عبد الرحمن
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
ملخص الخطبة
1- أهمية مطلب الأمن. 2- حقيقة الأمن وفضله. 3- حادث التفجير. 4- وعيد الاعتداء على النفس المعصومة. 5- نابتة العصر. 6- الاعتداء على رجال الأمن. 7- واجب المجتمع تجاه هذه الفئة الضالة. 8- عزاء ومواساة. 9- مفاسد التفجير. 10- بلاد الأمن. 11- الإرهاب الصهيوني والأمريكي. 12- دعوة للرجوع إلى الله تعالى.
الخطبة الأولى
أما بعد: فإنَّ أعظمَ الوصايا وصيّة ربِّ البرايا، فاتّقوا الله رحمكم الله، فإنّ تقوى الله أمانٌ من البلايا وحصنٌ من الرزايا، بالتقوى أمنُ الديار وحِفظ الذِّمار وهَناء العَيش والاستقرار وكَثرة الخيرات واستجلابُ البركات، وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [الأعراف:96]، وبها النجاة فوقَ الأرض وتحتَ الأرض ويومَ العرض.
أيّها المسلمون، تاجُ أعالي الرؤوس ومطلَب كبار النفوس ليس في مادّيّات تزول وتنتهِي، ولا في شَكليات تضمحلّ وتنقضي، ولكنه في أمرٍ عظيم يرومُه الأفراد والمجتمعات، وتتطلّع إليه الدوَل والحكومات، وتُبنى على قواعدِه الأمجادُ وتُشاد الحضارات، وتتحطّم على صخرتِه الشمّاء التحدّيّات والمؤامرات، ذلكم ـ يا رعاكم الله ـ هو مطلبُ الأمن.
معاشرَ المسلمين، لا يختلِف اثنان ولا يتمارَى عاقلان أنّ هاتِفَ الأمنِ والأَمان وهاجِسَ الاستقرار والاطمِئنان هو المرامُ النبيل الذي تنشده المجتمعات البشريّة وتتسابَق إلى تحقيقِه السّلطاتُ العالمية بكلّ إمكاناتها المادّية والفكرية؛ إذ هو قِوام الحياة الإنسانيّة وأساسُ أمجادها المدنيّة والحضارية، بل حتى الطيور في أوكارها والبهائم في زرائِبها لتبحث عنه وتسعَى إليه، وهل يُرى الوَجِل المذعُور إلاّ خائفًا يترقّب غيرَ متلذِّذٍ بعبادة ومنام أو متهنِّئٍ بشراب وطعام، فضلاً عن المشاركة في التنمية والبناءِ والتفرُّغ للإعمار والإبداع والنّماء حفاظًا على المكتسبات وتحقيقًا لأفضل الإنجازات.
إخوةَ الإسلام، الأمنُ ضدُّ الخوف، وهو يعني الحفاظَ على البلاد والعبادِ في أمور المعاشِ والمعاد، وذلك بحفظ دينهم ونفوسهم وعقولهم وأعراضِهم وأموالهم، وقد امتنَّ الله بالأمن على عباده فقال سبحانه: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش:3، 4]، وفي دعاء إبراهيم عليه السلام: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ [البقرة:126]. وتأمّلوا ـ يا رعاكم الله ـ تقديمَ الأمن على الرزق لأهمّيّته وضرورته.
وإذا اختلَّ فسطاطُ الأمن وزُعزِعت أركانه واختُرِق سياجه واضطربَت ظلالُه الوارِفة فلا تسأل عمّا وراء ذلك من الفتَن والفسادِ الكبير، فالدين مغتلَبٌ، والنفس تُستلَبُ، والعقلُ والمال منتهبٌ، والعِرض مغتصَب، ولا حولَ ولا قوة إلا بالله.
إخوةَ العقيدة، الأمنُ بمفهومه الشامل هو انتظام أمور الدين والدنيا.
وما الدينُ إلا أن تقامَ شعائر وتؤمَن سبلٌ بيننا وشِعاب
والأمن والإيمان قرينان متلازمان، الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82].
إنَّ أيَّ فِعلٍ أو تصرّف أو دعوةٍ لزعزعةِ أمن المجتمع تُعدّ جريمةً كُبرى وجنايةً عُظمى على الأمّة، وضربًا من ضروب الظّلم والبغي والعدوان، وصورةً من صُوَر الكيدِ والفساد والطغيان، والله عزّ وجلّ يقول: وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا [الأعراف:56]، ويقول سبحانه: وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنْ الْمُصْلِحِ [البقرة:220]، ويقول تبارك وتعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ [يونس:81]، ويقول سبحانه: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ [البقرة:204-206].
يؤكَّد ذلك ـ أيّها المسلمون ـ في الوقتِ الذي عظُمت فيه الفتنة بسفكِ الدماء وقتل الأبرياء وتناثُر الأشلاء وإثارة الفتَن العمياء وتواصُل حَلَقات الإفسادِ والتكفير واستمرارِ مسَلسَل التفجير والتّدمير وغور الجراحات النازفة التي طال أمدُها فعسُر اندمالُها، حتى إنَّ الغيورَ ليرى فتنةً ذرّت بقرنها ورفعَت عيرتها، فتنةً هاجت وباضت وفرّخت، ولو تُركت صارت إليها فراخُها.
أمّةَ الإسلام، أمّةَ الأمنِ والإيمان، ولقد فُجِع كلُّ ذي دينٍ ومروءَة، بل كلّ ذي عقلٍ وإنسانيّة بالعمل الجبانِ الإجراميّ والفِعل المُسِفِّ التخريبيّ والتصرّف الأرعَن الإرهابيّ الذي حدَث مؤخّرًا في مدينة الرياض، رياضِ المجدِ والأصالة، ونجدِ التّوحيدِ والحضارة، حاضرةِ ديار الإسلام، وعاصمةِ بلادِ الحرمين الشريفين حرسها الله، فلا يرتابُ العقلاء ولا يتمارى الشّرفاء أنَّ ما حدث يُعدّ جريمةً شنعاء وفِعلة نكراء لا يُقِرّها دين ولا عقلٌ ولا منطقٌ ولا إنسانية، وهي بكلّ المقاييس أمرٌ محرَّم وفعلٌ مجرَّم وتصرّف مرذولٌ مقبوح وعملٌ إرهابيّ مفضوح وسابقةٌ خطيرة ونازلةُ شرٍّ مستطيرة، فإنَّ كلّ عملٍ تخريبيّ يستهدِف الآمنين ويروّع المسلمين الوادعين مخالفٌ لشريعة ربّ العالمين.
وإذا كان هذا الحكمُ عامًّا في كلّ زمان ومكان فكيف إذا كان في بلاد الحرمين ومهبِط الوحي ومنبَع الرسالة ومَهد الإسلام وموئِل العقيدة ومأرز الإيمان ومعقِل السنة والقرآن وقِبلة المسلمين ومحطِّ أنظارهم ومهوى أفئدتهم، بل العُمق الدينيّ والعقديّ والبعد الإستراتيجيّ والثِقَل الدولي في الأمّة، بل في العالم أجمع؟! وكيف إذا كان المستهدَفون مسلمين معصومين وأبرياء وادعين مواطنين ومقيمين؟! إنه لأمر مؤلمٌ حقًّا ومؤسِفٌ صِدقًا، يعجز البيان ويرجف الجنان ويضطرب البَنان في رسم هولِ وفظاعة المشهَدَ والتصوير ودِقّة الدلالة والتعبير الذي سطّره بمدادٍ قاتمة وأحرُف كالحة محترفو هذه الجريمةِ البشِعة، فكم من أنفسٍ مسلمة بريئة أُزهقت، وكم مِن نفوس مؤمنة رُوّعت، وكم من أموال وممتلكاتٍ أُتلِفت، لم يرحَم هؤلاء المجرِمون المخرِّبون طفلاً ولا شيخًا ولا امرأة، لم يراعوا أيَّ قِيَم دينيّة وأخلاقية، ولم يبالوا بشرعٍ ولا عقلٍ ولا إنسانية. فوا عجبًا لهم، أَقُدَّت قلوبهم من صخر أم رُميت عقولهم في بحر؟! أين يذهب هؤلاء القتلةُ المجرِمون من قوله سبحانه: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]؟! ألم تقرَع أسماعَهم نصوصُ الوعيد والتهديد والترهيب عن مِثل هذه الجرائم المروّعة التي هي قرينةُ الإشراك بالله، بل حتى في ترويع المسلم والإشارة إليه بالسلاح؟! أين هم من قوله عليه الصلاة والسلام: ((إنَّ دماءَكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام))[1]، وقوله عليه الصلاة والسلام: ((أوّلُ ما يقضَى بين الناس في الدماء))[2]، وقوله : ((لا يزال المسلم في فسحةٍ من دينه ما لم يصِب دمًا حرامًا))[3]، ((لزوال الدنيا أهونُ عند الله مِن قتل رجل مسلم)) خرجه الترمذي والنسائي وغيرهما[4]؟! أين يذهب هؤلاء من شهادة أن لا إله إلا الله إذا جاءت تحاجُّهم يوم القيامة؟! كما في الصحيح من حديث أسامة رضي الله عنه، وفيه أن رسول الله قال له: ((أقتلتَه بعد أن قال: لا إله إلا الله؟!)) وغضِب عليه الصلاة والسلام واحمرّ وجهُه كأنما تفقّأ فيه حبُّ الرّمّان وهو يقول لأسامة: ((أقتلته بعد أن قال: لا إله إلا الله؟!)) قال: يا رسول الله، إنما قالها تقيَّةً أي: خوفًا من القتل، قال: ((أشققتَ عن قلبه؟! كيف تصنعُ ـ يا أسامة ـ بلا إله إلا الله إذا جاءت تحاجُّك يوم القيامة؟!)) قال رضي الله عنه: فوددتُ أني لم أكن أسلمتُ يومئذ[5].
الله أكبر، هذا فهمُ الصحابة الأبرارِ والسلف الأخيار لحرمةِ الدماء المعصومةِ وحرمة قتلِ المرء نفسَه، والرسولُ عليه الصلاة والسلام يقول: ((من قتل نفسَه بحديدةٍ فحديدته في يده يجأ بها بطنَه في نار جهنم خالدًا مخلَّدًا فيها أبدًا)) خرجه الشيخان[6].
فإلى الله المشتكى، إلى الله المشتكى من نابتةٍ أغرار وشِرذمة أشرار، حُدثاء الأسنان، سُفهاء الأحلام، ركبوا رؤوسَهم، وافتاتوا على ولاة أمرهم وعلمائهم، وهاموا زهوًا وتِيهًا وغرورًا، فأحدثوا فِتنًا وفواجعَ وشرورًا.
وبكلّ مرارةٍ وأسى أنهم أبناؤنا بغَوا علينا، وشبابُنا خرجوا علينا، وخرقوا سياجَ أمّتنا ووحدة بلادنا، سيّاراتٌ مفخّخة، وشاحنات مشرَّكَة، كفى بهم لؤْمًا ودناءة أن ينشؤوا على ترابها ويأكُلوا من خيراتها ثم يقلِبوا لها ظهرَ المجَنّ نسفًا وتدميرًا وتخريبًا وتفجيرًا. لقد بلغ السيلُ زُباه، وجاوَز الظلمُ والطغيان مداه، ووصل الأمر منتهاه، وذرفتِ الدُّموع السِّجام، وأُميط اللّثام عن خفافيشِ الظلام، وبرِح الخفاء، واتَّضح الأمر بجلاء عن هذا الفِكر الآحاديّ المنحرف والنظرِ الانشطاريّ المجترِف.
لقد أوسعونا من الفوضى والتخريب والعبَث، فجزاؤهم أن يُنفَوا كما يُنفَى الخبَث، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله فيهم وفي أسلافهم: "وهذا الضّرب من الناس من أغربِ أشكال بني آدم، فسبحانَ من نوّع خلقَه كما أراد"[7].
فيا ويحَ هؤلاء، ألا يفيقون؟! ألا يرجِعون ويرعَوون؟! أبعدَ كلِّ هذا يبقَى مجالٌ للتبريرات وتلمُّس التأويلات وحمّالةِ الأوجُه عن الشُّبَه والإشكالات؟! كلاّ وألفُ كلا.
سبَكناه ونحسِبه لُجَينًا فبان الكير من خبَث الحديد
لقد بدأت ضلالةُ القوم بدعاوى تلتبس على الدّهماء من قِتال غيرِ المسلمين، ومَع أنّ هذا لا يجوز في بلاد المسلمين لأنهم من المعاهَدين والمستأمَنين، فكيف يُقال اليوم والمستهدفون أبرياء مسلمون مواطنون ومقيمون؟!
إخوةَ الإسلام، إخوةَ الإيمان، لقد وصل الإجرامُ ذروتَه باستهدافِ فِئةٍ عزيزة علينا، هم عيوننا الساهرة وليوث عريننا الكاسِرة، فئةٍ تسهَر لينام الناس، وتتعَب ليستريح سائرُ الأجناس، إنهم رجالُ أمننا البواسل وجنود بلادنا الأشاوس. فيا رجال أمننا، هنيئًا لكم شرفُ خدمةِ دينكم وعقيدتكم وبلادكم ومقدّساتكم والذود عن حياضكم وأوطانكم ومقدّراتكم.
اللهَ اللهَ في الإخلاص والتفاني والتضحيةِ واليقظةِ والاهتمام، ولا يفتَّنَّ في عضدِكم تلك التصرفاتُ الرعناء والأفعال الحمقاء، فليس لها بعدَ الله إلا أنتم. قلوبُنا معكم، والدعاء مبذولٌ لكم، والمجتمع بأسرِه مَدين لكم بالتقدير والعِرفان والشكر والامتنان على جهودكم المتميِّزة في حفظِ الأمن والأمان والسَّهَر على خدمة الآمنين.
والدعوةُ موجَّهةٌ لكلّ مسلمٍ أن يكونَ عونًا لرجال الأمن في أداء مهمّتهم العظيمة، فكلٌّ على ثغرٍ من ثغور الإسلام، فاللهَ الله أن يُؤتى الإسلام من قِبله.
يجب على جميعِ أفراد المجتمَع أن يكونوا عيونًا ساهرةً في الحفاظ على أمنِ هذه البلاد والإبلاغ عن كلّ متورّطٍ أو داعمٍ لهذه الأعمال الإجراميّة والأفعال التخريبية، حفاظًا على سفينة المجتمع من قراصنة العُنف والإرهاب وسماسرة التخريب والإرعاب، فلم يعُد يُجدِي الصمتُ والتغاضي، لا بدّ من الحزم في اجتثاث جذوره والقضاء على فيروسه وجرثومته القاتلة.
وعزاؤنا المخلِص ودعواتنا ومواساتُنا الصادقة لولاة أمرنا وفّقهم الله، ولذوي المتوفَّين مِن رجال الأمن والمواطنين والمقيمين، رحم الله أمواتهم، وكتبهم في عِداد الشهداءِ الأبرار، وبوّأهم منازلَ الصديقين والأخيار، وعجّل بشفاءِ مرضاهم ومُصابيهم وجَرحاهم، ولا أرى البلادَ والعباد أيَّ سوء ومكروه، وحفِظ الله لبلادنا المباركةِ أمنها وإيمانها، فلن تزيدَها تلك الأعمال الإجراميّة بحول الله إلا تماسُكًا وثباتًا والتفافًا حول قيادتها وعلمائها، وشاهت وجوهُ المجرمين المعتدين، ولتهنأ بلادُ الحرمين، ولتبقَ دائمًا وأبدًا شامةً غرّاء وصخرةً شمّاء تتهاوى أمام صلابتها سهامُ المغرضين المعتدين والأعداء ونصالُ الحاسدين والحاقدين الألدّاء.
كفى تشويهًا للإسلام دينِ الرّفق والسماحة والإصلاح والتعمير، لا العنفِ والتدمير والتفجير. كفى تشويهًا لصورة الجهاد الشرعيّ ذروةِ سنامِ الإسلام بمثل هذا التخريب والإفساد والإجرام. كم من مصالحَ للأمة قدّمها هؤلاء؟! وكم من مكاسبَ للأعداء حقّقها هؤلاء، وكم تضرَّر الدين والمتديّنون والدعوةُ والدعاة والحسبة والأعمال الخيريّة بسبب هذه التصرّفات الرعناء.
والدعوةُ موجَّهةٌ لجميع أبناء الأمةِ ـ والأمّة تمرّ بمنعطفٍ خطير ـ إلى الالتفافِ حولَ الولاية الشرعية وتضييع الفُرص أمام كلّ مفسدٍ مأفون والعملِ على إعزاز جانب الدين وأهلِه والدعوةِ وشُداتها والحسبة ورجالاتها والإصلاح الشامِلِ في كلّ مرافِق الحياة، وصَرخةُ نذير وصيحةُ تحذير لشبابنا وأحبابنا بعدَم الاغترار بهذه المسالك والأخذ من العلماء الربانيّين في هذه الظروف الحوالك وسلوكِ مسلَك الوسطيّة والاعتدال والحذر كلَّ الحذَر من فتاوى أهل الكُنى المجاهيل والانجراف خلفَ دعايات الأغرار المهازيل.
لا بدّ من حراسة الأمن بكلّ صوَرِه، لا سيّما الأمن الفكريّ أمام الأفكار المنحرفة والتيّارات الضالّة، سواءً في جانب الغلوّ والعنف والفِكر التكفيريّ، أو التغريبيّ والعولميّ. وهنا يأتي دورُ البيت والأسرةِ والمسجد والمدرسة ووسائل الإعلام، حتى يسلَم العباد وتأمن البلاد. ويعلمُ الله الذي لا إله غيرُه أنّ ذلك عينُ الشفقَة والنُّحص للأمّة وبراءة الذمّة والقيام بمتطلَّبات الديانة ورعاية الكلمةِ والأمانة، في وقتٍ كثُرت فيه الأهواء وتعدّدت الآراء والحكمُ على النيات والمقاصد والتصنيفُ وسوءُ الظنّ بالمسلمين، والله المستعان.
بـه ألقى الإلهَ ولا أبـالي وإن سَلقوا بألسنةٍ حــدادِ
فـذا فعلُ النبيِّ فلا تدَعه لإرضاءِ الصديق ولا المعادي
وإلى المغترِّين بأهوائهم المصرّين على لأوائهم أن أفيقوا قبلَ فوات الأوان، فأخشى ما نخشاه أن لا تستبينوا النصحَ إلا ضُحَى الغدِ، فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [غافر:44].
حفِظ الله بلادَنا وبلادَ المسلمين من شرّ الأشرار وكيد الفجّار، وأدام علينا نعمةَ الأمن والأمان وإن كرِه الحاقدون المغرِضون الحاسدون المتبربّصون.
وإن رغمِت أنوفٌ من أناس فقل يا ربّ لا ترغم سواها
بارك الله لي ولكم في الوحيين، ونفعني وإياكم بهدي سيّد الثقلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في العلم (67)، ومسلم في القسامة (1679) عن أبي بكرة رضي الله عنه، وأخرجه البخاري أيضا في الحج (1639) عن ابن عباس رضي الله عنهما، وورد عن غيرهما من الصحابة.
[2] أخرجه البخاري في الديات (6864)، ومسلم في القسامة (1678) عن ابن مسعود رضي الله عنه.
[3] أخرجه البخاري في الديات (6862) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
[4] سنن الترمذي: كتاب الديات (1395)، سنن النسائي: كتاب تحريم الدم (3987) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وقال الترمذي: "وفي الباب عن سعد وابن عباس وأبي سعيد وأبي هريرة وعقبة بن عامر وابن مسعود وبريدة"، وأشار إلى أن وقفه أصح من رفعه، ورجّح وقفه أيضا البيهقي في الكبرى (8/22)، ورمز له السيوطي بالصحة، وصححه الألباني في غاية المرام (439).
[5] صحيح البخاري: كتاب الديات (6872)، صحيح مسلم: كتاب الإيمان (96) بمعناه.
[6] صحيح البخاري: كتاب الطب (5778)، صحيح مسلم: كتاب الإيمان (109) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[7] البداية والنهاية (7/286).
الخطبة الثانية
الحمد لله، لا يُرجَى إلا خيرُه، ولا يخشَى إلا ضَيره، ولا إله لنا غيرُه، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان الأزكيان الأشرفان على خير البريّة وهادي البشريّة نبينا محمّد عليه وعلى آله وصحبه أزكى سلام وأوفى تحيّه، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة:281]، وعليكم بالجماعة، فإنَّ يد الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذّ في النار.
أيّها الإخوةُ الأحبّة في الله، إنّ ممّا يبعَث على الآمال في خضمِّ هذه التداعيات والآلام أنّ الله سبحانه وتعالى كتب الأمنَ والأمان لهذه البلادِ المقدّسة إلى قيام السّاعة، فالأمنُ فيها مِنّة ربِّ العالمين ودعوةُ أبينا إبراهيم، ثمّ هو بعد ذلك دأبُ هذه الولاية المسلمة وهمُّ الجنديّةِ المؤمنة المخلِصة، بل كلِّ غيور على دينه وبلاده، ومَن يروم غيرَ ذلك من الأوباش فإنما يروم المستحيلَ بإذن الله، وأنّى لناصحِ الصخرة الشمّاء أن يوهنَها، والشجرة الباسقة أن يهزَّها ويثنيَها؟! والأقزامُ إنما يرمون بالحجارة الشجرةَ المثمرة.
أمّةَ الإسلام، ولم تكن بلادُ الحرمين المحروسة بِدعًا في التعرَُّض للإرهاب والإرهابيِّين، ولشموليّة الشعور والإحساسِ بآلام الأمّة في هذا المجال لا بدّ من التذكير بمأساةِ إخواننا المسلمين في فلسطين الذين يعانون من إرهابِ الدّولة الذي يمارسُه الكيانُ الصهيونيّ تحتَ نير الاغتيالاتِ والأوضاع الدمويّة والتصفيات الجسدية للقيادات الفلسطينية، ممّا يتطلّب من الأمّة بل العالم أجمَع توفيرَ الحمايةِ لإخواننا ومقدَّساتنا هناك، في ظلِّ السلبيّة والتخاذُل الدوليّ أمام غطرسَةِ هذا العدوّ الصهيوني الغاشِم وتحدّيه السافِر لكلّ المواثيق والأعرافِ الدولية، وإلى متى لا يسمع الغيورُ إلا أصواتًا خافِتة تهمِس بالشَّجب والإدانة والمناشدة والاستنكار وضبطِ النفس؟!
أحبَّتي في الله، وصفحةٌ دمويّة أخرى يعيشُها إخواننا المسلمون في عراقِ التأريخ والعراقة، لا سيّما إخواننا في فلّوجةِ الصمود والبسَالة التي تعاني من ظُلم وحِصار وقتلٍ ودمار، تجاوز كلَّ الحدودِ الإنسانية، ممّا يدعو المنصفين في العالم إلى استنكارِ هذا العدوان الغاشِم والاحتلال الجاثم والعملِ بشتّى الوسائل على إيقافه ومنعِه، والنصيحةُ الأخويّة تقتضي حثَّ إخواننا هناك على الصّبر والمصابرة وتوحيدِ الكلمة ووحدةِ الصفوف، وليبشِر الجميع بنصرِ الله، فالتأريخ شاهدٌ على أنّ حَبلَ العُنفِ والإرهاب قصيرُ المدى، وأنّ النصرَ مع الصبر، والفرجَ مع الكرب، وأنّ مع العسر يُسرًا، وفي هذا بشارةٌ لأهل الإسلام، فإنّ آلام المخاض تعقبُها ولادةٌ مبشِّرة، وإنّ الظلمةَ تحمِلُ في أحشائها إشراقةَ الفجر المنتظَر، وشأنُ المسلم الواعي مع القَدَر والقضاء ومُرِّ الابتلاء الرضا والصبرُ والتسليم، يقول ابن مسعود رضي الله عنه: (لو كان العسرُ في جُحرٍ لطلبه اليُسر حتى يدخُل عليه)[1]، ويقول ابن عباس رضي الله عنهما: (لن يغلبَ عسرٌ يُسرين)[2].
ونحن اليومَ ومع شدّة الكرب وعِظَم الخَطب أحوجُ ما نكون إلى بثّ روح التفاؤل والاستبشار والإيجابية، حيث تتابعت صنوفُ الإحباطات واليأس عند كثيرٍ من الناس، حتى نسُوا أو تناسَوا في خضمِّ الآلام فلولَ البشائر والآمال.
إنّ الأمةَ مطالبةٌ للخروج من أزماتها الخانِقة إلى توبةٍ عامّةٍ وأوبةٍ صادقة ورجوع إلى الله وتضرُّع ودعاء وتجديد الثقةِ بالله وحُسنِ الظنّ به سبحانه واستنزال نصره بطاعتِه والتقرّب إليه وإعادة الثقةِ بالنفس والعملِ الجادِّ الدؤوب في سُبُل الصلاح والإصلاح، إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11]، لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [الروم:4-6].
هذا، وصلّوا وسلِّموا ـ رحمكم الله ـ على نبيّ الرحمة والهدى، كما أمركم بذلك ربّكم جل وعلا فقال تعالى قولاً كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على نبيّنا وإمامنا وقدوتنا وحبيبنا محمد بن عبد الله، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه ابن المبارك في الزهد (133)، وابن الجعد في مسنده (1099)، والطبري في تفسيره (30/236)، والبيهقي في الشعب (7/206)، والراوي عن ابن مسعود رجل مبهم.
[2] انظر: تفسير القرطبي (20/107).
1- أهمية مطلب الأمن. 2- حقيقة الأمن وفضله. 3- حادث التفجير. 4- وعيد الاعتداء على النفس المعصومة. 5- نابتة العصر. 6- الاعتداء على رجال الأمن. 7- واجب المجتمع تجاه هذه الفئة الضالة. 8- عزاء ومواساة. 9- مفاسد التفجير. 10- بلاد الأمن. 11- الإرهاب الصهيوني والأمريكي. 12- دعوة للرجوع إلى الله تعالى.
الخطبة الأولى
أما بعد: فإنَّ أعظمَ الوصايا وصيّة ربِّ البرايا، فاتّقوا الله رحمكم الله، فإنّ تقوى الله أمانٌ من البلايا وحصنٌ من الرزايا، بالتقوى أمنُ الديار وحِفظ الذِّمار وهَناء العَيش والاستقرار وكَثرة الخيرات واستجلابُ البركات، وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [الأعراف:96]، وبها النجاة فوقَ الأرض وتحتَ الأرض ويومَ العرض.
أيّها المسلمون، تاجُ أعالي الرؤوس ومطلَب كبار النفوس ليس في مادّيّات تزول وتنتهِي، ولا في شَكليات تضمحلّ وتنقضي، ولكنه في أمرٍ عظيم يرومُه الأفراد والمجتمعات، وتتطلّع إليه الدوَل والحكومات، وتُبنى على قواعدِه الأمجادُ وتُشاد الحضارات، وتتحطّم على صخرتِه الشمّاء التحدّيّات والمؤامرات، ذلكم ـ يا رعاكم الله ـ هو مطلبُ الأمن.
معاشرَ المسلمين، لا يختلِف اثنان ولا يتمارَى عاقلان أنّ هاتِفَ الأمنِ والأَمان وهاجِسَ الاستقرار والاطمِئنان هو المرامُ النبيل الذي تنشده المجتمعات البشريّة وتتسابَق إلى تحقيقِه السّلطاتُ العالمية بكلّ إمكاناتها المادّية والفكرية؛ إذ هو قِوام الحياة الإنسانيّة وأساسُ أمجادها المدنيّة والحضارية، بل حتى الطيور في أوكارها والبهائم في زرائِبها لتبحث عنه وتسعَى إليه، وهل يُرى الوَجِل المذعُور إلاّ خائفًا يترقّب غيرَ متلذِّذٍ بعبادة ومنام أو متهنِّئٍ بشراب وطعام، فضلاً عن المشاركة في التنمية والبناءِ والتفرُّغ للإعمار والإبداع والنّماء حفاظًا على المكتسبات وتحقيقًا لأفضل الإنجازات.
إخوةَ الإسلام، الأمنُ ضدُّ الخوف، وهو يعني الحفاظَ على البلاد والعبادِ في أمور المعاشِ والمعاد، وذلك بحفظ دينهم ونفوسهم وعقولهم وأعراضِهم وأموالهم، وقد امتنَّ الله بالأمن على عباده فقال سبحانه: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش:3، 4]، وفي دعاء إبراهيم عليه السلام: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ [البقرة:126]. وتأمّلوا ـ يا رعاكم الله ـ تقديمَ الأمن على الرزق لأهمّيّته وضرورته.
وإذا اختلَّ فسطاطُ الأمن وزُعزِعت أركانه واختُرِق سياجه واضطربَت ظلالُه الوارِفة فلا تسأل عمّا وراء ذلك من الفتَن والفسادِ الكبير، فالدين مغتلَبٌ، والنفس تُستلَبُ، والعقلُ والمال منتهبٌ، والعِرض مغتصَب، ولا حولَ ولا قوة إلا بالله.
إخوةَ العقيدة، الأمنُ بمفهومه الشامل هو انتظام أمور الدين والدنيا.
وما الدينُ إلا أن تقامَ شعائر وتؤمَن سبلٌ بيننا وشِعاب
والأمن والإيمان قرينان متلازمان، الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82].
إنَّ أيَّ فِعلٍ أو تصرّف أو دعوةٍ لزعزعةِ أمن المجتمع تُعدّ جريمةً كُبرى وجنايةً عُظمى على الأمّة، وضربًا من ضروب الظّلم والبغي والعدوان، وصورةً من صُوَر الكيدِ والفساد والطغيان، والله عزّ وجلّ يقول: وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا [الأعراف:56]، ويقول سبحانه: وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنْ الْمُصْلِحِ [البقرة:220]، ويقول تبارك وتعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ [يونس:81]، ويقول سبحانه: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ [البقرة:204-206].
يؤكَّد ذلك ـ أيّها المسلمون ـ في الوقتِ الذي عظُمت فيه الفتنة بسفكِ الدماء وقتل الأبرياء وتناثُر الأشلاء وإثارة الفتَن العمياء وتواصُل حَلَقات الإفسادِ والتكفير واستمرارِ مسَلسَل التفجير والتّدمير وغور الجراحات النازفة التي طال أمدُها فعسُر اندمالُها، حتى إنَّ الغيورَ ليرى فتنةً ذرّت بقرنها ورفعَت عيرتها، فتنةً هاجت وباضت وفرّخت، ولو تُركت صارت إليها فراخُها.
أمّةَ الإسلام، أمّةَ الأمنِ والإيمان، ولقد فُجِع كلُّ ذي دينٍ ومروءَة، بل كلّ ذي عقلٍ وإنسانيّة بالعمل الجبانِ الإجراميّ والفِعل المُسِفِّ التخريبيّ والتصرّف الأرعَن الإرهابيّ الذي حدَث مؤخّرًا في مدينة الرياض، رياضِ المجدِ والأصالة، ونجدِ التّوحيدِ والحضارة، حاضرةِ ديار الإسلام، وعاصمةِ بلادِ الحرمين الشريفين حرسها الله، فلا يرتابُ العقلاء ولا يتمارى الشّرفاء أنَّ ما حدث يُعدّ جريمةً شنعاء وفِعلة نكراء لا يُقِرّها دين ولا عقلٌ ولا منطقٌ ولا إنسانية، وهي بكلّ المقاييس أمرٌ محرَّم وفعلٌ مجرَّم وتصرّف مرذولٌ مقبوح وعملٌ إرهابيّ مفضوح وسابقةٌ خطيرة ونازلةُ شرٍّ مستطيرة، فإنَّ كلّ عملٍ تخريبيّ يستهدِف الآمنين ويروّع المسلمين الوادعين مخالفٌ لشريعة ربّ العالمين.
وإذا كان هذا الحكمُ عامًّا في كلّ زمان ومكان فكيف إذا كان في بلاد الحرمين ومهبِط الوحي ومنبَع الرسالة ومَهد الإسلام وموئِل العقيدة ومأرز الإيمان ومعقِل السنة والقرآن وقِبلة المسلمين ومحطِّ أنظارهم ومهوى أفئدتهم، بل العُمق الدينيّ والعقديّ والبعد الإستراتيجيّ والثِقَل الدولي في الأمّة، بل في العالم أجمع؟! وكيف إذا كان المستهدَفون مسلمين معصومين وأبرياء وادعين مواطنين ومقيمين؟! إنه لأمر مؤلمٌ حقًّا ومؤسِفٌ صِدقًا، يعجز البيان ويرجف الجنان ويضطرب البَنان في رسم هولِ وفظاعة المشهَدَ والتصوير ودِقّة الدلالة والتعبير الذي سطّره بمدادٍ قاتمة وأحرُف كالحة محترفو هذه الجريمةِ البشِعة، فكم من أنفسٍ مسلمة بريئة أُزهقت، وكم مِن نفوس مؤمنة رُوّعت، وكم من أموال وممتلكاتٍ أُتلِفت، لم يرحَم هؤلاء المجرِمون المخرِّبون طفلاً ولا شيخًا ولا امرأة، لم يراعوا أيَّ قِيَم دينيّة وأخلاقية، ولم يبالوا بشرعٍ ولا عقلٍ ولا إنسانية. فوا عجبًا لهم، أَقُدَّت قلوبهم من صخر أم رُميت عقولهم في بحر؟! أين يذهب هؤلاء القتلةُ المجرِمون من قوله سبحانه: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]؟! ألم تقرَع أسماعَهم نصوصُ الوعيد والتهديد والترهيب عن مِثل هذه الجرائم المروّعة التي هي قرينةُ الإشراك بالله، بل حتى في ترويع المسلم والإشارة إليه بالسلاح؟! أين هم من قوله عليه الصلاة والسلام: ((إنَّ دماءَكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام))[1]، وقوله عليه الصلاة والسلام: ((أوّلُ ما يقضَى بين الناس في الدماء))[2]، وقوله : ((لا يزال المسلم في فسحةٍ من دينه ما لم يصِب دمًا حرامًا))[3]، ((لزوال الدنيا أهونُ عند الله مِن قتل رجل مسلم)) خرجه الترمذي والنسائي وغيرهما[4]؟! أين يذهب هؤلاء من شهادة أن لا إله إلا الله إذا جاءت تحاجُّهم يوم القيامة؟! كما في الصحيح من حديث أسامة رضي الله عنه، وفيه أن رسول الله قال له: ((أقتلتَه بعد أن قال: لا إله إلا الله؟!)) وغضِب عليه الصلاة والسلام واحمرّ وجهُه كأنما تفقّأ فيه حبُّ الرّمّان وهو يقول لأسامة: ((أقتلته بعد أن قال: لا إله إلا الله؟!)) قال: يا رسول الله، إنما قالها تقيَّةً أي: خوفًا من القتل، قال: ((أشققتَ عن قلبه؟! كيف تصنعُ ـ يا أسامة ـ بلا إله إلا الله إذا جاءت تحاجُّك يوم القيامة؟!)) قال رضي الله عنه: فوددتُ أني لم أكن أسلمتُ يومئذ[5].
الله أكبر، هذا فهمُ الصحابة الأبرارِ والسلف الأخيار لحرمةِ الدماء المعصومةِ وحرمة قتلِ المرء نفسَه، والرسولُ عليه الصلاة والسلام يقول: ((من قتل نفسَه بحديدةٍ فحديدته في يده يجأ بها بطنَه في نار جهنم خالدًا مخلَّدًا فيها أبدًا)) خرجه الشيخان[6].
فإلى الله المشتكى، إلى الله المشتكى من نابتةٍ أغرار وشِرذمة أشرار، حُدثاء الأسنان، سُفهاء الأحلام، ركبوا رؤوسَهم، وافتاتوا على ولاة أمرهم وعلمائهم، وهاموا زهوًا وتِيهًا وغرورًا، فأحدثوا فِتنًا وفواجعَ وشرورًا.
وبكلّ مرارةٍ وأسى أنهم أبناؤنا بغَوا علينا، وشبابُنا خرجوا علينا، وخرقوا سياجَ أمّتنا ووحدة بلادنا، سيّاراتٌ مفخّخة، وشاحنات مشرَّكَة، كفى بهم لؤْمًا ودناءة أن ينشؤوا على ترابها ويأكُلوا من خيراتها ثم يقلِبوا لها ظهرَ المجَنّ نسفًا وتدميرًا وتخريبًا وتفجيرًا. لقد بلغ السيلُ زُباه، وجاوَز الظلمُ والطغيان مداه، ووصل الأمر منتهاه، وذرفتِ الدُّموع السِّجام، وأُميط اللّثام عن خفافيشِ الظلام، وبرِح الخفاء، واتَّضح الأمر بجلاء عن هذا الفِكر الآحاديّ المنحرف والنظرِ الانشطاريّ المجترِف.
لقد أوسعونا من الفوضى والتخريب والعبَث، فجزاؤهم أن يُنفَوا كما يُنفَى الخبَث، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله فيهم وفي أسلافهم: "وهذا الضّرب من الناس من أغربِ أشكال بني آدم، فسبحانَ من نوّع خلقَه كما أراد"[7].
فيا ويحَ هؤلاء، ألا يفيقون؟! ألا يرجِعون ويرعَوون؟! أبعدَ كلِّ هذا يبقَى مجالٌ للتبريرات وتلمُّس التأويلات وحمّالةِ الأوجُه عن الشُّبَه والإشكالات؟! كلاّ وألفُ كلا.
سبَكناه ونحسِبه لُجَينًا فبان الكير من خبَث الحديد
لقد بدأت ضلالةُ القوم بدعاوى تلتبس على الدّهماء من قِتال غيرِ المسلمين، ومَع أنّ هذا لا يجوز في بلاد المسلمين لأنهم من المعاهَدين والمستأمَنين، فكيف يُقال اليوم والمستهدفون أبرياء مسلمون مواطنون ومقيمون؟!
إخوةَ الإسلام، إخوةَ الإيمان، لقد وصل الإجرامُ ذروتَه باستهدافِ فِئةٍ عزيزة علينا، هم عيوننا الساهرة وليوث عريننا الكاسِرة، فئةٍ تسهَر لينام الناس، وتتعَب ليستريح سائرُ الأجناس، إنهم رجالُ أمننا البواسل وجنود بلادنا الأشاوس. فيا رجال أمننا، هنيئًا لكم شرفُ خدمةِ دينكم وعقيدتكم وبلادكم ومقدّساتكم والذود عن حياضكم وأوطانكم ومقدّراتكم.
اللهَ اللهَ في الإخلاص والتفاني والتضحيةِ واليقظةِ والاهتمام، ولا يفتَّنَّ في عضدِكم تلك التصرفاتُ الرعناء والأفعال الحمقاء، فليس لها بعدَ الله إلا أنتم. قلوبُنا معكم، والدعاء مبذولٌ لكم، والمجتمع بأسرِه مَدين لكم بالتقدير والعِرفان والشكر والامتنان على جهودكم المتميِّزة في حفظِ الأمن والأمان والسَّهَر على خدمة الآمنين.
والدعوةُ موجَّهةٌ لكلّ مسلمٍ أن يكونَ عونًا لرجال الأمن في أداء مهمّتهم العظيمة، فكلٌّ على ثغرٍ من ثغور الإسلام، فاللهَ الله أن يُؤتى الإسلام من قِبله.
يجب على جميعِ أفراد المجتمَع أن يكونوا عيونًا ساهرةً في الحفاظ على أمنِ هذه البلاد والإبلاغ عن كلّ متورّطٍ أو داعمٍ لهذه الأعمال الإجراميّة والأفعال التخريبية، حفاظًا على سفينة المجتمع من قراصنة العُنف والإرهاب وسماسرة التخريب والإرعاب، فلم يعُد يُجدِي الصمتُ والتغاضي، لا بدّ من الحزم في اجتثاث جذوره والقضاء على فيروسه وجرثومته القاتلة.
وعزاؤنا المخلِص ودعواتنا ومواساتُنا الصادقة لولاة أمرنا وفّقهم الله، ولذوي المتوفَّين مِن رجال الأمن والمواطنين والمقيمين، رحم الله أمواتهم، وكتبهم في عِداد الشهداءِ الأبرار، وبوّأهم منازلَ الصديقين والأخيار، وعجّل بشفاءِ مرضاهم ومُصابيهم وجَرحاهم، ولا أرى البلادَ والعباد أيَّ سوء ومكروه، وحفِظ الله لبلادنا المباركةِ أمنها وإيمانها، فلن تزيدَها تلك الأعمال الإجراميّة بحول الله إلا تماسُكًا وثباتًا والتفافًا حول قيادتها وعلمائها، وشاهت وجوهُ المجرمين المعتدين، ولتهنأ بلادُ الحرمين، ولتبقَ دائمًا وأبدًا شامةً غرّاء وصخرةً شمّاء تتهاوى أمام صلابتها سهامُ المغرضين المعتدين والأعداء ونصالُ الحاسدين والحاقدين الألدّاء.
كفى تشويهًا للإسلام دينِ الرّفق والسماحة والإصلاح والتعمير، لا العنفِ والتدمير والتفجير. كفى تشويهًا لصورة الجهاد الشرعيّ ذروةِ سنامِ الإسلام بمثل هذا التخريب والإفساد والإجرام. كم من مصالحَ للأمة قدّمها هؤلاء؟! وكم من مكاسبَ للأعداء حقّقها هؤلاء، وكم تضرَّر الدين والمتديّنون والدعوةُ والدعاة والحسبة والأعمال الخيريّة بسبب هذه التصرّفات الرعناء.
والدعوةُ موجَّهةٌ لجميع أبناء الأمةِ ـ والأمّة تمرّ بمنعطفٍ خطير ـ إلى الالتفافِ حولَ الولاية الشرعية وتضييع الفُرص أمام كلّ مفسدٍ مأفون والعملِ على إعزاز جانب الدين وأهلِه والدعوةِ وشُداتها والحسبة ورجالاتها والإصلاح الشامِلِ في كلّ مرافِق الحياة، وصَرخةُ نذير وصيحةُ تحذير لشبابنا وأحبابنا بعدَم الاغترار بهذه المسالك والأخذ من العلماء الربانيّين في هذه الظروف الحوالك وسلوكِ مسلَك الوسطيّة والاعتدال والحذر كلَّ الحذَر من فتاوى أهل الكُنى المجاهيل والانجراف خلفَ دعايات الأغرار المهازيل.
لا بدّ من حراسة الأمن بكلّ صوَرِه، لا سيّما الأمن الفكريّ أمام الأفكار المنحرفة والتيّارات الضالّة، سواءً في جانب الغلوّ والعنف والفِكر التكفيريّ، أو التغريبيّ والعولميّ. وهنا يأتي دورُ البيت والأسرةِ والمسجد والمدرسة ووسائل الإعلام، حتى يسلَم العباد وتأمن البلاد. ويعلمُ الله الذي لا إله غيرُه أنّ ذلك عينُ الشفقَة والنُّحص للأمّة وبراءة الذمّة والقيام بمتطلَّبات الديانة ورعاية الكلمةِ والأمانة، في وقتٍ كثُرت فيه الأهواء وتعدّدت الآراء والحكمُ على النيات والمقاصد والتصنيفُ وسوءُ الظنّ بالمسلمين، والله المستعان.
بـه ألقى الإلهَ ولا أبـالي وإن سَلقوا بألسنةٍ حــدادِ
فـذا فعلُ النبيِّ فلا تدَعه لإرضاءِ الصديق ولا المعادي
وإلى المغترِّين بأهوائهم المصرّين على لأوائهم أن أفيقوا قبلَ فوات الأوان، فأخشى ما نخشاه أن لا تستبينوا النصحَ إلا ضُحَى الغدِ، فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [غافر:44].
حفِظ الله بلادَنا وبلادَ المسلمين من شرّ الأشرار وكيد الفجّار، وأدام علينا نعمةَ الأمن والأمان وإن كرِه الحاقدون المغرِضون الحاسدون المتبربّصون.
وإن رغمِت أنوفٌ من أناس فقل يا ربّ لا ترغم سواها
بارك الله لي ولكم في الوحيين، ونفعني وإياكم بهدي سيّد الثقلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في العلم (67)، ومسلم في القسامة (1679) عن أبي بكرة رضي الله عنه، وأخرجه البخاري أيضا في الحج (1639) عن ابن عباس رضي الله عنهما، وورد عن غيرهما من الصحابة.
[2] أخرجه البخاري في الديات (6864)، ومسلم في القسامة (1678) عن ابن مسعود رضي الله عنه.
[3] أخرجه البخاري في الديات (6862) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
[4] سنن الترمذي: كتاب الديات (1395)، سنن النسائي: كتاب تحريم الدم (3987) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وقال الترمذي: "وفي الباب عن سعد وابن عباس وأبي سعيد وأبي هريرة وعقبة بن عامر وابن مسعود وبريدة"، وأشار إلى أن وقفه أصح من رفعه، ورجّح وقفه أيضا البيهقي في الكبرى (8/22)، ورمز له السيوطي بالصحة، وصححه الألباني في غاية المرام (439).
[5] صحيح البخاري: كتاب الديات (6872)، صحيح مسلم: كتاب الإيمان (96) بمعناه.
[6] صحيح البخاري: كتاب الطب (5778)، صحيح مسلم: كتاب الإيمان (109) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[7] البداية والنهاية (7/286).
الخطبة الثانية
الحمد لله، لا يُرجَى إلا خيرُه، ولا يخشَى إلا ضَيره، ولا إله لنا غيرُه، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان الأزكيان الأشرفان على خير البريّة وهادي البشريّة نبينا محمّد عليه وعلى آله وصحبه أزكى سلام وأوفى تحيّه، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة:281]، وعليكم بالجماعة، فإنَّ يد الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذّ في النار.
أيّها الإخوةُ الأحبّة في الله، إنّ ممّا يبعَث على الآمال في خضمِّ هذه التداعيات والآلام أنّ الله سبحانه وتعالى كتب الأمنَ والأمان لهذه البلادِ المقدّسة إلى قيام السّاعة، فالأمنُ فيها مِنّة ربِّ العالمين ودعوةُ أبينا إبراهيم، ثمّ هو بعد ذلك دأبُ هذه الولاية المسلمة وهمُّ الجنديّةِ المؤمنة المخلِصة، بل كلِّ غيور على دينه وبلاده، ومَن يروم غيرَ ذلك من الأوباش فإنما يروم المستحيلَ بإذن الله، وأنّى لناصحِ الصخرة الشمّاء أن يوهنَها، والشجرة الباسقة أن يهزَّها ويثنيَها؟! والأقزامُ إنما يرمون بالحجارة الشجرةَ المثمرة.
أمّةَ الإسلام، ولم تكن بلادُ الحرمين المحروسة بِدعًا في التعرَُّض للإرهاب والإرهابيِّين، ولشموليّة الشعور والإحساسِ بآلام الأمّة في هذا المجال لا بدّ من التذكير بمأساةِ إخواننا المسلمين في فلسطين الذين يعانون من إرهابِ الدّولة الذي يمارسُه الكيانُ الصهيونيّ تحتَ نير الاغتيالاتِ والأوضاع الدمويّة والتصفيات الجسدية للقيادات الفلسطينية، ممّا يتطلّب من الأمّة بل العالم أجمَع توفيرَ الحمايةِ لإخواننا ومقدَّساتنا هناك، في ظلِّ السلبيّة والتخاذُل الدوليّ أمام غطرسَةِ هذا العدوّ الصهيوني الغاشِم وتحدّيه السافِر لكلّ المواثيق والأعرافِ الدولية، وإلى متى لا يسمع الغيورُ إلا أصواتًا خافِتة تهمِس بالشَّجب والإدانة والمناشدة والاستنكار وضبطِ النفس؟!
أحبَّتي في الله، وصفحةٌ دمويّة أخرى يعيشُها إخواننا المسلمون في عراقِ التأريخ والعراقة، لا سيّما إخواننا في فلّوجةِ الصمود والبسَالة التي تعاني من ظُلم وحِصار وقتلٍ ودمار، تجاوز كلَّ الحدودِ الإنسانية، ممّا يدعو المنصفين في العالم إلى استنكارِ هذا العدوان الغاشِم والاحتلال الجاثم والعملِ بشتّى الوسائل على إيقافه ومنعِه، والنصيحةُ الأخويّة تقتضي حثَّ إخواننا هناك على الصّبر والمصابرة وتوحيدِ الكلمة ووحدةِ الصفوف، وليبشِر الجميع بنصرِ الله، فالتأريخ شاهدٌ على أنّ حَبلَ العُنفِ والإرهاب قصيرُ المدى، وأنّ النصرَ مع الصبر، والفرجَ مع الكرب، وأنّ مع العسر يُسرًا، وفي هذا بشارةٌ لأهل الإسلام، فإنّ آلام المخاض تعقبُها ولادةٌ مبشِّرة، وإنّ الظلمةَ تحمِلُ في أحشائها إشراقةَ الفجر المنتظَر، وشأنُ المسلم الواعي مع القَدَر والقضاء ومُرِّ الابتلاء الرضا والصبرُ والتسليم، يقول ابن مسعود رضي الله عنه: (لو كان العسرُ في جُحرٍ لطلبه اليُسر حتى يدخُل عليه)[1]، ويقول ابن عباس رضي الله عنهما: (لن يغلبَ عسرٌ يُسرين)[2].
ونحن اليومَ ومع شدّة الكرب وعِظَم الخَطب أحوجُ ما نكون إلى بثّ روح التفاؤل والاستبشار والإيجابية، حيث تتابعت صنوفُ الإحباطات واليأس عند كثيرٍ من الناس، حتى نسُوا أو تناسَوا في خضمِّ الآلام فلولَ البشائر والآمال.
إنّ الأمةَ مطالبةٌ للخروج من أزماتها الخانِقة إلى توبةٍ عامّةٍ وأوبةٍ صادقة ورجوع إلى الله وتضرُّع ودعاء وتجديد الثقةِ بالله وحُسنِ الظنّ به سبحانه واستنزال نصره بطاعتِه والتقرّب إليه وإعادة الثقةِ بالنفس والعملِ الجادِّ الدؤوب في سُبُل الصلاح والإصلاح، إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11]، لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [الروم:4-6].
هذا، وصلّوا وسلِّموا ـ رحمكم الله ـ على نبيّ الرحمة والهدى، كما أمركم بذلك ربّكم جل وعلا فقال تعالى قولاً كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على نبيّنا وإمامنا وقدوتنا وحبيبنا محمد بن عبد الله، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه ابن المبارك في الزهد (133)، وابن الجعد في مسنده (1099)، والطبري في تفسيره (30/236)، والبيهقي في الشعب (7/206)، والراوي عن ابن مسعود رجل مبهم.
[2] انظر: تفسير القرطبي (20/107).
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى