحدهُ لا شريكَ لـه وأشهدُ أنَّ محمداً عبدهُ ورسوله.
(( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَـمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )) ]آل عمران:102[. (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ))]النساء:1[. (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً ! يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً )) ] الأحزاب:70-71[ .
أما بعدُ : فإن أصدقَ الحديثِ كتابَ الله , وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ r وشرَّ الأمورِ مـُحدثاتُها , وكلَّ محدثةٍ بدعة , وكلَّ بدعةٍ ضلالة , وكلَّ ضلالةٍ في النار
أما بعدُ أيها المسلمون:
ففي زحمة الحياة المادية القاسية , التي سيطرت على أحاسيس الناس ومشاعرهم , ألفيتُهم جفات القلوب , غلاظ الطباع , لا يتأثرون بما يرونه ويشاهدونه , مراراً وتكراراً في حياتهم اليومية المعتادة , أو في المناسبات الموسمية المتعاقبة . فما عادت آيات الله تعالى في الآفاق وفي أنفسهم تحرك شيئاً من إيمانهم , الآخذة في الانحسار والتردي , بفعل حرب شعواءَ يشنها الإنسان على نفسه الضعيفة , حين يمتعها بشهواتها الحرام , وملذاتها الآثمة .
فما عادت السماءُ بطولها الممتد , وصفائها الممتع الجميل, تؤثر في كيان ذلك الإنسان الغارق في جمع الحطام, وإمتاع العين برؤية ما تشتهي .
وما عادت الكواكب المتناثرة في صفحة السماء البهية , تدغدغ أحاسيسه وتحرك شعوره الجامد الهزيل, وما عاد ذلك التعاقب البديع بين الليل والنهار , والشرق والغروب , يذكره بعظمة الخالق المدبر لهذا الكون, المتقن الصنع , بل إنّ الإنسان ليرى بأم عينيه مشهداً عظيماً مهولاً , مشهد الحجاج المزدحمين أفواجاً وأمواجاً في المشاعر المقدسة , يرى أولئك القادمين من كل فج عميق , وقد اختلفت ألسنتهم , وتعددت ألوانهم , وتفاوتت عقولهم ومداركهم , يراهم وهو حاضر بينهم , فينشغل عنهم , بطلب ماء يطفئ حر كبده , أو طلب طعامٍ يسكت جوعته , أو طلب ظلٍ يقيل تحته , ينشغل بذلك ولا تثريب عليه .
لكنه لا يحسن أن يتذكر ذلك اليوم المهول , الذي تحشر فيه الخـلائق كـلها , بين يدي الله الواحد القهار , ينشغل الحاج بذلك كله عن عقد مقارنة ضرورية , بين ذلك التجمع اليسير , لبضع مئات من الألوف , وبين أرض قاعٍ صف صفا , لا ترى فيها عوجاً ولا أمتا , تزدحم عليها الخلائق كلها , منذ آدم عليه السلام , وحتى آخر مولودٍ يلفظه رحم أنثى .
ولئن استطاع الحاج أن يحظى بخيمة أو شجرة يستظل تحتها , ووجد من يبتاع منه طعاماً يقيم صلبه , وعثر على مركز صحي يخفف شدة الحر عن جسده المنهك , فأنَّى لـه بشيء من ذلك , في يومٍ , شديد الحر , عظيم الكرب.
إن على الحاج أن يأخذ من حجه الدروس, ويتزود بزاد التقوى, لذلك اليوم الموعود , الذي لا ينبغي أن يغيب عن ذهنه ومخيلته طرفة عين .
فلا يظلم أحداً , ولا يسفك دماً , ولا ينتهك حرمةً , ولا يرتكب فاحشةً , ولا يقر منكراً , ولا يضيع معروفاً , ولا يظلم بريئاً , ولا يبرئ ظالماً , ولا يقرب لئيماً , ولا يبعد ناصحاً , ولا يستغل منصباً , ولا ينافق رئيساً , ولا يخشى طاغية .
إنَّ على الحاج وغير الحاج أن يتأمل تلك الثياب البيضاء, التي يرتديها الوافدين إلى المشاعر المقدسة , فهي تذكرك بأمرين:
أما الأول: فهي تذكرك بكفنك الأبيض الذي ستلف فيه يوماً ما شئت أم أبيت , ولتلقى في حفرة ضيقة موحشة , لا أنيس ولا جليس , وقد تركت مالك الذي أشقيت نفسك من أجله , فإذا به يُقسم أرباعاً وأسداساً , على أُناس لم تقطر جباههم قطرة عـرق واحدة في تحصيله , ولا سهرت عيونهم ساعة واحدة في جمعه .
إن ثياب الإحرام , جديرة بأن تذكرك قصورك وسياراتك, وحشمك وخدمك التي خلفتها وراءك ظهرياً, فقدمت على قبرك خالي اليدين من كل رصيد , إلا عمل صالح تحتسبه عند ربك ومولاك, فلم يعد ينفعك مالٌ ولا ولد , ولا جاه ولا منصب , لم يعد ينفعك إلا توحيدٌ خالص من كل شائبة , وصلاة حافظت عليها في المنشط والمكره , وزكاة أخرجتها عن طيب نفس , وصوم احتسبت أجره وثوابه , وحج أكملت به دينك , لم يعد ينفعك, غير معروف أمرت به ، وائتمرت به , أو منكراً انتهيت وحذرت منه .
وأما الأمر الثاني : فإنَّ ثياب الإحرام التي يشترك في لبسها الحجاج كلهم , كبيرهم وصغيرهم , أميرهم ووضعهم , جديرة بأن تذكرك ذلك التماثل الدقيق , الذي تشترك فيه تلك الجموع الهائلة , المحتشدة في أرض المحشر العظيمة, ولئن كان الحجاج يشتركون في لبس ثيابٍ بيضاء متشابهة , فإن مبدأ التميز يظل موجوداً بصورة أو بأخرى , إما بمسكن يسكنونه , أو مركب يستقلونه , أو حاشية تحيط بهم من كل جانب , إلا أنه في اليوم الآخر , تسقط الهالات الكاذبة , وتتبخر النياشين الزائفة , وتتهاوى العروش المصطبغة, فلم تعد تميز بين أعظم ملكٍ ملكَ الأرض , وبين أفقر عبد وضيع خالي اليدين , وأنَّى لك أن تميز بين حفاة عراة غرلا , تصطك أسنانهم هلعاً ورعباً , من هول ذلك المـوقف الـرهيب , (( وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ )) .
أيها الأخوة المسلمون : إذا لم يحقق الحج في نفس الحاج وضميره تقوى تردعه عن كل منكر , ووازعاً يزجره عن كل فجور , وإيماناً يأمره بكل فضيلة , وشعوراً يلازمه ويذكره بالدار الآخرة , فحجه ميت سقيم .
لقد غفلت جموع من الحجيج عن مقاصد الحج, وأهدافه وحكمه, وغاب عن أذهانهم حديث النبي r :« من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه » [1], رجع بصفحة بيضاء نقية , قد مسحت ذنوبه وسيئاته .
إن على الحاج أن يتذكر هذا الحديث الشريف, كلما حدثته نفسه بمعصية, أو خطيئة من نظرة إلى حرام, أو مواقعة لمنكر , أو حاول أحد أن يستدرجه إلى مجلس غيبة أو نميمة , أو عنا له أن يطلق للسانه العنان, فيسب ويشتم ويلعن.
لقد أساء كثيراً من الحجاج فهم تلك المعاني السامية , التي من أجلها شُرع الحج , وظنوا أن الحج حلبةُ صراعٍ ضخمة , البقاءُ فيها للأقوى , فلا يرحمون امرأةً ضعيفة , ولا شيخاً كبيراً , وأصبح همُ كثيرٍ منهم, إنهاء أعمال الحج بأسرع وقتٍ , وبأي طريقةٍ .
لذا لا عجب حين يعود الحاج إلى بلده , دون أن يطرأ في إيمانه أي تغير يذكر, فيظل يمارس بعد الحج ما كان يمارسه قبله , من غيبة ونميمة , وكذب ودجل, وخداعٍ وظلم وبغي , وإقرار للمنكر في نفسه, وفي بيته ومجتمعه ,
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : (( الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ )) .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ...
الخطبة الثانية :
أما بعد :
فلا زلنا في هذه الأيام العشر المباركات, عشر ذي الحجة التي قال عنها النبي r : « ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام , قيل يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله ؟ قال : ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء » [2].
ومن أفضل الأعمال في هذه العشر , الحج والعمرة لقوله عليه الصلاة والسلام : « العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما , والحـج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة »[3]
ومن الأعمال الصالحة في هذه العشر, صيامُها , أو صيام ما يتيسر منها
ومن ذلك التكبير, والذكر في هذه الأيام, لقوله تعالى : (( وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَات )) وكان ابن عمر وأبو هريرة يخرجان إلى السوق في العشر فيكبران, ويكبر الناس لتكبيرهما, وصفة التكبير : « الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله . الله أكبر الله أكبر ولله الحمد » , ويستحب رفع الصوت بالتكبير في الأسواق والدور والطرقات , ويشرع التكبير المطلق, في جميع الوقت من ليل أو نهار إلى صلاة العيد .
ويشرع التكبير المقيد, وهو الذي يكون بعد الصلوات المكتوبة, التي تصلى في جماعة, وهو لغير الحاج من فجر يوم عرفة , وللحجاج من ظهر يوم النحر ويستمر إلى صلاة العصر آخر أيام التشريق .
ومن الأعمال الصالحة في هذه العشر, كثرةُ الصلاة والصدقةِ, والصلةِ والاستغفار, والتوبة النصوح , وقراءة القرآن, والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, ويتأكد صيامُ يومِ عرفة لغير الحاج, كما في صحيح مسلم أنَّهُ يكفرُ السنة الماضية والباقية, وتُشرعُ الأضحيةُ يومَ النحرِ, وأيامَ التشريق بعده , فقد ضحى النبي r « بكبشين أملحين ذَبَحهما بيده , وسمى وكبر, ووضع رجلَه على صفائحهما » [4]
والسنة الذبحُ بعد الصلاة, لما في الصحـيحين عن البراء أن النـبي r قـال : « من ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه وأصاب سنة المسلمين »[5] .
وعليه أن يختار الأضحيةَ الطيبةَ, السليمةَ من العيوب, وفي الحديث : « أربعٌ لا تجوز في الأضاحي, العوراءُ البينُ عورُها, والمريضةُ البينُ مرضها, والعرجاء البينُ ظَلْعها, والعجفاء التي لا تنقي » [6] والعجفاء هي الهزيلة .
ولصاحب الأضحية أن يتولى ذبحها بنفسه, وهذه هي السنة فإن وكّل مسلماً جاز له ذلك, ولكن يستحب أن يحضر ذبحها, ويجب التسمية عند الذبح, وإن كبر وقال اللهم هذا منك ولك فحسن, ولا يعطي الجزار أجرته من الأضحية, فإن أهدى له منها, أو تصدق عليه جاز ذلك .
وتقسمُ الأضحية أثلاثاً , ثلثٌ يتصدق به , وثلثٌ يُهديه , وثلثٌ يأكلُه أهلُ بيته, ومن أراد أن يضحي فلا يأخذ من شعره, وأظفاره, إذا دخلت العشر , حتى يذبح الأضحية, إلاَّ شعر اللحية فمحرم أخذه دائماً, وهذا النهي يخص صاحب الأضحية فقط, وأما أهل بيته فلا , إلا إن أراد أحدهم أن يضحي عن نفسه .
اللهم إنَّا نسألُك إيماناً يُباشرُ قلوبنا، ويقيناً صادقاً، وتوبةً قبلَ الموتِ، وراحةً بعد الموتِ، ونسألُكَ لذةَ النظرِ إلى وجهكَ الكريمِ, والشوقُ إلى لقائِكَ في غيِر ضراءَ مُضرة، ولا فتنةً مضلة،
اللهم زينا بزينةِ الإيمانِ واجعلنا هداةً مهتدين, لا ضاليَن ولا مُضلين, بالمعروف آمرين, وعن المنكر ناهين يا ربَّ العالمين,
1 - رواه البخاري ( 1449) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
2 - أخرجه البخاري ( 969) من حديث ابن عباس رضي الله عنه .
3 - رواه البخاري ( 1773) ومسلم (1349) من حديث أبي هريرةرضي الله عنه .
4 - رواه البخاري (5558) من حديث أنس رضي الله عنه .
5 - ورقمه في البخاري (5545) .
6 - رواه أبو داود (2808) من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه .
وفي الحج عبرة
الدكتور رياض بن محمد المسيميري
وأشهدُ أنَّ لا إله إلا الله وحدهُ لا شريكَ لـه وأشهدُ أنَّ محمداً عبدهُ ورسوله.
(( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَـمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )) ]آل عمران:102[. (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ))]النساء:1[. (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً ! يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً )) ] الأحزاب:70-71[ .
أما بعدُ : فإن أصدقَ الحديثِ كتابَ الله , وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ r وشرَّ الأمورِ مـُحدثاتُها , وكلَّ محدثةٍ بدعة , وكلَّ بدعةٍ ضلالة , وكلَّ ضلالةٍ في النار
أما بعدُ أيها المسلمون:
ففي زحمة الحياة المادية القاسية , التي سيطرت على أحاسيس الناس ومشاعرهم , ألفيتُهم جفات القلوب , غلاظ الطباع , لا يتأثرون بما يرونه ويشاهدونه , مراراً وتكراراً في حياتهم اليومية المعتادة , أو في المناسبات الموسمية المتعاقبة . فما عادت آيات الله تعالى في الآفاق وفي أنفسهم تحرك شيئاً من إيمانهم , الآخذة في الانحسار والتردي , بفعل حرب شعواءَ يشنها الإنسان على نفسه الضعيفة , حين يمتعها بشهواتها الحرام , وملذاتها الآثمة .
فما عادت السماءُ بطولها الممتد , وصفائها الممتع الجميل, تؤثر في كيان ذلك الإنسان الغارق في جمع الحطام, وإمتاع العين برؤية ما تشتهي .
وما عادت الكواكب المتناثرة في صفحة السماء البهية , تدغدغ أحاسيسه وتحرك شعوره الجامد الهزيل, وما عاد ذلك التعاقب البديع بين الليل والنهار , والشرق والغروب , يذكره بعظمة الخالق المدبر لهذا الكون, المتقن الصنع , بل إنّ الإنسان ليرى بأم عينيه مشهداً عظيماً مهولاً , مشهد الحجاج المزدحمين أفواجاً وأمواجاً في المشاعر المقدسة , يرى أولئك القادمين من كل فج عميق , وقد اختلفت ألسنتهم , وتعددت ألوانهم , وتفاوتت عقولهم ومداركهم , يراهم وهو حاضر بينهم , فينشغل عنهم , بطلب ماء يطفئ حر كبده , أو طلب طعامٍ يسكت جوعته , أو طلب ظلٍ يقيل تحته , ينشغل بذلك ولا تثريب عليه .
لكنه لا يحسن أن يتذكر ذلك اليوم المهول , الذي تحشر فيه الخـلائق كـلها , بين يدي الله الواحد القهار , ينشغل الحاج بذلك كله عن عقد مقارنة ضرورية , بين ذلك التجمع اليسير , لبضع مئات من الألوف , وبين أرض قاعٍ صف صفا , لا ترى فيها عوجاً ولا أمتا , تزدحم عليها الخلائق كلها , منذ آدم عليه السلام , وحتى آخر مولودٍ يلفظه رحم أنثى .
ولئن استطاع الحاج أن يحظى بخيمة أو شجرة يستظل تحتها , ووجد من يبتاع منه طعاماً يقيم صلبه , وعثر على مركز صحي يخفف شدة الحر عن جسده المنهك , فأنَّى لـه بشيء من ذلك , في يومٍ , شديد الحر , عظيم الكرب.
إن على الحاج أن يأخذ من حجه الدروس, ويتزود بزاد التقوى, لذلك اليوم الموعود , الذي لا ينبغي أن يغيب عن ذهنه ومخيلته طرفة عين .
فلا يظلم أحداً , ولا يسفك دماً , ولا ينتهك حرمةً , ولا يرتكب فاحشةً , ولا يقر منكراً , ولا يضيع معروفاً , ولا يظلم بريئاً , ولا يبرئ ظالماً , ولا يقرب لئيماً , ولا يبعد ناصحاً , ولا يستغل منصباً , ولا ينافق رئيساً , ولا يخشى طاغية .
إنَّ على الحاج وغير الحاج أن يتأمل تلك الثياب البيضاء, التي يرتديها الوافدين إلى المشاعر المقدسة , فهي تذكرك بأمرين:
أما الأول: فهي تذكرك بكفنك الأبيض الذي ستلف فيه يوماً ما شئت أم أبيت , ولتلقى في حفرة ضيقة موحشة , لا أنيس ولا جليس , وقد تركت مالك الذي أشقيت نفسك من أجله , فإذا به يُقسم أرباعاً وأسداساً , على أُناس لم تقطر جباههم قطرة عـرق واحدة في تحصيله , ولا سهرت عيونهم ساعة واحدة في جمعه .
إن ثياب الإحرام , جديرة بأن تذكرك قصورك وسياراتك, وحشمك وخدمك التي خلفتها وراءك ظهرياً, فقدمت على قبرك خالي اليدين من كل رصيد , إلا عمل صالح تحتسبه عند ربك ومولاك, فلم يعد ينفعك مالٌ ولا ولد , ولا جاه ولا منصب , لم يعد ينفعك إلا توحيدٌ خالص من كل شائبة , وصلاة حافظت عليها في المنشط والمكره , وزكاة أخرجتها عن طيب نفس , وصوم احتسبت أجره وثوابه , وحج أكملت به دينك , لم يعد ينفعك, غير معروف أمرت به ، وائتمرت به , أو منكراً انتهيت وحذرت منه .
وأما الأمر الثاني : فإنَّ ثياب الإحرام التي يشترك في لبسها الحجاج كلهم , كبيرهم وصغيرهم , أميرهم ووضعهم , جديرة بأن تذكرك ذلك التماثل الدقيق , الذي تشترك فيه تلك الجموع الهائلة , المحتشدة في أرض المحشر العظيمة, ولئن كان الحجاج يشتركون في لبس ثيابٍ بيضاء متشابهة , فإن مبدأ التميز يظل موجوداً بصورة أو بأخرى , إما بمسكن يسكنونه , أو مركب يستقلونه , أو حاشية تحيط بهم من كل جانب , إلا أنه في اليوم الآخر , تسقط الهالات الكاذبة , وتتبخر النياشين الزائفة , وتتهاوى العروش المصطبغة, فلم تعد تميز بين أعظم ملكٍ ملكَ الأرض , وبين أفقر عبد وضيع خالي اليدين , وأنَّى لك أن تميز بين حفاة عراة غرلا , تصطك أسنانهم هلعاً ورعباً , من هول ذلك المـوقف الـرهيب , (( وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ )) .
أيها الأخوة المسلمون : إذا لم يحقق الحج في نفس الحاج وضميره تقوى تردعه عن كل منكر , ووازعاً يزجره عن كل فجور , وإيماناً يأمره بكل فضيلة , وشعوراً يلازمه ويذكره بالدار الآخرة , فحجه ميت سقيم .
لقد غفلت جموع من الحجيج عن مقاصد الحج, وأهدافه وحكمه, وغاب عن أذهانهم حديث النبي r :« من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه » [1], رجع بصفحة بيضاء نقية , قد مسحت ذنوبه وسيئاته .
إن على الحاج أن يتذكر هذا الحديث الشريف, كلما حدثته نفسه بمعصية, أو خطيئة من نظرة إلى حرام, أو مواقعة لمنكر , أو حاول أحد أن يستدرجه إلى مجلس غيبة أو نميمة , أو عنا له أن يطلق للسانه العنان, فيسب ويشتم ويلعن.
لقد أساء كثيراً من الحجاج فهم تلك المعاني السامية , التي من أجلها شُرع الحج , وظنوا أن الحج حلبةُ صراعٍ ضخمة , البقاءُ فيها للأقوى , فلا يرحمون امرأةً ضعيفة , ولا شيخاً كبيراً , وأصبح همُ كثيرٍ منهم, إنهاء أعمال الحج بأسرع وقتٍ , وبأي طريقةٍ .
لذا لا عجب حين يعود الحاج إلى بلده , دون أن يطرأ في إيمانه أي تغير يذكر, فيظل يمارس بعد الحج ما كان يمارسه قبله , من غيبة ونميمة , وكذب ودجل, وخداعٍ وظلم وبغي , وإقرار للمنكر في نفسه, وفي بيته ومجتمعه ,
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : (( الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ )) .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ...
الخطبة الثانية :
أما بعد :
فلا زلنا في هذه الأيام العشر المباركات, عشر ذي الحجة التي قال عنها النبي r : « ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام , قيل يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله ؟ قال : ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء » [2].
ومن أفضل الأعمال في هذه العشر , الحج والعمرة لقوله عليه الصلاة والسلام : « العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما , والحـج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة »[3]
ومن الأعمال الصالحة في هذه العشر, صيامُها , أو صيام ما يتيسر منها
ومن ذلك التكبير, والذكر في هذه الأيام, لقوله تعالى : (( وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَات )) وكان ابن عمر وأبو هريرة يخرجان إلى السوق في العشر فيكبران, ويكبر الناس لتكبيرهما, وصفة التكبير : « الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله . الله أكبر الله أكبر ولله الحمد » , ويستحب رفع الصوت بالتكبير في الأسواق والدور والطرقات , ويشرع التكبير المطلق, في جميع الوقت من ليل أو نهار إلى صلاة العيد .
ويشرع التكبير المقيد, وهو الذي يكون بعد الصلوات المكتوبة, التي تصلى في جماعة, وهو لغير الحاج من فجر يوم عرفة , وللحجاج من ظهر يوم النحر ويستمر إلى صلاة العصر آخر أيام التشريق .
ومن الأعمال الصالحة في هذه العشر, كثرةُ الصلاة والصدقةِ, والصلةِ والاستغفار, والتوبة النصوح , وقراءة القرآن, والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, ويتأكد صيامُ يومِ عرفة لغير الحاج, كما في صحيح مسلم أنَّهُ يكفرُ السنة الماضية والباقية, وتُشرعُ الأضحيةُ يومَ النحرِ, وأيامَ التشريق بعده , فقد ضحى النبي r « بكبشين أملحين ذَبَحهما بيده , وسمى وكبر, ووضع رجلَه على صفائحهما » [4]
والسنة الذبحُ بعد الصلاة, لما في الصحـيحين عن البراء أن النـبي r قـال : « من ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه وأصاب سنة المسلمين »[5] .
وعليه أن يختار الأضحيةَ الطيبةَ, السليمةَ من العيوب, وفي الحديث : « أربعٌ لا تجوز في الأضاحي, العوراءُ البينُ عورُها, والمريضةُ البينُ مرضها, والعرجاء البينُ ظَلْعها, والعجفاء التي لا تنقي » [6] والعجفاء هي الهزيلة .
ولصاحب الأضحية أن يتولى ذبحها بنفسه, وهذه هي السنة فإن وكّل مسلماً جاز له ذلك, ولكن يستحب أن يحضر ذبحها, ويجب التسمية عند الذبح, وإن كبر وقال اللهم هذا منك ولك فحسن, ولا يعطي الجزار أجرته من الأضحية, فإن أهدى له منها, أو تصدق عليه جاز ذلك .
وتقسمُ الأضحية أثلاثاً , ثلثٌ يتصدق به , وثلثٌ يُهديه , وثلثٌ يأكلُه أهلُ بيته, ومن أراد أن يضحي فلا يأخذ من شعره, وأظفاره, إذا دخلت العشر , حتى يذبح الأضحية, إلاَّ شعر اللحية فمحرم أخذه دائماً, وهذا النهي يخص صاحب الأضحية فقط, وأما أهل بيته فلا , إلا إن أراد أحدهم أن يضحي عن نفسه .
اللهم إنَّا نسألُك إيماناً يُباشرُ قلوبنا، ويقيناً صادقاً، وتوبةً قبلَ الموتِ، وراحةً بعد الموتِ، ونسألُكَ لذةَ النظرِ إلى وجهكَ الكريمِ, والشوقُ إلى لقائِكَ في غيِر ضراءَ مُضرة، ولا فتنةً مضلة،
اللهم زينا بزينةِ الإيمانِ واجعلنا هداةً مهتدين, لا ضاليَن ولا مُضلين, بالمعروف آمرين, وعن المنكر ناهين يا ربَّ العالمين,
1 - رواه البخاري ( 1449) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
2 - أخرجه البخاري ( 969) من حديث ابن عباس رضي الله عنه .
3 - رواه البخاري ( 1773) ومسلم (1349) من حديث أبي هريرةرضي الله عنه .
4 - رواه البخاري (5558) من حديث أنس رضي الله عنه .
5 - ورقمه في البخاري (5545) .
6 - رواه أبو داود (2808) من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه .
وفي الحج عبرة
الدكتور رياض بن محمد المسيميري
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى