رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
دروس / تفسير
الحكمة من مشروعية الصيام
المقدمـة:
الحمد لله الملك الحق المبين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، محمد بن عبد الله الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه الغر الميامين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإنَّ الله ارتضى من الأديان دين الإسلام، وبين ما يحل وما يحرم فعله في الإسلام، وجعل بناءه يقوم على قواعد خمس عظام، وجعل صيام رمضان أحد مبانيه العظام؛ قال العلامة حافظ حكمي-رحمه الله-:
فقـد أَتى الإسـلام مبنى على *** خمس فحقق وادر ما قد نُقـلا
أولهـا الركن الأسـاس الأعظم *** وهو الصراط المستقيم الأقـوم
ركن الشهادتين فاثبت واعتصم *** بالعروة الوثقى التي لا تنفصم
وثانيـاً إقامـة الصــلاة *** وثـالثـاً تأديــة الـزكـاة
والرابع الصيام فاسمـع واتبع *** والخامس الحج على من يستطـع
وقد كان الصيام مشروعاً على من سبقنا من الأمم، وفرض علينا- أمة الإسلام- صيام شهر رمضان، تزكية للنفوس، وتحقيقاً للتقوى، وتنقية للنفس من الأخلاط الرديئة، والأخلاق الرذيلة؛ قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }البقرة: 183 .
وغير ذلك من الفوائد الدينية والدنيوية. وهو مع ذلك –سبحانه- قد يسر صيامه للعباد، فجعله شهراً واحداً في السنة؛ فقال تعالى: {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ}؛ ورخص الفطر فيه لأهل الأعذار، فله الحمد على نعمة الإسلام، والله نسأل أن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة. آمين.
الآيات:
قال الله –تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ () أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ()} سورة البقرة183-184.
شرح الآيات:
قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا} سبق الكلام على أمثالها في دروس سابقة، بما يغنى عن إعادته هنا. قوله: {كتب عليكم الصيام} أي فُرض؛ والذي فَرضه هو الله -سبحانه وتعالى-؛ و{الصيام} نائب فاعل مرفوع؛ وهو في اللغة الإمساك؛ ومنه قوله –تعالى-: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} يعني إمساكاً عن الكلام بدليل قولها: {فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا} سورة مريم(26)؛ وأما في الشرع: فإنَّه التعبد لله بترك المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس. قوله: {كما كتب}؛ "ما" مصدرية؛ والكاف حرف جر؛ وتفيد التشبيه؛ وهو تشبيه للكتابة بالكتابة، وليس المكتوب بالمكتوب. قوله: {على الذين من قبلكم} أي من الأمم السابقة؛ فيعم اليهود والنصارى وغيرهم؛ ولكنه لا يلزم أن يكون كصيامنا في الوقت والمدة. ثم ختمت الآية بذكر الحكمة التي لأجلها شرع الله الصيام؛ فقال: {لعلكم تتقون}؛ "لعل" للتعليل؛ ففيها بيان الحكمة من فرض الصوم؛ أي تتقون الله-عز وجل-؛ هذه هي الحكمة الشرعية التعبدية للصوم؛ وما جاء سوى ذلك من مصالح بدنية، أو مصالح اجتماعية، فإنها تبع.
قوله: {أياماً} مفعول لقوله: {الصيام}؛ لأنَّ الصيام مصدر يعمل عمل فعله -أي كتب عليكم أن تصوموا أياماً معدودات؛ و{أياماً} نكرة؛ فتفيد القلة، والكثرة، والعظمة، وتفيد الهون؛ وذلك بحسب السياق؛ فلما قرنت هنا بقوله: {معدودات} أفادت القلة؛ يعني: هذا الصيام ليس أشهراً؛ ليس سنوات؛ ليس أسابيع؛ ولكنه أيام معدودات قليلة؛ و{معدودات} من صيغ جمع القلة؛ يعني: أياماً قليلة. ثم شرع -سبحانه- في بيان صيام أهل الأعذار؛ فبدأ بذكر المريض؛ فقال تعالى: {فمن كان منكم مريضاً}؛ يعني مرضاً يشق به الصوم؛ أو يتأخر به البرء؛ أو يفوت به العلاج.. والمريض له ثلاث حالات: الأولى: أن لا يضره الصوم، ولا يشق عليه؛ فلا رخصة له في الفطر. الثانية: أن يشق عليه، ولا يضره؛ فالصوم في حقه مكروه؛ لأنه لا ينبغي العدول عن رخصة الله. الثالثة: أن يضره الصوم؛ فالصوم في حقه محرم؛ لقوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} سورة النساء (29).
ثم ذكر المسافر؛ فقال تعالى: {أو على سفر} أي السفر المبيح للفطر؛ والحكمة في التعبير بقوله: {على سفر}-والله أعلم- أن المسافر قد يقيم في بلد أثناء سفره عدة أيام، ويباح له الفطر؛ لأنه على سفر، وليست نيته الإقامة، كما حصل للرسول-صلى الله عليه وسلم- في غزوة الفتح فإنه أقام في مكة تسعة عشر يوماً وهو يقصر الصلاة1، وأفطر حتى انسلخ الشهر2. والمسافر باعتبار صومه في سفره له حالات ثلاث:
الحالة الأولى: أن لا يكون فيه مشقة إطلاقاً؛ يعني: ليس فيه مشقة تزيد على صوم الحضر؛ ففي هذه الحال الصوم أفضل؛ وإن أفطر فلا حرج؛ ودليله أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان يصوم في السفر؛ كما في حديث أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بعض أسفاره في يوم حار حتى يضع الرجل يده على رأسه من شدة الحرّ؛ وما فينا صائم إلاَّ ما كان من النبي -صلى الله عليه وسلم- وابن رواحة3؛ ولأن الصوم في السفر أسرع في إبراء ذمته؛ ولأنه أسهل عليه غالباً لكون الناس مشاركين له، وثقلِ القضاء غالباً؛ ولأنه يصادف شهر الصوم- وهو رمضان.
الحال الثانية: أن يشق عليه الصوم مشقة غير شديدة؛ فهنا الأفضل الفطر؛ والدليل عليه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان في سفر، فرأى زحاماً، ورجلاً قد ظُلل عليه، فسأل عنه، فقالوا: صائم؛ فقال –صلى الله عليه وسلم-: (ليس من البر الصيام في السفر)4. فنفى النبي -صلى الله عليه وسلم- البر عن الصوم في السفر.
الحال الثالثة: أن يشق الصوم على المسافر مشقة شديدة؛ فهنا يتعين الفطر؛ ودليله: ما ثبت في الصحيح أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان في سفر، فشُكي إليه أن الناس قد شق عليهم الصيام وإنهم ينتظرون ما يفعل؛ فدعا بماء بعد العصر، فشربه، والناس ينظرون؛ ثم جيء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقيل له: إن بعض الناس قد صام فقال-صلى الله عليه وسلم-: (أولئك العصاة! أولئك العصاة!)5؛ والمعصية لا تكون إلا في فعل محرم؛ أو ترك واجب. ثم بين أن من أفطر في رمضان لعذر شرعي، فإنَّ عليه القضاء بعد رمضان، فقال تعالى: {فعدة من أيام أخر} أي أيام مغايرة.
وأما من أفطر في رمضان لكبر، وعجز عن الصيام؛ فإن عليه الإطعام عن كل يوم مداً، فقال: {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين}؛ قال معاذ -رضي الله عنه-: كان في ابتداء الأمر من شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم عن كل يوم مسكيناً، وهكذا روى البخاري عن سلمة بن الأكوع-رضي الله عنه- أنه قال: لما نزلت: {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين} كان من أراد أن يفطر يفادي حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها. وروي أيضاً من حديث عبيد الله عن نافع عن ابن عمر-رضي الله عنه- قال: هي منسوخة. وقال السُدي عن مرة عن عبد الله-رضي الله عنه- قال: لما نزلت هذه الآية: {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين} قال: يقول: {وعلى الذين يطيقونه} أي يتجشمونه. قال عبد الله: فكان من شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم مسكيناً، {فمن تطوع} يقول: أطعم مسكيناً آخر: {فهو خير له وأن تصوموا خير لكم} فكانوا كذلك حتى نسختها؛ {فمن شهد منكم الشهر فليصمه}. وعند البخاري أيضاً عن عطاء أنه سمع ابن عباس-رضي الله عنه-: يقرأ: {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين}؛ قال ابن عباس-رضي الله عنهما-: ليست منسوخة، هو الشيخ الكبير والمرآة الكبيرة يستطيعان أن يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكيناً. وعنه أيضاً قال: نزلت هذه الآية: {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين} في الشيخ الكبير الذي لا يطيق الصوم ثم ضعف فرخص له أن يطعم مكان كل يوم مسكيناً. وعن ابن أبي ليلى-رحمه الله- قال: دخلت على عطاء في رمضان وهو يأكل، فقال: قال ابن عباس: نزلت هذه الآية: {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين} فكان من شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم مسكيناً، ثم نسخت الأولى إلى الكبير الفاني إن شاء أطعم عن كل يوم مسكيناً وأفطر. قال الحافظ ابن كثير-رحمه الله- بعد أن سرد الأحاديث والآثار السابقة: فحاصل الأمر أنّ النسخ ثابت في حق الصحيح المقيم بإيجاب الصيام عليه؛ بقوله: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه}؛ وأما الشيخ الفاني الهرم الذي لا يستطيع الصيام فله أن يفطر ولا قضاء عليه؛ لأنه ليست له حال يصير إليها يتمكن فيها من القضاء، ولكن هل يجب عليه إذا أفطر أن يطعم عن كل يوم مسكيناً إذا كان ذا جدة؟ فيه قولان للعلماء: أحدهما لا يجب عليه إطعام؛ لأنه ضعيف عنه لسنِّه فلم يجب عليه فدية كالصبي؛ لأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها، وهو أحد قولي الشافعي. والثاني وهو الصحيح وعليه أكثر العلماء أنه يجب عليه فدية عن كل يوم كما فسره ابن عباس وغيره من السلف على قراءة من قرأ: {وعلى الذين يطيقونه} أي يتجشمونه؛ كما قاله ابن مسعود وغيره هو اختيار البخاري فإنه قال: وأما الشيخ الكبير إذا لم يطق الصيام فقد أطعم أنس بعد ما كبر عاماً أو عامين عن كل يوم مسكيناً خبزاً ولحماً وأفطر. وهذا الذي علقه البخاري قد أسنده الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده... عن أيوب بن أبي تميمة قال: ضعف أنس عن الصوم فصنع جفنة من ثريد فدعا ثلاثين مسكيناً فأطعمهم...ومما يلتحق بهذا المعنى الحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما أو ولديهما ففيهما خلاف كثير بين العلماء؛ فمنهم من قال: يفطران ويفديان ويقضيان، وقيل: يفديان فقط ولا قضاء، وقيل: يجب القضاء بلا فدية، وقيل: يفطران ولا فدية ولا قضاء..و لله الحمد والمنة6.
قوله: {طعام مسكين} أي عليهم لكل يوم طعام مسكين؛ وليس المعنى طعام مسكين لكل شهر؛ بل لكل يوم؛ ويدل لذلك القراءة الثانية في الآية: {طعام مساكين} بالجمع؛ فكما أن الأيام التي عليه جمع، فكذلك المساكين الذين يطعَمون لا بد أن يكونوا جمعاً. وقوله: {طعام مسكين}؛ المراد بالمسكين من لا يجد شيئاً يكفيه لمدة سنة؛ فيدخل في هذا التعريف الفقير؛ فإذا مر بك المسكين فهو شامل للفقير؛ وإذا مر بك الفقير فإنه شامل للمسكين؛ أما إذا جمعا فقد قال أهل العلم: إن بينهما فرقاً: فالفقير أشد حاجة من المسكين؛ الفقير هو الذي لا يجد نصف كفاية سنة؛ وأما المسكين فيجد النصف فأكثر دون الكفاية لمدة سنة. وقوله: {فمن تطوع خيراً}؛ {تطوع} فعل الشرط؛ وجوابه جملة: {فهو خير له}؛ أي فمن فعل الطاعة يقصد بها الخير فهو خير له؛ ومعلوم أنَّ الفعل لا يكون طاعة إلا إذا كان موافقاً لمرضاة الله -عز وجل- بأن يكون خالصاً لوجهه موافقاً لشريعته؛ فإن لم يكن خالصاً لم يكن طاعة، ولا يقبل؛ وإن كان خالصاً على غير الشريعة لم يكن طاعة، ولا يقبل؛ لأن الأول شرك؛ والثاني بدعة. قوله: {فهو خير له}؛ {خير} اسم دال على مجرد الخيرية بدون مفضل، ومفضل عليه، والمراد أن من تطوع بالفدية فهو خير له. قوله: {وأن تصوموا خير لكم} المراد بالخير هنا التفضيل؛ يعني أن تصوموا خير لكم من الفدية. قوله: {إن كنتم تعلمون} أي إن كنتم من ذوي العلم فافهموا.
بعض فوائد الآيات:
1. أهمية الصيام؛ لأنِّ الله -تعالى- صدره بالنداء؛ وأنه من مقتضيات الإيمان؛ لأنه وجه الخطاب إلى المؤمنين؛ وأنّ تركه مخل بالإيمان.
2. وجوب صيام رمضان؛ {كتب}، وأنه ركن من أركان الإسلام، وفي الحديث: (بني الإسلام على خمس-: وذكر منها:-(وصوم رمضان)7.
3. أن الصيام كان مفروضاً على من قبلنا من الأمم؛ {كما كتب على الذين من قبلكم}.
4. أن الله يشرع الشرائع والأحكام لحِكَمٍ؛ قد نعلمها وقد لا نعلمها، فقد شرع الصيام وأوجبه على عباده لحِكَم عديدة، وفوائد عظيمة في الدنيا والآخرة، ومن هذه الفوائد؛ أن الصيام وسيلة وسبب لتحقيق التقوى؛ {لعلكم تتقون}.
5. أن الصوم أيامه قليلة؛ {أياماً معدودات}. وهذا من رحمة الله -عز وجل بعباده-؛ حيث فرض على عباده أيماً قليلة يصومونها.
6. أن المشقة تجلب التيسير؛ {فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر}؛ وذلك أنَّ المرض والسفر مظنَّة المشقة.
7. جواز الفطر للمرض؛ ولكن هل المراد مطلق المرض، وإن لم يكن في الصوم مشقة عليه؛ أو المراد المرض الذي يشق معه الصوم، أو يتأخر معه البرء؟ الظاهر الثاني؛ وهو مذهب الجمهور؛ لأنَّه لا وجه لإباحة الفطر بمرض لا يشق معه الصوم، أو لا يتأخر معه البرء.
8. جواز الفطر في السفر؛ لقوله: {أو على سفر فعدة من أيام أخر}؛ وللمسافر باعتبار صومه في سفره حالات ثلاث سبق ذكرها في الشرح.
9. أن السفر الذي يباح فيه الفطر غير مقيد بزمن، ولا مسافة؛ لإطلاق السفر في الآية؛ وعلى هذا يرجع فيه إلى العرف؛ فما عده الناس سفراً فهو سفر، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية؛ لأنَّ تحديده بزمن، أو مسافة يحتاج إلى دليل.
10. حكمة الله-سبحانه وتعالى- في التدرج بالتشريع، حيث كان الصيام أول الأمر يخير فيه الإنسان بين أن يصوم ويطعم؛ ثم تعين الصيام كما يدل على ذلك حديث سلمة بن الأكوع -رضي الله عنه-.
11. أنََّ من عجز عن الصيام عجزاً لا يرجى زواله فإنه يطعم عن كل يوم مسكيناً؛ ووجه الدلالة أن الله -سبحانه وتعالى- جعل الإطعام عديلاً للصيام حين التخيير بينهما؛ فإذا تعذر الصيام وجب عديله؛ ولهذا ذكر ابن عباس -رضي الله عنهما- أنََّ هذه الآية في الشيخ الكبير، والمرآة الكبيرة لا يطيقان الصيام، فيطعمان عن كل يوم مسكين8.
12. أنه يرجع في الإطعام في كيفيته ونوعه إلى العرف؛ لأن الله –تعالى- أطلق ذلك؛ والحكم المطلق إذا لم يكن له حقيقة شرعية يرجع فيه إلى العرف.
13. أن طاعة الله- تعالى- كلها خير؛ {فمن تطوع خيراً فهو خير له}، وأن معصيته كلها شر.
14. أن الأعمال الصالحة تتفاضل؛ {وأن تصوموا خير لكم}؛ وتفاضل الأعمال يستلزم تفاضل العامل؛ فينبني على ذلك أن الناس يتفاضلون في الأعمال؛ وهو ما دل عليه الكتاب، والسنة، وإجماع السلف، والواقع؛ قال الله –تعالى-: {لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} سورة الحديد(10)، وقال تعالى: {لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً} سورة النساء (95-96)؛ والنصوص في هذا كثيرة.
15. التنبيه على فضل العلم، وحملته؛ {إن كنتم تعلمون} 9. والأدلة في فضل العلم وأهله كثيرة جداً. والله أعلى وأعلم.
1 - الحديث أخرجه البخاري.
2 - انظر: البخاري ومسلماً.
3 - أخرجه البخاري ومسلم.
4 - أخرجه البخاري ومسلم.
5 - أخرجه مسلم.
6 - تفسير ابن كثير(1/200- 201).
7 - أخرجه البخاري ومسلم.
8 - أخرجه البخاري.
9- راجع : " جامع البيان في تأويل القرآن" لمحمد بن جرير الطبري(2/169- 190). ط: درا الإعلام - دار ابن حزم. الطبعة الأولى(1423هـ - 2002م). و" الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي(2/272- 290). الطبعة الثانية. "تفسير القرآن العظيم " للحافظ ابن كثير(1/199- 201). ط: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع (1424هـ- 2004م). و" فتح القدير" للشوكاني(1/277- 280). المكتبة التجارية. مصطفى أحمد الباز. مكة المكرمة. الطبعة الثانية. و" تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان" لابن سعدي(1/143- 144). طبع ونشر وتوزيع دار المدني بجدة. (148هـ). و" أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير" لأبي بكر الجزائري(1/160- 162). الطبعة الأولى الخاصة بالمؤلف(1414هـ). و" تفسير ابن عثيمين" المجلد الثاني.
الحكمة من مشروعية الصيام
المقدمـة:
الحمد لله الملك الحق المبين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، محمد بن عبد الله الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه الغر الميامين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإنَّ الله ارتضى من الأديان دين الإسلام، وبين ما يحل وما يحرم فعله في الإسلام، وجعل بناءه يقوم على قواعد خمس عظام، وجعل صيام رمضان أحد مبانيه العظام؛ قال العلامة حافظ حكمي-رحمه الله-:
فقـد أَتى الإسـلام مبنى على *** خمس فحقق وادر ما قد نُقـلا
أولهـا الركن الأسـاس الأعظم *** وهو الصراط المستقيم الأقـوم
ركن الشهادتين فاثبت واعتصم *** بالعروة الوثقى التي لا تنفصم
وثانيـاً إقامـة الصــلاة *** وثـالثـاً تأديــة الـزكـاة
والرابع الصيام فاسمـع واتبع *** والخامس الحج على من يستطـع
وقد كان الصيام مشروعاً على من سبقنا من الأمم، وفرض علينا- أمة الإسلام- صيام شهر رمضان، تزكية للنفوس، وتحقيقاً للتقوى، وتنقية للنفس من الأخلاط الرديئة، والأخلاق الرذيلة؛ قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }البقرة: 183 .
وغير ذلك من الفوائد الدينية والدنيوية. وهو مع ذلك –سبحانه- قد يسر صيامه للعباد، فجعله شهراً واحداً في السنة؛ فقال تعالى: {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ}؛ ورخص الفطر فيه لأهل الأعذار، فله الحمد على نعمة الإسلام، والله نسأل أن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة. آمين.
الآيات:
قال الله –تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ () أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ()} سورة البقرة183-184.
شرح الآيات:
قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا} سبق الكلام على أمثالها في دروس سابقة، بما يغنى عن إعادته هنا. قوله: {كتب عليكم الصيام} أي فُرض؛ والذي فَرضه هو الله -سبحانه وتعالى-؛ و{الصيام} نائب فاعل مرفوع؛ وهو في اللغة الإمساك؛ ومنه قوله –تعالى-: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} يعني إمساكاً عن الكلام بدليل قولها: {فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا} سورة مريم(26)؛ وأما في الشرع: فإنَّه التعبد لله بترك المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس. قوله: {كما كتب}؛ "ما" مصدرية؛ والكاف حرف جر؛ وتفيد التشبيه؛ وهو تشبيه للكتابة بالكتابة، وليس المكتوب بالمكتوب. قوله: {على الذين من قبلكم} أي من الأمم السابقة؛ فيعم اليهود والنصارى وغيرهم؛ ولكنه لا يلزم أن يكون كصيامنا في الوقت والمدة. ثم ختمت الآية بذكر الحكمة التي لأجلها شرع الله الصيام؛ فقال: {لعلكم تتقون}؛ "لعل" للتعليل؛ ففيها بيان الحكمة من فرض الصوم؛ أي تتقون الله-عز وجل-؛ هذه هي الحكمة الشرعية التعبدية للصوم؛ وما جاء سوى ذلك من مصالح بدنية، أو مصالح اجتماعية، فإنها تبع.
قوله: {أياماً} مفعول لقوله: {الصيام}؛ لأنَّ الصيام مصدر يعمل عمل فعله -أي كتب عليكم أن تصوموا أياماً معدودات؛ و{أياماً} نكرة؛ فتفيد القلة، والكثرة، والعظمة، وتفيد الهون؛ وذلك بحسب السياق؛ فلما قرنت هنا بقوله: {معدودات} أفادت القلة؛ يعني: هذا الصيام ليس أشهراً؛ ليس سنوات؛ ليس أسابيع؛ ولكنه أيام معدودات قليلة؛ و{معدودات} من صيغ جمع القلة؛ يعني: أياماً قليلة. ثم شرع -سبحانه- في بيان صيام أهل الأعذار؛ فبدأ بذكر المريض؛ فقال تعالى: {فمن كان منكم مريضاً}؛ يعني مرضاً يشق به الصوم؛ أو يتأخر به البرء؛ أو يفوت به العلاج.. والمريض له ثلاث حالات: الأولى: أن لا يضره الصوم، ولا يشق عليه؛ فلا رخصة له في الفطر. الثانية: أن يشق عليه، ولا يضره؛ فالصوم في حقه مكروه؛ لأنه لا ينبغي العدول عن رخصة الله. الثالثة: أن يضره الصوم؛ فالصوم في حقه محرم؛ لقوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} سورة النساء (29).
ثم ذكر المسافر؛ فقال تعالى: {أو على سفر} أي السفر المبيح للفطر؛ والحكمة في التعبير بقوله: {على سفر}-والله أعلم- أن المسافر قد يقيم في بلد أثناء سفره عدة أيام، ويباح له الفطر؛ لأنه على سفر، وليست نيته الإقامة، كما حصل للرسول-صلى الله عليه وسلم- في غزوة الفتح فإنه أقام في مكة تسعة عشر يوماً وهو يقصر الصلاة1، وأفطر حتى انسلخ الشهر2. والمسافر باعتبار صومه في سفره له حالات ثلاث:
الحالة الأولى: أن لا يكون فيه مشقة إطلاقاً؛ يعني: ليس فيه مشقة تزيد على صوم الحضر؛ ففي هذه الحال الصوم أفضل؛ وإن أفطر فلا حرج؛ ودليله أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان يصوم في السفر؛ كما في حديث أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بعض أسفاره في يوم حار حتى يضع الرجل يده على رأسه من شدة الحرّ؛ وما فينا صائم إلاَّ ما كان من النبي -صلى الله عليه وسلم- وابن رواحة3؛ ولأن الصوم في السفر أسرع في إبراء ذمته؛ ولأنه أسهل عليه غالباً لكون الناس مشاركين له، وثقلِ القضاء غالباً؛ ولأنه يصادف شهر الصوم- وهو رمضان.
الحال الثانية: أن يشق عليه الصوم مشقة غير شديدة؛ فهنا الأفضل الفطر؛ والدليل عليه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان في سفر، فرأى زحاماً، ورجلاً قد ظُلل عليه، فسأل عنه، فقالوا: صائم؛ فقال –صلى الله عليه وسلم-: (ليس من البر الصيام في السفر)4. فنفى النبي -صلى الله عليه وسلم- البر عن الصوم في السفر.
الحال الثالثة: أن يشق الصوم على المسافر مشقة شديدة؛ فهنا يتعين الفطر؛ ودليله: ما ثبت في الصحيح أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان في سفر، فشُكي إليه أن الناس قد شق عليهم الصيام وإنهم ينتظرون ما يفعل؛ فدعا بماء بعد العصر، فشربه، والناس ينظرون؛ ثم جيء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقيل له: إن بعض الناس قد صام فقال-صلى الله عليه وسلم-: (أولئك العصاة! أولئك العصاة!)5؛ والمعصية لا تكون إلا في فعل محرم؛ أو ترك واجب. ثم بين أن من أفطر في رمضان لعذر شرعي، فإنَّ عليه القضاء بعد رمضان، فقال تعالى: {فعدة من أيام أخر} أي أيام مغايرة.
وأما من أفطر في رمضان لكبر، وعجز عن الصيام؛ فإن عليه الإطعام عن كل يوم مداً، فقال: {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين}؛ قال معاذ -رضي الله عنه-: كان في ابتداء الأمر من شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم عن كل يوم مسكيناً، وهكذا روى البخاري عن سلمة بن الأكوع-رضي الله عنه- أنه قال: لما نزلت: {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين} كان من أراد أن يفطر يفادي حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها. وروي أيضاً من حديث عبيد الله عن نافع عن ابن عمر-رضي الله عنه- قال: هي منسوخة. وقال السُدي عن مرة عن عبد الله-رضي الله عنه- قال: لما نزلت هذه الآية: {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين} قال: يقول: {وعلى الذين يطيقونه} أي يتجشمونه. قال عبد الله: فكان من شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم مسكيناً، {فمن تطوع} يقول: أطعم مسكيناً آخر: {فهو خير له وأن تصوموا خير لكم} فكانوا كذلك حتى نسختها؛ {فمن شهد منكم الشهر فليصمه}. وعند البخاري أيضاً عن عطاء أنه سمع ابن عباس-رضي الله عنه-: يقرأ: {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين}؛ قال ابن عباس-رضي الله عنهما-: ليست منسوخة، هو الشيخ الكبير والمرآة الكبيرة يستطيعان أن يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكيناً. وعنه أيضاً قال: نزلت هذه الآية: {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين} في الشيخ الكبير الذي لا يطيق الصوم ثم ضعف فرخص له أن يطعم مكان كل يوم مسكيناً. وعن ابن أبي ليلى-رحمه الله- قال: دخلت على عطاء في رمضان وهو يأكل، فقال: قال ابن عباس: نزلت هذه الآية: {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين} فكان من شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم مسكيناً، ثم نسخت الأولى إلى الكبير الفاني إن شاء أطعم عن كل يوم مسكيناً وأفطر. قال الحافظ ابن كثير-رحمه الله- بعد أن سرد الأحاديث والآثار السابقة: فحاصل الأمر أنّ النسخ ثابت في حق الصحيح المقيم بإيجاب الصيام عليه؛ بقوله: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه}؛ وأما الشيخ الفاني الهرم الذي لا يستطيع الصيام فله أن يفطر ولا قضاء عليه؛ لأنه ليست له حال يصير إليها يتمكن فيها من القضاء، ولكن هل يجب عليه إذا أفطر أن يطعم عن كل يوم مسكيناً إذا كان ذا جدة؟ فيه قولان للعلماء: أحدهما لا يجب عليه إطعام؛ لأنه ضعيف عنه لسنِّه فلم يجب عليه فدية كالصبي؛ لأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها، وهو أحد قولي الشافعي. والثاني وهو الصحيح وعليه أكثر العلماء أنه يجب عليه فدية عن كل يوم كما فسره ابن عباس وغيره من السلف على قراءة من قرأ: {وعلى الذين يطيقونه} أي يتجشمونه؛ كما قاله ابن مسعود وغيره هو اختيار البخاري فإنه قال: وأما الشيخ الكبير إذا لم يطق الصيام فقد أطعم أنس بعد ما كبر عاماً أو عامين عن كل يوم مسكيناً خبزاً ولحماً وأفطر. وهذا الذي علقه البخاري قد أسنده الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده... عن أيوب بن أبي تميمة قال: ضعف أنس عن الصوم فصنع جفنة من ثريد فدعا ثلاثين مسكيناً فأطعمهم...ومما يلتحق بهذا المعنى الحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما أو ولديهما ففيهما خلاف كثير بين العلماء؛ فمنهم من قال: يفطران ويفديان ويقضيان، وقيل: يفديان فقط ولا قضاء، وقيل: يجب القضاء بلا فدية، وقيل: يفطران ولا فدية ولا قضاء..و لله الحمد والمنة6.
قوله: {طعام مسكين} أي عليهم لكل يوم طعام مسكين؛ وليس المعنى طعام مسكين لكل شهر؛ بل لكل يوم؛ ويدل لذلك القراءة الثانية في الآية: {طعام مساكين} بالجمع؛ فكما أن الأيام التي عليه جمع، فكذلك المساكين الذين يطعَمون لا بد أن يكونوا جمعاً. وقوله: {طعام مسكين}؛ المراد بالمسكين من لا يجد شيئاً يكفيه لمدة سنة؛ فيدخل في هذا التعريف الفقير؛ فإذا مر بك المسكين فهو شامل للفقير؛ وإذا مر بك الفقير فإنه شامل للمسكين؛ أما إذا جمعا فقد قال أهل العلم: إن بينهما فرقاً: فالفقير أشد حاجة من المسكين؛ الفقير هو الذي لا يجد نصف كفاية سنة؛ وأما المسكين فيجد النصف فأكثر دون الكفاية لمدة سنة. وقوله: {فمن تطوع خيراً}؛ {تطوع} فعل الشرط؛ وجوابه جملة: {فهو خير له}؛ أي فمن فعل الطاعة يقصد بها الخير فهو خير له؛ ومعلوم أنَّ الفعل لا يكون طاعة إلا إذا كان موافقاً لمرضاة الله -عز وجل- بأن يكون خالصاً لوجهه موافقاً لشريعته؛ فإن لم يكن خالصاً لم يكن طاعة، ولا يقبل؛ وإن كان خالصاً على غير الشريعة لم يكن طاعة، ولا يقبل؛ لأن الأول شرك؛ والثاني بدعة. قوله: {فهو خير له}؛ {خير} اسم دال على مجرد الخيرية بدون مفضل، ومفضل عليه، والمراد أن من تطوع بالفدية فهو خير له. قوله: {وأن تصوموا خير لكم} المراد بالخير هنا التفضيل؛ يعني أن تصوموا خير لكم من الفدية. قوله: {إن كنتم تعلمون} أي إن كنتم من ذوي العلم فافهموا.
بعض فوائد الآيات:
1. أهمية الصيام؛ لأنِّ الله -تعالى- صدره بالنداء؛ وأنه من مقتضيات الإيمان؛ لأنه وجه الخطاب إلى المؤمنين؛ وأنّ تركه مخل بالإيمان.
2. وجوب صيام رمضان؛ {كتب}، وأنه ركن من أركان الإسلام، وفي الحديث: (بني الإسلام على خمس-: وذكر منها:-(وصوم رمضان)7.
3. أن الصيام كان مفروضاً على من قبلنا من الأمم؛ {كما كتب على الذين من قبلكم}.
4. أن الله يشرع الشرائع والأحكام لحِكَمٍ؛ قد نعلمها وقد لا نعلمها، فقد شرع الصيام وأوجبه على عباده لحِكَم عديدة، وفوائد عظيمة في الدنيا والآخرة، ومن هذه الفوائد؛ أن الصيام وسيلة وسبب لتحقيق التقوى؛ {لعلكم تتقون}.
5. أن الصوم أيامه قليلة؛ {أياماً معدودات}. وهذا من رحمة الله -عز وجل بعباده-؛ حيث فرض على عباده أيماً قليلة يصومونها.
6. أن المشقة تجلب التيسير؛ {فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر}؛ وذلك أنَّ المرض والسفر مظنَّة المشقة.
7. جواز الفطر للمرض؛ ولكن هل المراد مطلق المرض، وإن لم يكن في الصوم مشقة عليه؛ أو المراد المرض الذي يشق معه الصوم، أو يتأخر معه البرء؟ الظاهر الثاني؛ وهو مذهب الجمهور؛ لأنَّه لا وجه لإباحة الفطر بمرض لا يشق معه الصوم، أو لا يتأخر معه البرء.
8. جواز الفطر في السفر؛ لقوله: {أو على سفر فعدة من أيام أخر}؛ وللمسافر باعتبار صومه في سفره حالات ثلاث سبق ذكرها في الشرح.
9. أن السفر الذي يباح فيه الفطر غير مقيد بزمن، ولا مسافة؛ لإطلاق السفر في الآية؛ وعلى هذا يرجع فيه إلى العرف؛ فما عده الناس سفراً فهو سفر، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية؛ لأنَّ تحديده بزمن، أو مسافة يحتاج إلى دليل.
10. حكمة الله-سبحانه وتعالى- في التدرج بالتشريع، حيث كان الصيام أول الأمر يخير فيه الإنسان بين أن يصوم ويطعم؛ ثم تعين الصيام كما يدل على ذلك حديث سلمة بن الأكوع -رضي الله عنه-.
11. أنََّ من عجز عن الصيام عجزاً لا يرجى زواله فإنه يطعم عن كل يوم مسكيناً؛ ووجه الدلالة أن الله -سبحانه وتعالى- جعل الإطعام عديلاً للصيام حين التخيير بينهما؛ فإذا تعذر الصيام وجب عديله؛ ولهذا ذكر ابن عباس -رضي الله عنهما- أنََّ هذه الآية في الشيخ الكبير، والمرآة الكبيرة لا يطيقان الصيام، فيطعمان عن كل يوم مسكين8.
12. أنه يرجع في الإطعام في كيفيته ونوعه إلى العرف؛ لأن الله –تعالى- أطلق ذلك؛ والحكم المطلق إذا لم يكن له حقيقة شرعية يرجع فيه إلى العرف.
13. أن طاعة الله- تعالى- كلها خير؛ {فمن تطوع خيراً فهو خير له}، وأن معصيته كلها شر.
14. أن الأعمال الصالحة تتفاضل؛ {وأن تصوموا خير لكم}؛ وتفاضل الأعمال يستلزم تفاضل العامل؛ فينبني على ذلك أن الناس يتفاضلون في الأعمال؛ وهو ما دل عليه الكتاب، والسنة، وإجماع السلف، والواقع؛ قال الله –تعالى-: {لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} سورة الحديد(10)، وقال تعالى: {لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً} سورة النساء (95-96)؛ والنصوص في هذا كثيرة.
15. التنبيه على فضل العلم، وحملته؛ {إن كنتم تعلمون} 9. والأدلة في فضل العلم وأهله كثيرة جداً. والله أعلى وأعلم.
1 - الحديث أخرجه البخاري.
2 - انظر: البخاري ومسلماً.
3 - أخرجه البخاري ومسلم.
4 - أخرجه البخاري ومسلم.
5 - أخرجه مسلم.
6 - تفسير ابن كثير(1/200- 201).
7 - أخرجه البخاري ومسلم.
8 - أخرجه البخاري.
9- راجع : " جامع البيان في تأويل القرآن" لمحمد بن جرير الطبري(2/169- 190). ط: درا الإعلام - دار ابن حزم. الطبعة الأولى(1423هـ - 2002م). و" الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي(2/272- 290). الطبعة الثانية. "تفسير القرآن العظيم " للحافظ ابن كثير(1/199- 201). ط: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع (1424هـ- 2004م). و" فتح القدير" للشوكاني(1/277- 280). المكتبة التجارية. مصطفى أحمد الباز. مكة المكرمة. الطبعة الثانية. و" تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان" لابن سعدي(1/143- 144). طبع ونشر وتوزيع دار المدني بجدة. (148هـ). و" أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير" لأبي بكر الجزائري(1/160- 162). الطبعة الأولى الخاصة بالمؤلف(1414هـ). و" تفسير ابن عثيمين" المجلد الثاني.
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى