عبير الروح
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
فتحت عينيّ على رنّات هاتفي الملحّة، من تراه الطالب؟؟؟
اليوم الأحد، يوم إجازة للجميع.
أجبرت عينيّ على النظر إلى ساعة الحائط، إنّها تشير إلى السابعة صباحا.. وعدت أسمع الرنين يتكرّر ويتكرّر، المتصل يصرّ على التكلّم معي. نهضت من السرير وأسرعت إلى الهاتف أحمله وعقلي شبه نائم.. سمعت أحدهم يتكلّم ، يردّد اسمي، يردّد اسم محمّد.. وصوت بكاء، صوت البكاء جعلني أستيقظ بشكل كامل، من معي؟؟ هتفت، أنا مازن ، محمّد مات..
ماذا؟؟؟ صرخت بصوت مخنوق، هل تمزح؟؟؟
لا والله، قتلته بنت الذين، أحرقته، والشرطة الآن مطوّقة بيته..لا تذهب إلى هناك، فالشرطة تمسك كلّ من تشكّ أنه يعرفه أو يعرف شيئا عنه.
انتهت المكالمة، ولم ينته ذهولي..
يا الله، محمد قتل!! قبل أمس رأيته، كان مرهقا، متعبا، وجهه أصفر من قلة الراحة، رأيته وقد توقّفت سيارته وأبت أن تسير، حاولت أن أعطيه سيارتي ليعود إلى بيته لكنه رفض وطلب مني مساعدته على دفع سيارته.
ولمّا مشت قال لي وهو يضمّني مودّعا: أنا تعبت، لا أريد الاستمرار في هذه الحياة، أريد العودة إلى مصر والعمل هناك، هي أخبث مما كنت أتصور، لم اعد استطيع الاحتمال، أمّا ابني فله الله، ادع الله لي أن يساعدني، فأنا غير مطمئن لكل ما يجري من حولي.
شددت عليه وأنا أحاول التخفيف عنه، ثم افترقنا بعد أن وعدني أن يزورني بعد ايّام.. إلا أنّه لم ينفّذ وعده، وهاهو يرحل تاركا الدنيا التي أتعبته..
لا أعرف كيف مرّ النهار وأنا شبه مذهول مما جرى، لا يمكنني الذهاب إلى بيته لتقصّي الأخبار، ولم يستطع أحد من الإخوة الذهاب أيضا..
وفي المساء رنّ الهاتف مجدّدا، اسرعت إليه علّ أحدهم يكون قد جلب أخبارا جديدة عن حقيقة موت محمّد، لكن المتصل كانت ماري الأسترالية، مكالمتها فاجأتني، كانت تبكي، تتكلّم بسرعة عن موت محمّد، كلامها الممزوج بالبكاء لم يكن مفهوما، كلمات قليلة فهمتها، أنتم قتلة، أنتم من قتلتم محمّدا، هو لن يسامحكم، وأنا أيضا، أيها القتلة المجرمون، أنتم من قتلمتموه.
أغلقت الهاتف وانا حزين مما سمعت، هل نحن فعلا من قتل محمّدا؟؟ هل ساهمنا في موته؟؟ ألم يكن حيّا الآن سعيدا لو تركناه في حاله؟؟
قد تكون ماري معها بعض الحقّ، دخولنا إلى حياته ساهم في مقتله، لكننا لم نرد له إلا الخير، هذا نصيبه، وقدره..
جلست واجما وكلمات ماري الأخيرة ترنّ في أذنيّ، تأبى الانصراف، وغبت في ذكرياتي مع أوّل لقاء لي مع محمّد.
كان ذلك قبل خمس سنوات، يوم كنت وبعض الشباب ذاهبين إلى بريزبن لحضور ندوة إسلاميّة لأحد مشايخنا السعوديين الأفاضل.
يومها تعطّلت سيارتنا في الطريق قرب قرية صغيرة تبعد عن بريزبن ثلاث ساعات، تحايلنا على السيارة حتّى استطعنا إدخالها القرية، وهناك بحثنا عن ميكانيكيّ. فحص الميكانيكيّ السيارة وقال إنها تحتاج إلى قطعة غيار غير موجودة في القرية، وبما أنّ اليوم الجمعة والسبت والأحد عطلة، فقد تأجّل توفيرها للاثنين. وقفت ورفاقي ننظر إلى بعضنا البعض، ثلاثة أيّام ونحن في هذه القرية الصغيرة؟؟ هذا يعني ضياع ندوة غد، وهذا يعني تأخّرنا عن العودة إلى أعمالنا، لكن لا مفرّ من البقاء..
وبينما نحن على هذا الوضع إذ بشاب في مقتبل العمر ملامحه توحي أنّه غير أسترالي ينظر إلينا بشدّة، وهو يحمل في يديه بعض الأغراض المنزليّة، اقترب منّا وهو مازال ينظر ويدقّق النظر، وكأنه رأى أمامه اشباحا من عالم آخر.
صار أمامنا، وإذا به يبادرنا بالتحيّة قائلا: السلام عليكم، أهلا بكم في قريتنا، أنتم مسلمون أليس كذلك؟؟
ولم ينتظر منّا أن نجيب، بل اقترب مني وحضّنني بشدّة وهو غير مصدّق..
قال: لي ثلاث سنوات لم أر فيها مسلما واحدا، ياهلا بكم في قريتنا، تفضلوا معي إلى بيتي، هو ليس بعيدا من هنا، إنه البيت الثالث هناك.
شكرناه ونحن سعداء به، إنّه يتكلّم العربية بطلاقة، وطلبت منه أن يرشدنا إلى فندق قريب، إلا أنّه رفض وأصرّ أن نكون ضيوفه.
أخذنا إلى بيته، دخلنا البيت فنادى زوجته ماري التي أتت مسرعة ترحّب بنا، ثمّ قامت بالاستئذان وخرجت من البيت، بعد خروجها علمنا أنّه طلب منها ترك البيت لنا وله والذهاب إلى بيت أهلها الذين كان يفصل بين بيتهم وبيت أخينا سور خشبي.
جلسنا هناك وبمرحه وفرحته جعلنا نشعر أنّنا في بيتنا، قام محمّد وحضّر الطعام لنا، فأكلنا ونحن نتكلّم بالعربيّة عن أحوالنا، وعن ذكرياتنا في بلادنا.
بعد أن أنهينا الأكل قمت إلى المطبخ لأساعد محمّدا في غسل الصحون، وراح يكلّمني عن مصر بلده، وعن أهله هناك، ثمّ راح يقصّ عليّ قصّة مجيئه إلى أستراليا.
قال محمّد: كنت شابا ككلّ شباب بلادنا، أحلم بالحياة السعيدة وبالنجاح، كنت أدرس في الجامعة، وأتدرّب على الملاكمة، كنت اعشق الملاكمة، وأرى مستقبلي فيها، إلا أنّ بلدي لم يقدّم لي الفرصة، وكنت ككثير من الشباب أعمل أيّام الصيف لأؤمن مصروفي أثناء الشتاء، وكنت أعمل موظّفا في فندق راق على النيل، وهناك قابلت ماري.
كانت ماري قد أتت إلى القاهرة للسياحة، أحضرت لها ما طلبته من طعام، ووضعت على طاولتها وردة حمراء، كانت ماري جميلة، جذبتني رقّتها وهي تشكرني، رددت عليها بإنكليزيّة مكسّرة، ضحكت وضحكت معها.
في اليوم الثاني قدّمت لها طعام الفطور، لم تكتف وقتها بالابتسام، بل قالت لي إنّها أتت للسياحة، وإنّها تريد من يكون دليلا لها ويتكلّم الانكليزية، وعرضت عليّ أن أكون دليلها لمدّة أسبوع، وعرضت مبلغا يسيل له اللعاب، إلا أني رفضت المبلغ ووافقت على العمل مجانا لأجل عينيها الجميلتين، ولكي أثبت لها أنّ العرب شعب مضياف.
مضى الأسبوع بسرعة، كان أجمل أسبوع مرّ عليّ، أحببتها، وبادلت حبي بحبّ، كانت إنسانة محتشمة رغم نصرانيّتها، طيّبة كريمة النفس، عرضت عليّ الذهاب إلى أستراليا لتكملة الدراسة هناك، وللتدرّب على الملاكمة وتحقيق حلمي بأن أصبح ملاكما عالميا..
سافرت وهي تعدني بأنّها ستعمل ما بوسعها لأذهب إليها، ومرّت الأأيام والأشهر، أربعة أشهر مرّت وأنا أنتظر منها كلمة، وشعرت أنّها قد نستني.
وفي صباح يوم من الأيام، وبينما اهمّ للذهاب غلى الجامعة، إذ بالهاتف يرنّ، إنّها السفارة الإستراليّة تفيدني أنّ فيزا دعوة تنتظرني عندهم..كانت مفاجأة لي، أخيرا حلمي سيتحقّق، ماري لم تكن كاذبة، مازالت تحبّني كما أحبّها..أيّام ثلاثة مرّت وانا أحضّر نفسي للسفر، لم يوقفني بكاء أمي ولا نظرات والدي الحزينة، أعذراني، مستقبلي هناك وعلي السفر إليه، لكني سأعود، أعدكما أني سأعود إليكما ومعي ماري، لا تنسياني من دعواتكما...
سافرت وكانت ماري تنتظرني في المطار، أخذتني إلى بيت أهلها هنا في القرية، أهلها أناس كرام، رحّبوا بي ترحيبا شديدا، وعاملوني كواحد من الأسرة، وبعد أقلّ من شهر تزوجت أنا وماري وسكنّا هذا البيت..
ثلاث سنوات هي اسعد سنوات حياتي، أكملت دراستي، وقدّمت إلى الجنسية الأستراليّة، وبعد أشهر سأنالها، حينها سيمكنني اللعب باسم أستراليا..
تبسمت له وأنا أشعر بفرحته وهو يتكلّم، عزمته على قهوة تركيّة، لم يصدق أنّنا نحمل في صندوق سيارتنا عدّة القهوة، قال إنه لم يشربها منذ غادر مصر، حضّرتها وخرجت أنا وهو إلى حديقة بيتهم لنشربها ونحن نشاهد غروب الشمس، أمّا بقيّة الإخوة فقد فضّلوا شرب الشاي، والاستلقاء للراحة.
في الحديقة عاد يتكلّم عن حياته هنا، يضحك وهو يسرد الأحداث المضحكة، ويقطب وهو يتذكّر أمّه التي وعدها بالتواصل وأخلف وعده.
سكت قليلا ونظر إلي وقال: كم أتمنى أن يكون عندي أطفال، لكنّي لا أريد.. ماري تريد أن تربيهم على النصرانية، وأنا أريد أن يربوا على الإسلام، لذلك قرّرنا عدم التفكير بالإنجاب الآن، حتّى نصل إلى اتفاق مرض لكلا الطرفين.
نظرت إليه ورأيت سحابة من الحزن غلّفت وجهه، في تلك اللحظة لمحت زوجته ماري تقف في حديقة بيت أهلها، نظرت إلينا وشحب وجهها..بعد ذلك قال لي محمّد إنها قالت له إنها مذ رأتني معه في الحديقة علمت أنّ حياتهما شارفت على الانتهاء.
دخلنا البيت، فأذنت لصلاة المغرب وأسرعت والشباب نصلي، كان يقف وينظر إلينا، وعند العشاء وقبل أن نصلي التفتّ إليه وعرضت عليه الصلاة معنا، تردّد قليلا، ثم سأل إن كان بإمكاننا انتظاره قليلا حتّى يغتسل ويتهيّأ للصلاة..
صلينا جميعا وصلّى معنا، وبعد أن سلّمنا لمحت دمعات تلمع في عينيه..
رفضنا أن ننام على الأسرة وقررنا النوم على الأرض، فقام ونام معنا، وقضينا الليل نتكلّم، كان لا يشبع من الكلام، فقد اشتاق إلى العربيّة وإلى العرب.. قال إنّه لم يزن ولم يشرب الخمر، إلا أنه توقف عن الصلاة..
وبينما نحن مستلقون، قلت له إن عليه أن يترك هذه القرية ويذهب معنا إلى سيدني، فهناك المسلمون، وهناك المساجد، ويمكنه هناك تأدية فروضه الإسلاميّة براحة.
صمت قليلا، وعاد الحزن ليغلّف وجهه ونبرات صوته وهو يقول: ليتني أستطيع، ماري لن تترك هذه القرية، فهي قريتها، وأهلها هنا.
- لكنّ عليك أنت ترك هذه القرية، هذه القرية أهلها متدينون جدا، وأنت إما أن ترحل عنهم أو تصبح مثلهم.
- لا أستطيع، ماري لن تقبل.
- إذن عليك أن تتركها..
وبصوت ملتاع صرخ: ماذا؟ أتركها؟؟ أنا أحبها، وهي أيضا، أنا لم أر منها ولا من أهلها طيلة ثلاث سنوات أيّ شيء يؤذيني أو يحزنني، إنها ملاك، لا يمكنني أن أتركها فهذا مستحيل، إنّها قلبي وحياتي، كيف يمكن للإنسان أن يعيش بعيدا عن قلبه؟
- ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم.. الدين أوّلا يا محمّد، الدين هو الأهم، كيف ستقابل ربّك وأنت تفرّط في دينك؟ أستقول له إنّك لم تستطع الابتعاد لأنّك فضّلت زوجتك وحبّك على الله وحبّه؟؟
ماذا ستقول لو سألك عن تفريطك في الفرائض؟ وعن أولادك؟؟لن تبقى دون أولاد طيلة عمرك، وستحولهم إلى نصارى، ماذا سيكون تبريرك أمام الله؟
سكت وأنا أنظر إليه وهو يصرّ على عدم استطاعته ترك القرية وترك زوجته.
أقفلنا الموضوع ولم أفاتحه فيه ثانية، لكنّي قرّرت ألا أتركه يضيع نفسه.. ودّعته وأنا أفكّر في طريقة لجعله يترك هذه القريّة، تبادلنا أرقام الهواتف والعناوين، ومضينا وقد تواعدنا على التواصل المستمرّ.
ما إن وصلت سيدني حتّى اتصلت بصديق لي مصري من خيرة الشباب، شاب يعمل في الدعوة، كلّمته على محمّد وعلى ضرورة جلبه إلى سيدني وعدم تركه للشيطان، تحمّس صديقي كثيرا، أخذ عنوان محمّد وقرّر السفر إليه فورا، وهو يذهب قال لي ابحث له عن شقّة قريبة واستأجرها، فلن أعود إلا وهو معي إن شاء الله.
غاب ثلاثة أيّام، بعدها اتصل بي وهو في طريق العودة يسأل إن كنت قد استأجرت الشقة أم لا، وأخبرني أنّ محمّدا معه في السيارة، من فرحتي لم أسأل عن ماري زوجته، وعرفت بعدها أنّها رفضت ترك القرية، رغم أنّ أخينا أخبرها أنّه بإمكانها البقاء على دينها وأنّها لن تكون وحيدة هنا، إلا أنّها أصرّت على البقاء، فتركها محمّد وقد تواعدا على الطلاق الحبّي.
سكن محمّد في شقّة قرب المسجد، فكنّا نتقابل يوميّا، كان سعيدا جدا بعودته إلى الدين، يصلي صلواته في المسجد، وصار يذهب مع الإخوة للدعوة...تغيّر محمّد كثيرا منذ ترك القريّة، لم أعد اراه إلا مصليّا أو قارئا للقرآن، سبحان الله، سبحان مغيّر الأحوال.
كنت أعرف أنّه مازال يحنّ إليها، إلا أنّ إيمانه كان أقوى من حبّه، فلم يرضخ لنداء الحنين، رغم أنّه كان من فترة إلى أخرى يتصل بها ويعرض عليها أن تأتي إليه، ولكنّها كانت ترفض ذلك.
زارني مرّة والشباب عندي، وأخبرنا أنّ إمام المسجد وهو من مصر أيضا عرض عليه فتاة مصريّة لجأت إليه منذ مدّة وأسكنها عنده مع زوجته وأبنائه..راح يسألنا رأينا فيها، فهو لا يريد أن يبقى هكذا دون زوجة وأولاد..قال إنّ الإمام قال له إنّها التزمت الحجاب، وإنّها مصرية مثله وهو أولى بها من غيره.. لم أستسغ للفكرة خاصّة وكنت قد سمعت عن هذه المرأة ما سمعت، وكذلك أصحابي رانوا إلى الصمت، لا يمكننا أن نتكلّم عن امرأة لجأت إلى الإمام وتابت، لكنّي أخذت على الإمام عدم إخبار محمّد بحقيقتها، وكيف دخلت البلاد، فهي كانت قد دخلت أسترالية كمربيّة أطفال لمصريّ أرستقراطيّ فاسق يعيش فيها، وبقيت عنده سنة كاملة، ثمّ تركته ولجأت إلى الإمام تطلب المساعدة، واعترفت له بتعرّض مخدومها لها مدّة سنة كاملة، أبقاها الإمام عنده، وألزمها الحجاب...يقولون إنها تابت واستقامت، لكنّي لا اعرف لماذا شعرت بانقباض لمحه محمّد وراح يسألني سببه، لم يكن بإمكاني إخباره حقيقة الأمر، فمادام الإمام أخفى الحقيقة وأخبره أنها امرأة مطلّقة قويمة مكسورة الجانح لا يمكنني أن أفضح ما أخفاه.
تزوّج محمّد من هذه المرأة، وخفّت لقاءاتنا به، فالمتزوّج له ظروف تختلف عن الأعزب. كنت أتفقّد أخباره من بعض الإخوة، واخبار زوجته التي عادت لتنتشر من جديد، علاقاتها المشبوهة صارت حديث الساعة، الكل يعرف إلا هو، هو لم يكن يعرف لكنه كان يشكّ، قال لي مرّة إنّه يشكّ في تصرّفات زوجته، وقال لي إنّه غير سعيد معها، رغم أنّ الله رزقه منها بولد، لكنّه مازال يمسكها رحمة بابنهما وخوفا من أن يكون قد ظلمها بشكّه، هذه المرّة أيضا أخفيت عليه الحقيقة، كيف لي أن أخبره بما أسمعه من علاقة زوجته بأخ الإمام؟؟؟ لقد ألحّ الإمام بتزويجها له تخلّصا منها وخوفا على أخيه الذي كان متزوّجا من أخرى، لقد علم بعلاقتهما فقام بالتخلّص منها، لكنّه خدع إنسانا طيّبا ترك الدنيا لله، وأراد زوجة مسلمة تلد له أبناء تربيهم على الإسلام.
المرّات القليلة التي قابلته فيها كان متعبا جدا، لم ار أثر الراحة عليه، وفي مرّة أسرّ لي أنّه يفتقد زوجته الأولى كثيرا، قال إنّ معاملتها هذه النصرانية أفضل ألف مرّة من المسلمة التي معه، ما كنت أعرف ماذا أقول له، إلا اصبر واحتسب أمرك لله، عندك ولد وكانت هذه أمنيتك في الحياة، فعش له.
وفي مرّة زارني ليلا، كان في شدّة الإرهاق، جلس وهو يقول، لم أعد أحتمل، أنا متأكّد من خيانتها لي، أنتم كنتم تعرفون أليس كذلك؟ لماذا لم تخبروني إذن؟ لماذا تركتموني أنخدع بها، حرام عليكم ماذا فعلت بكم؟ والله إني أعتبركم إخوة لي، لماذا تركتموني مخدوعا؟ وسالت دموعه.
حضنته وانا أحاول البحث عن تبرير لإخفاء الأمر عنه، إنه الولد ليس إلا.
قال لي إنه طردها من البيت وسيتطلقان قريبا، وإنها أخذت الولد معها.
وقال إنه كان يتمنى لو يستطيع تهريب الولد إلى مصر ليربى هناك مع أهله، وإنه أيضا سيترك هذا البلد إلى غير رجعة.
جلسنا نفكّر في طريقة لأخذ الولد، ولم نجد إلا أن يعيد زوجته ويتودد إليها لتتمكن من التوقيع على جواز السفر لابنهما، لأن القانون الاسترالي يمنع سفر الولد القاصر دون موافقة الوالدين معا، وبعد أن توافق ويسافرا إلى مصر للزيارة يأخذ الولد ويطلقها هناك ويبقى هو مع ابنه، وافق على الفكرة وقام بتنفيذها، أعاد زوجته وراح يتودّد إليها، لكنّ المجروح مهما حاول التظاهر بالسعادة والراحة لابدّ أن تظهر عليه المرارة.
ولم أره مجدّدا لمعرفة ما حصل إلا يوم رأيته صدفة وقد تعطّلت سيارته، قال لي إنه لم يعد يستطع التحمّل، وإنّها كل يوم تؤجّل الذهاب للجوازات بحجج واهية وكأنّها شعرت بأنّه يحضّر لها شيئا ما، ووعدني بالزيارة ومات، لا بل قتل، قتلته، لا أحد يمكنه فعل هذا إلا هي.
وعادت كلمات ماري ترنّ في أذني، أنتم من قتلتموه، أنتم القتلة، هل نحن فعلا من قتله؟؟؟لم أقصد يوما الإساءة إليه بل كنت في كلّ ما أفعله أريد له الخير، عملي على تركه القرية ومجيئه لمدينة سدني كان لإحيائه وليس لقتله..
لا أعرف كيف مرّت ثلاثة أيّام، صورة محمّد لم تغب عن خيالي، الشرطة اعتقلت زوجته وأثبتت التحقيقات انها من قتله، وهي اعترفت أيضا بذلك، ومثّلت الجريمة.
كانت قد أعطته منوّما، وبعد أن نام صبّت عليه البنزين، ثمّ قامت بفكّ مسكة الباب من الخارج، أشعلت عود ثقاب ورمتها عليه وخرجت وأغلقت الباب.
تقول التحقيقات إنه حاول فتح الباب فلم يستطع، فذهب إلى النافذة يحاول فتحها ثم كسرها، إلا أنه عاد وسقط تحتها.
كلّ شيء فيه احترق إلا رأسه وصدره وقلبه، لم يتأذّ، وعند الدفن لمحت أثر ابتسامة كانت مرسومة على شفتيه.
القاتلة حكم عليها بستة أشهر فقط وذلك لأنها كانت قد دبّرت جريمتها بدقّة، فقبل قتله راحت إلى عدّة مخافر وبلّغت أنّ زوجها أصولي ويرغمها على لبس الحجاب وعلى أمور ترفضها ويهدّدها بالسكين، وأنّها يوم قتله أحضرت البنزين لتقتل نفسها، ولكنه بعد ضربه لها وتهديده لها فقدت وعيها فقامت وأحرقته..
شهور مرّت على مقتل محمّد ومازالت كلمات ماري ترنّ في أذني بين الحين والآخر، تتعبني، تمنعني من الراحة، أنتم القتلة، أنتم من قتلتموه.
هل نحن فعلا من قتل محمّدا؟؟؟؟؟؟
بالطبع لا، نحن أردنا له الالتزام والهدى، وبقاؤه عند ماري كانت خسارته لآخرته لا محالة، قدره أن تكون نهايته بهذه الطريقة، لكن لا يعني هذا أنّه لو بقي مع الأولى دون العودة إلى الإسلام كانت حاله أفضل، كان يعيش في ظلام القلب، ما حصل له كان بسبب سوء اختياره وتسرّعه، وقد يكون لأنّنا لم نفاتحه بما كنّا نسمع عنها..أنا لست نادما على تعرّفي عليه،وعلى هدايته، على الأقل هو مات تقيّا، مصليّا، طائعا، ونحسبه من الشهداء...
رحم الله محمّدا وعوّضه بالحور العين.
هل نحن فعلا من قتل محمّدا؟؟
أ.سحر عبد القادر اللبّان
اليوم الأحد، يوم إجازة للجميع.
أجبرت عينيّ على النظر إلى ساعة الحائط، إنّها تشير إلى السابعة صباحا.. وعدت أسمع الرنين يتكرّر ويتكرّر، المتصل يصرّ على التكلّم معي. نهضت من السرير وأسرعت إلى الهاتف أحمله وعقلي شبه نائم.. سمعت أحدهم يتكلّم ، يردّد اسمي، يردّد اسم محمّد.. وصوت بكاء، صوت البكاء جعلني أستيقظ بشكل كامل، من معي؟؟ هتفت، أنا مازن ، محمّد مات..
ماذا؟؟؟ صرخت بصوت مخنوق، هل تمزح؟؟؟
لا والله، قتلته بنت الذين، أحرقته، والشرطة الآن مطوّقة بيته..لا تذهب إلى هناك، فالشرطة تمسك كلّ من تشكّ أنه يعرفه أو يعرف شيئا عنه.
انتهت المكالمة، ولم ينته ذهولي..
يا الله، محمد قتل!! قبل أمس رأيته، كان مرهقا، متعبا، وجهه أصفر من قلة الراحة، رأيته وقد توقّفت سيارته وأبت أن تسير، حاولت أن أعطيه سيارتي ليعود إلى بيته لكنه رفض وطلب مني مساعدته على دفع سيارته.
ولمّا مشت قال لي وهو يضمّني مودّعا: أنا تعبت، لا أريد الاستمرار في هذه الحياة، أريد العودة إلى مصر والعمل هناك، هي أخبث مما كنت أتصور، لم اعد استطيع الاحتمال، أمّا ابني فله الله، ادع الله لي أن يساعدني، فأنا غير مطمئن لكل ما يجري من حولي.
شددت عليه وأنا أحاول التخفيف عنه، ثم افترقنا بعد أن وعدني أن يزورني بعد ايّام.. إلا أنّه لم ينفّذ وعده، وهاهو يرحل تاركا الدنيا التي أتعبته..
لا أعرف كيف مرّ النهار وأنا شبه مذهول مما جرى، لا يمكنني الذهاب إلى بيته لتقصّي الأخبار، ولم يستطع أحد من الإخوة الذهاب أيضا..
وفي المساء رنّ الهاتف مجدّدا، اسرعت إليه علّ أحدهم يكون قد جلب أخبارا جديدة عن حقيقة موت محمّد، لكن المتصل كانت ماري الأسترالية، مكالمتها فاجأتني، كانت تبكي، تتكلّم بسرعة عن موت محمّد، كلامها الممزوج بالبكاء لم يكن مفهوما، كلمات قليلة فهمتها، أنتم قتلة، أنتم من قتلتم محمّدا، هو لن يسامحكم، وأنا أيضا، أيها القتلة المجرمون، أنتم من قتلمتموه.
أغلقت الهاتف وانا حزين مما سمعت، هل نحن فعلا من قتل محمّدا؟؟ هل ساهمنا في موته؟؟ ألم يكن حيّا الآن سعيدا لو تركناه في حاله؟؟
قد تكون ماري معها بعض الحقّ، دخولنا إلى حياته ساهم في مقتله، لكننا لم نرد له إلا الخير، هذا نصيبه، وقدره..
جلست واجما وكلمات ماري الأخيرة ترنّ في أذنيّ، تأبى الانصراف، وغبت في ذكرياتي مع أوّل لقاء لي مع محمّد.
كان ذلك قبل خمس سنوات، يوم كنت وبعض الشباب ذاهبين إلى بريزبن لحضور ندوة إسلاميّة لأحد مشايخنا السعوديين الأفاضل.
يومها تعطّلت سيارتنا في الطريق قرب قرية صغيرة تبعد عن بريزبن ثلاث ساعات، تحايلنا على السيارة حتّى استطعنا إدخالها القرية، وهناك بحثنا عن ميكانيكيّ. فحص الميكانيكيّ السيارة وقال إنها تحتاج إلى قطعة غيار غير موجودة في القرية، وبما أنّ اليوم الجمعة والسبت والأحد عطلة، فقد تأجّل توفيرها للاثنين. وقفت ورفاقي ننظر إلى بعضنا البعض، ثلاثة أيّام ونحن في هذه القرية الصغيرة؟؟ هذا يعني ضياع ندوة غد، وهذا يعني تأخّرنا عن العودة إلى أعمالنا، لكن لا مفرّ من البقاء..
وبينما نحن على هذا الوضع إذ بشاب في مقتبل العمر ملامحه توحي أنّه غير أسترالي ينظر إلينا بشدّة، وهو يحمل في يديه بعض الأغراض المنزليّة، اقترب منّا وهو مازال ينظر ويدقّق النظر، وكأنه رأى أمامه اشباحا من عالم آخر.
صار أمامنا، وإذا به يبادرنا بالتحيّة قائلا: السلام عليكم، أهلا بكم في قريتنا، أنتم مسلمون أليس كذلك؟؟
ولم ينتظر منّا أن نجيب، بل اقترب مني وحضّنني بشدّة وهو غير مصدّق..
قال: لي ثلاث سنوات لم أر فيها مسلما واحدا، ياهلا بكم في قريتنا، تفضلوا معي إلى بيتي، هو ليس بعيدا من هنا، إنه البيت الثالث هناك.
شكرناه ونحن سعداء به، إنّه يتكلّم العربية بطلاقة، وطلبت منه أن يرشدنا إلى فندق قريب، إلا أنّه رفض وأصرّ أن نكون ضيوفه.
أخذنا إلى بيته، دخلنا البيت فنادى زوجته ماري التي أتت مسرعة ترحّب بنا، ثمّ قامت بالاستئذان وخرجت من البيت، بعد خروجها علمنا أنّه طلب منها ترك البيت لنا وله والذهاب إلى بيت أهلها الذين كان يفصل بين بيتهم وبيت أخينا سور خشبي.
جلسنا هناك وبمرحه وفرحته جعلنا نشعر أنّنا في بيتنا، قام محمّد وحضّر الطعام لنا، فأكلنا ونحن نتكلّم بالعربيّة عن أحوالنا، وعن ذكرياتنا في بلادنا.
بعد أن أنهينا الأكل قمت إلى المطبخ لأساعد محمّدا في غسل الصحون، وراح يكلّمني عن مصر بلده، وعن أهله هناك، ثمّ راح يقصّ عليّ قصّة مجيئه إلى أستراليا.
قال محمّد: كنت شابا ككلّ شباب بلادنا، أحلم بالحياة السعيدة وبالنجاح، كنت أدرس في الجامعة، وأتدرّب على الملاكمة، كنت اعشق الملاكمة، وأرى مستقبلي فيها، إلا أنّ بلدي لم يقدّم لي الفرصة، وكنت ككثير من الشباب أعمل أيّام الصيف لأؤمن مصروفي أثناء الشتاء، وكنت أعمل موظّفا في فندق راق على النيل، وهناك قابلت ماري.
كانت ماري قد أتت إلى القاهرة للسياحة، أحضرت لها ما طلبته من طعام، ووضعت على طاولتها وردة حمراء، كانت ماري جميلة، جذبتني رقّتها وهي تشكرني، رددت عليها بإنكليزيّة مكسّرة، ضحكت وضحكت معها.
في اليوم الثاني قدّمت لها طعام الفطور، لم تكتف وقتها بالابتسام، بل قالت لي إنّها أتت للسياحة، وإنّها تريد من يكون دليلا لها ويتكلّم الانكليزية، وعرضت عليّ أن أكون دليلها لمدّة أسبوع، وعرضت مبلغا يسيل له اللعاب، إلا أني رفضت المبلغ ووافقت على العمل مجانا لأجل عينيها الجميلتين، ولكي أثبت لها أنّ العرب شعب مضياف.
مضى الأسبوع بسرعة، كان أجمل أسبوع مرّ عليّ، أحببتها، وبادلت حبي بحبّ، كانت إنسانة محتشمة رغم نصرانيّتها، طيّبة كريمة النفس، عرضت عليّ الذهاب إلى أستراليا لتكملة الدراسة هناك، وللتدرّب على الملاكمة وتحقيق حلمي بأن أصبح ملاكما عالميا..
سافرت وهي تعدني بأنّها ستعمل ما بوسعها لأذهب إليها، ومرّت الأأيام والأشهر، أربعة أشهر مرّت وأنا أنتظر منها كلمة، وشعرت أنّها قد نستني.
وفي صباح يوم من الأيام، وبينما اهمّ للذهاب غلى الجامعة، إذ بالهاتف يرنّ، إنّها السفارة الإستراليّة تفيدني أنّ فيزا دعوة تنتظرني عندهم..كانت مفاجأة لي، أخيرا حلمي سيتحقّق، ماري لم تكن كاذبة، مازالت تحبّني كما أحبّها..أيّام ثلاثة مرّت وانا أحضّر نفسي للسفر، لم يوقفني بكاء أمي ولا نظرات والدي الحزينة، أعذراني، مستقبلي هناك وعلي السفر إليه، لكني سأعود، أعدكما أني سأعود إليكما ومعي ماري، لا تنسياني من دعواتكما...
سافرت وكانت ماري تنتظرني في المطار، أخذتني إلى بيت أهلها هنا في القرية، أهلها أناس كرام، رحّبوا بي ترحيبا شديدا، وعاملوني كواحد من الأسرة، وبعد أقلّ من شهر تزوجت أنا وماري وسكنّا هذا البيت..
ثلاث سنوات هي اسعد سنوات حياتي، أكملت دراستي، وقدّمت إلى الجنسية الأستراليّة، وبعد أشهر سأنالها، حينها سيمكنني اللعب باسم أستراليا..
تبسمت له وأنا أشعر بفرحته وهو يتكلّم، عزمته على قهوة تركيّة، لم يصدق أنّنا نحمل في صندوق سيارتنا عدّة القهوة، قال إنه لم يشربها منذ غادر مصر، حضّرتها وخرجت أنا وهو إلى حديقة بيتهم لنشربها ونحن نشاهد غروب الشمس، أمّا بقيّة الإخوة فقد فضّلوا شرب الشاي، والاستلقاء للراحة.
في الحديقة عاد يتكلّم عن حياته هنا، يضحك وهو يسرد الأحداث المضحكة، ويقطب وهو يتذكّر أمّه التي وعدها بالتواصل وأخلف وعده.
سكت قليلا ونظر إلي وقال: كم أتمنى أن يكون عندي أطفال، لكنّي لا أريد.. ماري تريد أن تربيهم على النصرانية، وأنا أريد أن يربوا على الإسلام، لذلك قرّرنا عدم التفكير بالإنجاب الآن، حتّى نصل إلى اتفاق مرض لكلا الطرفين.
نظرت إليه ورأيت سحابة من الحزن غلّفت وجهه، في تلك اللحظة لمحت زوجته ماري تقف في حديقة بيت أهلها، نظرت إلينا وشحب وجهها..بعد ذلك قال لي محمّد إنها قالت له إنها مذ رأتني معه في الحديقة علمت أنّ حياتهما شارفت على الانتهاء.
دخلنا البيت، فأذنت لصلاة المغرب وأسرعت والشباب نصلي، كان يقف وينظر إلينا، وعند العشاء وقبل أن نصلي التفتّ إليه وعرضت عليه الصلاة معنا، تردّد قليلا، ثم سأل إن كان بإمكاننا انتظاره قليلا حتّى يغتسل ويتهيّأ للصلاة..
صلينا جميعا وصلّى معنا، وبعد أن سلّمنا لمحت دمعات تلمع في عينيه..
رفضنا أن ننام على الأسرة وقررنا النوم على الأرض، فقام ونام معنا، وقضينا الليل نتكلّم، كان لا يشبع من الكلام، فقد اشتاق إلى العربيّة وإلى العرب.. قال إنّه لم يزن ولم يشرب الخمر، إلا أنه توقف عن الصلاة..
وبينما نحن مستلقون، قلت له إن عليه أن يترك هذه القرية ويذهب معنا إلى سيدني، فهناك المسلمون، وهناك المساجد، ويمكنه هناك تأدية فروضه الإسلاميّة براحة.
صمت قليلا، وعاد الحزن ليغلّف وجهه ونبرات صوته وهو يقول: ليتني أستطيع، ماري لن تترك هذه القرية، فهي قريتها، وأهلها هنا.
- لكنّ عليك أنت ترك هذه القرية، هذه القرية أهلها متدينون جدا، وأنت إما أن ترحل عنهم أو تصبح مثلهم.
- لا أستطيع، ماري لن تقبل.
- إذن عليك أن تتركها..
وبصوت ملتاع صرخ: ماذا؟ أتركها؟؟ أنا أحبها، وهي أيضا، أنا لم أر منها ولا من أهلها طيلة ثلاث سنوات أيّ شيء يؤذيني أو يحزنني، إنها ملاك، لا يمكنني أن أتركها فهذا مستحيل، إنّها قلبي وحياتي، كيف يمكن للإنسان أن يعيش بعيدا عن قلبه؟
- ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم.. الدين أوّلا يا محمّد، الدين هو الأهم، كيف ستقابل ربّك وأنت تفرّط في دينك؟ أستقول له إنّك لم تستطع الابتعاد لأنّك فضّلت زوجتك وحبّك على الله وحبّه؟؟
ماذا ستقول لو سألك عن تفريطك في الفرائض؟ وعن أولادك؟؟لن تبقى دون أولاد طيلة عمرك، وستحولهم إلى نصارى، ماذا سيكون تبريرك أمام الله؟
سكت وأنا أنظر إليه وهو يصرّ على عدم استطاعته ترك القرية وترك زوجته.
أقفلنا الموضوع ولم أفاتحه فيه ثانية، لكنّي قرّرت ألا أتركه يضيع نفسه.. ودّعته وأنا أفكّر في طريقة لجعله يترك هذه القريّة، تبادلنا أرقام الهواتف والعناوين، ومضينا وقد تواعدنا على التواصل المستمرّ.
ما إن وصلت سيدني حتّى اتصلت بصديق لي مصري من خيرة الشباب، شاب يعمل في الدعوة، كلّمته على محمّد وعلى ضرورة جلبه إلى سيدني وعدم تركه للشيطان، تحمّس صديقي كثيرا، أخذ عنوان محمّد وقرّر السفر إليه فورا، وهو يذهب قال لي ابحث له عن شقّة قريبة واستأجرها، فلن أعود إلا وهو معي إن شاء الله.
غاب ثلاثة أيّام، بعدها اتصل بي وهو في طريق العودة يسأل إن كنت قد استأجرت الشقة أم لا، وأخبرني أنّ محمّدا معه في السيارة، من فرحتي لم أسأل عن ماري زوجته، وعرفت بعدها أنّها رفضت ترك القرية، رغم أنّ أخينا أخبرها أنّه بإمكانها البقاء على دينها وأنّها لن تكون وحيدة هنا، إلا أنّها أصرّت على البقاء، فتركها محمّد وقد تواعدا على الطلاق الحبّي.
سكن محمّد في شقّة قرب المسجد، فكنّا نتقابل يوميّا، كان سعيدا جدا بعودته إلى الدين، يصلي صلواته في المسجد، وصار يذهب مع الإخوة للدعوة...تغيّر محمّد كثيرا منذ ترك القريّة، لم أعد اراه إلا مصليّا أو قارئا للقرآن، سبحان الله، سبحان مغيّر الأحوال.
كنت أعرف أنّه مازال يحنّ إليها، إلا أنّ إيمانه كان أقوى من حبّه، فلم يرضخ لنداء الحنين، رغم أنّه كان من فترة إلى أخرى يتصل بها ويعرض عليها أن تأتي إليه، ولكنّها كانت ترفض ذلك.
زارني مرّة والشباب عندي، وأخبرنا أنّ إمام المسجد وهو من مصر أيضا عرض عليه فتاة مصريّة لجأت إليه منذ مدّة وأسكنها عنده مع زوجته وأبنائه..راح يسألنا رأينا فيها، فهو لا يريد أن يبقى هكذا دون زوجة وأولاد..قال إنّ الإمام قال له إنّها التزمت الحجاب، وإنّها مصرية مثله وهو أولى بها من غيره.. لم أستسغ للفكرة خاصّة وكنت قد سمعت عن هذه المرأة ما سمعت، وكذلك أصحابي رانوا إلى الصمت، لا يمكننا أن نتكلّم عن امرأة لجأت إلى الإمام وتابت، لكنّي أخذت على الإمام عدم إخبار محمّد بحقيقتها، وكيف دخلت البلاد، فهي كانت قد دخلت أسترالية كمربيّة أطفال لمصريّ أرستقراطيّ فاسق يعيش فيها، وبقيت عنده سنة كاملة، ثمّ تركته ولجأت إلى الإمام تطلب المساعدة، واعترفت له بتعرّض مخدومها لها مدّة سنة كاملة، أبقاها الإمام عنده، وألزمها الحجاب...يقولون إنها تابت واستقامت، لكنّي لا اعرف لماذا شعرت بانقباض لمحه محمّد وراح يسألني سببه، لم يكن بإمكاني إخباره حقيقة الأمر، فمادام الإمام أخفى الحقيقة وأخبره أنها امرأة مطلّقة قويمة مكسورة الجانح لا يمكنني أن أفضح ما أخفاه.
تزوّج محمّد من هذه المرأة، وخفّت لقاءاتنا به، فالمتزوّج له ظروف تختلف عن الأعزب. كنت أتفقّد أخباره من بعض الإخوة، واخبار زوجته التي عادت لتنتشر من جديد، علاقاتها المشبوهة صارت حديث الساعة، الكل يعرف إلا هو، هو لم يكن يعرف لكنه كان يشكّ، قال لي مرّة إنّه يشكّ في تصرّفات زوجته، وقال لي إنّه غير سعيد معها، رغم أنّ الله رزقه منها بولد، لكنّه مازال يمسكها رحمة بابنهما وخوفا من أن يكون قد ظلمها بشكّه، هذه المرّة أيضا أخفيت عليه الحقيقة، كيف لي أن أخبره بما أسمعه من علاقة زوجته بأخ الإمام؟؟؟ لقد ألحّ الإمام بتزويجها له تخلّصا منها وخوفا على أخيه الذي كان متزوّجا من أخرى، لقد علم بعلاقتهما فقام بالتخلّص منها، لكنّه خدع إنسانا طيّبا ترك الدنيا لله، وأراد زوجة مسلمة تلد له أبناء تربيهم على الإسلام.
المرّات القليلة التي قابلته فيها كان متعبا جدا، لم ار أثر الراحة عليه، وفي مرّة أسرّ لي أنّه يفتقد زوجته الأولى كثيرا، قال إنّ معاملتها هذه النصرانية أفضل ألف مرّة من المسلمة التي معه، ما كنت أعرف ماذا أقول له، إلا اصبر واحتسب أمرك لله، عندك ولد وكانت هذه أمنيتك في الحياة، فعش له.
وفي مرّة زارني ليلا، كان في شدّة الإرهاق، جلس وهو يقول، لم أعد أحتمل، أنا متأكّد من خيانتها لي، أنتم كنتم تعرفون أليس كذلك؟ لماذا لم تخبروني إذن؟ لماذا تركتموني أنخدع بها، حرام عليكم ماذا فعلت بكم؟ والله إني أعتبركم إخوة لي، لماذا تركتموني مخدوعا؟ وسالت دموعه.
حضنته وانا أحاول البحث عن تبرير لإخفاء الأمر عنه، إنه الولد ليس إلا.
قال لي إنه طردها من البيت وسيتطلقان قريبا، وإنها أخذت الولد معها.
وقال إنه كان يتمنى لو يستطيع تهريب الولد إلى مصر ليربى هناك مع أهله، وإنه أيضا سيترك هذا البلد إلى غير رجعة.
جلسنا نفكّر في طريقة لأخذ الولد، ولم نجد إلا أن يعيد زوجته ويتودد إليها لتتمكن من التوقيع على جواز السفر لابنهما، لأن القانون الاسترالي يمنع سفر الولد القاصر دون موافقة الوالدين معا، وبعد أن توافق ويسافرا إلى مصر للزيارة يأخذ الولد ويطلقها هناك ويبقى هو مع ابنه، وافق على الفكرة وقام بتنفيذها، أعاد زوجته وراح يتودّد إليها، لكنّ المجروح مهما حاول التظاهر بالسعادة والراحة لابدّ أن تظهر عليه المرارة.
ولم أره مجدّدا لمعرفة ما حصل إلا يوم رأيته صدفة وقد تعطّلت سيارته، قال لي إنه لم يعد يستطع التحمّل، وإنّها كل يوم تؤجّل الذهاب للجوازات بحجج واهية وكأنّها شعرت بأنّه يحضّر لها شيئا ما، ووعدني بالزيارة ومات، لا بل قتل، قتلته، لا أحد يمكنه فعل هذا إلا هي.
وعادت كلمات ماري ترنّ في أذني، أنتم من قتلتموه، أنتم القتلة، هل نحن فعلا من قتله؟؟؟لم أقصد يوما الإساءة إليه بل كنت في كلّ ما أفعله أريد له الخير، عملي على تركه القرية ومجيئه لمدينة سدني كان لإحيائه وليس لقتله..
لا أعرف كيف مرّت ثلاثة أيّام، صورة محمّد لم تغب عن خيالي، الشرطة اعتقلت زوجته وأثبتت التحقيقات انها من قتله، وهي اعترفت أيضا بذلك، ومثّلت الجريمة.
كانت قد أعطته منوّما، وبعد أن نام صبّت عليه البنزين، ثمّ قامت بفكّ مسكة الباب من الخارج، أشعلت عود ثقاب ورمتها عليه وخرجت وأغلقت الباب.
تقول التحقيقات إنه حاول فتح الباب فلم يستطع، فذهب إلى النافذة يحاول فتحها ثم كسرها، إلا أنه عاد وسقط تحتها.
كلّ شيء فيه احترق إلا رأسه وصدره وقلبه، لم يتأذّ، وعند الدفن لمحت أثر ابتسامة كانت مرسومة على شفتيه.
القاتلة حكم عليها بستة أشهر فقط وذلك لأنها كانت قد دبّرت جريمتها بدقّة، فقبل قتله راحت إلى عدّة مخافر وبلّغت أنّ زوجها أصولي ويرغمها على لبس الحجاب وعلى أمور ترفضها ويهدّدها بالسكين، وأنّها يوم قتله أحضرت البنزين لتقتل نفسها، ولكنه بعد ضربه لها وتهديده لها فقدت وعيها فقامت وأحرقته..
شهور مرّت على مقتل محمّد ومازالت كلمات ماري ترنّ في أذني بين الحين والآخر، تتعبني، تمنعني من الراحة، أنتم القتلة، أنتم من قتلتموه.
هل نحن فعلا من قتل محمّدا؟؟؟؟؟؟
بالطبع لا، نحن أردنا له الالتزام والهدى، وبقاؤه عند ماري كانت خسارته لآخرته لا محالة، قدره أن تكون نهايته بهذه الطريقة، لكن لا يعني هذا أنّه لو بقي مع الأولى دون العودة إلى الإسلام كانت حاله أفضل، كان يعيش في ظلام القلب، ما حصل له كان بسبب سوء اختياره وتسرّعه، وقد يكون لأنّنا لم نفاتحه بما كنّا نسمع عنها..أنا لست نادما على تعرّفي عليه،وعلى هدايته، على الأقل هو مات تقيّا، مصليّا، طائعا، ونحسبه من الشهداء...
رحم الله محمّدا وعوّضه بالحور العين.
هل نحن فعلا من قتل محمّدا؟؟
أ.سحر عبد القادر اللبّان
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى