عبد الرحمن
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
ملخص الخطبة
1- التقوى جماع الخير كله. 2- اتفاق الأديان والقوانين على ضرورة حفظ النفس. 3- نصوص الكتاب والسنة الدالة على التغليظ في جريمة القتل. 4- بعض العوامل المؤدية إلى انتشار جريمة القتل في العصر الحديث. 5- جريمة قتل النفس كقتل الغير.
الخطبة الأولى
أما بعد: فيا عباد الله، كثيرًا ما تلهج الألسنة ويردد الدعاة والخطباء والوعاظ الأمر بتقوى الله عز وجل، وما ذلك إلا لأن التقوى جماع فضائل الدين الحنيف وأساسه ومبدؤه ومنتهى عبادة الله، فبتقوى الله تعمر القلوب وتطمئن النفوس وتحلق الأرواح، ولعظم تقوى الله قرنت بالدعوة إلى عبادته وحده: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ [نوح:3]. وفي حديث رسول الله كثيرًا ما تجيء كلمة التقوى ضمن أمر أو نهي: ((اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن)).
فاتقوا الله ـ عباد الله ـ في سركم وجهركم، في ليلكم ونهاركم، في حركاتكم وسكناتكم، فيما تقولون وفيما تفعلون، وجماع التقوى في حياة المسلم أن يحفظ الرأس وما حوى، والبطن وما وعى، وأن يتذكر الله في ساعة البلى.
عباد الله، سنتحدث اليوم عن أمر هام، بل عظيم وأي عظم، عن جريمة شنعاء توجب اللعنة وتطرد من الرحمة، جريمة بالرغم من عظمها إلا أنها تتوالى عبر العصور، وتتكرر بتكرر الأجيال، والشيطان أشدُ ما يكون حرصًا عليها؛ لأنه يضمن بها اللعنة للقاتل وسخط الله وغضبه. جريمة وأي جريمة، هي وهج الفتن، ووقود الدمار، ومعول الهدم. نعم، إنها جريمة القتل، جريمة إزهاق النفس التي حرم الله، جريمة توجب سخط الله والنار والعذاب الأليم.
أيها المسلمون، إن حفظ الدين والأنفس وحماية الأعراض والحفاظ على العقل والنسل من مقاصد هذا الدين القويم، ومن الجوانب الرئيسية التي رعاها أيما رعاية، واعتنى بها غاية العناية، صيانة للأمة وحفاظًا على الأفراد والمجتمعات من أخطار الجرائم المدمرة، وعنوان صلاح أي أمة ودليل سعادتها واستقرارها إنما هو برعاية أبنائها لهذا الجانب العظيم، وهو حفظ الأنفس وحمايتها، فمقصود الشرع من الخلق خمسة، وهو أن يحفظ عليهم دينهم وأنفسهم وعقولهم وأنسابهم وأموالهم.
فحفظ الأنفس وحمايتها ضرورة دينية ومصلحة شرعية وفطرة سوية وطبيعة بشرية وغريزة إنسانية. ودماء المسلمين عند الله مكرمة محترمة مصونة محرمة، لا يحل سفكها، ولا يجوز انتهاكها إلا بحق شرعي. وقتل النفس المعصومة عدوان آثم وجرم غاشم، وأي ذنب هو عند الله أعظم بعد الشرك بالله من قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق؟! لما في ذلك من إيلام المقتول وإثكال أهله وترميل نسائه وتيتيم أطفاله وإضاعة حقوقه وقطع أعماله بقطع حياته، مع ما فيه من عدوان صارخ على الحرمات وتطاول فاضح على أمن الأفراد والمجتمعات.
وإنه لمن المؤسف حقًا ومن المحزن حقًا، أن يسمع المسلم بين وقت وآخر ما تهتز له النفوس حزنًا، وما ترجف له القلوب أسفًا، وما يتأثر به المسلم عندما يسمع عن قتل نفس مسلمة على أيدي آثمة وأنفس شريرة مجرمة تسفك دم مسلم، إنها لجريمة شنيعة ترتعد منها الفرائص وتنخلع لها القلوب، إنها لجريمة فاحشة ولجزاء مخيف، قال الله عز وجل: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]. أربع عقوبات عظيمة يستحقها من الله صاحب الجريمة: جهنم خالدًا فيها، وغضب الله عليه، ولعنه، وأعد له عذابًا عظيمًا.
ويقول سبحانه: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة:32]. الله أكبر، ويقول سبحانه وتعالى وتقدس: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الفرقان:68-70].
أيها المسلمون، جريمة القتل جريمة شنعاء وفعلة نكراء، عدها الرسول في الحديث الصحيح في السبع الموبقات فقال: ((اجتنبوا السبع الموبقات))، وذكر منها: ((قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق)). وروى البخاري في صحيحه أن رسول الله قال: ((لا يزال العبد في فسحة من دينه ما لم يصب دمًا حرامًا))، وقال عليه الصلاة والسلام: ((ألا لا ترجعوا بعدي كفارًا، يضرب بعضكم رقاب بعض))، وقال عليه الصلاة والسلام: ((أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء)).
وعن سالم بن أبي الجَعْدِ قال: كنا عند ابن عباس بعدما كفّ بصره، فأتاه رجل فناداه: يا عبد الله بن عباس، ما ترى في رجل قتل مؤمنًا متعمدًا؟ فقال: جزاؤه جهنم خالدًا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابًا عظيمًا، قال: أفرأيت إن تاب وآمن عمل صالحًا ثم اهتدى؟ قال ابن عباس: ثكلته أمه، وأنى له التوبة والهدى؟! والذي نفسي بيده، لقد سمعت نبيكم يقول: ((ثكلته أمه قاتل مؤمن متعمدًا، جاء يوم القيامة آخذه بيمينه أو بشماله تشخب أوداجه من قبل عرش الرحمن، يلزم قاتله بشماله وبيده الأخرى رأسه، يقول: يا رب، سل هذا: فيم قتلني؟))، وايم الذي نفس عبد الله بيده، لقد أُنزلت هذه الآية فما نسختها من آية حتى قُبض نبيكم ، وما نزل بعدها من برهان.
وعن عبد الله بن مسعود عن النبي قال: ((يجيءُ المقتولُ متعلقًا بقاتله يوم القيامة آخذًا رأسه بيده فيقول: يا رب، سل هذا: فيم قتلني؟ ـ قال: ـ فيقول قتلته لتكون العزة لفلان، ـ قال: ـ فإنها ليست له، بُؤ بإثمه، ـ قال: ـ فيهوي في النار سبعين خريفًا)). وروى النسائي والبيهقي وغيرهما أنه قال: ((لقتلُ مؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا))، وفي رواية: ((لزوالُ الدنيا أهونُ عند الله من قتل امرئ مسلم)). وفي رواية للترمذي بسند حسن عن أبي سعيد رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((لو أن أهل السماء والأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم الله في النار)).
ولصيانة النفوس حرّم الإسلام الإعانة على القتل، فقد روى الإمام أحمد وغيره أن رسول الله قال: ((من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة لقي الله مكتوبٌ بين عينيه: آيس من رحمة الله)). بل إن الأمر يتعدى ذلك حتى ولو بالإشارة إلى المسلم بسلاح، فقد حرم الإسلام ذلك، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن رسول الله قال: ((لا يُشير أحدكم إلى أخيه بالسلاح، فإنه لا يدري لعل الشيطان ينزعُ في يده فيقع في حفرة من النار)).
وما ذاك ـ أيها الإخوة ـ إلا سدًا لذريعة الفساد وصيانة لدماء المسلمين أن تُنتهك، بل إن الإسلام نهى عن مجرد ترويع المسلمين وتخويف الآمنين، يقول : ((من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه حتى ينتهي، وإن كان أخاه لأمه وأبيه))، وفي الحديث الآخر: ((من أخاف مؤمنًا كان حقًا على الله أن لا يُؤمنه من أفزاع يوم القيامة)).
وإنه لمن المؤسف أننا نشهد وفي أعقاب الزمان بين الحين والآخر تساهل الكثير من الناس في أمور الدماء، وعدم مبالاتهم بالمحافظة على أمن الناس وممتلكاتهم.
أيها المسلمون، إن العوامل المؤدية إلى القتل في أيامنا هذه كثيرة، ومثيرات الفتن متعددة، وأسلحة إبليس في إذكاء نار الفتنة والزيادة في وهجها لا تحصى، ولكنني سأعرض لكم بعضًا منها، مما تلمست خطره في هذا المجتمع من خلال ما أسمع وأرى من قضايا القتل.
فمن الأسباب التي توقع في سخط الرب سبحانه وتعالى وتهون قتل النفس تربية الأبناء على الخصومات، واعتبارها من البطولات، وأن عليه أن يأخذ حقه بيده قبل أن يأخذه له غيره، فتنتشر المضاربات، وتتحفز العداوات، وتتوطن من القلب الأحقاد، حتى تصل إلى القتل وإزهاق النفس المؤمنة على شيء أتفه من التافه.
ولعل مما يذكي نار الفتنة أن البعض يحمل معه في جيبه سكينًا صغيرة، ويسميها سكينة الأزمات بل الويلات، وربما رأيت في سيارته المشعاب أو العصا، وربما المسدس بل ربما رشاش، لا لشيء سوى أنه يبرزه عند المضاربات والمخاصمات؛ لينتصر على الخصم، والشيطان أحرص ما يكون في أن تشتعل نار الفتنة ويشتد وهج العداوة، حتى تضغط الأنملة على زناد الخسران والندامة، زناد سخط الله واللعنة، زناد الهوان والذل في الدنيا والآخرة، لتنطلق قذيفة تتعدى حدود الله لتردي مسلمًا قتيلاً على الأرض، فتزهق روحه، ويزهق معها حرمة القاتل، وتحل مكانها الندامة والخسران في الدنيا والآخرة. أي بطولة هذه تزهَق النفس فيها من أجل كلمات غير مسؤولة، من شخص لا يبالي بالعواقب؟! أي بطولة هذه تُزهق نفس من أجل ريالات معدودة، بل ولو مئات الألوف بل الملايين، أو شيء من وسخ الدنيا؟! أي بطولة هذه يستحق صاحبها بعدها اللعن والطرد من رحمة الله والعذاب الأليم؟! بل أيُ بطولة هذه يكون بها تعدٍّ لحدود الله فيستحق صاحبها البطل قول الله تعالى: وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]؟!
إنك ـ يا عبد الله ـ أن تُضرب بل وتُكَّسر خير لك من أن يكون بجيبك سكين أو في سيارتك عصا أو سلاح يغويك الشيطان في استخدامها لإزهاق نفس ضارِبك، إنه لخير لك أن تعود إلى أهلك مضروبًا، فهو أولى من أن تتلطّخ يدك بدم مسلم تستحقّ به قصاصًا في الدنيا وهوانًا في الآخرة، ولا تزال في فسحه من دينك ما لم تصب دمًا حرامًا.
نعم، أن تدافع عن عرضك ونفسك فلا بأس في كل ذلك، لكن أن ينساق المسلم مع عدوه الأول إبليس حتى يقع في مستنقع المعصية واللعن ذاك هو الخطر. وإنها لبطولة حقًا أن يملك الإنسان نفسه عند الغضب، فلا يعطي الشيطان عليه سبيلاً.
ولعلكم تتفقون معي ـ يا عباد الله ـ في أن للأسرة وتربيتها سببا رئيسا في كل ذلك، فإنك تعلم علم اليقين عندما تشهد شابًا يظن البطولات في المضاربات والمخاصمات فيما بينه وبين أقرانه، وكل ذلك تحت تشجيع الأسرة ورضاها، أقول: تعلم يقينًا أن الأسرة قد ضلت طريقها في إرشاد ذلك الشاب، ولسوف يندم الأب وتندم الأم والأسرة بأسرها عندما يقاد ابنهم إلى ساحة القصاص ذليلاً كسيرًا، يدفع إلى الموت دفعًا في ذل وهوان وصغار. لِم؟! من أجل بطولات زائفة وعداوات باطلة وسقطٍ من متاع الدنيا الزائل؟!
أيها المسلمون، لنزرع في قلوبنا وقلوب أبنائنا وجوب الانقياد لأمر الله وتعظيم ما عظم الله والوقوف عند حدود الله، فنعظم النفس التي حرم الله، والتي هي أشد حرمة من حرمة بيت الله الحرام، ونقف عند أمر الله ونهيه، فلا نزهق نفسًا حرمها الله، ولا نتعدى حدًا حده الله. يجب أن نعلم أنفسنا وأبناءنا أن البطولات ليست في المضاربات والخصومات وتوجيه السلاح إلى المؤمن، ولكن البطولات تكمن في الالتزام بأمر الله والوقوف عند حدوده ومقاتلة أعدائه. فقد يملكك العجب حين تسمع عن اعتداء مسلم على دم مسلم، فأين الإسلام من هؤلاء؟! أين العقل والمروءة؟! أين الرحمة الإنسانية؟! أي قلب هذا الذي يستهين بأرواح المسلمين ودمائهم؟! وأي نفس تلذّ بسفك الدماء؟! أين الإيمان من قلوب هؤلاء؟!
إن الاعتداء على دماء وأعراض المسلمين ليس من خلق المؤمن الصالح؛ لأن الإيمان حاجزٌ قويٌ دون الشر والفساد، يأمر بالعدل وينهى عن الظلم في الدماء والأموال والأعراض والحقوق كلها، فالمؤمن حقًا لا يغدر ولا يفجرُ ولا يغش ولا يخدع ولا يطغى ولا يتجبر.
ألا فليعلم هؤلاء، وليعلم غيرهم أن الخلق كلهم عباد الله عز وجل، وأنه سبحانه يحب من الناس أن يكونوا إخوة يحب كل فرد منهم لأخيه ما يحب لنفسه، وأن يتعاملوا بالتسامح والعدل والتعاطف والود، لا بالظلم والتناحر، وأن لا يسفك بعضهم دماء بعض، قال تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ [البقرة:84].
فعلاقة المسلم بأخيه المسلم علاقة أخوية غالية عزيزة، فليس في رغبات الدنيا ما يوهن ارتباطها، ولا ما يقطع حبل الصلة فيها، ولا ما يعكر صفوها؛ ولهذا أمر بأسباب الألفة ونهى عن أسباب الفرقة فقال : ((لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانًا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يحقره، ولا يخذله، التقوى ها هنا ـ ويشير إلى صدره ثلاث مرات ـ بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه)).
فاتقوا الله عباد الله، وكونوا عباد الله إخوانًا، واتقوا الله فيما أمر، وابتعدوا عما نهى عنه وزجر، وخاصة كبائر الذنوب؛ لنفوز من الله تعالى بالرحمة والرضوان والتجاوز والغفران، كما قال عز وجل: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيمًا [النساء:31].
نسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يدفع عنا من البلاء ما يؤلمنا ويؤذينا، وأن يلهمنا من العلم الصالح ما ينجينا، وأن يجنبنا من العلم السيئ ما يُردينا، وأن يرزقنا من اليقين ما يهون علينا من مصائب الدنيا، برحمتك يا أرحم الراحمين.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله، حرم على الإنسان قتل نفسه كما حرم عليه قتل غيره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، واهب الحياة والمتصرف فيها وحده، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله القائل: ((من قتل نفسه بشيء عُذب به يوم القيامة))، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه الذين هم للمسلمين بعد نبيهم أئمة وقادة.
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله تعالى حق تقواه، وراقبوه مراقبة من يعلم أنه يراه، واحذروا أسباب سخط الله تعالى، فإن أجسامكم على النار لا تقوى.
عباد الله، إن جريمة القتل هي أول جريمة ارتكبت في الأرض ظلمًا وعدوانًا في عهد آدم عليه السلام، قتل الإنسان لأخيه الإنسان ظلمًا وعدوانًا.
والقتل مذموم عند جميع الناس وفي كل الشرائع والأديان والقوانين. ومن هنا فقد جاء الإسلام وجعل للقتل بغير الحق أكبر العقوبات ردعًا وحزمًا ألا وهي عقوبة القصاص، كما قال سبحانه: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الألْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:179].
نعم، لقد شرع الله سبحانه القصاص وإعدام القاتل المتعمد انتقامًا منه وزجرًا لغيره، وتطهيرًا للمجتمع من الجرائم التي يختل معها الأمن، وهذا من تمام حكمة الباري وعظيم لطفه وعنايته بخلقه.
ولك أن تتصور ـ يا عبد الله العاقل ـ كيف هي ذلة القاتل وهو يقاد إلى ساحة العدل والقصاص، كيف هو هوانه وخزيه وهو يجرّ إلى الموت جرًا، يجرّ لقطع رقبته وإزهاق روحة؛ لما تعدى من حدود الله وأزهق روح مؤمن بغير حق شرعي، لك أن تتصور كيف هي مشاعره، وكيف هي حاله، وأظن أن لسان حاله تردّد بالخزي والذلة لما هو فيه من حال وخسران، وليت هذا في الدنيا فقط، وإنما هي ضربة بالسيف لتستقبله أهوال القيامة وخسران المآل. وقد عدّ النبي قتل المسلم للمسلم بابًا من الكفر وعملاً من أعمال الجاهلية فقال عليه الصلاة والسلام: ((سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)) متفق عليه. والمراد بالكفر هنا كفر الإحسان والنعمة والأخوة الإسلامية، لا كفر الجحود الذي يخرج من الملة.
واعلموا أن ما ورد من التحريم في جريمة القتل العمد يشمل قتل الإنسان لنفسه كما يشمل قتله لغيره، فمن قتل نفسه بأي وسيلة من الوسائل فقد قتل نفسًا حرم الله قتلها بغير حق، والله عز وجل واهب الحياة وحده، وليس لأحد غيره تعالى أن يسلبها إلا بإذنه وفي الحدود التي يرسمها.
والحقّ الذي يبيح قتل النفس محدّدٌ لا غموض فيه، وإن من حكمة الله عز وجل وعدله جعل دماء المسلمين متكافئة ومتساوية، لا فرق بين الصغير والكبير، ولا بين الذكر والأنثى، ولا بين العربي والعجمي، ولا بين شريف ووضيع، ولا بين متعلم وأمي، لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ والأنثى بالأنثى الآية [البقرة:178]، وقال رسول الله : ((لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والزاني المحصن، والتارك لدينه المفارق للجماعة)) متفق عليه.
ألا فاتقوا الله، واحذروا من غضبه وسخطه، ولا ينزغنكم الشيطان واعصوا أمره، وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ.
هذا وصلوا وسلموا على رسول الله امتثالاً لأمر الله، حيث أمركم بذلك فقال جل من قائل عليمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلّ وسلم وبارك على نبينا محمّد صاحب الحوض والشفاعة، وعلى آله وصحبه، وارض اللهم عن خلفائه أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعنا معهم بعفوك وجودك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وانصر إخواننا المضطهدين في فلسطين، وكن لهم ناصرًا ومعينًا، وانصرهم على أعدائهم الظالمين اليهود المعتدين...
1- التقوى جماع الخير كله. 2- اتفاق الأديان والقوانين على ضرورة حفظ النفس. 3- نصوص الكتاب والسنة الدالة على التغليظ في جريمة القتل. 4- بعض العوامل المؤدية إلى انتشار جريمة القتل في العصر الحديث. 5- جريمة قتل النفس كقتل الغير.
الخطبة الأولى
أما بعد: فيا عباد الله، كثيرًا ما تلهج الألسنة ويردد الدعاة والخطباء والوعاظ الأمر بتقوى الله عز وجل، وما ذلك إلا لأن التقوى جماع فضائل الدين الحنيف وأساسه ومبدؤه ومنتهى عبادة الله، فبتقوى الله تعمر القلوب وتطمئن النفوس وتحلق الأرواح، ولعظم تقوى الله قرنت بالدعوة إلى عبادته وحده: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ [نوح:3]. وفي حديث رسول الله كثيرًا ما تجيء كلمة التقوى ضمن أمر أو نهي: ((اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن)).
فاتقوا الله ـ عباد الله ـ في سركم وجهركم، في ليلكم ونهاركم، في حركاتكم وسكناتكم، فيما تقولون وفيما تفعلون، وجماع التقوى في حياة المسلم أن يحفظ الرأس وما حوى، والبطن وما وعى، وأن يتذكر الله في ساعة البلى.
عباد الله، سنتحدث اليوم عن أمر هام، بل عظيم وأي عظم، عن جريمة شنعاء توجب اللعنة وتطرد من الرحمة، جريمة بالرغم من عظمها إلا أنها تتوالى عبر العصور، وتتكرر بتكرر الأجيال، والشيطان أشدُ ما يكون حرصًا عليها؛ لأنه يضمن بها اللعنة للقاتل وسخط الله وغضبه. جريمة وأي جريمة، هي وهج الفتن، ووقود الدمار، ومعول الهدم. نعم، إنها جريمة القتل، جريمة إزهاق النفس التي حرم الله، جريمة توجب سخط الله والنار والعذاب الأليم.
أيها المسلمون، إن حفظ الدين والأنفس وحماية الأعراض والحفاظ على العقل والنسل من مقاصد هذا الدين القويم، ومن الجوانب الرئيسية التي رعاها أيما رعاية، واعتنى بها غاية العناية، صيانة للأمة وحفاظًا على الأفراد والمجتمعات من أخطار الجرائم المدمرة، وعنوان صلاح أي أمة ودليل سعادتها واستقرارها إنما هو برعاية أبنائها لهذا الجانب العظيم، وهو حفظ الأنفس وحمايتها، فمقصود الشرع من الخلق خمسة، وهو أن يحفظ عليهم دينهم وأنفسهم وعقولهم وأنسابهم وأموالهم.
فحفظ الأنفس وحمايتها ضرورة دينية ومصلحة شرعية وفطرة سوية وطبيعة بشرية وغريزة إنسانية. ودماء المسلمين عند الله مكرمة محترمة مصونة محرمة، لا يحل سفكها، ولا يجوز انتهاكها إلا بحق شرعي. وقتل النفس المعصومة عدوان آثم وجرم غاشم، وأي ذنب هو عند الله أعظم بعد الشرك بالله من قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق؟! لما في ذلك من إيلام المقتول وإثكال أهله وترميل نسائه وتيتيم أطفاله وإضاعة حقوقه وقطع أعماله بقطع حياته، مع ما فيه من عدوان صارخ على الحرمات وتطاول فاضح على أمن الأفراد والمجتمعات.
وإنه لمن المؤسف حقًا ومن المحزن حقًا، أن يسمع المسلم بين وقت وآخر ما تهتز له النفوس حزنًا، وما ترجف له القلوب أسفًا، وما يتأثر به المسلم عندما يسمع عن قتل نفس مسلمة على أيدي آثمة وأنفس شريرة مجرمة تسفك دم مسلم، إنها لجريمة شنيعة ترتعد منها الفرائص وتنخلع لها القلوب، إنها لجريمة فاحشة ولجزاء مخيف، قال الله عز وجل: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]. أربع عقوبات عظيمة يستحقها من الله صاحب الجريمة: جهنم خالدًا فيها، وغضب الله عليه، ولعنه، وأعد له عذابًا عظيمًا.
ويقول سبحانه: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة:32]. الله أكبر، ويقول سبحانه وتعالى وتقدس: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الفرقان:68-70].
أيها المسلمون، جريمة القتل جريمة شنعاء وفعلة نكراء، عدها الرسول في الحديث الصحيح في السبع الموبقات فقال: ((اجتنبوا السبع الموبقات))، وذكر منها: ((قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق)). وروى البخاري في صحيحه أن رسول الله قال: ((لا يزال العبد في فسحة من دينه ما لم يصب دمًا حرامًا))، وقال عليه الصلاة والسلام: ((ألا لا ترجعوا بعدي كفارًا، يضرب بعضكم رقاب بعض))، وقال عليه الصلاة والسلام: ((أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء)).
وعن سالم بن أبي الجَعْدِ قال: كنا عند ابن عباس بعدما كفّ بصره، فأتاه رجل فناداه: يا عبد الله بن عباس، ما ترى في رجل قتل مؤمنًا متعمدًا؟ فقال: جزاؤه جهنم خالدًا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابًا عظيمًا، قال: أفرأيت إن تاب وآمن عمل صالحًا ثم اهتدى؟ قال ابن عباس: ثكلته أمه، وأنى له التوبة والهدى؟! والذي نفسي بيده، لقد سمعت نبيكم يقول: ((ثكلته أمه قاتل مؤمن متعمدًا، جاء يوم القيامة آخذه بيمينه أو بشماله تشخب أوداجه من قبل عرش الرحمن، يلزم قاتله بشماله وبيده الأخرى رأسه، يقول: يا رب، سل هذا: فيم قتلني؟))، وايم الذي نفس عبد الله بيده، لقد أُنزلت هذه الآية فما نسختها من آية حتى قُبض نبيكم ، وما نزل بعدها من برهان.
وعن عبد الله بن مسعود عن النبي قال: ((يجيءُ المقتولُ متعلقًا بقاتله يوم القيامة آخذًا رأسه بيده فيقول: يا رب، سل هذا: فيم قتلني؟ ـ قال: ـ فيقول قتلته لتكون العزة لفلان، ـ قال: ـ فإنها ليست له، بُؤ بإثمه، ـ قال: ـ فيهوي في النار سبعين خريفًا)). وروى النسائي والبيهقي وغيرهما أنه قال: ((لقتلُ مؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا))، وفي رواية: ((لزوالُ الدنيا أهونُ عند الله من قتل امرئ مسلم)). وفي رواية للترمذي بسند حسن عن أبي سعيد رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((لو أن أهل السماء والأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم الله في النار)).
ولصيانة النفوس حرّم الإسلام الإعانة على القتل، فقد روى الإمام أحمد وغيره أن رسول الله قال: ((من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة لقي الله مكتوبٌ بين عينيه: آيس من رحمة الله)). بل إن الأمر يتعدى ذلك حتى ولو بالإشارة إلى المسلم بسلاح، فقد حرم الإسلام ذلك، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن رسول الله قال: ((لا يُشير أحدكم إلى أخيه بالسلاح، فإنه لا يدري لعل الشيطان ينزعُ في يده فيقع في حفرة من النار)).
وما ذاك ـ أيها الإخوة ـ إلا سدًا لذريعة الفساد وصيانة لدماء المسلمين أن تُنتهك، بل إن الإسلام نهى عن مجرد ترويع المسلمين وتخويف الآمنين، يقول : ((من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه حتى ينتهي، وإن كان أخاه لأمه وأبيه))، وفي الحديث الآخر: ((من أخاف مؤمنًا كان حقًا على الله أن لا يُؤمنه من أفزاع يوم القيامة)).
وإنه لمن المؤسف أننا نشهد وفي أعقاب الزمان بين الحين والآخر تساهل الكثير من الناس في أمور الدماء، وعدم مبالاتهم بالمحافظة على أمن الناس وممتلكاتهم.
أيها المسلمون، إن العوامل المؤدية إلى القتل في أيامنا هذه كثيرة، ومثيرات الفتن متعددة، وأسلحة إبليس في إذكاء نار الفتنة والزيادة في وهجها لا تحصى، ولكنني سأعرض لكم بعضًا منها، مما تلمست خطره في هذا المجتمع من خلال ما أسمع وأرى من قضايا القتل.
فمن الأسباب التي توقع في سخط الرب سبحانه وتعالى وتهون قتل النفس تربية الأبناء على الخصومات، واعتبارها من البطولات، وأن عليه أن يأخذ حقه بيده قبل أن يأخذه له غيره، فتنتشر المضاربات، وتتحفز العداوات، وتتوطن من القلب الأحقاد، حتى تصل إلى القتل وإزهاق النفس المؤمنة على شيء أتفه من التافه.
ولعل مما يذكي نار الفتنة أن البعض يحمل معه في جيبه سكينًا صغيرة، ويسميها سكينة الأزمات بل الويلات، وربما رأيت في سيارته المشعاب أو العصا، وربما المسدس بل ربما رشاش، لا لشيء سوى أنه يبرزه عند المضاربات والمخاصمات؛ لينتصر على الخصم، والشيطان أحرص ما يكون في أن تشتعل نار الفتنة ويشتد وهج العداوة، حتى تضغط الأنملة على زناد الخسران والندامة، زناد سخط الله واللعنة، زناد الهوان والذل في الدنيا والآخرة، لتنطلق قذيفة تتعدى حدود الله لتردي مسلمًا قتيلاً على الأرض، فتزهق روحه، ويزهق معها حرمة القاتل، وتحل مكانها الندامة والخسران في الدنيا والآخرة. أي بطولة هذه تزهَق النفس فيها من أجل كلمات غير مسؤولة، من شخص لا يبالي بالعواقب؟! أي بطولة هذه تُزهق نفس من أجل ريالات معدودة، بل ولو مئات الألوف بل الملايين، أو شيء من وسخ الدنيا؟! أي بطولة هذه يستحق صاحبها بعدها اللعن والطرد من رحمة الله والعذاب الأليم؟! بل أيُ بطولة هذه يكون بها تعدٍّ لحدود الله فيستحق صاحبها البطل قول الله تعالى: وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]؟!
إنك ـ يا عبد الله ـ أن تُضرب بل وتُكَّسر خير لك من أن يكون بجيبك سكين أو في سيارتك عصا أو سلاح يغويك الشيطان في استخدامها لإزهاق نفس ضارِبك، إنه لخير لك أن تعود إلى أهلك مضروبًا، فهو أولى من أن تتلطّخ يدك بدم مسلم تستحقّ به قصاصًا في الدنيا وهوانًا في الآخرة، ولا تزال في فسحه من دينك ما لم تصب دمًا حرامًا.
نعم، أن تدافع عن عرضك ونفسك فلا بأس في كل ذلك، لكن أن ينساق المسلم مع عدوه الأول إبليس حتى يقع في مستنقع المعصية واللعن ذاك هو الخطر. وإنها لبطولة حقًا أن يملك الإنسان نفسه عند الغضب، فلا يعطي الشيطان عليه سبيلاً.
ولعلكم تتفقون معي ـ يا عباد الله ـ في أن للأسرة وتربيتها سببا رئيسا في كل ذلك، فإنك تعلم علم اليقين عندما تشهد شابًا يظن البطولات في المضاربات والمخاصمات فيما بينه وبين أقرانه، وكل ذلك تحت تشجيع الأسرة ورضاها، أقول: تعلم يقينًا أن الأسرة قد ضلت طريقها في إرشاد ذلك الشاب، ولسوف يندم الأب وتندم الأم والأسرة بأسرها عندما يقاد ابنهم إلى ساحة القصاص ذليلاً كسيرًا، يدفع إلى الموت دفعًا في ذل وهوان وصغار. لِم؟! من أجل بطولات زائفة وعداوات باطلة وسقطٍ من متاع الدنيا الزائل؟!
أيها المسلمون، لنزرع في قلوبنا وقلوب أبنائنا وجوب الانقياد لأمر الله وتعظيم ما عظم الله والوقوف عند حدود الله، فنعظم النفس التي حرم الله، والتي هي أشد حرمة من حرمة بيت الله الحرام، ونقف عند أمر الله ونهيه، فلا نزهق نفسًا حرمها الله، ولا نتعدى حدًا حده الله. يجب أن نعلم أنفسنا وأبناءنا أن البطولات ليست في المضاربات والخصومات وتوجيه السلاح إلى المؤمن، ولكن البطولات تكمن في الالتزام بأمر الله والوقوف عند حدوده ومقاتلة أعدائه. فقد يملكك العجب حين تسمع عن اعتداء مسلم على دم مسلم، فأين الإسلام من هؤلاء؟! أين العقل والمروءة؟! أين الرحمة الإنسانية؟! أي قلب هذا الذي يستهين بأرواح المسلمين ودمائهم؟! وأي نفس تلذّ بسفك الدماء؟! أين الإيمان من قلوب هؤلاء؟!
إن الاعتداء على دماء وأعراض المسلمين ليس من خلق المؤمن الصالح؛ لأن الإيمان حاجزٌ قويٌ دون الشر والفساد، يأمر بالعدل وينهى عن الظلم في الدماء والأموال والأعراض والحقوق كلها، فالمؤمن حقًا لا يغدر ولا يفجرُ ولا يغش ولا يخدع ولا يطغى ولا يتجبر.
ألا فليعلم هؤلاء، وليعلم غيرهم أن الخلق كلهم عباد الله عز وجل، وأنه سبحانه يحب من الناس أن يكونوا إخوة يحب كل فرد منهم لأخيه ما يحب لنفسه، وأن يتعاملوا بالتسامح والعدل والتعاطف والود، لا بالظلم والتناحر، وأن لا يسفك بعضهم دماء بعض، قال تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ [البقرة:84].
فعلاقة المسلم بأخيه المسلم علاقة أخوية غالية عزيزة، فليس في رغبات الدنيا ما يوهن ارتباطها، ولا ما يقطع حبل الصلة فيها، ولا ما يعكر صفوها؛ ولهذا أمر بأسباب الألفة ونهى عن أسباب الفرقة فقال : ((لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانًا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يحقره، ولا يخذله، التقوى ها هنا ـ ويشير إلى صدره ثلاث مرات ـ بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه)).
فاتقوا الله عباد الله، وكونوا عباد الله إخوانًا، واتقوا الله فيما أمر، وابتعدوا عما نهى عنه وزجر، وخاصة كبائر الذنوب؛ لنفوز من الله تعالى بالرحمة والرضوان والتجاوز والغفران، كما قال عز وجل: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيمًا [النساء:31].
نسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يدفع عنا من البلاء ما يؤلمنا ويؤذينا، وأن يلهمنا من العلم الصالح ما ينجينا، وأن يجنبنا من العلم السيئ ما يُردينا، وأن يرزقنا من اليقين ما يهون علينا من مصائب الدنيا، برحمتك يا أرحم الراحمين.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله، حرم على الإنسان قتل نفسه كما حرم عليه قتل غيره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، واهب الحياة والمتصرف فيها وحده، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله القائل: ((من قتل نفسه بشيء عُذب به يوم القيامة))، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه الذين هم للمسلمين بعد نبيهم أئمة وقادة.
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله تعالى حق تقواه، وراقبوه مراقبة من يعلم أنه يراه، واحذروا أسباب سخط الله تعالى، فإن أجسامكم على النار لا تقوى.
عباد الله، إن جريمة القتل هي أول جريمة ارتكبت في الأرض ظلمًا وعدوانًا في عهد آدم عليه السلام، قتل الإنسان لأخيه الإنسان ظلمًا وعدوانًا.
والقتل مذموم عند جميع الناس وفي كل الشرائع والأديان والقوانين. ومن هنا فقد جاء الإسلام وجعل للقتل بغير الحق أكبر العقوبات ردعًا وحزمًا ألا وهي عقوبة القصاص، كما قال سبحانه: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الألْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:179].
نعم، لقد شرع الله سبحانه القصاص وإعدام القاتل المتعمد انتقامًا منه وزجرًا لغيره، وتطهيرًا للمجتمع من الجرائم التي يختل معها الأمن، وهذا من تمام حكمة الباري وعظيم لطفه وعنايته بخلقه.
ولك أن تتصور ـ يا عبد الله العاقل ـ كيف هي ذلة القاتل وهو يقاد إلى ساحة العدل والقصاص، كيف هو هوانه وخزيه وهو يجرّ إلى الموت جرًا، يجرّ لقطع رقبته وإزهاق روحة؛ لما تعدى من حدود الله وأزهق روح مؤمن بغير حق شرعي، لك أن تتصور كيف هي مشاعره، وكيف هي حاله، وأظن أن لسان حاله تردّد بالخزي والذلة لما هو فيه من حال وخسران، وليت هذا في الدنيا فقط، وإنما هي ضربة بالسيف لتستقبله أهوال القيامة وخسران المآل. وقد عدّ النبي قتل المسلم للمسلم بابًا من الكفر وعملاً من أعمال الجاهلية فقال عليه الصلاة والسلام: ((سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)) متفق عليه. والمراد بالكفر هنا كفر الإحسان والنعمة والأخوة الإسلامية، لا كفر الجحود الذي يخرج من الملة.
واعلموا أن ما ورد من التحريم في جريمة القتل العمد يشمل قتل الإنسان لنفسه كما يشمل قتله لغيره، فمن قتل نفسه بأي وسيلة من الوسائل فقد قتل نفسًا حرم الله قتلها بغير حق، والله عز وجل واهب الحياة وحده، وليس لأحد غيره تعالى أن يسلبها إلا بإذنه وفي الحدود التي يرسمها.
والحقّ الذي يبيح قتل النفس محدّدٌ لا غموض فيه، وإن من حكمة الله عز وجل وعدله جعل دماء المسلمين متكافئة ومتساوية، لا فرق بين الصغير والكبير، ولا بين الذكر والأنثى، ولا بين العربي والعجمي، ولا بين شريف ووضيع، ولا بين متعلم وأمي، لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ والأنثى بالأنثى الآية [البقرة:178]، وقال رسول الله : ((لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والزاني المحصن، والتارك لدينه المفارق للجماعة)) متفق عليه.
ألا فاتقوا الله، واحذروا من غضبه وسخطه، ولا ينزغنكم الشيطان واعصوا أمره، وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ.
هذا وصلوا وسلموا على رسول الله امتثالاً لأمر الله، حيث أمركم بذلك فقال جل من قائل عليمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلّ وسلم وبارك على نبينا محمّد صاحب الحوض والشفاعة، وعلى آله وصحبه، وارض اللهم عن خلفائه أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعنا معهم بعفوك وجودك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وانصر إخواننا المضطهدين في فلسطين، وكن لهم ناصرًا ومعينًا، وانصرهم على أعدائهم الظالمين اليهود المعتدين...
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى