عبد الرحمن
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
ملخص الخطبة
1- ظروف الأمة العصيبة. 2- الصبر والرضا. 3- دعاء وابتهال. 4- هوان الأمّة. 5- ما نزل بلاء إلا بذنب. 6- ضرورة التوبة والرجوع إلى الله تعالى. 7- التحذير من المنافقين. 8- تنبيه الغافلين. 9- الموقف الصحيح عند الفتن. 10- الحثّ على الالتفاف حول العلماء. 11- ضرورة لزوم الجماعة. 12- المستقبل لهذا الدين.
الخطبة الأولى
أما بعد: فيا أيّها المسلمون، اتَّقوا الله فإنَّ تقواه خيرُ عاصمٍ من القواصم، وخيرُ مانعٍ من المصارع والقوامِع، يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران: 102].
أيّها المسلمون، تمرّ أمّتُكم بأيّامٍ عصيبَة وتداعيات أحداثٍ عاصِفة ومستجدّات قاصِفة. حروبٌ أطبقَت غيومُها وانتشرَت في الآفاق سمومُها. حروبٌ مضطرِمة وصراعَات محتدِمة، غامضةُ الابتِداء، مبهَمَة الانتِهاء، أثاروا نقعَها، واقتدَحوا نارَها، واستفتَحوا بابَها.
ولَو علِموا ما يُعقِب البغيُ قصَّروا ولكنَّهم لم يفكِّروا في العواقبِ
ولا يحيقُ المكر السيِّئ إلا بمن مَكَر، ولا يقَع في حفرتِه إلا مَن حفَر.
أقدارٌ مورودَة، وأقضيةٌ مسطورَة، لله في أسنائها الفَرَج القريب، وهو السّميع المجيب، لا يقابَل أمرُه إلا بالرّضا والصّبرِ على ما قضى، ولا يقابَل البلاء الجسيمُ إلا بالإيمان والتّسليم، والله بعبادِه لطيف، وفضلُه بهم مطيف.
أيّها المسلمون، تُلاقي أمتُكم أعتى المآسي وأدمَى المجازِر، فظائعَ دامِية، وجرائمِ عاتيَة، ونوازلَ عاثِرة، وجراحًا غائِرة، غُصَصًا تثير كوامِن الأشجَان، وتبعَث على الأسَى والأحزان، في كلِّ ناحيةٍ صوتُ منتِحِب، وفي كلّ شِبر باغٍ ومأفون ومغتصِب. لم يرحَموا شيخًا لضعف قدمِه وأوصالِه، ولا مريضًا لمرضِه وهُزالِه، ولا رَجلاً لأجلِ عيالِه، ولا طِفلاً لهوانِ حالِه، ولا امرأةً تبكي لعِظم المصاب وأهوالِه. سياساتٌ بلا عَدل، وهمجيَّةٌ بلا عَقل، وليسَ لنا ـ أيّها المسلمون ـ إذا أحاطت الحتوفُ ونزلَ الأمر المَخوف واشتدَّ الكرب وعظُم الخطب إلا الله جلّ في علاه، وقد كان رسولُ الهدى يدعو عندَ الكربِ بهذه الدعوات: ((لا إله إلا الله [العظيم الحليم]، لا إله إلا الله ربّ العرش العظيم، لا إله إلا الله ربّ السموات السّبع وربّ العرش الكريم))[1]. وحسبُنا الله ونِعم الوكيل، قالها إبراهيم عليه السلام حين أُلقي في النار، وقالها محمّد حينَ قالوا: إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَٱخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَـٰناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا ٱللَّهُ وَنِعْمَ ٱلْوَكِيلُ [آل عمران: 173][2].
فارفَعوا ـ أيّها المسلمون ـ أكفَّ الضّراعة، ارفَعوا أكفَّ الضراعة، وتوسّلوا إلى الله بألوانِ الطاعة، أن يرحمَ إخوانَكم المستضعفين المشرَّدين في كلّ مكان، ادعُوا دعاءَ الغريق في الدّجى، ادعُوا وأنتم صادقون في الرّجا، أن يجعلَ للمسلمين من كلِّ همّ فرجًا، ومن كلّ ضيقٍ مخرجًا.
اللهمّ أنت إلهُنا، وأنت ملاذُنا، وأنتَ عِياذنا، وعليك اتِّكالنا، اكشِف عنّا وعن المسلمين كلَّ بلاء، اصرِف عنّا وعن المسلمين كلَّ ضرّاء، ادفَع عنَّا وعن المسلمين كلَّ بأسَاء، احفَظ منّا ومن المسلمين الأعراضَ والدّمَاء، اللهمَ إليك نشكو ضعفَنا وهوانَنا على الناس، يا أرحم الراحمين، إلى من تكِلُنا؛ إلى عدوٍّ يتجهَّمنا، أم إلى باغ ملَّكتَه أمرَنا؟ إن لم تكن ساخطًا علينا فلا نُبالي، غيرَ أن عافيتَك أوسعُ لنا، نعوذ بنورِ وجهِك الذي أشرقَت له الظلمَات، وصلح عليه أمرُ الدّنيا والآخرة أن ينزلَ علينا غضبُك، أو يحلّ علينا سخطُك، لك العُتبَى حتّى ترضَى، ولا حولَ ولا قوّة إلا بِك.
أيّها المسلمون، إنَّ الأمَّة حين تخلَّت عن أمرِ الله صارت مهينةً مستكينَة، يطؤها الخفُّ والحافر، وينالُها الكافِر الماكر، وثِقت بمَن لا يفي بالعهود، وأسلمَت نفسَها للعدوّ اللدود، وتلَّت جبينَها لذابِحها، ومنحت رباطَها لخانقِها، على حسابِ دينها وأمنِها، وحاضرِها ومستقبلِها في عالَم الكذبِ والخِداع، والمكرِ والأطماع، حتّى باءت بالسُّخطتَين وذاقت الأمَرَّين، ولا ينفَع اليومَ بكاءٌ ولا عَويل، وليس الآنَ ثمَّةَ مخرجٌ لهذا الهوان إلا صدقُ اللجَأ إلى الله، فهو العظيم الذي لا أعظمَ منه، والعليّ الذي لا أعلى منه، والكبير الذي لا أكبرَ منه، والقادرُ الذي لا أقدرَ منه، والقويّ الذي لا أقوى منه، العظيمُ أبدًا حقًّا وصدقًا، لا يُعصَى كُرهًا، ولا يُخالَف أمرُه قهرًا.
أيّها المسلمون، ما أصابنا اليومَ إنّما هو بسبَب ذنوبِنا وإسرافِنا في أمرنا وما فعله السّفهاء منّا، فأظهِروا الحاجةَ والاضطرار، والمسكنةَ والافتقار، واصدُقوا في التّوبة والاعتذار، وأكثِروا من الدعاء والاستغفَار، واجتنِبوا مواردَ الخسار ومشارعَ البوار، فما نزل بلاءٌ إلا بذنبٍ، ولا رُفع إلا بتوبة.
يا أمّة محمّد ، آن للمنكرَات أن تُنكَر، آنَ لقنَوات الخزيِ أن تُمنَع وتُكسَر، آنَ للرّبا أن يُهجَر، آنَ للأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر أن يَظهَر، آنَ لبلادِ الإسلام أن تتطهَّر، آن لدين الله أن يُنصَر، آنَ للأمّة أن تتذكَّر قولَ سيِّد البشر محمّد : ((من التمَسَ رضا الله بسخطِ النّاس رضي الله عنه وأرضى عنه الناسَ، ومن التَمس رضا الناسِ بسخَط الله سخِط الله عنه وأسخطَ عليهِ الناس))، وفي لفظٍ: ((من أرضى اللهَ بسخط النّاس كفاه الله، ومن أسخطَ الله برضا النّاس وكله الله إلى النّاس))[3]، وقولَه عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام: ((احفَظِ اللهَ يحفظْك، احفَظِ الله تجدْه تجاهَك، إذا سألتَ فاسألِ الله، وإذا استعنتَ فاستعِن بالله، واعلَم أنَّ الأمّةَ لو اجتمَعت على أن ينفعوك بشيءٍ لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضرّوك بشيء لم يضرّوك إلا بشيء قد كتَبَه الله عليك، رُفِعت الأقلامُ وجفّت الصّحُف))[4]، وفي روايَة: ((احفَظِ اللهَ تجِدْه أمامَك، تعرَّف إلى الله في الرّخاء يعرِفْك في الشّدّة))[5].
وعلى الأمّة أن تحذَر في هذا الوقتِ كلَّ ناعق ومنافقٍ ممَّن لا تؤمَن غوائلهم، ولا تَقِف مكائِدهم، الذين أزكَموا الأنوفَ بنَتَن هذيانِهم وعفَن أباطيلهم وخطراتهم، التي ضرَّت وجرَّت على الأمّة من الويلات والنّكبات ما جرّت، سيماهم التّرامُز وديدنُهم التغامُز، ينادون بالانفِتاح، ويسعَون إلى تغريب الأمّة، وجوهٌ كالحَة، ونواصِي كاذِبة، وأفكارٌ خاطِئة، تُثير البلبلَة، وتخلُق الخَلخَلة، وتزرَع بُذور الفُرقة في وقتٍ نحتاج فيه إلى اجتماعِ الكلمَة ووَحدة الصّفِّ والتّعاضُد والتّساند.
أيّها المسلمون، إنَّ ممَّا يُذيب القلبَ كمدًا ويعتصِر له الفؤادُ ألمًا أن ترى بعضَ المسلمين، ونحن في هذه الأحداثِ المؤلِمة، وهم في غفلةٍ معرِضون، لاهيةً قلوبُهم يلعبون، نرى صوَرًا مريضَة شائِهة، ونفوسًا تائهة، تلهو في أحلكِ الظّروف، وتمرَح في أخطرِ المواقف، وتهزَل في مواطِن الصّرامة، وتلعَب في زمَن البلاءِ والبأساء والضّرّاء. غفلةٌ عن النّذر، وإعراضٌ عن التّذكِرة، وأمنٌ مِن مكرِ الله عزّ وجلّ، وحَيدٌ عن حالِ المصطفى ، تقول عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله إذا رأى غيمًا أو ريحًا عُرِف ذلك في وجهه، فقلت: يا رسول الله، أرى الناسَ إذا رأَوا الغيمَ فرِحوا رجاءَ أن يكونَ فيه المطَر، وأراكَ إذا رأيتَه عرفتُ في وجهِك الكراهيةَ!! فقال: ((يا عائشة، ما يؤمِّنُني أن يكونَ فيه عذاب، قد عُذِّب قومٌ بالريح، وقد رأى قومٌ العذابَ فقالوا: هذا عارضٌ ممطِرنا)) أخرجه مسلم[6]، وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: انكسَفَتِ الشمس يومًا على عهد رسول ، فقام رسول الله يصلّي حتّى لم يكَد يركَع، ثمّ ركع فلَم يكَد يرفَعُ رأسَه، ثمَ رفع رأسَه فلَم يكَد أن يسجُد، ثمّ سجَد فلَم يكَد أن يرفَع رأسَه، ثمّ رفَع رأسَه فلم يكد أن يسجُد، ثمّ سجَد فلم يكَد أن يرفَعَ رأسَه، فجعل ينفُخ ويبكِي صلوات الله وسلامه عليه ويقول: ((ربِّ، ألم تعِدني أن لا تعذِّبَهم وأنا فيهم؟! ربِّ، ألم تعِدنِي أن لا تعذِّبَهم وهم يستغفرون؟! ونحن نستغفرك)) متفق عليه[7].
هكذا كان حالُ المصطفى ، فما للعيون ناظرةٌ ولا تُبصر؟! ما للقلوب قاسية ولا تفكِّر؟! ما للنّفوس ناسيَة ولا تذكُر؟! أغراها إنظارُها وإمهالُها، أم بشَّرها بالنجاة أعمالُها، أم شملت الغفلة فاستحكَم على القلوب أقفالُها؟!
فتذكَّروا ـ يا عباد الله ـ عذابَ الله ووقائعَه في الأمَم، وتذكَّروا شدّة نقمتِه إذا انتقَم، وحاذِروا زوالَ ما أنتم فيه من النّعم.
أيّها المسلمون، ابتعِدوا عن مُلتَطَم الغوائِل، وآثِروا السلامة عند الفتَن والنوازِل، واسلُكوا المسالِك الرّشيدة، وقِفوا المواقفَ السّديدة، وراعوا المصالِح، انظُروا في المناجِح، ووازِنوا بين حسنات ما يُدفَع وسيّئات ما يقع ويتوقَّع، وارتادُوا الأنفَعَ والأنجَع، واحقِنوا الدّماء في أهبِها، وإِدُوا الفتنةَ في مهدِها، فالفتنة راتِعة تطأ في خطامِها، من أخذ به وطئَته، ومن فتح بابَها صرعَته، ومن أدار راحتَها أهلكَته، يقول رسول الهدى : ((ليس من نفسٍ تُقتل ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأوّل كفلٌ منها)) أخرجه البخاري[8]، قال سفيان رحمه الله: "لأنّه أوّلُ من سنَّ القتلَ"[9]. ويقول عليه الصلاة والسلام: ((لا ترجِعوا بعدِي كُفّارًا يضرِب بعضُكم رقابَ بعض)) أخرجه مسلم[10].
فقودوا أنفسَكم بزِمام العِلم، وأكبِحوها بلِجام الصّبر، واحذَروا ركوبَ مَتن اللّجاج ومَركب التّهارُج حوطةً على الأمّة أن تُسفَك دماؤها أو يَتخرَّق أمرُها إلى ما لا يتحصَّل معه إلا شتاتُ الكلمة وشماتةُ العدوّ، واعلموا أنَّ رسول الله قال: ((لا يرمي رجلٌ رجلاً بالفسوق ولا يرميه بالكفر إلا ارتدّت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك)) متفق عليه[11]، وفي لفظ لمسلم: ((أو قال: عدوّ الله وليس كذلك إلا حار عليه))[12].
أيّها المسلمون، إنّ معاصات الأمور وعظائمَها لا يدرك معانيها ومغازيها ويسبُر ما فيها ويعترِيها إلا عالمٌ ذو فِطنة وكياسة، والعلماء أحرصُ الناس على حفظِ البَيضة وصيانة الحَوزة، وهم قدوةُ الأنام وأسوَة الإسلام، لا يأخذهم في الله عذلٌ وملام، ولا يؤثِرون على الحقّ أحدًا، ولا يجِدون من دونِه ملتَحدًا، فخُذوا منهم الرأيَ والمشورَة فهم أسلمُ الناس فِكرًا وأمكنُهم نظرًا.
أيّها المسلمون، إنَّ أقربَ المسالك الحاميةِ بإذن الله من المهالك ودارئةِ الأخطار ودافعة الأضرار التي تمتدّ إليها بصيرةُ الفطِن لزوم جماعةِ المسلمين وإمامِهم، والصدور عن أئمّتهم وعلمائهم، بَيدَ أنّه من المعلوم بالاضطرار أنّه لا طاعةَ لمخلوقٍ في معصية الخالق، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((الطاعة على المرء المسلمِ فيما أحبَّ وكرِه، ما لم يُؤمر بمعصية، فإذا أمِر بمعصيةٍ فلا سمع ولا طاعة)) متفق عليه[13].
فاحذَروا سلَّ الأيدي عن رِبقة الطَاعة، ومخالفةَ الجماعة، والمستعينُ بالله موفَّق، والمتبرِّي عن حولِه وقوّته بالصواب مستنطَق.
جعلني الله وإيّاكم من الهداة المهتدين المتّبعين لسنّة سيّد المرسلين، أقول ما تسمعون، وأستغفِر اللهَ لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في التوحيد (7426)، ومسلم في الدعاء (2730) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
[2] أخرجه البخاري في التفسير (4563) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
[3] أخرجه ابن المبارك في الزهد (199)، ومن طريقه الترمذي في الزهد (2414) عن رجل من أهل المدينة عن عائشة رضي الله عنها، وصححه ابن حبان (276)، والألباني في صحيح الترغيب (2250)، ثم أخرجه الترمذي عقب المرفوع من طريق آخر عنها موقوفًا، ورجح الوقف أبو حاتم وأبو زرعة كما في العلل لابن أبي حاتم (2/103).
[4] أخرجه أحمد (1/ 293)، والترمذي في صفة القيامة (2516) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وقال: "حديث حسن صحيح"، وصححه الحاكم (3/ 541-542)، والضياء المقدسي في المخارة (10/25)، وقال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/ 460-461): "روي هذا الحديث عن ابن عباس من طرق كثيرة... وأصح الطرق الطريق التي أخرجها الترمذي"، وصححه الألباني في صحيح السنن (2043).
[5] هذه الرواية أخرجها أحمد (1/307)، والحاكم (3/623)، والضياء في المختارة (10/24)، وصححها القرطبي في تفسيره (6/398).
[6] أخرجه مسلم في الاستسقاء (899)، وهو أيضا عند البخاري في التفسير (4829).
[7] أخرجه أبو داود في الصلاة (1194)، والنسائي في الكسوف (1496). وأصله في البخاري في الجمعة (1045)، ومسلم في الكسوف (910) مختصرا.
[8] أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء (3336)، وهو أيضا عند مسلم في القسامة (1677) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
[9] هذا من تمام الحديث المرفوع.
[10] أخرجه مسلم في الإيمان (65، 66) من حديث جرير رضي الله عنه، وهو أيضا عند البخاري في العلم (121). وثبت أيضا من طريق ابن عمر وابن عباس وأبي بكرة رضي الله عنهم، وكلها في الصحيح.
[11] أخرجه البخاري في الأدب (6045) واللفظ له، ومسلم في الإيمان (61) من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
[12] أخرجه مسلم في الإيمان (61).
[13] أخرجه البخاري في الأحكام (7144)، ومسلم في الإمارة (1839).
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشّكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فيا أيها المسلمون، اتّقوا الله وراقِبوه، وأطيعوه ولا تعصوه، يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَـٰلَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب: 70، 71].
أيها المحزونُ لهذه الأمّة، أيّها المكلوم لهذه الغمّة، مهما حاولَ أعداءُ الإسلام ومهما سعَوا من إنزال أنواعِ الفشَل وألوان الشلل بالإسلام والمسلمين، فلن يستطيعوا أن يطفِئوا نورَ الله، يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفْوٰهِهِمْ وَٱللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْكَـٰفِرُونَ [الصف: 8]، وعن تميم الداري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((ليبلغَنَّ هذا الأمرُ ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيتَ مدَرٍ ولا وبَر إلا أدخله الله هذا الدينَ، بعزِّ عزيزٍ أو بذلّ ذليل، عزًا يعزُّ الله به الإسلامَ، وذلاّ يذلّ الله به الكفر)) أخرجه أحمد[1]، وعن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إنَّ الله زوى ليَ الأرض، فرأيتُ مشارقَها ومغاربها، وإنَّ أمّتي سيبلغ ملكُها ما زُوِي لي منها)) أخرجه مسلم[2].
هذا وعد الله، إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً [مريم: 61]، وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ مَفْعُولاً []، وَكَانَ وَعْدُ رَبّى حَقّاً [الكهف: 98]. هذا وعد الله، فَلَن يُخْلِفَ ٱللَّهُ عَهْدَهُ [البقرة: 80]، إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُخْلِفُ ٱلْمِيعَادَ [آل عمران: 9]، فَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ ذُو ٱنتِقَامٍ. هذا وعدُ الله، قُلْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَرِيبًا [الإسراء: 51].
[1] أخرجه أحمد (4/103)، والبيهقي (9/181)، وصححه الحاكم (4/430)، ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي في المجمع (6/14): "رجاله رجال الصحيح"، وصححه الألباني على شرط مسلم في تحذير الساجد (ص118-119).
1- ظروف الأمة العصيبة. 2- الصبر والرضا. 3- دعاء وابتهال. 4- هوان الأمّة. 5- ما نزل بلاء إلا بذنب. 6- ضرورة التوبة والرجوع إلى الله تعالى. 7- التحذير من المنافقين. 8- تنبيه الغافلين. 9- الموقف الصحيح عند الفتن. 10- الحثّ على الالتفاف حول العلماء. 11- ضرورة لزوم الجماعة. 12- المستقبل لهذا الدين.
الخطبة الأولى
أما بعد: فيا أيّها المسلمون، اتَّقوا الله فإنَّ تقواه خيرُ عاصمٍ من القواصم، وخيرُ مانعٍ من المصارع والقوامِع، يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران: 102].
أيّها المسلمون، تمرّ أمّتُكم بأيّامٍ عصيبَة وتداعيات أحداثٍ عاصِفة ومستجدّات قاصِفة. حروبٌ أطبقَت غيومُها وانتشرَت في الآفاق سمومُها. حروبٌ مضطرِمة وصراعَات محتدِمة، غامضةُ الابتِداء، مبهَمَة الانتِهاء، أثاروا نقعَها، واقتدَحوا نارَها، واستفتَحوا بابَها.
ولَو علِموا ما يُعقِب البغيُ قصَّروا ولكنَّهم لم يفكِّروا في العواقبِ
ولا يحيقُ المكر السيِّئ إلا بمن مَكَر، ولا يقَع في حفرتِه إلا مَن حفَر.
أقدارٌ مورودَة، وأقضيةٌ مسطورَة، لله في أسنائها الفَرَج القريب، وهو السّميع المجيب، لا يقابَل أمرُه إلا بالرّضا والصّبرِ على ما قضى، ولا يقابَل البلاء الجسيمُ إلا بالإيمان والتّسليم، والله بعبادِه لطيف، وفضلُه بهم مطيف.
أيّها المسلمون، تُلاقي أمتُكم أعتى المآسي وأدمَى المجازِر، فظائعَ دامِية، وجرائمِ عاتيَة، ونوازلَ عاثِرة، وجراحًا غائِرة، غُصَصًا تثير كوامِن الأشجَان، وتبعَث على الأسَى والأحزان، في كلِّ ناحيةٍ صوتُ منتِحِب، وفي كلّ شِبر باغٍ ومأفون ومغتصِب. لم يرحَموا شيخًا لضعف قدمِه وأوصالِه، ولا مريضًا لمرضِه وهُزالِه، ولا رَجلاً لأجلِ عيالِه، ولا طِفلاً لهوانِ حالِه، ولا امرأةً تبكي لعِظم المصاب وأهوالِه. سياساتٌ بلا عَدل، وهمجيَّةٌ بلا عَقل، وليسَ لنا ـ أيّها المسلمون ـ إذا أحاطت الحتوفُ ونزلَ الأمر المَخوف واشتدَّ الكرب وعظُم الخطب إلا الله جلّ في علاه، وقد كان رسولُ الهدى يدعو عندَ الكربِ بهذه الدعوات: ((لا إله إلا الله [العظيم الحليم]، لا إله إلا الله ربّ العرش العظيم، لا إله إلا الله ربّ السموات السّبع وربّ العرش الكريم))[1]. وحسبُنا الله ونِعم الوكيل، قالها إبراهيم عليه السلام حين أُلقي في النار، وقالها محمّد حينَ قالوا: إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَٱخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَـٰناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا ٱللَّهُ وَنِعْمَ ٱلْوَكِيلُ [آل عمران: 173][2].
فارفَعوا ـ أيّها المسلمون ـ أكفَّ الضّراعة، ارفَعوا أكفَّ الضراعة، وتوسّلوا إلى الله بألوانِ الطاعة، أن يرحمَ إخوانَكم المستضعفين المشرَّدين في كلّ مكان، ادعُوا دعاءَ الغريق في الدّجى، ادعُوا وأنتم صادقون في الرّجا، أن يجعلَ للمسلمين من كلِّ همّ فرجًا، ومن كلّ ضيقٍ مخرجًا.
اللهمّ أنت إلهُنا، وأنت ملاذُنا، وأنتَ عِياذنا، وعليك اتِّكالنا، اكشِف عنّا وعن المسلمين كلَّ بلاء، اصرِف عنّا وعن المسلمين كلَّ ضرّاء، ادفَع عنَّا وعن المسلمين كلَّ بأسَاء، احفَظ منّا ومن المسلمين الأعراضَ والدّمَاء، اللهمَ إليك نشكو ضعفَنا وهوانَنا على الناس، يا أرحم الراحمين، إلى من تكِلُنا؛ إلى عدوٍّ يتجهَّمنا، أم إلى باغ ملَّكتَه أمرَنا؟ إن لم تكن ساخطًا علينا فلا نُبالي، غيرَ أن عافيتَك أوسعُ لنا، نعوذ بنورِ وجهِك الذي أشرقَت له الظلمَات، وصلح عليه أمرُ الدّنيا والآخرة أن ينزلَ علينا غضبُك، أو يحلّ علينا سخطُك، لك العُتبَى حتّى ترضَى، ولا حولَ ولا قوّة إلا بِك.
أيّها المسلمون، إنَّ الأمَّة حين تخلَّت عن أمرِ الله صارت مهينةً مستكينَة، يطؤها الخفُّ والحافر، وينالُها الكافِر الماكر، وثِقت بمَن لا يفي بالعهود، وأسلمَت نفسَها للعدوّ اللدود، وتلَّت جبينَها لذابِحها، ومنحت رباطَها لخانقِها، على حسابِ دينها وأمنِها، وحاضرِها ومستقبلِها في عالَم الكذبِ والخِداع، والمكرِ والأطماع، حتّى باءت بالسُّخطتَين وذاقت الأمَرَّين، ولا ينفَع اليومَ بكاءٌ ولا عَويل، وليس الآنَ ثمَّةَ مخرجٌ لهذا الهوان إلا صدقُ اللجَأ إلى الله، فهو العظيم الذي لا أعظمَ منه، والعليّ الذي لا أعلى منه، والكبير الذي لا أكبرَ منه، والقادرُ الذي لا أقدرَ منه، والقويّ الذي لا أقوى منه، العظيمُ أبدًا حقًّا وصدقًا، لا يُعصَى كُرهًا، ولا يُخالَف أمرُه قهرًا.
أيّها المسلمون، ما أصابنا اليومَ إنّما هو بسبَب ذنوبِنا وإسرافِنا في أمرنا وما فعله السّفهاء منّا، فأظهِروا الحاجةَ والاضطرار، والمسكنةَ والافتقار، واصدُقوا في التّوبة والاعتذار، وأكثِروا من الدعاء والاستغفَار، واجتنِبوا مواردَ الخسار ومشارعَ البوار، فما نزل بلاءٌ إلا بذنبٍ، ولا رُفع إلا بتوبة.
يا أمّة محمّد ، آن للمنكرَات أن تُنكَر، آنَ لقنَوات الخزيِ أن تُمنَع وتُكسَر، آنَ للرّبا أن يُهجَر، آنَ للأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر أن يَظهَر، آنَ لبلادِ الإسلام أن تتطهَّر، آن لدين الله أن يُنصَر، آنَ للأمّة أن تتذكَّر قولَ سيِّد البشر محمّد : ((من التمَسَ رضا الله بسخطِ النّاس رضي الله عنه وأرضى عنه الناسَ، ومن التَمس رضا الناسِ بسخَط الله سخِط الله عنه وأسخطَ عليهِ الناس))، وفي لفظٍ: ((من أرضى اللهَ بسخط النّاس كفاه الله، ومن أسخطَ الله برضا النّاس وكله الله إلى النّاس))[3]، وقولَه عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام: ((احفَظِ اللهَ يحفظْك، احفَظِ الله تجدْه تجاهَك، إذا سألتَ فاسألِ الله، وإذا استعنتَ فاستعِن بالله، واعلَم أنَّ الأمّةَ لو اجتمَعت على أن ينفعوك بشيءٍ لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضرّوك بشيء لم يضرّوك إلا بشيء قد كتَبَه الله عليك، رُفِعت الأقلامُ وجفّت الصّحُف))[4]، وفي روايَة: ((احفَظِ اللهَ تجِدْه أمامَك، تعرَّف إلى الله في الرّخاء يعرِفْك في الشّدّة))[5].
وعلى الأمّة أن تحذَر في هذا الوقتِ كلَّ ناعق ومنافقٍ ممَّن لا تؤمَن غوائلهم، ولا تَقِف مكائِدهم، الذين أزكَموا الأنوفَ بنَتَن هذيانِهم وعفَن أباطيلهم وخطراتهم، التي ضرَّت وجرَّت على الأمّة من الويلات والنّكبات ما جرّت، سيماهم التّرامُز وديدنُهم التغامُز، ينادون بالانفِتاح، ويسعَون إلى تغريب الأمّة، وجوهٌ كالحَة، ونواصِي كاذِبة، وأفكارٌ خاطِئة، تُثير البلبلَة، وتخلُق الخَلخَلة، وتزرَع بُذور الفُرقة في وقتٍ نحتاج فيه إلى اجتماعِ الكلمَة ووَحدة الصّفِّ والتّعاضُد والتّساند.
أيّها المسلمون، إنَّ ممَّا يُذيب القلبَ كمدًا ويعتصِر له الفؤادُ ألمًا أن ترى بعضَ المسلمين، ونحن في هذه الأحداثِ المؤلِمة، وهم في غفلةٍ معرِضون، لاهيةً قلوبُهم يلعبون، نرى صوَرًا مريضَة شائِهة، ونفوسًا تائهة، تلهو في أحلكِ الظّروف، وتمرَح في أخطرِ المواقف، وتهزَل في مواطِن الصّرامة، وتلعَب في زمَن البلاءِ والبأساء والضّرّاء. غفلةٌ عن النّذر، وإعراضٌ عن التّذكِرة، وأمنٌ مِن مكرِ الله عزّ وجلّ، وحَيدٌ عن حالِ المصطفى ، تقول عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله إذا رأى غيمًا أو ريحًا عُرِف ذلك في وجهه، فقلت: يا رسول الله، أرى الناسَ إذا رأَوا الغيمَ فرِحوا رجاءَ أن يكونَ فيه المطَر، وأراكَ إذا رأيتَه عرفتُ في وجهِك الكراهيةَ!! فقال: ((يا عائشة، ما يؤمِّنُني أن يكونَ فيه عذاب، قد عُذِّب قومٌ بالريح، وقد رأى قومٌ العذابَ فقالوا: هذا عارضٌ ممطِرنا)) أخرجه مسلم[6]، وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: انكسَفَتِ الشمس يومًا على عهد رسول ، فقام رسول الله يصلّي حتّى لم يكَد يركَع، ثمّ ركع فلَم يكَد يرفَعُ رأسَه، ثمَ رفع رأسَه فلَم يكَد أن يسجُد، ثمّ سجَد فلَم يكَد أن يرفَع رأسَه، ثمّ رفَع رأسَه فلم يكد أن يسجُد، ثمّ سجَد فلم يكَد أن يرفَعَ رأسَه، فجعل ينفُخ ويبكِي صلوات الله وسلامه عليه ويقول: ((ربِّ، ألم تعِدني أن لا تعذِّبَهم وأنا فيهم؟! ربِّ، ألم تعِدنِي أن لا تعذِّبَهم وهم يستغفرون؟! ونحن نستغفرك)) متفق عليه[7].
هكذا كان حالُ المصطفى ، فما للعيون ناظرةٌ ولا تُبصر؟! ما للقلوب قاسية ولا تفكِّر؟! ما للنّفوس ناسيَة ولا تذكُر؟! أغراها إنظارُها وإمهالُها، أم بشَّرها بالنجاة أعمالُها، أم شملت الغفلة فاستحكَم على القلوب أقفالُها؟!
فتذكَّروا ـ يا عباد الله ـ عذابَ الله ووقائعَه في الأمَم، وتذكَّروا شدّة نقمتِه إذا انتقَم، وحاذِروا زوالَ ما أنتم فيه من النّعم.
أيّها المسلمون، ابتعِدوا عن مُلتَطَم الغوائِل، وآثِروا السلامة عند الفتَن والنوازِل، واسلُكوا المسالِك الرّشيدة، وقِفوا المواقفَ السّديدة، وراعوا المصالِح، انظُروا في المناجِح، ووازِنوا بين حسنات ما يُدفَع وسيّئات ما يقع ويتوقَّع، وارتادُوا الأنفَعَ والأنجَع، واحقِنوا الدّماء في أهبِها، وإِدُوا الفتنةَ في مهدِها، فالفتنة راتِعة تطأ في خطامِها، من أخذ به وطئَته، ومن فتح بابَها صرعَته، ومن أدار راحتَها أهلكَته، يقول رسول الهدى : ((ليس من نفسٍ تُقتل ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأوّل كفلٌ منها)) أخرجه البخاري[8]، قال سفيان رحمه الله: "لأنّه أوّلُ من سنَّ القتلَ"[9]. ويقول عليه الصلاة والسلام: ((لا ترجِعوا بعدِي كُفّارًا يضرِب بعضُكم رقابَ بعض)) أخرجه مسلم[10].
فقودوا أنفسَكم بزِمام العِلم، وأكبِحوها بلِجام الصّبر، واحذَروا ركوبَ مَتن اللّجاج ومَركب التّهارُج حوطةً على الأمّة أن تُسفَك دماؤها أو يَتخرَّق أمرُها إلى ما لا يتحصَّل معه إلا شتاتُ الكلمة وشماتةُ العدوّ، واعلموا أنَّ رسول الله قال: ((لا يرمي رجلٌ رجلاً بالفسوق ولا يرميه بالكفر إلا ارتدّت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك)) متفق عليه[11]، وفي لفظ لمسلم: ((أو قال: عدوّ الله وليس كذلك إلا حار عليه))[12].
أيّها المسلمون، إنّ معاصات الأمور وعظائمَها لا يدرك معانيها ومغازيها ويسبُر ما فيها ويعترِيها إلا عالمٌ ذو فِطنة وكياسة، والعلماء أحرصُ الناس على حفظِ البَيضة وصيانة الحَوزة، وهم قدوةُ الأنام وأسوَة الإسلام، لا يأخذهم في الله عذلٌ وملام، ولا يؤثِرون على الحقّ أحدًا، ولا يجِدون من دونِه ملتَحدًا، فخُذوا منهم الرأيَ والمشورَة فهم أسلمُ الناس فِكرًا وأمكنُهم نظرًا.
أيّها المسلمون، إنَّ أقربَ المسالك الحاميةِ بإذن الله من المهالك ودارئةِ الأخطار ودافعة الأضرار التي تمتدّ إليها بصيرةُ الفطِن لزوم جماعةِ المسلمين وإمامِهم، والصدور عن أئمّتهم وعلمائهم، بَيدَ أنّه من المعلوم بالاضطرار أنّه لا طاعةَ لمخلوقٍ في معصية الخالق، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((الطاعة على المرء المسلمِ فيما أحبَّ وكرِه، ما لم يُؤمر بمعصية، فإذا أمِر بمعصيةٍ فلا سمع ولا طاعة)) متفق عليه[13].
فاحذَروا سلَّ الأيدي عن رِبقة الطَاعة، ومخالفةَ الجماعة، والمستعينُ بالله موفَّق، والمتبرِّي عن حولِه وقوّته بالصواب مستنطَق.
جعلني الله وإيّاكم من الهداة المهتدين المتّبعين لسنّة سيّد المرسلين، أقول ما تسمعون، وأستغفِر اللهَ لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في التوحيد (7426)، ومسلم في الدعاء (2730) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
[2] أخرجه البخاري في التفسير (4563) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
[3] أخرجه ابن المبارك في الزهد (199)، ومن طريقه الترمذي في الزهد (2414) عن رجل من أهل المدينة عن عائشة رضي الله عنها، وصححه ابن حبان (276)، والألباني في صحيح الترغيب (2250)، ثم أخرجه الترمذي عقب المرفوع من طريق آخر عنها موقوفًا، ورجح الوقف أبو حاتم وأبو زرعة كما في العلل لابن أبي حاتم (2/103).
[4] أخرجه أحمد (1/ 293)، والترمذي في صفة القيامة (2516) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وقال: "حديث حسن صحيح"، وصححه الحاكم (3/ 541-542)، والضياء المقدسي في المخارة (10/25)، وقال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/ 460-461): "روي هذا الحديث عن ابن عباس من طرق كثيرة... وأصح الطرق الطريق التي أخرجها الترمذي"، وصححه الألباني في صحيح السنن (2043).
[5] هذه الرواية أخرجها أحمد (1/307)، والحاكم (3/623)، والضياء في المختارة (10/24)، وصححها القرطبي في تفسيره (6/398).
[6] أخرجه مسلم في الاستسقاء (899)، وهو أيضا عند البخاري في التفسير (4829).
[7] أخرجه أبو داود في الصلاة (1194)، والنسائي في الكسوف (1496). وأصله في البخاري في الجمعة (1045)، ومسلم في الكسوف (910) مختصرا.
[8] أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء (3336)، وهو أيضا عند مسلم في القسامة (1677) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
[9] هذا من تمام الحديث المرفوع.
[10] أخرجه مسلم في الإيمان (65، 66) من حديث جرير رضي الله عنه، وهو أيضا عند البخاري في العلم (121). وثبت أيضا من طريق ابن عمر وابن عباس وأبي بكرة رضي الله عنهم، وكلها في الصحيح.
[11] أخرجه البخاري في الأدب (6045) واللفظ له، ومسلم في الإيمان (61) من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
[12] أخرجه مسلم في الإيمان (61).
[13] أخرجه البخاري في الأحكام (7144)، ومسلم في الإمارة (1839).
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشّكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فيا أيها المسلمون، اتّقوا الله وراقِبوه، وأطيعوه ولا تعصوه، يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَـٰلَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب: 70، 71].
أيها المحزونُ لهذه الأمّة، أيّها المكلوم لهذه الغمّة، مهما حاولَ أعداءُ الإسلام ومهما سعَوا من إنزال أنواعِ الفشَل وألوان الشلل بالإسلام والمسلمين، فلن يستطيعوا أن يطفِئوا نورَ الله، يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفْوٰهِهِمْ وَٱللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْكَـٰفِرُونَ [الصف: 8]، وعن تميم الداري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((ليبلغَنَّ هذا الأمرُ ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيتَ مدَرٍ ولا وبَر إلا أدخله الله هذا الدينَ، بعزِّ عزيزٍ أو بذلّ ذليل، عزًا يعزُّ الله به الإسلامَ، وذلاّ يذلّ الله به الكفر)) أخرجه أحمد[1]، وعن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إنَّ الله زوى ليَ الأرض، فرأيتُ مشارقَها ومغاربها، وإنَّ أمّتي سيبلغ ملكُها ما زُوِي لي منها)) أخرجه مسلم[2].
هذا وعد الله، إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً [مريم: 61]، وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ مَفْعُولاً []، وَكَانَ وَعْدُ رَبّى حَقّاً [الكهف: 98]. هذا وعد الله، فَلَن يُخْلِفَ ٱللَّهُ عَهْدَهُ [البقرة: 80]، إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُخْلِفُ ٱلْمِيعَادَ [آل عمران: 9]، فَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ ذُو ٱنتِقَامٍ. هذا وعدُ الله، قُلْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَرِيبًا [الإسراء: 51].
[1] أخرجه أحمد (4/103)، والبيهقي (9/181)، وصححه الحاكم (4/430)، ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي في المجمع (6/14): "رجاله رجال الصحيح"، وصححه الألباني على شرط مسلم في تحذير الساجد (ص118-119).
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى