بنت الاسلام
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
أخي الكريم ...
كم هو مؤلمٌ أن "يتذمّر" الإنسان ممّن يحبّ..
لكن قبل ذلك.. دعنا نتساءل.. كيف يحدث هذا " التذمّر".. ولمَ يحدث !!..
وإذا حصل هذا منّا مع من نحب.. فماذا يحصل إذن على أرض الواقع مع من هم دونهم مكانة ومنزلة في قلوبنا !!..
أخي الكريم ...
لا تتعجّب من هذا القياس .. فإنني أنظر إلى العلاقة بين الزوجين على أنّها في طبيعتها هي امتداد آخر لعلاقاتنا الاجتماعية.. وقطعة منها.. وعالَمٌ من عوالمنا يخضع للقوانين ذاتها التي تتحكّم في شبكة علاقاتنا الاجتماعية..
وفي نظري.. أنّ غالب حالات الانتكاس والفشل في العلاقات الزوجية التي تحدث في مراحلها الأولى.. إنّما تحصل حين يخوض المرء منّا واقع الحياة الزوجية حاملاً في ذهنه تصوّرًا "خيالياً " لما يمكن أن يحصل عليه من الطرف الآخر.. حين يسمحُ لموجة الرغبة والإعجاب الشديدين أن يعصفا به.. فيتخلّى في غمرة ذلك عن (رصيد) تجاربه في واقع الحياة.. ويمنّي نفسه بحياة "مثالية" خالية من التحدّيات والأزمات والعوائق.. وما يمكن أن يعكّر مزاجه ويُفسد عليه راحة! باله..
من المسئول عن النزوح "الخيالي" الشديد.. في النظر إلى مشروع الزواج وتصوّره !؟؟..
الوعي.. ورصيد تجاربنا.. وخبراتنا بكلّ نجاحاتنا وانتكاساتنا في واقع علاقاتنا الاجتماعية منذ أن بدأنا نعي.. لا يبدو هو المسئول عن سوء التقدير الذي يحصل قبل الزواج.. والذي سرعان ما يتحطّم على محكّ الممارسة والخبرة العمليّة..
اللاّوعي.. أو العقل اللاّواعي.. أو العقل الباطن.. هو في ظنّي من يلعبُ هذا الدور الخطير.. في إزاحة خبراتنا الواقعية المعتدلة والمتزنة.. ويخلي المجال للأحلام والأماني والخيالات.. تشكّل تصوراتنا وتتدخّل في قراراتنا ومواقفنا..
العقل اللاّواعي.. هو تلك المساحة الشاسعة من المُعطيات التي تحصل مع كلّ احتكاك وتعاطي مع ما يحيط بنا من أحوال وأوضاع..
هو ذاكرة عملاقة تسجّل كلّ ما يحيط بنا تلقائيًا ومن دون أن نتدخل..
هو كمٌّ هائل من الرسائل المستقبلة والملتقطة من مجموع مواقع التأثير في محيطنا..
فالمختصّون يتحدّثون عن قدرة العقل الباطن على استيعاب أكثر من ملياريْ معلومة في الثانية.. تحصل تلقائيًا.. وتتسرّبُ إلى دواخلنا من دون أن نتمكّن من مُعالجتها جميعًا.. ذلك أن العقل الواعي في أحسن أحواله لا ينجح في معالجة إلاّ ما يُعادل تسع معلومات في الثانية..
وهذا ما يُفسّر في اعتقادي "الانفصام" الذي يُعاني منه الرجل في تصوّره المفرط في المثالية اتجاه زوجة المستقبل.. والانفصام الحاصل أيضًا في واقع زوجة المستقبل.. التي قد لا يجد عندها الزوج بعد المعاشرة والمخالطة أبسط ما كان يُفترض أن يكون على ضوء التزامها الديني أو نضجها ورقيّ فكرها الذي كان يلمسه في البداية..
ومن هنا يمكننا تناول حقيقة " الانفصام" الذي نعاني منه بين واقع حياتنا وبين الشعارات التي نحملها.. وآرائنا والقناعات التي ندّعي الإيمان بها..
و"الانفصام" بين القول وبين العمل.. بين التنظير وبين الملموس وواقع الحياة.. بين الصورة والوضع المشاهد قبل الزواج وبين الصورة المكتملة بعد أن يطّلع كلّ طرف على شؤون الطرف الآخر.. هو في ظنّي ما يُحدث تلك الصدمة العنيفة.. التي تدفعُ بالكثير من الرجال إلى الحكم على مشروعه في الزواج بالفشل.. بعد أن اكتشف أنّه لم يُحسن الانتقاء.. ووقع على نموذج مُغاير لما كان يتطلّع إليه قبل المعاشرة..
والخشية من اتساع رقعة هذا " الانفصام".. يبقى الهاجس المرعب الذي يقضّ مضجع المُقبلين على الزواج رجالاً ونساءً.. ويُقيّض الكثير من بهجتهم وسروهم في انتظار الوقوف على الحقيقة.. وتبقى خشية الرجل أكثر حضورًا منه عند المرأة.. وهو صاحب المبادرة في الغالب.. والمسئول عن إدارة الأسرة والمرور بها إلى برّ الأمان..
وليس في هذا انتقاص من قدر المرأة وما كان الدافع لقوله.. لكنّ الطبيعة العاطفية للمرأة ورجحانها على العقل بخلاف الرجل هو ما يحتّم هذا التقدير والتقييم في نظري..
الفرد المسلم - والإنسان عمومًا - في صراع دائم بين العقل الواعي.. بكل ما يحمله من قناعات وأفكار و"ثقافة" مرتبطة بمرجعيّته الدينية والأخلاقية.. وبين العقل اللاّ واعي.. وما يقبع فيه من مؤثرات ورسائل وقدر من العواطف والأحاسيس والميولات والرغبات.. كلّها تسرّبت إليه وتشكّلت مع سنين العمر منذ أن بدأ يعي.. وتراكمت حتى عادت قادرة على التدخّل والتأثير بقوّة في ما يصدر عنّا من مواقف وسلوكات.. خاصة في حالات الصدام والانفعال وفقدان العقل الواعي زمام الأمور.. أين يجد العقل الباطن المجال واسعًا يجول ويصول كما يشاء.. متسبّبًا في نتائج وخيمة..
وفي هذه الحالات غالبًا ما ينفرط عقدُ الأسرة.. حينما يُغيّب العقل الواعي.. ويجنحُ كلّ طرف لموروثاته وعاداته الدفينة واستجاباته "الغريزية" المباشرة.. خاضعًا خضوعًا تامًا لها.. ومُستسلمًا لها بشكل مفرط..
والمرأة عاطفية في طبيعتها.. ممّا يجعلها في الغالب على مقربة من حالة فُقدان التوازن والاعتدال على الدوام.. تنجرفُ لها بسرعة كبيرة مع كلّ موقف يضرب على أوتارها الحساسة.. فتتدفّق انفعالاً في كلّ اتجاه.. وتقعُ فريسة الاستجابات الغريزية كلّما شعرت بالألم.. بالخطر.. بما يُهدّد مكتسباتها ويحول دون حاجاتها ورغباتها..
وعلى هذا الأساس.. ليس الأهم ما يكون منها في حالات اعتدال المزاج.. والشعور بالأمان والرضا.. حين يكون للشعور بالمسئولية في قولها وفعلها وجود.. بل الأهمّ هو إلى أي حد سيغيبُ هذا الشعور حين تثور العواطف وتسود الانفعالات؟
وما هي السلوكات والممارسات التي ستنجحُ إليها عند ذلك؟..
فقد تدهشك حين تجاريك في أفكارك واهتماماتك.. بل قد تنجحُ في التفوّق عليك مرارًا.. وليس هنا مربط الفرس.. وإنّما في واقعها معك.. في باقي ساعات يومك وليلك.. في الهامش الذي تناورك من خلاله.. كيف تعبّر عن حاجاتها وعن اكتفائها.. عن بهجتها وسرورها وعن انزعاجها وتذمّرها.. وعن الحدّ الذي يمكن أن تصل إليه في مساومتك والضغط عليك.. حين يحدث ذلك..
هذه الأوضاع والحالات.. لا يلعبُ فيها العقل الواعي دورًا فاعلاً بفعل الحصار الذي يشهده.. وإنّما تطغى فيها موروثات ومكامن العاقل الباطن.. وتسود قوانينه وأعرافه..
قد نتساءل هنا ..
كيف الحلّ إذن للوثوق والاطمئنان بأنّنا أحسنّا الاختيار والانتقاء.. أو على الأقل قد وقعنا على أفضل ما يتيحه واقعنا المعاصر.. الذي يعملُ على تعطيل وتبديد الجهود الرامية إلى إخراج نماذج تستجيب لتطلّعاتنا في امرأة عاقلة ناضجة صالحة.. تحافظ ! على فطرتها.. وتعي بالتحديد الدور والمهام المناطة بها ؟..
لستُ أملكُ إجابة قادرة على إقناع الجميع.. لكنّني تعلمتُ من خبراتي الضيّقة.. أن أتلمّس طبيعة "المثل الأعلى" والقدوة القابعة في العقل الباطن..
أي قدوة يحتوي.. وما هو الاتجاه السائد فيه..
فإذا عثرتُ على قدوة حسنة.. وعلى مثلٍ أعلى راقيٍ .. وعلى توجّه نبيل عمومًا.. أدركتُ أنّني حتى في لحظات انفعالها يمكنني أن أمارسُ دوري من خلال الموعظة.. واحتواء حالة تذمّرها بتذكيرها بالحدود التي خطّها الشرع لها ولي.. وأجعل من دائرة الخسائر في أضيق اتساع لها..
وإذا لم تتوفّر هذه المرأة على! القدوة الحسنة وكان المثل الأعلى سيّئًا.. فيقيني راسخٌ كالجبال.. في أنّ غياب هذه القدوة سيجعل الزواج فاشلاً على الأقل مضمونًا.. مهما بدا عليها من مظاهر التديّن والنضج والخلق الحسن التي ترتديها – حينها - كما ترتدي ثيابها وتنزعها.. ولا عجبَ في ذلك إذا كان مجموع ثقافتها ومعارفها الإسلامية محبوسة في حدود الذاكرة لا تتعدّاها.. تلجأ إليها حين الحاجة للمناظرة والحديث.. ولا تكاد تسمح لها بمغادرة حبسها في الدماغ لتنزل إلى الأعماق.. تخالط الأحاسيس والمشاعر.. وتملأ القلب والفؤاد.! . وتترسّخ مع الوقت لتعود جزءً ثابتًا من الشخصية ومعالمها.. تُلمسُ في السلوك والعمل..
والجزء المتبقي من الإجابة.. هو كيف نطمئنّ لتوفّر قدرًا من القدوة والمثل الأعلى الذي نريد..
بحكم أنّنا نتحدّث عن المثل الأعلى المتستّر في العقل الباطن.. فإنّ هذا يقودنا للحديث من جديد عن المنافذ والمصادر التي تمدّه بمحتواه ومضمونه..
البيئة والمحيط .. هي المصدر الأوّل الذي يتشبّع منه العقل الباطن.. ومن النماذج المتوفّرة في هذا المحيط وكلّ ما يحدث حوله وأمامه يشكّل المرء من بداية نشوئه القدوات ويبني مثله الأعلى في داخله.. لكنّه تشكّل وبناء يحدث تلقائيًا ويقفز على إرادتنا واختيارنا.. والمراجعة وحدها الكفيلة بتعديل هذه التراكمات ومعالجة الترسبات..
فالثقافة السائدة في المحيط هي المسئولة إذن.. وإليها يتوجّب على الرّجل أن ينظر وبعناية شديدة قبل اتخاذ قراره..
وهذا يتفق إلى حدّ كبير مع ما هو مُتعارفٌ عليه في هذا الموضوع.. من ضرورة أن تكون المرأة من منبت حسن.. ومن عائلة لها حظّها من الكرم والنبل وحسن السيرة.. والاطمئنان إلى علاقتها بوالديها وطبيعتها.. وجملة الممارسات التربوية التي تعرّضت لها.. وشبكة علاقاتها الاجتماعية وبيئتها التي احتضنتها منذ نشوئها عمومًا..
وفي هذا الاتجاه يمكن تعزيز هذا التصوّر ببعض الحقائق الثابتة! ..
معاشرة شخصِ لقوم أربعين يومًا كافية ليتحوّل إليهم.. ويعود منهم.. وذلك لأنّ الفترة تكفي ليتشبّع عقله الباطن بكلّ ما يحدث حوله ويتمّ أمامه إذا رافقهم في كلّ شؤونهم ولم يحتفظ بمسافة تفصله عنهم.. فتضيع هويّته.. ويذوب فيهم.. فلا يبقى يميّزه عنهم شيء..
وما ثبت أيضًا.. من إرشاد النبي عليه الصلاة والسلام لأي رجل وقع في نفسه شيء من امرأة أجنبية أن يأتي أهله.. فيُزيل ما كان في نفسه.. ويخلّصُ عقله الباطن من أثرٍ خطير قد يتراكم مع الزمن ليتحوّل إلى رغبة غير نبيلة..
وإرشاد النبي عليه الصلاة والسلام للغاضب بأن يُغيّر من وضعه ويتوضّأ وألاّ يقضي في أمر حتى تنجلي موجة الغضب.. لأنّ فترة الانفعال تكبّل العقل الواعي بكل ! ضوابطه الشرعية والأخلاقية وسلّم القيم فيه.. وتتحوّل مقاليد الأمور إلى عقله الباطن بكلّ الخليط الكبير الذي يحتويه من الرغبات والميولات والاستجابات الغريزية..
ولهذا الدور الخطير الذي يلعبه العقل الباطن! بـ"مُثله العليا وميولاته" كم تفاجأ الكثير من الأزواج بواقع زوجات ملتزمات عمومًا يتناقضُ بشكل صارخ مع كان باديًا قبل الزواج.. إلى الحدّ الذي يستعصي على المُقاربَة والمُعالجة والاحتواء..
.. !!زوجة ملتزمة لكنّ! ها تكذب وتدمن النميمة وبث الفرقة بين الأهل
وأخرى تنزعجُ وتتلكّأ في تلبية حاجات زوجها من المأكل والمشرب وغيره
!!..وترى في ذلك وسيلة حتى لا تنزل لدرجة الخادمة
وأخرى تقلبُ له البيت جحيمًا من أجل أن تلقى حرّيتها في الخروج وقضاء ساعات يومها في الزيارات والمقابلات
وأخرى تضيّع بيتها في مُقابل عمل دعوي ما.. تدّعي التعبّد من خلاله..!!
وهنا نقف على جانب من الحكمة الإلهية في التشديد على ضرورة مُحاربة المنكر بكل مراتبه وتغييره.. وعلى الإنكار الشديد على المُجاهرين بالمعاصي والمعتدين على حقوق الناس.. وعلى الذي يأمرون بالمعروف ويفعلون خلاف ما يقولون.. لأنّهم في الواقع يمثلون قدوات سيّئة.. ويعملون على التسبّب في أوضاع وأحوال فاسدة.. من السهل أن تلتقطها العقول الباطنة.. وأن تنفذ إليها بيسر.. وإذا قابلت شخصًا لا يُحسن غسيل هذه التسريبات بوسائلها الشرعية المكافئة فسيكون لها أثرًا سلبيًا متراكمًا لن يلبث بالظهور عند توفّر الظرف المساعد..
والتعامل مع الطرف الآخر بهذا المنظور – على الأقل – يضمن إلى حدٍ ما السلامة من "الأحلام والخيال".. الذي يُخشى على صاحبه من الانتكاس والانهيار أمام حقائق الواقع بعد المعاشرة..
بهذا التصوّر.. يمكن – إلى حدٍّ – ركوب موجة الأحلام.. لكن في حدود المعقول والممكن.. لأنّها أحلامٌ لها ما يسندها واقعًا.. ولها ما يمدّها بأسباب البقاء والاستمرار.. وليست أحلامٌ منقطعة لا أصل لها ولا جذور..
لكن هل يكف! يني هذا حتى لا يحدث أن " أتذمّر" ؟..
أعترف أنه لا يكفي.. إذا حدث وكان خطئي في التقدير والتقييم كبيرًا.. وإلاّ فإنّ أي بادرة تعكّر مزاجي بإمكاني مُحاصرتها حين أستحضرُ إلى جانب ما سبق حقائق أخرى..
نخطىء خطأ كبيرًا حين نتصوّر أنّ العاطفة الحاصلة في مرحلة الإعجاب والانبهار قبل المعاشرة كافية لتغذية العلاقة وإمدادها بأسباب المودة بعد المعاشرة..
ومن هنا يتوجّب علينا البحث عن مصادر أخرى لهذه العاطفة.. تجعلها عاطفة متجدّدة.. تجد مبرّرات وجودها واستمرارها في المُعطيات والتفاصيل اليومية للعلاقة الزوجية.. والذين يخوضون مرحلة الزواج مُكتفين برصيد عاطفي حصل في فترة سبقت الزواج سرعان ما سينفذ بين أيديهم.. وسيأتي الاستنزاف بشدّة أمام عاطفة أبقينا على مبرّراتها في "الماضي".. عاجزة عن التجدّد والبقاء..
وعدم التركيز على المساوىء والسلبيات - التي ستظهر حتمًا – والعمل على فتح مجال الرؤيا واسعًا ليشمل المحاسن والحسنات.. عاملٌ مهمٌّ لتوفير أسباب قوية لتجدّد العاطفة واستمرارها..
وهناك أمرٌ آخر..
هنالك طبيعة إنسانية لا نملك أن نتخلّص منها.. وتتركُ أثرًا عميقًا على أغلب شؤوننا.. وهي " الاعتياد"
جوفُ ابن آدم لا يملأه غير التراب.. ولو حصل الرجل على خير نساء الدنيا ثمّ انهمك في إشباع حاجاتها النفسية والعاطفية معها بلا ضابط ولا قانون.. سينتهي به الوضع إلى حال من الفتور.. تسبّب فيها "اعتياده" على ما بين يديه.. والنعمة لا يُعرفُ قدرها إلاّ حين زوالها.. حين ينتفي " الاعتياد"..
وحماية المشاعر والأحاسيس من خطر الاعتياد.. يحصلُ بطرق شتّى.. ربما نمارسُ بعضها ونلجأ إليه من دون قصد واعٍ منّا.. لكن يبقى المسلك الواعي يتطلّب قدرًا من المعرفة والخبرة وسعة الاطلاع على قوانين النفس البشرية وطبيعتها..
وإنّ من أنجعها أن ينجح الإنسان في اقتحام عقله الباطن.. وتشكيل صورة واضحة المعالم لزوجته التي يحبّها على ضوء ما يجد فيها من حسنات.. والتي يراها في عينه خير نساء الدنيا.. ولا يفكّر ولو خاطرة في الالتفات إلى غيرها..
ويستمرّ في الالتجاء إلى هذه الصورة في داخله بين فترة وأخرى.. ليجدّد عاطفته.. وليطعّم هذه الصورة بما يستجدّ من واقع العلاقة التي تربط بها.. والأهمّ في في ذلك أيضًا أن يطمئنّ إلى أنّ الأيام لا تجرفه بعيدًا عن زوجته التي حمل على كاهله مسئولية رعايتها وخدمتها بميثاق من شرع الله سبحانه..
و"الاعتياد".. هو خطرٌ أكبر من أن يستهدف مخزون العاطفة بين الزوجين فحسب.. بل يتهد! ّد علاقتنا مع الله سبحانه وحالنا مع الآخرة..
فما الذي يدفعنا للانغماس في الحياة الدنيا.. وطول الأمل.. غير الاعتياد..؟؟
وما الذي يبلّد مشاعرنا نحو أهوال القيامة والحساب.. غير الاعتياد.. ؟؟
وما الذي يجرّنا للاستهانة باقتراف الآثام والمعاصي.. غير الاعتياد؟؟..
لكن هنالك ما يمكن أن نكسر به جليد هذا الاعتياد.. والتخلّص من مناخه.. إنّه اقتحام عقولنا الباطنة.. وتعديل "المفهوم الذاتي" الذي نحمله عن كلّ مفاهيمنا الدينية وغيرها.. والعودة بالنفس إلى طريق الجادة.. وهذا الذي يحدث مع كلّ دورة توبة.. يُحاسبُ فيها الإنسان نفسه.. ويراجعُ أحداث يومه منذ استيقاظه إلى لحظة خلوده للنوم..
وقد ثبت في الأثر كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه.. أنّ رجلاً كان من أهل الجنّة وهو لا يزال يسعى بين الناس.. لأنّه كان يُحاسبُ نفسه كلّ ليلة.. فيتوب من المعاصي.. ويعزم على الخير.. فيُزيل من "عقله الباطن" الآثار السيئة التي تسرّبت طيلة النهار..
وهذا يقودني لنقطة أخيرة..
حينما ينظر الواحد منّا إلى شؤونه ويتفحّصها بجديّة وتجرّد.. سيجدُ نفسه غارقًا إلى مفرق رأسه في عيوب ونقائص الله وحده أعلمُ بها.. وهو الخبير بما استخفى من أموره عن نظر الناس.. وستنطقُ أعماقه بما نطق به الصحابي الجليل حين قال "نافق حنظلة"..
فكيف يحقّ له أن يصل في تقييمه للطرف الآخر إلى حدّ " التذمّر !!؟.. "
ثمّ.. من منّا من لم تدسها أقدام الغدر.. وتطعنه خناجر الخيانة.. وتكبت على أنفاسه أيادي الاعتداء والظلم والإجحاف.. ومع ذلك يحدث أن نسامحهم.. وأن نغفر لهم.. وأن نستعد للبداية من جديد.. فكيف يعزّ علينا أن نمارس هذا مع الزوجة..؟؟!
إن حُقّ لي أن أتذمّر منها.. فيحقّ لها هي الأخرى أن تتذمّر منّي ..
والأمر متبادل ..
لماذا يا ترى.. أتذمّر من زوجتي ؟!
أ. حسن الراحل
في 12/12/1424 هـ
كم هو مؤلمٌ أن "يتذمّر" الإنسان ممّن يحبّ..
لكن قبل ذلك.. دعنا نتساءل.. كيف يحدث هذا " التذمّر".. ولمَ يحدث !!..
وإذا حصل هذا منّا مع من نحب.. فماذا يحصل إذن على أرض الواقع مع من هم دونهم مكانة ومنزلة في قلوبنا !!..
أخي الكريم ...
لا تتعجّب من هذا القياس .. فإنني أنظر إلى العلاقة بين الزوجين على أنّها في طبيعتها هي امتداد آخر لعلاقاتنا الاجتماعية.. وقطعة منها.. وعالَمٌ من عوالمنا يخضع للقوانين ذاتها التي تتحكّم في شبكة علاقاتنا الاجتماعية..
وفي نظري.. أنّ غالب حالات الانتكاس والفشل في العلاقات الزوجية التي تحدث في مراحلها الأولى.. إنّما تحصل حين يخوض المرء منّا واقع الحياة الزوجية حاملاً في ذهنه تصوّرًا "خيالياً " لما يمكن أن يحصل عليه من الطرف الآخر.. حين يسمحُ لموجة الرغبة والإعجاب الشديدين أن يعصفا به.. فيتخلّى في غمرة ذلك عن (رصيد) تجاربه في واقع الحياة.. ويمنّي نفسه بحياة "مثالية" خالية من التحدّيات والأزمات والعوائق.. وما يمكن أن يعكّر مزاجه ويُفسد عليه راحة! باله..
من المسئول عن النزوح "الخيالي" الشديد.. في النظر إلى مشروع الزواج وتصوّره !؟؟..
الوعي.. ورصيد تجاربنا.. وخبراتنا بكلّ نجاحاتنا وانتكاساتنا في واقع علاقاتنا الاجتماعية منذ أن بدأنا نعي.. لا يبدو هو المسئول عن سوء التقدير الذي يحصل قبل الزواج.. والذي سرعان ما يتحطّم على محكّ الممارسة والخبرة العمليّة..
اللاّوعي.. أو العقل اللاّواعي.. أو العقل الباطن.. هو في ظنّي من يلعبُ هذا الدور الخطير.. في إزاحة خبراتنا الواقعية المعتدلة والمتزنة.. ويخلي المجال للأحلام والأماني والخيالات.. تشكّل تصوراتنا وتتدخّل في قراراتنا ومواقفنا..
العقل اللاّواعي.. هو تلك المساحة الشاسعة من المُعطيات التي تحصل مع كلّ احتكاك وتعاطي مع ما يحيط بنا من أحوال وأوضاع..
هو ذاكرة عملاقة تسجّل كلّ ما يحيط بنا تلقائيًا ومن دون أن نتدخل..
هو كمٌّ هائل من الرسائل المستقبلة والملتقطة من مجموع مواقع التأثير في محيطنا..
فالمختصّون يتحدّثون عن قدرة العقل الباطن على استيعاب أكثر من ملياريْ معلومة في الثانية.. تحصل تلقائيًا.. وتتسرّبُ إلى دواخلنا من دون أن نتمكّن من مُعالجتها جميعًا.. ذلك أن العقل الواعي في أحسن أحواله لا ينجح في معالجة إلاّ ما يُعادل تسع معلومات في الثانية..
وهذا ما يُفسّر في اعتقادي "الانفصام" الذي يُعاني منه الرجل في تصوّره المفرط في المثالية اتجاه زوجة المستقبل.. والانفصام الحاصل أيضًا في واقع زوجة المستقبل.. التي قد لا يجد عندها الزوج بعد المعاشرة والمخالطة أبسط ما كان يُفترض أن يكون على ضوء التزامها الديني أو نضجها ورقيّ فكرها الذي كان يلمسه في البداية..
ومن هنا يمكننا تناول حقيقة " الانفصام" الذي نعاني منه بين واقع حياتنا وبين الشعارات التي نحملها.. وآرائنا والقناعات التي ندّعي الإيمان بها..
و"الانفصام" بين القول وبين العمل.. بين التنظير وبين الملموس وواقع الحياة.. بين الصورة والوضع المشاهد قبل الزواج وبين الصورة المكتملة بعد أن يطّلع كلّ طرف على شؤون الطرف الآخر.. هو في ظنّي ما يُحدث تلك الصدمة العنيفة.. التي تدفعُ بالكثير من الرجال إلى الحكم على مشروعه في الزواج بالفشل.. بعد أن اكتشف أنّه لم يُحسن الانتقاء.. ووقع على نموذج مُغاير لما كان يتطلّع إليه قبل المعاشرة..
والخشية من اتساع رقعة هذا " الانفصام".. يبقى الهاجس المرعب الذي يقضّ مضجع المُقبلين على الزواج رجالاً ونساءً.. ويُقيّض الكثير من بهجتهم وسروهم في انتظار الوقوف على الحقيقة.. وتبقى خشية الرجل أكثر حضورًا منه عند المرأة.. وهو صاحب المبادرة في الغالب.. والمسئول عن إدارة الأسرة والمرور بها إلى برّ الأمان..
وليس في هذا انتقاص من قدر المرأة وما كان الدافع لقوله.. لكنّ الطبيعة العاطفية للمرأة ورجحانها على العقل بخلاف الرجل هو ما يحتّم هذا التقدير والتقييم في نظري..
الفرد المسلم - والإنسان عمومًا - في صراع دائم بين العقل الواعي.. بكل ما يحمله من قناعات وأفكار و"ثقافة" مرتبطة بمرجعيّته الدينية والأخلاقية.. وبين العقل اللاّ واعي.. وما يقبع فيه من مؤثرات ورسائل وقدر من العواطف والأحاسيس والميولات والرغبات.. كلّها تسرّبت إليه وتشكّلت مع سنين العمر منذ أن بدأ يعي.. وتراكمت حتى عادت قادرة على التدخّل والتأثير بقوّة في ما يصدر عنّا من مواقف وسلوكات.. خاصة في حالات الصدام والانفعال وفقدان العقل الواعي زمام الأمور.. أين يجد العقل الباطن المجال واسعًا يجول ويصول كما يشاء.. متسبّبًا في نتائج وخيمة..
وفي هذه الحالات غالبًا ما ينفرط عقدُ الأسرة.. حينما يُغيّب العقل الواعي.. ويجنحُ كلّ طرف لموروثاته وعاداته الدفينة واستجاباته "الغريزية" المباشرة.. خاضعًا خضوعًا تامًا لها.. ومُستسلمًا لها بشكل مفرط..
والمرأة عاطفية في طبيعتها.. ممّا يجعلها في الغالب على مقربة من حالة فُقدان التوازن والاعتدال على الدوام.. تنجرفُ لها بسرعة كبيرة مع كلّ موقف يضرب على أوتارها الحساسة.. فتتدفّق انفعالاً في كلّ اتجاه.. وتقعُ فريسة الاستجابات الغريزية كلّما شعرت بالألم.. بالخطر.. بما يُهدّد مكتسباتها ويحول دون حاجاتها ورغباتها..
وعلى هذا الأساس.. ليس الأهم ما يكون منها في حالات اعتدال المزاج.. والشعور بالأمان والرضا.. حين يكون للشعور بالمسئولية في قولها وفعلها وجود.. بل الأهمّ هو إلى أي حد سيغيبُ هذا الشعور حين تثور العواطف وتسود الانفعالات؟
وما هي السلوكات والممارسات التي ستنجحُ إليها عند ذلك؟..
فقد تدهشك حين تجاريك في أفكارك واهتماماتك.. بل قد تنجحُ في التفوّق عليك مرارًا.. وليس هنا مربط الفرس.. وإنّما في واقعها معك.. في باقي ساعات يومك وليلك.. في الهامش الذي تناورك من خلاله.. كيف تعبّر عن حاجاتها وعن اكتفائها.. عن بهجتها وسرورها وعن انزعاجها وتذمّرها.. وعن الحدّ الذي يمكن أن تصل إليه في مساومتك والضغط عليك.. حين يحدث ذلك..
هذه الأوضاع والحالات.. لا يلعبُ فيها العقل الواعي دورًا فاعلاً بفعل الحصار الذي يشهده.. وإنّما تطغى فيها موروثات ومكامن العاقل الباطن.. وتسود قوانينه وأعرافه..
قد نتساءل هنا ..
كيف الحلّ إذن للوثوق والاطمئنان بأنّنا أحسنّا الاختيار والانتقاء.. أو على الأقل قد وقعنا على أفضل ما يتيحه واقعنا المعاصر.. الذي يعملُ على تعطيل وتبديد الجهود الرامية إلى إخراج نماذج تستجيب لتطلّعاتنا في امرأة عاقلة ناضجة صالحة.. تحافظ ! على فطرتها.. وتعي بالتحديد الدور والمهام المناطة بها ؟..
لستُ أملكُ إجابة قادرة على إقناع الجميع.. لكنّني تعلمتُ من خبراتي الضيّقة.. أن أتلمّس طبيعة "المثل الأعلى" والقدوة القابعة في العقل الباطن..
أي قدوة يحتوي.. وما هو الاتجاه السائد فيه..
فإذا عثرتُ على قدوة حسنة.. وعلى مثلٍ أعلى راقيٍ .. وعلى توجّه نبيل عمومًا.. أدركتُ أنّني حتى في لحظات انفعالها يمكنني أن أمارسُ دوري من خلال الموعظة.. واحتواء حالة تذمّرها بتذكيرها بالحدود التي خطّها الشرع لها ولي.. وأجعل من دائرة الخسائر في أضيق اتساع لها..
وإذا لم تتوفّر هذه المرأة على! القدوة الحسنة وكان المثل الأعلى سيّئًا.. فيقيني راسخٌ كالجبال.. في أنّ غياب هذه القدوة سيجعل الزواج فاشلاً على الأقل مضمونًا.. مهما بدا عليها من مظاهر التديّن والنضج والخلق الحسن التي ترتديها – حينها - كما ترتدي ثيابها وتنزعها.. ولا عجبَ في ذلك إذا كان مجموع ثقافتها ومعارفها الإسلامية محبوسة في حدود الذاكرة لا تتعدّاها.. تلجأ إليها حين الحاجة للمناظرة والحديث.. ولا تكاد تسمح لها بمغادرة حبسها في الدماغ لتنزل إلى الأعماق.. تخالط الأحاسيس والمشاعر.. وتملأ القلب والفؤاد.! . وتترسّخ مع الوقت لتعود جزءً ثابتًا من الشخصية ومعالمها.. تُلمسُ في السلوك والعمل..
والجزء المتبقي من الإجابة.. هو كيف نطمئنّ لتوفّر قدرًا من القدوة والمثل الأعلى الذي نريد..
بحكم أنّنا نتحدّث عن المثل الأعلى المتستّر في العقل الباطن.. فإنّ هذا يقودنا للحديث من جديد عن المنافذ والمصادر التي تمدّه بمحتواه ومضمونه..
البيئة والمحيط .. هي المصدر الأوّل الذي يتشبّع منه العقل الباطن.. ومن النماذج المتوفّرة في هذا المحيط وكلّ ما يحدث حوله وأمامه يشكّل المرء من بداية نشوئه القدوات ويبني مثله الأعلى في داخله.. لكنّه تشكّل وبناء يحدث تلقائيًا ويقفز على إرادتنا واختيارنا.. والمراجعة وحدها الكفيلة بتعديل هذه التراكمات ومعالجة الترسبات..
فالثقافة السائدة في المحيط هي المسئولة إذن.. وإليها يتوجّب على الرّجل أن ينظر وبعناية شديدة قبل اتخاذ قراره..
وهذا يتفق إلى حدّ كبير مع ما هو مُتعارفٌ عليه في هذا الموضوع.. من ضرورة أن تكون المرأة من منبت حسن.. ومن عائلة لها حظّها من الكرم والنبل وحسن السيرة.. والاطمئنان إلى علاقتها بوالديها وطبيعتها.. وجملة الممارسات التربوية التي تعرّضت لها.. وشبكة علاقاتها الاجتماعية وبيئتها التي احتضنتها منذ نشوئها عمومًا..
وفي هذا الاتجاه يمكن تعزيز هذا التصوّر ببعض الحقائق الثابتة! ..
معاشرة شخصِ لقوم أربعين يومًا كافية ليتحوّل إليهم.. ويعود منهم.. وذلك لأنّ الفترة تكفي ليتشبّع عقله الباطن بكلّ ما يحدث حوله ويتمّ أمامه إذا رافقهم في كلّ شؤونهم ولم يحتفظ بمسافة تفصله عنهم.. فتضيع هويّته.. ويذوب فيهم.. فلا يبقى يميّزه عنهم شيء..
وما ثبت أيضًا.. من إرشاد النبي عليه الصلاة والسلام لأي رجل وقع في نفسه شيء من امرأة أجنبية أن يأتي أهله.. فيُزيل ما كان في نفسه.. ويخلّصُ عقله الباطن من أثرٍ خطير قد يتراكم مع الزمن ليتحوّل إلى رغبة غير نبيلة..
وإرشاد النبي عليه الصلاة والسلام للغاضب بأن يُغيّر من وضعه ويتوضّأ وألاّ يقضي في أمر حتى تنجلي موجة الغضب.. لأنّ فترة الانفعال تكبّل العقل الواعي بكل ! ضوابطه الشرعية والأخلاقية وسلّم القيم فيه.. وتتحوّل مقاليد الأمور إلى عقله الباطن بكلّ الخليط الكبير الذي يحتويه من الرغبات والميولات والاستجابات الغريزية..
ولهذا الدور الخطير الذي يلعبه العقل الباطن! بـ"مُثله العليا وميولاته" كم تفاجأ الكثير من الأزواج بواقع زوجات ملتزمات عمومًا يتناقضُ بشكل صارخ مع كان باديًا قبل الزواج.. إلى الحدّ الذي يستعصي على المُقاربَة والمُعالجة والاحتواء..
.. !!زوجة ملتزمة لكنّ! ها تكذب وتدمن النميمة وبث الفرقة بين الأهل
وأخرى تنزعجُ وتتلكّأ في تلبية حاجات زوجها من المأكل والمشرب وغيره
!!..وترى في ذلك وسيلة حتى لا تنزل لدرجة الخادمة
وأخرى تقلبُ له البيت جحيمًا من أجل أن تلقى حرّيتها في الخروج وقضاء ساعات يومها في الزيارات والمقابلات
وأخرى تضيّع بيتها في مُقابل عمل دعوي ما.. تدّعي التعبّد من خلاله..!!
وهنا نقف على جانب من الحكمة الإلهية في التشديد على ضرورة مُحاربة المنكر بكل مراتبه وتغييره.. وعلى الإنكار الشديد على المُجاهرين بالمعاصي والمعتدين على حقوق الناس.. وعلى الذي يأمرون بالمعروف ويفعلون خلاف ما يقولون.. لأنّهم في الواقع يمثلون قدوات سيّئة.. ويعملون على التسبّب في أوضاع وأحوال فاسدة.. من السهل أن تلتقطها العقول الباطنة.. وأن تنفذ إليها بيسر.. وإذا قابلت شخصًا لا يُحسن غسيل هذه التسريبات بوسائلها الشرعية المكافئة فسيكون لها أثرًا سلبيًا متراكمًا لن يلبث بالظهور عند توفّر الظرف المساعد..
والتعامل مع الطرف الآخر بهذا المنظور – على الأقل – يضمن إلى حدٍ ما السلامة من "الأحلام والخيال".. الذي يُخشى على صاحبه من الانتكاس والانهيار أمام حقائق الواقع بعد المعاشرة..
بهذا التصوّر.. يمكن – إلى حدٍّ – ركوب موجة الأحلام.. لكن في حدود المعقول والممكن.. لأنّها أحلامٌ لها ما يسندها واقعًا.. ولها ما يمدّها بأسباب البقاء والاستمرار.. وليست أحلامٌ منقطعة لا أصل لها ولا جذور..
لكن هل يكف! يني هذا حتى لا يحدث أن " أتذمّر" ؟..
أعترف أنه لا يكفي.. إذا حدث وكان خطئي في التقدير والتقييم كبيرًا.. وإلاّ فإنّ أي بادرة تعكّر مزاجي بإمكاني مُحاصرتها حين أستحضرُ إلى جانب ما سبق حقائق أخرى..
نخطىء خطأ كبيرًا حين نتصوّر أنّ العاطفة الحاصلة في مرحلة الإعجاب والانبهار قبل المعاشرة كافية لتغذية العلاقة وإمدادها بأسباب المودة بعد المعاشرة..
ومن هنا يتوجّب علينا البحث عن مصادر أخرى لهذه العاطفة.. تجعلها عاطفة متجدّدة.. تجد مبرّرات وجودها واستمرارها في المُعطيات والتفاصيل اليومية للعلاقة الزوجية.. والذين يخوضون مرحلة الزواج مُكتفين برصيد عاطفي حصل في فترة سبقت الزواج سرعان ما سينفذ بين أيديهم.. وسيأتي الاستنزاف بشدّة أمام عاطفة أبقينا على مبرّراتها في "الماضي".. عاجزة عن التجدّد والبقاء..
وعدم التركيز على المساوىء والسلبيات - التي ستظهر حتمًا – والعمل على فتح مجال الرؤيا واسعًا ليشمل المحاسن والحسنات.. عاملٌ مهمٌّ لتوفير أسباب قوية لتجدّد العاطفة واستمرارها..
وهناك أمرٌ آخر..
هنالك طبيعة إنسانية لا نملك أن نتخلّص منها.. وتتركُ أثرًا عميقًا على أغلب شؤوننا.. وهي " الاعتياد"
جوفُ ابن آدم لا يملأه غير التراب.. ولو حصل الرجل على خير نساء الدنيا ثمّ انهمك في إشباع حاجاتها النفسية والعاطفية معها بلا ضابط ولا قانون.. سينتهي به الوضع إلى حال من الفتور.. تسبّب فيها "اعتياده" على ما بين يديه.. والنعمة لا يُعرفُ قدرها إلاّ حين زوالها.. حين ينتفي " الاعتياد"..
وحماية المشاعر والأحاسيس من خطر الاعتياد.. يحصلُ بطرق شتّى.. ربما نمارسُ بعضها ونلجأ إليه من دون قصد واعٍ منّا.. لكن يبقى المسلك الواعي يتطلّب قدرًا من المعرفة والخبرة وسعة الاطلاع على قوانين النفس البشرية وطبيعتها..
وإنّ من أنجعها أن ينجح الإنسان في اقتحام عقله الباطن.. وتشكيل صورة واضحة المعالم لزوجته التي يحبّها على ضوء ما يجد فيها من حسنات.. والتي يراها في عينه خير نساء الدنيا.. ولا يفكّر ولو خاطرة في الالتفات إلى غيرها..
ويستمرّ في الالتجاء إلى هذه الصورة في داخله بين فترة وأخرى.. ليجدّد عاطفته.. وليطعّم هذه الصورة بما يستجدّ من واقع العلاقة التي تربط بها.. والأهمّ في في ذلك أيضًا أن يطمئنّ إلى أنّ الأيام لا تجرفه بعيدًا عن زوجته التي حمل على كاهله مسئولية رعايتها وخدمتها بميثاق من شرع الله سبحانه..
و"الاعتياد".. هو خطرٌ أكبر من أن يستهدف مخزون العاطفة بين الزوجين فحسب.. بل يتهد! ّد علاقتنا مع الله سبحانه وحالنا مع الآخرة..
فما الذي يدفعنا للانغماس في الحياة الدنيا.. وطول الأمل.. غير الاعتياد..؟؟
وما الذي يبلّد مشاعرنا نحو أهوال القيامة والحساب.. غير الاعتياد.. ؟؟
وما الذي يجرّنا للاستهانة باقتراف الآثام والمعاصي.. غير الاعتياد؟؟..
لكن هنالك ما يمكن أن نكسر به جليد هذا الاعتياد.. والتخلّص من مناخه.. إنّه اقتحام عقولنا الباطنة.. وتعديل "المفهوم الذاتي" الذي نحمله عن كلّ مفاهيمنا الدينية وغيرها.. والعودة بالنفس إلى طريق الجادة.. وهذا الذي يحدث مع كلّ دورة توبة.. يُحاسبُ فيها الإنسان نفسه.. ويراجعُ أحداث يومه منذ استيقاظه إلى لحظة خلوده للنوم..
وقد ثبت في الأثر كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه.. أنّ رجلاً كان من أهل الجنّة وهو لا يزال يسعى بين الناس.. لأنّه كان يُحاسبُ نفسه كلّ ليلة.. فيتوب من المعاصي.. ويعزم على الخير.. فيُزيل من "عقله الباطن" الآثار السيئة التي تسرّبت طيلة النهار..
وهذا يقودني لنقطة أخيرة..
حينما ينظر الواحد منّا إلى شؤونه ويتفحّصها بجديّة وتجرّد.. سيجدُ نفسه غارقًا إلى مفرق رأسه في عيوب ونقائص الله وحده أعلمُ بها.. وهو الخبير بما استخفى من أموره عن نظر الناس.. وستنطقُ أعماقه بما نطق به الصحابي الجليل حين قال "نافق حنظلة"..
فكيف يحقّ له أن يصل في تقييمه للطرف الآخر إلى حدّ " التذمّر !!؟.. "
ثمّ.. من منّا من لم تدسها أقدام الغدر.. وتطعنه خناجر الخيانة.. وتكبت على أنفاسه أيادي الاعتداء والظلم والإجحاف.. ومع ذلك يحدث أن نسامحهم.. وأن نغفر لهم.. وأن نستعد للبداية من جديد.. فكيف يعزّ علينا أن نمارس هذا مع الزوجة..؟؟!
إن حُقّ لي أن أتذمّر منها.. فيحقّ لها هي الأخرى أن تتذمّر منّي ..
والأمر متبادل ..
لماذا يا ترى.. أتذمّر من زوجتي ؟!
أ. حسن الراحل
في 12/12/1424 هـ
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى