عبد الرحمن
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
ملخص الخطبة
1- أعظم الحسنات وأعظم السيئات. 2- شِرذمة الخوارج. 3- أمن بلاد الحرمين. 4- سوء عاقبة المجرمين. 5- جرائم الفئة الضالة. 6- نداء للخوارج. 7- ضرورة معرفة الحقّ من الباطل. 8- مفاسد فتنة الخوارج. 9- فضل رجال الأمن.
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فاتقوا الله عبادَ الله، فتقوَى الله أعظمُ ركنٍ يستنِد إليه في الدنيا العبادُ، وهي الزادُ ليوم المعاد.
أيها المسلمون، إنَّ أعظمَ الحسناتِ ما نفَع صاحبَه وتعدَّى نفعُه للخَلق، كتوحيدِ الله تعالى وأركان الإسلام، وإنَّ أكبرَ الذنوبِ والسيّئات ما عظُم ضرَرُه واستطار شرَرُه وعمَّ شرُّه وتضرَّر به البلادُ والعباد وأفسد الحياةَ ودمَّر الدين والدنيا، كالشرك بالله تعالى وقتلِ النفوس التي حرَّم الله وغير ذلك من كبائرِ الذّنوب والآثام، قال الله تعالى: وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [الرعد:25].
وإنَّ هذه البلادَ ـ ولله الحمد ـ كانت آمنةً مطمئنّة بإسلامها السّمح، وما زالت ـ ولله الحمد ـ آمنةً مطمئنّة بدينها الإسلاميّ وأخلاقها الفُضلَى وشريعتها السّمحاء، ولكنه كدَّر صفوَ قلوبِ الغيورين على الدين وعلى البلادِ ومصالحها فئةٌ ضلَّت في فهمها، وتخبَّطت في آرائها، وخالفت القرآنَ والسنّة بجُرمها، وخرجت على وليِّ الأمر الذي أوجبَ الله طاعتَه، وشقَّت عصَا الطاعة، وخالفت المسلمين، وعاثَت هذه الشِّرذمة في الأرض فسادًا، فقتلت رجالَ الأمن المسلمين، وقتَلت من المواطنين الآمنين، وقتلتِ المستأمَنين من غير المسلمين الذين حرَّم اللهُ قتلَهم، وأتلفتِ الأموالَ المعصومة، وعثت فئةُ هؤلاء الخوارج بأعمالٍ تخريبيّة ومدمِّرة وغادرة، هي غايةٌ في القبح والشناعةِ والعياذ بالله، يحاربُها الإسلام أشدَّ المحاربةِ، ويتبرَّأ منها، كفَرت هذه الفئةُ بنعمة الأمنِ الذي يتحقَّق الدينُ في ظلِّه كما قال تعالى: فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103]، وقال تعالى في الحج: فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ [البقرة:196]، وفي الحديثِ عن النبيّ : ((من أصبَح آمنًا في سِربهُ معافًى في بدنهِ عنده قوتُ يومِه فكأنما حيزَت له الدنيا بحذافيرها))[1]، وحتى الجنّة لا يطيب عيشُها إلا بالأمنِ، قال الله تعالى: ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ [الحجر:46]، ومصالحُ العباد كلُّها مرتبطة بالأمن.
وإنّ أمنَ هذه البلاد ـ ولله الحمد ـ راسخُ البنيان عميقُ الجذور، لا يهزُّه كيدُ المفسدين والمرجفين؛ لأنَّ هذه الأعمالَ الشنيعة والأفعالَ التخريبيّة وإزهاقَ الأرواح المعصومةِ تتوفَّر الدواعي والأسبابُ والهِمم لمحاصَرة الفسادِ وأهلِه وإطفاء نار هذه الفتنةِ المدمِّرة، والولاةُ والعلماءُ والمواطنون هنا يقِفون في خندقٍ واحد ضدَّ كلِّ فِكرٍ منحرف يهدِّد دينَ الأمة ومصالحَها واستقرارَها.
ومِن سنَّةِ الله ورحمتِه أنَّ الذنوبَ والجرائمَ العظام يُهيِّئ الله لها من شَرعِه وقدَره ما يَقضي عليها ويوقف أصحابها عند حدِّهم، مثل القصاص للقاتلَ وقطع يدِ السارق، ومثل ما ذكر الله تعالى في قوله عزّ وجلّ: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنْ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [المائدة:33]. وإذا سلِم المجرمُ من عقوبةِ الشرع فإنه لا ينجُو من عقوبةِ القدَر أبدًا، قال : ((إنَّ الله ليُملِي للظالم حتى إذا أخَذَه لم يُفلته))[2].
والأفعالُ التي يقومُ بها هؤلاءِ الخوارجُ جرائمُ وكبائر متعدِّدة والعياذ بالله، منها قتلُ المسلم، والله تعالى يقول: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]، وعن ابن عُمَرَ رضي الله عنهما أن النبي قال: ((لن يزالَ المؤمِن في فُسحةٍ من دينه ما لم يصِب دمًا حرامًا)) رواه البخاري[3]، وعن بريدةَ قال: قال رسولُ الله : ((قَتلُ المؤمن أعظمُ عند الله من زوال الدنيا)) رواه النسائي[4]، وعن أبي هريرةَ قال: قال رسول الله : ((لو أنَّ أهلَ السماءِ وأهلَ الأرض اشتركوا في دمِ مؤمنٍ لأكبَّهم الله في النار)) رواه الترمذي[5].
ومنها قتلُ المستأمَن الذي حرَّم الله دمَه ومالَه، قال الله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ [الأنعام:151]، وفي الحديثِ عن النبيّ : ((من قَتَل معاهدًا لم يرح رائحةَ الجنة))[6].
ومِن الجرائم العظامِ الخطفُ للمستأمَنين غير المسلمين واغتيالُهم، وهو خيانةٌ وغدْر ودناءَة ومهانَة يعاقِب الله على ذلك عقابًا شديدًا، قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ [الأنفال:58]، وقال تعالى: وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا [النساء:105]، والرسولُ يقول: ((اللهمَّ إني أعوذُ بكَ من الخيانةِ فإنها بِئستِ البطانة))[7]، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسولُ الله : ((إنّ الغادرَ ينصَب له لواءٌ يومَ القيامةِ فيقال: هذهِ غَدرةُ فلان بنِ فلان)) رواه البخاريّ ومسلم[8]، وعن أبي سعيدٍ الخدريّ قال: قال رسول الله : ((لكلِّ غادِر لواءٌ عند استِه يومَ القيامة)) رواه مسلم[9]. وهذه عقوبةُ الفضيحةِ على رُؤوس الأشهاد، وعذابُ النارِ أشدّ. وغيرُ المسلم لو أمَّنه أيُّ واحدٍ من المسلمين ولو امرأة لا يحلُّ ولا يجوز لأحدٍ أن يقتلَه أو يأخذَ ماله أو يخطِفه أو يؤذيه، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه قال: قال رسول الله : ((المسلمون تتكافَأ دماؤهم، ويسعى بذمَّتهم أدناهم، ويجيرُ عليهم أقصَاهم، وهُم يدٌ على مَن سِواهم)) رواه أبو داود[10]، ولقوله : ((أجَرنا من أجرتِ يا أمَّ هانئ))[11]، فكيف بمن أمَّنه الإمام أو أحدُ عُمّاله؟!
ألا فليفقهِ الخوارجُ هذه النصوصَ، وليسألوا أهلَ العلم، وليتّقوا الله في دينهم ومجتمَعهم وأنفسهم وذويهم، وليتفكَّروا: هل همُ على صوابٍ وأهلُ العلم على خطأ؟! وليتوبوا إلى الله قبلَ موتِهم على مشاقَّة الله ورسوله والمؤمنين.
ومن جرائمِ هذه الأعمالِ الإرهابيّة التخريبية جريمةُ قتل النفس، وقد توعَّد الله من قتل نفسَه بقوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا [النساء:29، 30]، وعن أبي هريرةَ قال: قال رسول الله : ((من تردَّى من جبلٍ فقَتَل نفسَه فهو في نار جهنّم يتردَّى فيها خالدًا مخلَّدًا أبدًا، ومن تحسَّى سُمًّا فقتل نفسَه فسمُّه في يدِه يتحسَّاه في نار جهنّم خالدًا مخلّدًا فيها أبدًا، ومَن قتَل نفسَه بحديدةٍ فحديدتُه في يده يتوجَّأ بها في بطنِه في نار جهنَّم خالدًا مخلَّدًا فيها أبدًا)) رواه البخاري ومسلم[12].
يا مَن سوَّل له شيطانُه وزيَّنت له نفسُه الأمّارةُ بالسوءِ الخروجَ عن الجماعةِ، أطِع وليَّ أمرك، والزم جماعةَ المسلمين، عن معاذٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إنَّ الشيطانَ ذِئبُ الإنسان، كذئبِ الغنَم، يأخذُ الشاةَ القاصِية والناحية، فإيّاكم والشِّعاب، وعليكم بالجماعة والعامَّة والمسجد)) رواه أحمد والطبراني[13].
وإنِّي أسأل هؤلاء الخوارجَ إذا أتَوا للحرمين: هل يصلّون وراءَ الإمام في الحرمَين؟ فإن كانوا يصلّون وراءَه فقد أصَابوا ويلزمُهم أن يقبَلوا قولَه المؤيَّد بالأدلة على بطلانِ فكرِهم وطريقتِهم التخريبيّة المنحرِفة، وإن كانوا لا يرَون الصلاةَ وراءَ الإمام في الحرمين فقد بانَ كالشّمس ضلالهم، حيث ظنّوا أنّ صلاةَ الملايين في الحرمين مردُودة وصلاتَهم مقبولة، وحيث ظنّوا أنّ الجنةَ لهذه الشّرذمة وبقيّةُ المسلمين محرومون.
قال الله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران:7، 8].
بارك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآياتِ والذكر الحكيم، ونفعنا بهديِ سيّد المرسلين وبقوله القويم، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيمَ الجليل لي ولكم، واستغفِروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الأدب المفرد (300)، والترمذي في كتاب الزهد، باب: التوكل على الله (2346)، وابن ماجه في كتاب الزهد، باب: القناعة (4141)، والحميدي في مسنده (439) من حديث عبيد الله بن محصن الأنصاري رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن غريب"، وله شواهد من حديث أبي الدرداء وابن عمر وعلي رضي الله عنهم. انظر: السلسلة الصحيحة للألباني (2318).
[2] أخرجه البخاري في التفسير (4686)، ومسلم في البر (2583) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
[3] صحيح البخاري: كتاب الديات (6862).
[4] سنن النسائي: كتاب تحريم الدم (3990) عن بريدة رضي الله عنه، وأخرجه البيهقي في الشعب (4/345)، وصححه ابن الملقن في خلاصة البدر المنير (2/261)، وهو في صحيح الترغيب (2440)، وانظر: غاية المرام (439). وفي الباب عن سعد وابن عباس وأبي سعيد وأبي هريرة وعقبة بن عامر وابن مسعود وعبد الله بن عمرو رضي الله عنهم.
[5] سنن الترمذي: كتاب الديات (1398) عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما، وقال: "حديث غريب"، وقال ابن كثير في إرشاد الفقيه (2/258): "في إسناده يزيد الرقاشي عن أبي الحكم وهو عبد الرحمن بن أبي نعم عنهما، ويزيد ضعيف جدّا، ولكن هذه الأخبار يشد بعضها بعضا "، ولذا صححه الألباني في صحيح الترغيب (2438، 2442).
[6] أخرجه البخاري في الجزية (3166) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
[7] أخرجه أبو داود في الصلاة (1547)، والنسائي في الاستعاذة (5468، 5469)، وابن ماجه في الأطعمة (3354) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (1029)، والنووي في رياض الصالحين (ص472)، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (3002).
[8] صحيح البخاري: كتاب الأدب (6178)، صحيح مسلم: كتاب الجهاد (1735).
[9] صحيح مسلم: كتاب الجهاد (1738).
[10] سنن أبي داود: كتاب الجهاد (2751)، وأخرجه أحمد (2/215)، وابن ماجه في الديات (2685)، وصححه ابن الجارود (771، 1073)، وكذا الألباني في الإرواء (2208).
[11] أخرجه البخاري في الجزية (3171)، ومسلم في صلاة المسافرين (336) عن أم هانئ رضي الله عنها.
[12] صحيح البخاري: كتاب الطب (5778)، صحيح مسلم: كتاب الإيمان (109).
[13] مسند أحمد (5/232، 243)، معجم الطبراني الكبير (20/164)، وأخرجه أيضا الحارث بن أبي أسامة في مسنده (606 ـ بغية الباحث ـ)، وأبو نعيم في الحلية (2/247)، والبيهقي في الشعب (3/57)، وحكم عليه العراقي في تخريج الإحياء (2/281) المنذري في الترغيب (1/138) والهيثمي في المجمع (2/23) بالانقطاع، وهو في ضعيف الترغيب (206).
الخطبة الثانية
الحمدُ لله المعزِّ لمن أطاعَه واتقاه، والمذِلِّ لمن خالف أمرَه وعصاه، أحمدُ ربِّي وأشكره على ما أولاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له لا إلهَ سواه، وأشهد أنّ نبيّنا وسيِّدنا محمّدًا عبده ورسوله اصطفاه ربّه واجتباه، اللهمِّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فاتّقوا الله حقَّ التقوى، وتمسَّكوا من الإسلام بالعُروة الوثقى.
أيّها المسلمون، اعرِفوا الحقَّ تعرِفُوا أهلَه، فإنّ الرجال يُعرَفون بالحقّ، ولا يُعرَف الحقُّ بالرجال، واعرفوا الباطلَ تعرِفوا أهلَه، وإنكم قد ابتُليَت بلادُكم بفتنةِ الخوارج التي تهدِّد دينَكم، وتهدِّد مصالحَ بلادكم واستقرارَكم وأمنكم، وتحصُدُ رجالَ الأمنِ السَّاهرين على بلادِ الحرمين والمتفانين في خدمةِ الحُجَّاج والمعتمرين والزائرين، والذين هم في خدمةِ دينهم ووطنِهم، وتحصُد المسلمين والمستأمَنين، وتروِّع الآمنين، وإنها فتنةٌ لا تخدم إلا أعداء الإسلام وأعداءَ هذه البلاد، فكونوا كلُّكم جنودًا لإطفاء هذه الفتنة، قال الله تعالى: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [المائدة:2]، وقال تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران:103].
ولو تصوَّرتم ما يترتَّب على هذهِ الفتنةِ من المفاسدِ لما استبقَيتُم أيَّ جُهدٍ في إخمادِها، ولو تفكَّر موقِدو نار هذه الفتنةِ في مفاسدِها وعواقبها وأداموا النظرَ في ذلك لأسرَعُوا بالتوبةِ إلى الله، وكَشَفوا تفاصيلَ هذه المؤامرة، ودلُّوا على أصحابها لكفِّ الشرِّ عن الإسلامِ والمسلمين، فقد أضَرّت هذه الفتنةُ بالإسلام والمسلمين، وأشمَت أصحابُها بالإسلامِ والمسلمين أعداءَهم، فهم يريدون أن يكونَ بأسُ المسلمين بينهم، وأن يُضرَب اقتصادُ المسلمين ومصالحُهم، وأن يزَعزَعَ أمنُ بلادِ المسلمين، ولكن هل يفقه أهلُ الفتن؟ قال الله تعالى: وَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [المائدة:41].
وإنَّ ما يقومُ بهِ رجالُ الأمنِ مِن اقتحامِ المخاطِر والدّفاع عن الدّين ومصالحِ البلاد لممَّا يوجِب لهم الثناءَ والدعاء، فليحتسِبهم المجتمعُ شهداءَ عند الله تعالى بمنِّه وكرَمه لوقوفهم ضدَّ هذا الخطَر الداهِم الذي يعمُّ ضررُه كلَّ أحدٍ، قال الله تعالى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال:25].
وأعِظُ نفسي وإياكم بقولِ رسول الله : ((أوصيكم بتقوَى الله والسمع والطاعة وإن تأمَّر عليكم عبدٌ، فإنّه مَن يعِش منكم فسيَرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنّتي وسنةِ الخلفاء الراشدين المهديّين، عضّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثاتِ الأمور، فإنَّ كلَّ بدعة ضلالة))[1].
عبادَ الله، إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وقد قال : ((من صلَّى عليّ صلاةً واحدة صلى الله عليه بها عشرًا)).
فصلُّوا وسلِّموا على سيد الأولين والآخرين وإمام المرسلين.
اللهم صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد...
[1] أخرجه أحمد (4/126-127)، وأبو داود في السنة (4607)، والترمذي في العلم (2676)، وابن ماجه في المقدمة (46)، والدارمي في مقدمة سننه (95) عن العرباض بن سارية رضي الله عنه، قال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (1/179)، والحاكم (1/95-96)، ووافقه الذهبي، ونقل ابن رجب في جامع العلوم والحكم (2/109) عن أبي نعيم أنه قال: "هو حديث جيد من صحيح حديث الشاميين"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (37).
1- أعظم الحسنات وأعظم السيئات. 2- شِرذمة الخوارج. 3- أمن بلاد الحرمين. 4- سوء عاقبة المجرمين. 5- جرائم الفئة الضالة. 6- نداء للخوارج. 7- ضرورة معرفة الحقّ من الباطل. 8- مفاسد فتنة الخوارج. 9- فضل رجال الأمن.
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فاتقوا الله عبادَ الله، فتقوَى الله أعظمُ ركنٍ يستنِد إليه في الدنيا العبادُ، وهي الزادُ ليوم المعاد.
أيها المسلمون، إنَّ أعظمَ الحسناتِ ما نفَع صاحبَه وتعدَّى نفعُه للخَلق، كتوحيدِ الله تعالى وأركان الإسلام، وإنَّ أكبرَ الذنوبِ والسيّئات ما عظُم ضرَرُه واستطار شرَرُه وعمَّ شرُّه وتضرَّر به البلادُ والعباد وأفسد الحياةَ ودمَّر الدين والدنيا، كالشرك بالله تعالى وقتلِ النفوس التي حرَّم الله وغير ذلك من كبائرِ الذّنوب والآثام، قال الله تعالى: وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [الرعد:25].
وإنَّ هذه البلادَ ـ ولله الحمد ـ كانت آمنةً مطمئنّة بإسلامها السّمح، وما زالت ـ ولله الحمد ـ آمنةً مطمئنّة بدينها الإسلاميّ وأخلاقها الفُضلَى وشريعتها السّمحاء، ولكنه كدَّر صفوَ قلوبِ الغيورين على الدين وعلى البلادِ ومصالحها فئةٌ ضلَّت في فهمها، وتخبَّطت في آرائها، وخالفت القرآنَ والسنّة بجُرمها، وخرجت على وليِّ الأمر الذي أوجبَ الله طاعتَه، وشقَّت عصَا الطاعة، وخالفت المسلمين، وعاثَت هذه الشِّرذمة في الأرض فسادًا، فقتلت رجالَ الأمن المسلمين، وقتَلت من المواطنين الآمنين، وقتلتِ المستأمَنين من غير المسلمين الذين حرَّم اللهُ قتلَهم، وأتلفتِ الأموالَ المعصومة، وعثت فئةُ هؤلاء الخوارج بأعمالٍ تخريبيّة ومدمِّرة وغادرة، هي غايةٌ في القبح والشناعةِ والعياذ بالله، يحاربُها الإسلام أشدَّ المحاربةِ، ويتبرَّأ منها، كفَرت هذه الفئةُ بنعمة الأمنِ الذي يتحقَّق الدينُ في ظلِّه كما قال تعالى: فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103]، وقال تعالى في الحج: فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ [البقرة:196]، وفي الحديثِ عن النبيّ : ((من أصبَح آمنًا في سِربهُ معافًى في بدنهِ عنده قوتُ يومِه فكأنما حيزَت له الدنيا بحذافيرها))[1]، وحتى الجنّة لا يطيب عيشُها إلا بالأمنِ، قال الله تعالى: ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ [الحجر:46]، ومصالحُ العباد كلُّها مرتبطة بالأمن.
وإنّ أمنَ هذه البلاد ـ ولله الحمد ـ راسخُ البنيان عميقُ الجذور، لا يهزُّه كيدُ المفسدين والمرجفين؛ لأنَّ هذه الأعمالَ الشنيعة والأفعالَ التخريبيّة وإزهاقَ الأرواح المعصومةِ تتوفَّر الدواعي والأسبابُ والهِمم لمحاصَرة الفسادِ وأهلِه وإطفاء نار هذه الفتنةِ المدمِّرة، والولاةُ والعلماءُ والمواطنون هنا يقِفون في خندقٍ واحد ضدَّ كلِّ فِكرٍ منحرف يهدِّد دينَ الأمة ومصالحَها واستقرارَها.
ومِن سنَّةِ الله ورحمتِه أنَّ الذنوبَ والجرائمَ العظام يُهيِّئ الله لها من شَرعِه وقدَره ما يَقضي عليها ويوقف أصحابها عند حدِّهم، مثل القصاص للقاتلَ وقطع يدِ السارق، ومثل ما ذكر الله تعالى في قوله عزّ وجلّ: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنْ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [المائدة:33]. وإذا سلِم المجرمُ من عقوبةِ الشرع فإنه لا ينجُو من عقوبةِ القدَر أبدًا، قال : ((إنَّ الله ليُملِي للظالم حتى إذا أخَذَه لم يُفلته))[2].
والأفعالُ التي يقومُ بها هؤلاءِ الخوارجُ جرائمُ وكبائر متعدِّدة والعياذ بالله، منها قتلُ المسلم، والله تعالى يقول: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]، وعن ابن عُمَرَ رضي الله عنهما أن النبي قال: ((لن يزالَ المؤمِن في فُسحةٍ من دينه ما لم يصِب دمًا حرامًا)) رواه البخاري[3]، وعن بريدةَ قال: قال رسولُ الله : ((قَتلُ المؤمن أعظمُ عند الله من زوال الدنيا)) رواه النسائي[4]، وعن أبي هريرةَ قال: قال رسول الله : ((لو أنَّ أهلَ السماءِ وأهلَ الأرض اشتركوا في دمِ مؤمنٍ لأكبَّهم الله في النار)) رواه الترمذي[5].
ومنها قتلُ المستأمَن الذي حرَّم الله دمَه ومالَه، قال الله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ [الأنعام:151]، وفي الحديثِ عن النبيّ : ((من قَتَل معاهدًا لم يرح رائحةَ الجنة))[6].
ومِن الجرائم العظامِ الخطفُ للمستأمَنين غير المسلمين واغتيالُهم، وهو خيانةٌ وغدْر ودناءَة ومهانَة يعاقِب الله على ذلك عقابًا شديدًا، قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ [الأنفال:58]، وقال تعالى: وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا [النساء:105]، والرسولُ يقول: ((اللهمَّ إني أعوذُ بكَ من الخيانةِ فإنها بِئستِ البطانة))[7]، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسولُ الله : ((إنّ الغادرَ ينصَب له لواءٌ يومَ القيامةِ فيقال: هذهِ غَدرةُ فلان بنِ فلان)) رواه البخاريّ ومسلم[8]، وعن أبي سعيدٍ الخدريّ قال: قال رسول الله : ((لكلِّ غادِر لواءٌ عند استِه يومَ القيامة)) رواه مسلم[9]. وهذه عقوبةُ الفضيحةِ على رُؤوس الأشهاد، وعذابُ النارِ أشدّ. وغيرُ المسلم لو أمَّنه أيُّ واحدٍ من المسلمين ولو امرأة لا يحلُّ ولا يجوز لأحدٍ أن يقتلَه أو يأخذَ ماله أو يخطِفه أو يؤذيه، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه قال: قال رسول الله : ((المسلمون تتكافَأ دماؤهم، ويسعى بذمَّتهم أدناهم، ويجيرُ عليهم أقصَاهم، وهُم يدٌ على مَن سِواهم)) رواه أبو داود[10]، ولقوله : ((أجَرنا من أجرتِ يا أمَّ هانئ))[11]، فكيف بمن أمَّنه الإمام أو أحدُ عُمّاله؟!
ألا فليفقهِ الخوارجُ هذه النصوصَ، وليسألوا أهلَ العلم، وليتّقوا الله في دينهم ومجتمَعهم وأنفسهم وذويهم، وليتفكَّروا: هل همُ على صوابٍ وأهلُ العلم على خطأ؟! وليتوبوا إلى الله قبلَ موتِهم على مشاقَّة الله ورسوله والمؤمنين.
ومن جرائمِ هذه الأعمالِ الإرهابيّة التخريبية جريمةُ قتل النفس، وقد توعَّد الله من قتل نفسَه بقوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا [النساء:29، 30]، وعن أبي هريرةَ قال: قال رسول الله : ((من تردَّى من جبلٍ فقَتَل نفسَه فهو في نار جهنّم يتردَّى فيها خالدًا مخلَّدًا أبدًا، ومن تحسَّى سُمًّا فقتل نفسَه فسمُّه في يدِه يتحسَّاه في نار جهنّم خالدًا مخلّدًا فيها أبدًا، ومَن قتَل نفسَه بحديدةٍ فحديدتُه في يده يتوجَّأ بها في بطنِه في نار جهنَّم خالدًا مخلَّدًا فيها أبدًا)) رواه البخاري ومسلم[12].
يا مَن سوَّل له شيطانُه وزيَّنت له نفسُه الأمّارةُ بالسوءِ الخروجَ عن الجماعةِ، أطِع وليَّ أمرك، والزم جماعةَ المسلمين، عن معاذٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إنَّ الشيطانَ ذِئبُ الإنسان، كذئبِ الغنَم، يأخذُ الشاةَ القاصِية والناحية، فإيّاكم والشِّعاب، وعليكم بالجماعة والعامَّة والمسجد)) رواه أحمد والطبراني[13].
وإنِّي أسأل هؤلاء الخوارجَ إذا أتَوا للحرمين: هل يصلّون وراءَ الإمام في الحرمَين؟ فإن كانوا يصلّون وراءَه فقد أصَابوا ويلزمُهم أن يقبَلوا قولَه المؤيَّد بالأدلة على بطلانِ فكرِهم وطريقتِهم التخريبيّة المنحرِفة، وإن كانوا لا يرَون الصلاةَ وراءَ الإمام في الحرمين فقد بانَ كالشّمس ضلالهم، حيث ظنّوا أنّ صلاةَ الملايين في الحرمين مردُودة وصلاتَهم مقبولة، وحيث ظنّوا أنّ الجنةَ لهذه الشّرذمة وبقيّةُ المسلمين محرومون.
قال الله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران:7، 8].
بارك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآياتِ والذكر الحكيم، ونفعنا بهديِ سيّد المرسلين وبقوله القويم، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيمَ الجليل لي ولكم، واستغفِروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الأدب المفرد (300)، والترمذي في كتاب الزهد، باب: التوكل على الله (2346)، وابن ماجه في كتاب الزهد، باب: القناعة (4141)، والحميدي في مسنده (439) من حديث عبيد الله بن محصن الأنصاري رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن غريب"، وله شواهد من حديث أبي الدرداء وابن عمر وعلي رضي الله عنهم. انظر: السلسلة الصحيحة للألباني (2318).
[2] أخرجه البخاري في التفسير (4686)، ومسلم في البر (2583) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
[3] صحيح البخاري: كتاب الديات (6862).
[4] سنن النسائي: كتاب تحريم الدم (3990) عن بريدة رضي الله عنه، وأخرجه البيهقي في الشعب (4/345)، وصححه ابن الملقن في خلاصة البدر المنير (2/261)، وهو في صحيح الترغيب (2440)، وانظر: غاية المرام (439). وفي الباب عن سعد وابن عباس وأبي سعيد وأبي هريرة وعقبة بن عامر وابن مسعود وعبد الله بن عمرو رضي الله عنهم.
[5] سنن الترمذي: كتاب الديات (1398) عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما، وقال: "حديث غريب"، وقال ابن كثير في إرشاد الفقيه (2/258): "في إسناده يزيد الرقاشي عن أبي الحكم وهو عبد الرحمن بن أبي نعم عنهما، ويزيد ضعيف جدّا، ولكن هذه الأخبار يشد بعضها بعضا "، ولذا صححه الألباني في صحيح الترغيب (2438، 2442).
[6] أخرجه البخاري في الجزية (3166) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
[7] أخرجه أبو داود في الصلاة (1547)، والنسائي في الاستعاذة (5468، 5469)، وابن ماجه في الأطعمة (3354) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (1029)، والنووي في رياض الصالحين (ص472)، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (3002).
[8] صحيح البخاري: كتاب الأدب (6178)، صحيح مسلم: كتاب الجهاد (1735).
[9] صحيح مسلم: كتاب الجهاد (1738).
[10] سنن أبي داود: كتاب الجهاد (2751)، وأخرجه أحمد (2/215)، وابن ماجه في الديات (2685)، وصححه ابن الجارود (771، 1073)، وكذا الألباني في الإرواء (2208).
[11] أخرجه البخاري في الجزية (3171)، ومسلم في صلاة المسافرين (336) عن أم هانئ رضي الله عنها.
[12] صحيح البخاري: كتاب الطب (5778)، صحيح مسلم: كتاب الإيمان (109).
[13] مسند أحمد (5/232، 243)، معجم الطبراني الكبير (20/164)، وأخرجه أيضا الحارث بن أبي أسامة في مسنده (606 ـ بغية الباحث ـ)، وأبو نعيم في الحلية (2/247)، والبيهقي في الشعب (3/57)، وحكم عليه العراقي في تخريج الإحياء (2/281) المنذري في الترغيب (1/138) والهيثمي في المجمع (2/23) بالانقطاع، وهو في ضعيف الترغيب (206).
الخطبة الثانية
الحمدُ لله المعزِّ لمن أطاعَه واتقاه، والمذِلِّ لمن خالف أمرَه وعصاه، أحمدُ ربِّي وأشكره على ما أولاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له لا إلهَ سواه، وأشهد أنّ نبيّنا وسيِّدنا محمّدًا عبده ورسوله اصطفاه ربّه واجتباه، اللهمِّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فاتّقوا الله حقَّ التقوى، وتمسَّكوا من الإسلام بالعُروة الوثقى.
أيّها المسلمون، اعرِفوا الحقَّ تعرِفُوا أهلَه، فإنّ الرجال يُعرَفون بالحقّ، ولا يُعرَف الحقُّ بالرجال، واعرفوا الباطلَ تعرِفوا أهلَه، وإنكم قد ابتُليَت بلادُكم بفتنةِ الخوارج التي تهدِّد دينَكم، وتهدِّد مصالحَ بلادكم واستقرارَكم وأمنكم، وتحصُدُ رجالَ الأمنِ السَّاهرين على بلادِ الحرمين والمتفانين في خدمةِ الحُجَّاج والمعتمرين والزائرين، والذين هم في خدمةِ دينهم ووطنِهم، وتحصُد المسلمين والمستأمَنين، وتروِّع الآمنين، وإنها فتنةٌ لا تخدم إلا أعداء الإسلام وأعداءَ هذه البلاد، فكونوا كلُّكم جنودًا لإطفاء هذه الفتنة، قال الله تعالى: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [المائدة:2]، وقال تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران:103].
ولو تصوَّرتم ما يترتَّب على هذهِ الفتنةِ من المفاسدِ لما استبقَيتُم أيَّ جُهدٍ في إخمادِها، ولو تفكَّر موقِدو نار هذه الفتنةِ في مفاسدِها وعواقبها وأداموا النظرَ في ذلك لأسرَعُوا بالتوبةِ إلى الله، وكَشَفوا تفاصيلَ هذه المؤامرة، ودلُّوا على أصحابها لكفِّ الشرِّ عن الإسلامِ والمسلمين، فقد أضَرّت هذه الفتنةُ بالإسلام والمسلمين، وأشمَت أصحابُها بالإسلامِ والمسلمين أعداءَهم، فهم يريدون أن يكونَ بأسُ المسلمين بينهم، وأن يُضرَب اقتصادُ المسلمين ومصالحُهم، وأن يزَعزَعَ أمنُ بلادِ المسلمين، ولكن هل يفقه أهلُ الفتن؟ قال الله تعالى: وَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [المائدة:41].
وإنَّ ما يقومُ بهِ رجالُ الأمنِ مِن اقتحامِ المخاطِر والدّفاع عن الدّين ومصالحِ البلاد لممَّا يوجِب لهم الثناءَ والدعاء، فليحتسِبهم المجتمعُ شهداءَ عند الله تعالى بمنِّه وكرَمه لوقوفهم ضدَّ هذا الخطَر الداهِم الذي يعمُّ ضررُه كلَّ أحدٍ، قال الله تعالى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال:25].
وأعِظُ نفسي وإياكم بقولِ رسول الله : ((أوصيكم بتقوَى الله والسمع والطاعة وإن تأمَّر عليكم عبدٌ، فإنّه مَن يعِش منكم فسيَرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنّتي وسنةِ الخلفاء الراشدين المهديّين، عضّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثاتِ الأمور، فإنَّ كلَّ بدعة ضلالة))[1].
عبادَ الله، إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وقد قال : ((من صلَّى عليّ صلاةً واحدة صلى الله عليه بها عشرًا)).
فصلُّوا وسلِّموا على سيد الأولين والآخرين وإمام المرسلين.
اللهم صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد...
[1] أخرجه أحمد (4/126-127)، وأبو داود في السنة (4607)، والترمذي في العلم (2676)، وابن ماجه في المقدمة (46)، والدارمي في مقدمة سننه (95) عن العرباض بن سارية رضي الله عنه، قال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (1/179)، والحاكم (1/95-96)، ووافقه الذهبي، ونقل ابن رجب في جامع العلوم والحكم (2/109) عن أبي نعيم أنه قال: "هو حديث جيد من صحيح حديث الشاميين"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (37).
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى