ام الشهيد
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
دَخَلْتُ المسجد، وَجَلَسْتُ أسْتَمِعُ لذلك الأخ، يَقُولون: إنَّه طالب عِلم مُتَمَيِّز جدًّا، يُدَرِّسُ بالمسجد النَّحْوَ، والعقيدة، والفِقْه، جَيِّدٌ سَأَسْتَفِيد - إن شاء الله العلي العظيم.
جلستُ، وَبَدَأَ يَشْرَحُ "ألفية ابن مالك"، مُمْتِعٌ جدًّا هذا الشَّرح.
حفظتُ الأبياتَ معهم، ولاَحَظْتُ أنَّ بعضَ الإخوة يَنْظُر لي ويبتسمُ ابتسامةً عجيبةً، بادَلْتُهم الابتسامَ، فَتَبَسُّمُكَ في وَجْه أخيكَ صدقة.
بعد دَرْس النَّحو، رفع أحد الإخوةِ الذين بَادَلُونِي الابتسامَ يدَه، وهو يَخْتَلِسُ النَّظَر لي بِطرف عَيْنِه، وقال - وهو يبتسم في خُبْثٍ -: كنتُ أريدُ أن أَسْألَ عَنْ شَيءٍ، بَادَلَهُ الأخُ الذي يشرحُ ابْتَسامته الخبيثة، وقال: تَفَضَّل، أخانا في الله، سَأَلَهُ: ما رأيك في الشيخ... صاحب كتاب...؟
ضَحِكَ الأخ الذي يَشْرَحُ وقال: لماذا فتحت هذا الموضوع؟ على أيَّة حال نُجِيبُكَ عنه - إن شاء الله - طبعًا إخواني لا بُدَّ أن نَعْرِفَ جميعًا: أنَّ هذا الأمر دينٌ، فانْظُروا عَمَّن تَأْخُذُونَ دينكم، وقد وَرَدَ النَّهْيُ عن مُجالسة المُبْتَدِعة، فضلاً عنِ الاستماع إليهم، والحمدُ لله الذي قَيَّضَ لهذه الأمَّة رجالاً يَذُبُّون عنها انتحال المُبْطلينَ، رجالاً رَفَعُوا راية الجَرْح والتعديل، وسَأَنْقُلُ لكم بأمانة رأي علماء هذا الفَنِّ في هذا الشَّيْخ الفاسِقِ، الفاجِرِ، الحِزْبِيِّ، الخارِجِيِّ، صَدَمَنِي الرَّدُّ؛ لكن آثَرْتُ الصَّمْت؛ لأسْتَمِعَ لما سيقول، قال: الشيخ فلان مبتدع، ضالٌّ، مُضِلٌّ، وقال: والشيخ فلان مِن أهل الهوى، وقال: الشيخ فلان منَ الفِرَق النَّارية، قلتُ في نفسي: عَجَبًا، لقدِ اسْتَمَعْتُ لهذا الرَّجل طويلاً، فيا ترى ما الذي قالَهُ أوِ اعْتَنَقَهُ؛ ليستحقَّ أن يصبَّ فوق رأسه اللَّعَنَات؟!
ذَهَبْتُ للأخ في الرَّاحة بين الدَّرْسينِ، جَلَستُ إليه، وأسندتُ رُكْبَتي إلى ركبتيهِ، وابْتَسَمْتُ، وقلتُ له: السلام عليكم.
رَدَّ وهو يبتسمُ ابتسامة الذِّئب، الذي وَقَعَ بين مخالِبه فريسة.
قُلْتُ مُبْتَسِمًا: سمعتكَ تَتَكَلَّمُ عنِ الشيخ...، ونقلتَ أقوال بعض المشايخ فيه، ولي سؤال.
قال: وما هو؟
قلتُ وأنا أنْظُر في عَيْنِه: ما بِدْعته؟
قال وهو يحدق في عيني بِتَحَدٍّ: خارجي، وتكفيري، وحِزْبي، وأيضًا ليس على المَنْهَجِ.
قلت - وأنا أَهُزُّ رأسي في حيرة -: ما معنى هذه التُّهَم؟ فأنا من تلامِذة الشَّيْخ المُقَرَّبينَ، وقد سائلته في العُلُومِ دهرًا، ولم أَسْمَع منه أبدًا أنَّه يُكَفِّر، حتى تارك الصلاة، ومنهجه في العَقَائد هو نفس منهج ابن تيميَّة، وابن القَيِّم، وهو يُنْكر أشد الإِنْكَار على الجماعاتِ الإسْلاميَّة.
قال- وكأنَّه يسمع درسًا يحفظه -: يُكَفِّرُ الحُكَّام، ويُحَزِّبُ الناس على غير التَّوحيد، كما أنه ليس على المنهج.
ابتسمتُ في حيرة، وقلتُ له: أخي، لم أَسْمَعْ للشيخِ أبدًا ولا نصف كلمة في تكفير الحُكَّام، كما أنه مِن دُعاة التوحيد، ولا يُحَزِّبُ الناس على غيره أبدًا، بل قد أُوذِيَ في الله كثيرًا مِن سُفهاء يُنادون بالمذاهِب الهَدَّامَة.
قال وهو يلوح بكفه: لا لا لا، ولن تسمعَ منه ذلك أبدًا، فهو يُبْطِن ذلك.
كَتَمْتُ ضحكةً ساخرة كادَتْ تَخْرُجُ مني، وقلتُ في هدوءٍ ظاهرٍ، وقد بدأتُ أفهمُ ما يحدث: وإذا كان يُبْطِنُ هذا، فكيف عَرَفْته؟
قال في ثقة: لم أعرفه مِن تِلْقَاء نفسي، بل قاله شُيُوخِي نقلاً عنِ الثِّقات.
قلتُ له: لكني مِن بطانة الشيخ، فكيف لم يُخْبِرْني بما يبطن؟!
ضَحِك وقال: لَعَلَّهُ رأى منكَ قوَّةً في دين الله، فخشي أن يظهرَ لك ذلك.
قلتُ: ومَن باطنهم بذلك كانوا يظهرون الضَّعْف في دين الله؟
انْكَتَمَ الضحك في فمه، حتى كاد يشرق، وجعل يسعل في قوة، ثم قال: لا لا بالطبع.
قلتُ: إذًا وكيف باطنهم؟
ابْتَسَمَ ورَبَّت على كتفي في ودٍّ مفتعل، وقال: يا أخي، الموضوع شَرْحُه طويل، ونحن نَثِقُ في الشيوخ الأَجِلاَّء، الذين يقومون بالجرح والتعديل.
قلتُ: لكن الشَّيْخ ابن العُثَيْمين وابن باز لهم أقوالٌ في مدحه.
قال - وقد بدأ يَتَمَلْمَل -: كان هذا قبل أن يَعْرِفُوا حقيقته.
اسْتَدَرْتُ لِأَنْصَرِف، ثم بَدَا لي أن أسأله سؤالاً آخر، قلتُ: يا أخي، هَلاَّ وَضَّحْتَ لي معني ليس على المنهج؟
قال: يعني ليس على منهج أهل السُّنَّة والجماعة طبعًا.
قلتُ: إذًا، وما هي الجُزْئيَّة التي تُخْرِجُه عن أهل السنَّة، أهوَ التَّكفير فقط؟
قال في غطرسة: بالطَّبع، وأَضِف إلى هذا أنه لا يُجَرِّحُ المجروحين.
قلتُ - وأنا أدعو الله أن يُلْهِمَنِي الصبر -: ومَن همُ المَجْرُوحون؟
قال: طبعًا هُم مَن جَرَّحَهُم شيوخي.
قلتُ: على أيَّة حال لن أُضَيِّعَ وقت الدرس، سأنصرف الآن، ولي معك جلسة طويلة - إن شاء الله - أو سأتَّصِلُ بك، أَتَأْذَن لي، ابْتَسَمَ مفتعلاً، وهو ينهي اللِّقاء في عجلة: طبعًا طبعًا.
انْصَرَفْتُ ورأسي تدور، ما هذا الكلام العجيب، أليسَ من قواعد السَّلَفِيَّة الأولى عدم تقليد شيخ بعينه؟ كيف يجعل شيوخه كالمعصومين، لا يرد لهم قولاً؟ كيف يرفع راية الولاء والبَرَاء على أحكام شيوخه في أقرانهم؟ بل كيف يكون هذا الرَّجل سَلَفيًّا ومتبعًا للدَّليل، وهو يُبَدِّع شيخًا بكلام قرينٍ له، وقد قال العلماء: إنَّه لا يُقْبَل جرح الأقران؟ كيف هانَتْ عليه نفسه أن يَتَّهِمَ شيخًا جليلاً بهذه التُّهَم الشَّنيعة؟ كيف سمح لِلِسَانه بالانْطلاق هكذا بِغَيْر وَرعٍ ولا تقوى؟ وفيمَنْ؟ في شيخ من أهل السُّنَّة، كيف يظن أنه مُلاقٍ ربه بهذا؟
ذهبتُ لصلاة المغرب في المسجد كعادتي، وقابلتُ صديقي الذي دَلَّنِي على هذا الدرس، قال لي: لا تحزن لِمَا سمعتَ، فهذه عادتهم.
قلتُ له في ضيقٍ: مَن تعني؟
قال: أَعْنِي طالب العلم الذي حَضَرتَ درسه هذا الصباح، أتَعْلَم أنه قد جَرَّحَكَ، وقال فيك أقوالاً شنيعة جدًّا بعد انصرافِكَ؟
قلت له: أخي دعنا من هذا؛ حتى لا نكونَ نَمَّامين.
احْمَرَّ وَجْهُه خجلاً، وَسَكَتَ وهو يَسْتَغْفِر؛ لكن لم يمنعني هذا منَ التَّعَجُّب مِن سلوك هذا الأخ العجيب، كيف يَتَكَلَّم فيَّ، وهو يعلم أنَّ هذا من أبواب الغيبة؟
سبحان الله! بل لَعَلَّه ظَنَّ أنَّ هذا أيضًا من أبواب الجرح، سبحان الله! فتح القوم بابًا بين الغيبة والجرح، فاخْتَلَطَ الحلال بالحرام، ثم لم يَتَمَكَّنُوا منَ لفَصْل؛ صدق الله العظيم إذ يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: 29]، كنتُ أشْعُرُ بالاخْتِنَاقِ، دَخَلْتُ غرفتي، وأخْرَجْتُ كتبي، وبدأتُ أُقَلِّبُ فيها، ترى ماذا وجدت في كُتُب السَّلَف؟
أخْرَجْتُ كتاب "الاعتصام" للشاطبي، وبدأتُ أقرأ"، وفَيْصل القضيَّة بينهما قوله - تعالى -: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ}... إلى قوله - تعالى -: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7]، "فلا يَصِحُّ أن نُسَمِّيَ مَن هذه حاله مبتدعًا، ولا ضالاًّ، وإن وَقَع في الخلاف أو خفي عليه؛ أمَّا إنه غير مبتدعٍ؛ فلأنه اتَّبَع الأدلة ملقيًا إليها حكمة الانقياد، باسطًا يد الافتقار، مؤخرًا هَوَاهُ، مقدمًا أمر الله، وأمَّا كونه غير ضالٍّ؛ فلأنه على الجادَّة سَلَكَ، وإليها لجأ، فإن خرج عليها يومًا فَأَخْطَأَ، فلا حرج عليه؛ بل يكون مأجورًا حسبما بَيَّنه الحديث الصحيح: ((إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر، وإن أصاب فله أجران))، وإن خرج متعمدًا، فليس على أن يجعلَ خروجه طريقًا مسلوكًا له أو لغيره، وشرعًا يُدَان به" ص100.
قَلَّبْتُ صفحات الكتاب مَرَّة أخرى، فوجدت أنَّ لفظ أهل الأهواء والبدع إنَّما تُطْلَق حقيقةً على الذين ابتدعوها، وقدموا فيها شريعة الهوى بالاسْتِنْباط، والنصر لها، والاستدلال على صِحتها في زعمهم، حتى عدَّ خلافهم خلافًا، وشُبَههم منظورًا فيها، ومحتاجًا إلى رَدِّهَا، والجواب عنها، كما نقول في ألقابِ الفِرَق منَ المُعْتَزلة، والقَدَرِيَّة، والمُرْجِئة، والخَوَارج، والباطِنيَّة، ومَن أشبههم، بأنها ألقاب لمن قام بتلك النِّحَل ما بين مستنبط لها، وناصر لها، وذابٍّ عنها، كلفظ أهل السُّنَّة إنما يطلق على ناصِريها، ومَنِ اسْتَنْبَطَ على وفقها، والحامِلين لذمارها" ص118، ووجدتُ الباب التاسع كله يَتَحَدَّث عنِ الفرق النارية، وكيفية تعيينها، وما حدود أن يُقال عن رجل: إنه مُنْتَمٍ لتلك الفرق النارية.
في الصباح أخذتُ الكتاب، وذهبتُ إلى الأخ طالب العلم.
قلتُ له: أخي في الله، أصْلَحَكَ الله، قد بتُّ ليلتي أُطالِع هذا الكتاب للمَرَّة الثانية، ووجدتُ فيه كلامًا أتمنى أن تقرأه.
نَظَر لي شذرًا، وقال ساخرًا: آه، أنتَ ممن ليس له شيخ إلاَّ الكتاب، وَمَنْ كان شيخه الكتاب، كان خَطَؤُه أكثر منَ الصَّوَاب.
كظمتُ غيظي، وقلتُ له في حلم: أخي ليس شيخي الكتاب؛ بل أحد شيوخي هو الشيخ الذي طعنتَ عليه أنت بالأمس، وظني أنه مهما سميتَ لك من شيخ فسوف تطعن عليه، وتقول فيه مثل ما قلتَ، فلا بُدَّ إذًا أن يكونَ لنا شيء نَحْتَكِمُ له، أليس كذلك؟ الآن أنا وأنتَ اخْتَلَفْنا، فما حكم الله؟ قال - تعالى -: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: 10]، الآن دعنا نُحَكِّمُ كتاب الله بيننا، وليس بفهمنا بل بِفَهْم السَّلَف وعملهم، أَتَرْضى؟
قال - وهو يُقَلِّبُ شفتيه في ازدراء -: بالطبع، ومَن لا يرضى بِحُكْم الله، وليس أنتَ مَن ستعلمني حكم الله.
قلت: إذًا تعالى نقرأ تفسير الأئمَّة المُتَقَدِّمينَ لمسألة البدع والمبتدعة، والحكم على الرِّجال بالبِدَع.
أمسكَ الكتاب وَقَلَّبَهُ بين يديه في اسْتِهْجانٍ، وقال: لَعَلَّكَ لم تفهمْ، إنَّ هذا الكتاب هو عُمْدَة شُيُوخي.
قلتُ له: هل قرأته؟
قال: لا، لا أحتاجُ لذلك، قد سمعتُه مِنْ شيوخي، وسَمِعْتُ شَرْحه لهم، وتوجيههم لما فيه.
قلتُ له: يا أخي لو قرأته، وقرأت كلام ابن القيم، وابن تيميَّة، واعتذارهم عن أهل البدع الذين هم فعلاً من أهل البدع، ومحاولتهم تأويلهم كلامهم؛ لِيُوَافِقَ أهل السنة، ورأيتَ طريقتهم في الرَّد عليهم، وكيفيَّة استخدامهم للألفاظ لَمَا قلتَ ما قلتَ بالأمس في شيخ فاضل من أهل السُّنَّة.
قال في غَضَب - وقد هَزَّه منطقي -: أنتَ مُتَعَصِّبٌ لِشَيْخك.
قلت: يا أخي، أصلحني الله وإياك، هل أنا المتعصب لشيخي، أو أنت المتعصب لشيوخك؟ لا تَسْمَع سواهم، ولا تأخذ الكلام إلاَّ منهم، ولا تريد أن تسمعَ غيرهم، ولا حتى تقرأ للأئمَّة المتقدمين؛ لِتَعْرِفَ الحق منَ الباطل، بالله عليك أترى أن شيوخك مَعْصُومين؟
قال - وقد ظَهَر عليه الارتباك أكثر -: لا.
قلتُ: إذًا؛ لماذا تنقادُ إليهم كانْقِياد الصوفي لمشايخه؟! يقولون لك الكلمة، فتقول: آمين.
قال - وقد ثار غضبه -: يا هذا، لا أخالُكَ أنتَ أيضًا إلاَّ مُبتدعًا، تُجادِلُ عنِ المبتدعينَ.
قلتُ له: إنَّ رميكَ لي بالبدعة لا يهزني، فأنتَ منطقكَ معوجٌّ، رميتُم شيوخًا من أفضل المشايخ بالبدعة؛ لأنَّهُم خالفوكم في مسائل فقهيَّة، أو لأنَّهم لم يأخذوا بِكَلامكم في الجرح والتعديل في الدُّعاة والعلماء المساكين، عجبًا لكم! كيف اسْتَبَحْتُم أعراض العلماءِ المسلمين بهذه الطريقة، أنتم أشد علينا منَ اليهود والنَّصارى.
قال الأخ في عناد: ليسوا علماء.
قلتُ في صبر: إن كانوا ليسوا علماء، أليسوا مسلمين؟ أليس لهم حُرْمة الإسلام؟ ثُمَّ ما ضابط قولِكَ عنِ الرجل: إنه عالم؟ سكت.
قلت له: هل لديك أدلة منَ الكتاب والسُّنَّة على منهج الجرح والتعديل بطريقتكم هذه؟
قال مُسْتَنْكرًا سؤالي: طبعًا.
قلت: إذًا ائْتِنِي بها غدًا - إن شاء الله - ولنرَ هل هذا الكلام مِن شرع الله، أو هو سوء فَهْم مِنْكم للبِدْعة؟
التَقَيْتُ بالأخ في اليوم التالي، وجَلَسْنا في زاوية المسجد، نَظَر لي بِتَعَالٍ، وقال: قد جئتكَ بكتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لَعَلَّكَ تفهم وتتوب إلى الله - عز وجل.
قلتُ له: قُلْ ما عندك.
قال:
الدَّليل الأول: عن عائشة - رضي الله عنها -: أنَّ رجلاً استأذَنَ على النبي - صلى الله عليه وسلم - فلمَّا رآه، قال: ((بِئْس أخو العشيرة، وبِئْس ابن العشيرة))، فلمَّا جَلَس، تَطَلَّقَ النبي - صلى الله عليه وسلم - في وجهه، وانْبَسَط إليه، فلمَّا انطلق الرجل، قالت له عائشة: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين رأيتَ الرجل، قلتَ كذا وكذا، ثم تطلقت في وجهه وانبسطت إليه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يا عائشة، متى عهدتني فاحشًا؟ إنَّ شرَّ الناس عند الله منزلة مَن تركه الناس اتِّقاء شَرِّه))؛ صحيح البخاري.
فقد ذَكَره النبي - صلى الله عليه وسلم - بعينه، وقال فيه: ((بئس أخو العشيرة)).
قلتُ مبتسمًا: يا أخي أصْلَحَكَ الله، هل قرأتَ شرح هذا في "فتح الباري" مثلاً؟
ارْتَبَكَ وقال: لا.
قلتُ: وهل يعجبكَ ابن حجر، أو أنه مبتدع أيضًا؟
قال في ضيق: بالتأكيد يعجبني، لكن أكيد أنت لم تَفْهَمْ كلامه.
قلتُ: أنقل لك الشرح، وقلْ لي أنت ماذا تَفْهَمُ مِن كلامه:
كتاب الأدب: باب لم يكن النبي فاحشًا، (وَضَعْ خطًّا تحت لم يكن فاحشًا)، قوله: فلمَّا جلس تَطَلَّق - بفتح الطاء المهملة، وتشديد اللام - أي: أبدى له طلاقة وجهه، يقال: وَجْهُه طَلْق وطليق؛ أي: مُسترسل، منبسط، غير عبوس، ووقع في رواية ابن عامر: "بَشَّ في وَجْهِه"، ولأحمد من وجه آخر عن عائشة: "واستأذن آخر، فقال: ((نعم أخو العشيرة))، فلمَّا دَخَل لم يَهَشّ له، ولم ينبسطْ كما فَعَل بالآخر، فَسَألتُه فَذَكَر الحديث، قال الخَطَّابي: جَمَع هذا الحديث عِلْمًا وأَدَبًا، وليس في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في أمَّته بالأُمُور التي يُسَمِّيهم بها، ويضيفها إليهم منَ المكروه غيبة؛ وإنَّما يكون ذلك مِن بعضهم في بعض؛ بلِ الواجب عليه أن يُبَيِّنَ ذلك، ويفصح به، ويُعَرِّف الناس أمره، فإنَّ ذلك من باب النَّصيحة والشَّفَقة على الأمَّة، ولكنه لما جُبِل عليه منَ الكرم، وأُعْطيه من حُسْن الخُلُق، أَظْهَر له البَشَاشَة، ولم يُجِبْه بالمَكْرُوه؛ لِتَقْتَدِيَ به أمتُه في اتِّقاء شرِّ مَن هذا سبيله، وفي مُدَارَاته ليسلموا من شَرِّه وغَائِلته.
قلتُ: وظاهِرُ كلامِه أن يكونَ هذا من جملة الخَصَائص، وليس كذلك؛ بل كل مَنِ اطَّلَع مِن حال شخص على شيء، وخشيَ أنَّ غيره يَغْتَرّ بِجَميلِ ظاهره فيقع في محذور ما، فَعَلَيْه أن يُطْلِعَه على ما يَحْذر من ذلك قاصدًا نَصِيحته، وإنَّما الذي يُمْكِن أن يختصَّ به النَّبي - صلى الله عليه وسلم - أن يكشفَ له عن حال مَن يَغْتَر بِشَخْص مِن غير أن يُطْلِعَه المُغتر على حاله، فيُذَمُّ الشَّخص بِحَضْرَتِه لِيَتَجَنَّبه المُغْتر لِيَكُون نصيحة، بِخِلاف غير النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنَّ جَوَاز ذَمِّه للشَّخْص يَتَوَقَّف على تَحَقُّق الأمر بالقول أو الفعل ممن يريد نُصحه، وقال القرطبي: في الحديث جواز غيبة المُعلن بالفِسْق، أوِ الفُحْش، ونحو ذلك منَ الجَوْر في الحكم، والدُّعاء إلى البِدعة، مع جواز مُدَارَاتهم اتِّقاء شَرِّهم، ما لم يُؤَدِّ ذلك إلى المُدَاهَنة في دين الله - تعالى - ثُمَّ قال تبعًا لعياض: والفَرْقُ بين المُدَارَاة والمُدَاهَنة؛ أن المداراة: بذل الدُّنيا لِصَلاح الدنيا، أو الدين، أو هما معًا، وهي مباحة، وربما اسْتُحِبَّت، والمُدَاهَنة: تَرْك الدِّين لصلاح الدنيا، والنبي - صلى الله عليه وسلم - إنما بذل له مِن دنياه حسن عِشْرته والرِّفق في مكالمته، ومع ذلك فلم يمدحه بقول، فَلَمْ يُناقِض قولُه فيه فِعْلَه، فإنَّ قولَه فيه قولٌ حَقٌّ، وفعله معه حُسن عشرة، فيزول مع هذا التَّقرير الإشكالُ بِحَمْد الله - تعالى.
وقال عياض: لم يكن عُيَيْنة - والله أعلم - حينئذٍ أَسْلَمَ، فلم يكن القول فيه غيبة، أو كان أسلم ولم يكن إسلامُه ناصحًا، فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يُبَيِّنَ ذلك؛ لِئلاَّ يَغْتَر به مَن لم يعرف باطنه، وقد كانت منه في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وبعده أمور تَدُلُّ على ضعف إيمانه، فيكون ما وصفه به النبي - صلى الله عليه وسلم - مِن جُملة علامات النبُوة، وأمَّا إِلاَنَة القول له بعد أن دَخَل، فعلى سبيل التَّأَلُّف له، ثم ذكر نحو ما تَقَدَّم، وهذا الحديث أصلٌ في المُدَاراة، وفي جواز غيبة أهل الكُفْر والفِسْق ونحوهم، والله أعلم".
باب ما يجوز منَ الغيبة:
حديث عائشة في قوله: ((بئس أخو العشيرة))، وقد تَقَدَّمَ شرحُه قريبًا في "باب لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - فاحشًا"، وقد نُوزِعَ في كون ما وقع من ذلك غيبة، وإنَّما هو نصيحة لِيَحْذَر السَّامِع، وإنَّما لَمْ يُواجه المقول فيه بذلك؛ لِحُسن خُلقِه - صلى الله عليه وسلم - ولو واجه المَقُول فيه بذلك لكان حسنًا، ولكن حَصَل القَصْد بِدُون مُوَاجَهة، والجَوَابُ أنَّ المُرَادَ أن صورة الغيبة مَوْجُودة فيه، وإن لم يَتَناول الغيبة المَذْمومة شرعًا، وغايته أنَّ تعريف الغِيبة المذكور أَوَّلاً هو اللُّغَوي، وإذا اسْتُثْنِيَ منه ما ذُكِرَ كان ذلك تعريفها الشَّرْعي.
قولُه في الحديث: ((إنَّ شَرَّ الناس)): استئناف كَلام كالتَّعليل لِتَرْكِه مُواجَهَته بما ذَكَرَه في غَيْبَته، ويُسْتَنْبَطُ منه أنَّ المُجَاهِرَ بالفسق والشَّرِّ لا يكون ما يذكر عنه من ذلك من وَرَائه منَ الغِيبة المَذْمُومة، قال العلماء: تُبَاحُ الغِيبَة في كلِّ غَرَضٍ صحيحٍ شرعًا؛ حيثُ يَتَعَيَّنُ طريقًا إلى الوُصُول إليه بها: كالتَّظَلُّم، والاستعانة على تغيير المنكر، والاستفتاء، والمُحَاكَمة، والتَّحْذير منَ الشَّرِّ، ويدخل فيه تَجْريح الرُّواة والشُّهود، وإعلام مَن له وِلاية عامَّة بسيرة مَن هو تحت يَده، وجواب الاستشارة في نِكاح أوْ عَقْد منَ العُقُود، وكذا مَن رأى مُتَفَقِّهًا يَتَرَدَّد إلى مُبْتَدِع أو فاسِقٍ ويخاف عليه الاقتداء به، وممَّن تَجُوز غِيبتُهم مَن يَتَجَاهر بالفِسْق، أو الظُّلم، أوِ البدعة، وممَّا يدخل في ضابط الغِيبة وليس بِغِيبة ما تَقَدَّم تفصيله في "باب ما يجوز من ذِكْر الناس" فيُسْتَثْنَى أيضًا، والله أعلم.
ابْتَسَمَ منتصرًا، وقال: أرأيتَ، يجوز ذِكْرُ المبتدعة والفَسَقة.
قلتُ: أخي، أَصْلَحَكَ الله، وهل قلنا غير هذا، لكن الشيخ الذي تَحَدَّثْت أنت عنه ليس منَ المبتدعة، ولا الفَسَقة، وقد نقلتُ لك كلامَ الشاطبي في بيان مَن يُسَمَّى مُبتدعًا.
قال - وقد علا صوته -: لكن ابن حجر يقول: إن مَنِ اطَّلَع على حال مُبتدع، وَجَب بيانُه للأمَّة.
قلتُ له: أخي، قد سألتكَ أمس: كيف اطَّلَعْتَ على حاله، فلم تُجِبْني بكلام شافٍ؛ بل زعمْتَ أنَّ الثقات نقلوا لك عنِ الثقات، وأنَّ الثقات قالوا - وكلامهم ثقة -: إنه مبتدع.
قل لي يا أخي: أليس هذا السَّنَد مُعضلاً قليلاً؟ أعْنِي أنَّ فيه مجاهيل؟
احْمَرَّ وجهه غضبًا، وقال:
إذًا خُذِ الدَّليل الثاني:
قَلَّبَ كتابًا بين يديه، ثم قال في انتصار: إليك الدليلَ الثاني، لَمَّا انتهت فاطمة بنت قيس من عدة طلاقها من زوجها أبي عمرو بن حفص، ذَكَرَتْ للنبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّ مُعاوية بن أبي سفيان وأبا جهم خَطَبَاها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أما أبو جَهْم، فلا يضع عصاه عن عاتِقه، وأمَّا مُعاوية فَصُعْلُوكٌ لا مالَ له، انكحي أسامة بن زيد))، قالتْ: فَكَرِهْتُه، ثم قال: ((انْكِحي أسامة))، فَنَكَحْتُه، فجعلَ الله فيه خيرًا، واغتبطت؛ والحديث في مسلم.
ثم أضاف: وطبعًا لا يخفى عليك أنه بالتَّأكيد لِكُلٍّ مِن معاوية وأبي جَهْم فضائل، لكن في مقام النُّصح جاز فَضْح حالهم، فليس معنى أن يكونَ المُحَذَّر منه صاحب فضائل أَلاَّ نَنْصَحَ الناس من شروره.
قلتُ: يا أخي، أصلحك الله، انْظُر لِقَوْل النووي في "شرحه لِمُسلم": "وفيه دليل على جواز ذِكْر الإنسان بما فيه عند المُشَاوَرة، وطَلَب النصيحة، ولا يكون هذا منَ الغِيبة المُحَرَّمة"، لاحِظْ كلمة "بما فيه"، وَضَعْ تحتها ألف خَطّ، "بما فيه" وليس بما أَدَّعِيه، وليس بما أفهمه خطأ عنه،وهل النَّصيحة أن أقول: ضالٌّ، مضلٌّ، مُبتدعٌ، زائغٌ، وعندما أسألك: ما بدعته؟ تقول: لا يُجَرِّح المجروحين، ويبطن كذا وكذا؟
النبي - صلى الله عليه وسلم - اطَّلَع على حال شخصٍ فَحَذَّرَ مِن عيبه الذي يضرُّ المرأة، لم يخبرها بعيوب أخرى لا تخصُّها، ونحن لسنا ضد التَّحذير منَ المُبتدعة، لكن يجب أولاً أن يكونوا مبتدعة، أليس كذلك؟ أمَّا أن يختلفَ معي شيخٌ في مسألة ما، فأُغَلِّظُ له القول، وأحذر منه، أو ألاَّ يعجبني غير نفسي فأرى الكلَّ على خطأٍ، وأَتَعَنَّتُ في فَهْم مقاصدهم لِأَرْمِيهم بالبدعة، وما يدريني لعلِّي أنا المخطئ، أليس كذلك؟
قال في ازدراء: إن كنتَ أنت تشكُّ في اعتقادكَ، فلا تدري إذا اختلفَ معك شيخٌ إن كانَ الحقُّ معك أم معه، فأنا لا أشكُّ في اعتقادي.
قلتُ له: أَصْلَحَكَ الله، ورزقني الصبر والسلوان، أنا لا أشُكُّ في اعتقادي بالتأكيد، ولا أتَحَدَّثُ عن الاعتقاد أصلاً، لكنَّكَ لم تَقُلْ لي: أين بدعة الاعتقاد التي وقع فيها الشيخ المجروح بكل هذه الفظائع: ضال، مضل، زائغ عن الحق، مبتدع؟! لو قلت: هذا صوفي، أو شيعي ما ناقشتك، لكنَّكَ تقولها في علماء السُّنَّة.
قال في عناد: والنَّبِي - صلى الله عليه وسلم - قالها في صحابِيَّيْنِ.
قلت له: النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ماذا؟ قال عنِ الصحابيينِ: ضالٌّ، مُضِلٌّ، زائغٌ؟
قال: لا، ولكن قال: ((لا يضع العصا عن عاتقه))، وقال عن الآخر: ((صعلوك لا مال له)).
قلتُ: يعني قال ما فيهما بعبارةٍ مُهَذَّبةٍ، أمَّا أنتَ فقلتَ في الشيخ ما ليس فيه، واستخدمت عبارة - معذرة - غير مُهَذَّبة.
سَكَتَ مُكْرَهًا، وقال في غضب: إذًا خُذِ الدَّليل الثالث.
قلتُ له وأنا أنْتَقِي كلماتي: أخي، لسنا في حلبة مصارعة، ولْيَنْتَهِ الحوار عند هذا الحدِّ، فكلُّ دليل ستخبرني به أنا أعرفه وأحفظه عن ظهر قَلْب، وَكُلُّها أدلة لن تعطيكَ الحق في جرح علماء ينتسبون لأهل السنة بما ليس فيهم استنادًا لفهمك الخاطئ عنهم، لا والله، لم يكن هذا سلوك السَّلَفِ الصَّالِح، لا الصَّحابة، ولا التابعين، ولا مَن تَبِع هؤلاء بإحسانٍ إلى يومِ الدِّين، انْظُر إلى وَرَعِ هؤلاء القوم في لَفْظِهم، وفي قَوْلِهم، وفي صَمْتِهم، وستعرف جيدًا أنَّ الأمر ليس كما تقول، اقرأ في كُتُب السَّلَف، وانظر حِلْمهم، وعدم تحميلهم اللَّفظ فوق ما يحتمل، اقْرَأ في كُتُب السلف، وانهل مِن عِلْمِهم تعرف أنَّ ما تفعل أنت وغيرك، وأن ما نهشْتَ مِن لحم علماء أجلاَّء من أهل السنة غير جائز، تَذَكَّر وقوفكَ يوم العرش عُريانًا، وأنت تسأل ما الذي دفعكَ أن تقول في هذا وذاك: مبتدع، هل سيقبل منكَ أن تقول لله - تعالى -: قلتُ فيه: مبتدعٌ؛ لأنَّه لم يوافقني في جرح أو تعديل؟ أو لأنِّي ظَنَنْتُ أنَّه عني بقوله هذا كذا؟ أو لأن فلانًا وفلانًا أسقطه، ولا يقبل جرح الأقران؟
ماذا ستقول لله - تعالى - إن سَأَلَكَ: لِمَ صَددت عن أهل العلم؟ {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} [البقرة: 114].
أتكون عونًا للمُبتدعة الحقيقيين على إسقاط علماء السُّنَّة الذَّابِّينَ عنها؟ لقد فعلنا إذًا ما عجز عنه الغرب.
إنا لله وإنا إليه راجعون.
جرح وتعديل
سارة بنت محمد حسن
جلستُ، وَبَدَأَ يَشْرَحُ "ألفية ابن مالك"، مُمْتِعٌ جدًّا هذا الشَّرح.
حفظتُ الأبياتَ معهم، ولاَحَظْتُ أنَّ بعضَ الإخوة يَنْظُر لي ويبتسمُ ابتسامةً عجيبةً، بادَلْتُهم الابتسامَ، فَتَبَسُّمُكَ في وَجْه أخيكَ صدقة.
بعد دَرْس النَّحو، رفع أحد الإخوةِ الذين بَادَلُونِي الابتسامَ يدَه، وهو يَخْتَلِسُ النَّظَر لي بِطرف عَيْنِه، وقال - وهو يبتسم في خُبْثٍ -: كنتُ أريدُ أن أَسْألَ عَنْ شَيءٍ، بَادَلَهُ الأخُ الذي يشرحُ ابْتَسامته الخبيثة، وقال: تَفَضَّل، أخانا في الله، سَأَلَهُ: ما رأيك في الشيخ... صاحب كتاب...؟
ضَحِكَ الأخ الذي يَشْرَحُ وقال: لماذا فتحت هذا الموضوع؟ على أيَّة حال نُجِيبُكَ عنه - إن شاء الله - طبعًا إخواني لا بُدَّ أن نَعْرِفَ جميعًا: أنَّ هذا الأمر دينٌ، فانْظُروا عَمَّن تَأْخُذُونَ دينكم، وقد وَرَدَ النَّهْيُ عن مُجالسة المُبْتَدِعة، فضلاً عنِ الاستماع إليهم، والحمدُ لله الذي قَيَّضَ لهذه الأمَّة رجالاً يَذُبُّون عنها انتحال المُبْطلينَ، رجالاً رَفَعُوا راية الجَرْح والتعديل، وسَأَنْقُلُ لكم بأمانة رأي علماء هذا الفَنِّ في هذا الشَّيْخ الفاسِقِ، الفاجِرِ، الحِزْبِيِّ، الخارِجِيِّ، صَدَمَنِي الرَّدُّ؛ لكن آثَرْتُ الصَّمْت؛ لأسْتَمِعَ لما سيقول، قال: الشيخ فلان مبتدع، ضالٌّ، مُضِلٌّ، وقال: والشيخ فلان مِن أهل الهوى، وقال: الشيخ فلان منَ الفِرَق النَّارية، قلتُ في نفسي: عَجَبًا، لقدِ اسْتَمَعْتُ لهذا الرَّجل طويلاً، فيا ترى ما الذي قالَهُ أوِ اعْتَنَقَهُ؛ ليستحقَّ أن يصبَّ فوق رأسه اللَّعَنَات؟!
ذَهَبْتُ للأخ في الرَّاحة بين الدَّرْسينِ، جَلَستُ إليه، وأسندتُ رُكْبَتي إلى ركبتيهِ، وابْتَسَمْتُ، وقلتُ له: السلام عليكم.
رَدَّ وهو يبتسمُ ابتسامة الذِّئب، الذي وَقَعَ بين مخالِبه فريسة.
قُلْتُ مُبْتَسِمًا: سمعتكَ تَتَكَلَّمُ عنِ الشيخ...، ونقلتَ أقوال بعض المشايخ فيه، ولي سؤال.
قال: وما هو؟
قلتُ وأنا أنْظُر في عَيْنِه: ما بِدْعته؟
قال وهو يحدق في عيني بِتَحَدٍّ: خارجي، وتكفيري، وحِزْبي، وأيضًا ليس على المَنْهَجِ.
قلت - وأنا أَهُزُّ رأسي في حيرة -: ما معنى هذه التُّهَم؟ فأنا من تلامِذة الشَّيْخ المُقَرَّبينَ، وقد سائلته في العُلُومِ دهرًا، ولم أَسْمَع منه أبدًا أنَّه يُكَفِّر، حتى تارك الصلاة، ومنهجه في العَقَائد هو نفس منهج ابن تيميَّة، وابن القَيِّم، وهو يُنْكر أشد الإِنْكَار على الجماعاتِ الإسْلاميَّة.
قال- وكأنَّه يسمع درسًا يحفظه -: يُكَفِّرُ الحُكَّام، ويُحَزِّبُ الناس على غير التَّوحيد، كما أنه ليس على المنهج.
ابتسمتُ في حيرة، وقلتُ له: أخي، لم أَسْمَعْ للشيخِ أبدًا ولا نصف كلمة في تكفير الحُكَّام، كما أنه مِن دُعاة التوحيد، ولا يُحَزِّبُ الناس على غيره أبدًا، بل قد أُوذِيَ في الله كثيرًا مِن سُفهاء يُنادون بالمذاهِب الهَدَّامَة.
قال وهو يلوح بكفه: لا لا لا، ولن تسمعَ منه ذلك أبدًا، فهو يُبْطِن ذلك.
كَتَمْتُ ضحكةً ساخرة كادَتْ تَخْرُجُ مني، وقلتُ في هدوءٍ ظاهرٍ، وقد بدأتُ أفهمُ ما يحدث: وإذا كان يُبْطِنُ هذا، فكيف عَرَفْته؟
قال في ثقة: لم أعرفه مِن تِلْقَاء نفسي، بل قاله شُيُوخِي نقلاً عنِ الثِّقات.
قلتُ له: لكني مِن بطانة الشيخ، فكيف لم يُخْبِرْني بما يبطن؟!
ضَحِك وقال: لَعَلَّهُ رأى منكَ قوَّةً في دين الله، فخشي أن يظهرَ لك ذلك.
قلتُ: ومَن باطنهم بذلك كانوا يظهرون الضَّعْف في دين الله؟
انْكَتَمَ الضحك في فمه، حتى كاد يشرق، وجعل يسعل في قوة، ثم قال: لا لا بالطبع.
قلتُ: إذًا وكيف باطنهم؟
ابْتَسَمَ ورَبَّت على كتفي في ودٍّ مفتعل، وقال: يا أخي، الموضوع شَرْحُه طويل، ونحن نَثِقُ في الشيوخ الأَجِلاَّء، الذين يقومون بالجرح والتعديل.
قلتُ: لكن الشَّيْخ ابن العُثَيْمين وابن باز لهم أقوالٌ في مدحه.
قال - وقد بدأ يَتَمَلْمَل -: كان هذا قبل أن يَعْرِفُوا حقيقته.
اسْتَدَرْتُ لِأَنْصَرِف، ثم بَدَا لي أن أسأله سؤالاً آخر، قلتُ: يا أخي، هَلاَّ وَضَّحْتَ لي معني ليس على المنهج؟
قال: يعني ليس على منهج أهل السُّنَّة والجماعة طبعًا.
قلتُ: إذًا، وما هي الجُزْئيَّة التي تُخْرِجُه عن أهل السنَّة، أهوَ التَّكفير فقط؟
قال في غطرسة: بالطَّبع، وأَضِف إلى هذا أنه لا يُجَرِّحُ المجروحين.
قلتُ - وأنا أدعو الله أن يُلْهِمَنِي الصبر -: ومَن همُ المَجْرُوحون؟
قال: طبعًا هُم مَن جَرَّحَهُم شيوخي.
قلتُ: على أيَّة حال لن أُضَيِّعَ وقت الدرس، سأنصرف الآن، ولي معك جلسة طويلة - إن شاء الله - أو سأتَّصِلُ بك، أَتَأْذَن لي، ابْتَسَمَ مفتعلاً، وهو ينهي اللِّقاء في عجلة: طبعًا طبعًا.
انْصَرَفْتُ ورأسي تدور، ما هذا الكلام العجيب، أليسَ من قواعد السَّلَفِيَّة الأولى عدم تقليد شيخ بعينه؟ كيف يجعل شيوخه كالمعصومين، لا يرد لهم قولاً؟ كيف يرفع راية الولاء والبَرَاء على أحكام شيوخه في أقرانهم؟ بل كيف يكون هذا الرَّجل سَلَفيًّا ومتبعًا للدَّليل، وهو يُبَدِّع شيخًا بكلام قرينٍ له، وقد قال العلماء: إنَّه لا يُقْبَل جرح الأقران؟ كيف هانَتْ عليه نفسه أن يَتَّهِمَ شيخًا جليلاً بهذه التُّهَم الشَّنيعة؟ كيف سمح لِلِسَانه بالانْطلاق هكذا بِغَيْر وَرعٍ ولا تقوى؟ وفيمَنْ؟ في شيخ من أهل السُّنَّة، كيف يظن أنه مُلاقٍ ربه بهذا؟
ذهبتُ لصلاة المغرب في المسجد كعادتي، وقابلتُ صديقي الذي دَلَّنِي على هذا الدرس، قال لي: لا تحزن لِمَا سمعتَ، فهذه عادتهم.
قلتُ له في ضيقٍ: مَن تعني؟
قال: أَعْنِي طالب العلم الذي حَضَرتَ درسه هذا الصباح، أتَعْلَم أنه قد جَرَّحَكَ، وقال فيك أقوالاً شنيعة جدًّا بعد انصرافِكَ؟
قلت له: أخي دعنا من هذا؛ حتى لا نكونَ نَمَّامين.
احْمَرَّ وَجْهُه خجلاً، وَسَكَتَ وهو يَسْتَغْفِر؛ لكن لم يمنعني هذا منَ التَّعَجُّب مِن سلوك هذا الأخ العجيب، كيف يَتَكَلَّم فيَّ، وهو يعلم أنَّ هذا من أبواب الغيبة؟
سبحان الله! بل لَعَلَّه ظَنَّ أنَّ هذا أيضًا من أبواب الجرح، سبحان الله! فتح القوم بابًا بين الغيبة والجرح، فاخْتَلَطَ الحلال بالحرام، ثم لم يَتَمَكَّنُوا منَ لفَصْل؛ صدق الله العظيم إذ يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: 29]، كنتُ أشْعُرُ بالاخْتِنَاقِ، دَخَلْتُ غرفتي، وأخْرَجْتُ كتبي، وبدأتُ أُقَلِّبُ فيها، ترى ماذا وجدت في كُتُب السَّلَف؟
أخْرَجْتُ كتاب "الاعتصام" للشاطبي، وبدأتُ أقرأ"، وفَيْصل القضيَّة بينهما قوله - تعالى -: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ}... إلى قوله - تعالى -: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7]، "فلا يَصِحُّ أن نُسَمِّيَ مَن هذه حاله مبتدعًا، ولا ضالاًّ، وإن وَقَع في الخلاف أو خفي عليه؛ أمَّا إنه غير مبتدعٍ؛ فلأنه اتَّبَع الأدلة ملقيًا إليها حكمة الانقياد، باسطًا يد الافتقار، مؤخرًا هَوَاهُ، مقدمًا أمر الله، وأمَّا كونه غير ضالٍّ؛ فلأنه على الجادَّة سَلَكَ، وإليها لجأ، فإن خرج عليها يومًا فَأَخْطَأَ، فلا حرج عليه؛ بل يكون مأجورًا حسبما بَيَّنه الحديث الصحيح: ((إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر، وإن أصاب فله أجران))، وإن خرج متعمدًا، فليس على أن يجعلَ خروجه طريقًا مسلوكًا له أو لغيره، وشرعًا يُدَان به" ص100.
قَلَّبْتُ صفحات الكتاب مَرَّة أخرى، فوجدت أنَّ لفظ أهل الأهواء والبدع إنَّما تُطْلَق حقيقةً على الذين ابتدعوها، وقدموا فيها شريعة الهوى بالاسْتِنْباط، والنصر لها، والاستدلال على صِحتها في زعمهم، حتى عدَّ خلافهم خلافًا، وشُبَههم منظورًا فيها، ومحتاجًا إلى رَدِّهَا، والجواب عنها، كما نقول في ألقابِ الفِرَق منَ المُعْتَزلة، والقَدَرِيَّة، والمُرْجِئة، والخَوَارج، والباطِنيَّة، ومَن أشبههم، بأنها ألقاب لمن قام بتلك النِّحَل ما بين مستنبط لها، وناصر لها، وذابٍّ عنها، كلفظ أهل السُّنَّة إنما يطلق على ناصِريها، ومَنِ اسْتَنْبَطَ على وفقها، والحامِلين لذمارها" ص118، ووجدتُ الباب التاسع كله يَتَحَدَّث عنِ الفرق النارية، وكيفية تعيينها، وما حدود أن يُقال عن رجل: إنه مُنْتَمٍ لتلك الفرق النارية.
في الصباح أخذتُ الكتاب، وذهبتُ إلى الأخ طالب العلم.
قلتُ له: أخي في الله، أصْلَحَكَ الله، قد بتُّ ليلتي أُطالِع هذا الكتاب للمَرَّة الثانية، ووجدتُ فيه كلامًا أتمنى أن تقرأه.
نَظَر لي شذرًا، وقال ساخرًا: آه، أنتَ ممن ليس له شيخ إلاَّ الكتاب، وَمَنْ كان شيخه الكتاب، كان خَطَؤُه أكثر منَ الصَّوَاب.
كظمتُ غيظي، وقلتُ له في حلم: أخي ليس شيخي الكتاب؛ بل أحد شيوخي هو الشيخ الذي طعنتَ عليه أنت بالأمس، وظني أنه مهما سميتَ لك من شيخ فسوف تطعن عليه، وتقول فيه مثل ما قلتَ، فلا بُدَّ إذًا أن يكونَ لنا شيء نَحْتَكِمُ له، أليس كذلك؟ الآن أنا وأنتَ اخْتَلَفْنا، فما حكم الله؟ قال - تعالى -: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: 10]، الآن دعنا نُحَكِّمُ كتاب الله بيننا، وليس بفهمنا بل بِفَهْم السَّلَف وعملهم، أَتَرْضى؟
قال - وهو يُقَلِّبُ شفتيه في ازدراء -: بالطبع، ومَن لا يرضى بِحُكْم الله، وليس أنتَ مَن ستعلمني حكم الله.
قلت: إذًا تعالى نقرأ تفسير الأئمَّة المُتَقَدِّمينَ لمسألة البدع والمبتدعة، والحكم على الرِّجال بالبِدَع.
أمسكَ الكتاب وَقَلَّبَهُ بين يديه في اسْتِهْجانٍ، وقال: لَعَلَّكَ لم تفهمْ، إنَّ هذا الكتاب هو عُمْدَة شُيُوخي.
قلتُ له: هل قرأته؟
قال: لا، لا أحتاجُ لذلك، قد سمعتُه مِنْ شيوخي، وسَمِعْتُ شَرْحه لهم، وتوجيههم لما فيه.
قلتُ له: يا أخي لو قرأته، وقرأت كلام ابن القيم، وابن تيميَّة، واعتذارهم عن أهل البدع الذين هم فعلاً من أهل البدع، ومحاولتهم تأويلهم كلامهم؛ لِيُوَافِقَ أهل السنة، ورأيتَ طريقتهم في الرَّد عليهم، وكيفيَّة استخدامهم للألفاظ لَمَا قلتَ ما قلتَ بالأمس في شيخ فاضل من أهل السُّنَّة.
قال في غَضَب - وقد هَزَّه منطقي -: أنتَ مُتَعَصِّبٌ لِشَيْخك.
قلت: يا أخي، أصلحني الله وإياك، هل أنا المتعصب لشيخي، أو أنت المتعصب لشيوخك؟ لا تَسْمَع سواهم، ولا تأخذ الكلام إلاَّ منهم، ولا تريد أن تسمعَ غيرهم، ولا حتى تقرأ للأئمَّة المتقدمين؛ لِتَعْرِفَ الحق منَ الباطل، بالله عليك أترى أن شيوخك مَعْصُومين؟
قال - وقد ظَهَر عليه الارتباك أكثر -: لا.
قلتُ: إذًا؛ لماذا تنقادُ إليهم كانْقِياد الصوفي لمشايخه؟! يقولون لك الكلمة، فتقول: آمين.
قال - وقد ثار غضبه -: يا هذا، لا أخالُكَ أنتَ أيضًا إلاَّ مُبتدعًا، تُجادِلُ عنِ المبتدعينَ.
قلتُ له: إنَّ رميكَ لي بالبدعة لا يهزني، فأنتَ منطقكَ معوجٌّ، رميتُم شيوخًا من أفضل المشايخ بالبدعة؛ لأنَّهُم خالفوكم في مسائل فقهيَّة، أو لأنَّهم لم يأخذوا بِكَلامكم في الجرح والتعديل في الدُّعاة والعلماء المساكين، عجبًا لكم! كيف اسْتَبَحْتُم أعراض العلماءِ المسلمين بهذه الطريقة، أنتم أشد علينا منَ اليهود والنَّصارى.
قال الأخ في عناد: ليسوا علماء.
قلتُ في صبر: إن كانوا ليسوا علماء، أليسوا مسلمين؟ أليس لهم حُرْمة الإسلام؟ ثُمَّ ما ضابط قولِكَ عنِ الرجل: إنه عالم؟ سكت.
قلت له: هل لديك أدلة منَ الكتاب والسُّنَّة على منهج الجرح والتعديل بطريقتكم هذه؟
قال مُسْتَنْكرًا سؤالي: طبعًا.
قلت: إذًا ائْتِنِي بها غدًا - إن شاء الله - ولنرَ هل هذا الكلام مِن شرع الله، أو هو سوء فَهْم مِنْكم للبِدْعة؟
التَقَيْتُ بالأخ في اليوم التالي، وجَلَسْنا في زاوية المسجد، نَظَر لي بِتَعَالٍ، وقال: قد جئتكَ بكتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لَعَلَّكَ تفهم وتتوب إلى الله - عز وجل.
قلتُ له: قُلْ ما عندك.
قال:
الدَّليل الأول: عن عائشة - رضي الله عنها -: أنَّ رجلاً استأذَنَ على النبي - صلى الله عليه وسلم - فلمَّا رآه، قال: ((بِئْس أخو العشيرة، وبِئْس ابن العشيرة))، فلمَّا جَلَس، تَطَلَّقَ النبي - صلى الله عليه وسلم - في وجهه، وانْبَسَط إليه، فلمَّا انطلق الرجل، قالت له عائشة: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين رأيتَ الرجل، قلتَ كذا وكذا، ثم تطلقت في وجهه وانبسطت إليه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يا عائشة، متى عهدتني فاحشًا؟ إنَّ شرَّ الناس عند الله منزلة مَن تركه الناس اتِّقاء شَرِّه))؛ صحيح البخاري.
فقد ذَكَره النبي - صلى الله عليه وسلم - بعينه، وقال فيه: ((بئس أخو العشيرة)).
قلتُ مبتسمًا: يا أخي أصْلَحَكَ الله، هل قرأتَ شرح هذا في "فتح الباري" مثلاً؟
ارْتَبَكَ وقال: لا.
قلتُ: وهل يعجبكَ ابن حجر، أو أنه مبتدع أيضًا؟
قال في ضيق: بالتأكيد يعجبني، لكن أكيد أنت لم تَفْهَمْ كلامه.
قلتُ: أنقل لك الشرح، وقلْ لي أنت ماذا تَفْهَمُ مِن كلامه:
كتاب الأدب: باب لم يكن النبي فاحشًا، (وَضَعْ خطًّا تحت لم يكن فاحشًا)، قوله: فلمَّا جلس تَطَلَّق - بفتح الطاء المهملة، وتشديد اللام - أي: أبدى له طلاقة وجهه، يقال: وَجْهُه طَلْق وطليق؛ أي: مُسترسل، منبسط، غير عبوس، ووقع في رواية ابن عامر: "بَشَّ في وَجْهِه"، ولأحمد من وجه آخر عن عائشة: "واستأذن آخر، فقال: ((نعم أخو العشيرة))، فلمَّا دَخَل لم يَهَشّ له، ولم ينبسطْ كما فَعَل بالآخر، فَسَألتُه فَذَكَر الحديث، قال الخَطَّابي: جَمَع هذا الحديث عِلْمًا وأَدَبًا، وليس في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في أمَّته بالأُمُور التي يُسَمِّيهم بها، ويضيفها إليهم منَ المكروه غيبة؛ وإنَّما يكون ذلك مِن بعضهم في بعض؛ بلِ الواجب عليه أن يُبَيِّنَ ذلك، ويفصح به، ويُعَرِّف الناس أمره، فإنَّ ذلك من باب النَّصيحة والشَّفَقة على الأمَّة، ولكنه لما جُبِل عليه منَ الكرم، وأُعْطيه من حُسْن الخُلُق، أَظْهَر له البَشَاشَة، ولم يُجِبْه بالمَكْرُوه؛ لِتَقْتَدِيَ به أمتُه في اتِّقاء شرِّ مَن هذا سبيله، وفي مُدَارَاته ليسلموا من شَرِّه وغَائِلته.
قلتُ: وظاهِرُ كلامِه أن يكونَ هذا من جملة الخَصَائص، وليس كذلك؛ بل كل مَنِ اطَّلَع مِن حال شخص على شيء، وخشيَ أنَّ غيره يَغْتَرّ بِجَميلِ ظاهره فيقع في محذور ما، فَعَلَيْه أن يُطْلِعَه على ما يَحْذر من ذلك قاصدًا نَصِيحته، وإنَّما الذي يُمْكِن أن يختصَّ به النَّبي - صلى الله عليه وسلم - أن يكشفَ له عن حال مَن يَغْتَر بِشَخْص مِن غير أن يُطْلِعَه المُغتر على حاله، فيُذَمُّ الشَّخص بِحَضْرَتِه لِيَتَجَنَّبه المُغْتر لِيَكُون نصيحة، بِخِلاف غير النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنَّ جَوَاز ذَمِّه للشَّخْص يَتَوَقَّف على تَحَقُّق الأمر بالقول أو الفعل ممن يريد نُصحه، وقال القرطبي: في الحديث جواز غيبة المُعلن بالفِسْق، أوِ الفُحْش، ونحو ذلك منَ الجَوْر في الحكم، والدُّعاء إلى البِدعة، مع جواز مُدَارَاتهم اتِّقاء شَرِّهم، ما لم يُؤَدِّ ذلك إلى المُدَاهَنة في دين الله - تعالى - ثُمَّ قال تبعًا لعياض: والفَرْقُ بين المُدَارَاة والمُدَاهَنة؛ أن المداراة: بذل الدُّنيا لِصَلاح الدنيا، أو الدين، أو هما معًا، وهي مباحة، وربما اسْتُحِبَّت، والمُدَاهَنة: تَرْك الدِّين لصلاح الدنيا، والنبي - صلى الله عليه وسلم - إنما بذل له مِن دنياه حسن عِشْرته والرِّفق في مكالمته، ومع ذلك فلم يمدحه بقول، فَلَمْ يُناقِض قولُه فيه فِعْلَه، فإنَّ قولَه فيه قولٌ حَقٌّ، وفعله معه حُسن عشرة، فيزول مع هذا التَّقرير الإشكالُ بِحَمْد الله - تعالى.
وقال عياض: لم يكن عُيَيْنة - والله أعلم - حينئذٍ أَسْلَمَ، فلم يكن القول فيه غيبة، أو كان أسلم ولم يكن إسلامُه ناصحًا، فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يُبَيِّنَ ذلك؛ لِئلاَّ يَغْتَر به مَن لم يعرف باطنه، وقد كانت منه في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وبعده أمور تَدُلُّ على ضعف إيمانه، فيكون ما وصفه به النبي - صلى الله عليه وسلم - مِن جُملة علامات النبُوة، وأمَّا إِلاَنَة القول له بعد أن دَخَل، فعلى سبيل التَّأَلُّف له، ثم ذكر نحو ما تَقَدَّم، وهذا الحديث أصلٌ في المُدَاراة، وفي جواز غيبة أهل الكُفْر والفِسْق ونحوهم، والله أعلم".
باب ما يجوز منَ الغيبة:
حديث عائشة في قوله: ((بئس أخو العشيرة))، وقد تَقَدَّمَ شرحُه قريبًا في "باب لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - فاحشًا"، وقد نُوزِعَ في كون ما وقع من ذلك غيبة، وإنَّما هو نصيحة لِيَحْذَر السَّامِع، وإنَّما لَمْ يُواجه المقول فيه بذلك؛ لِحُسن خُلقِه - صلى الله عليه وسلم - ولو واجه المَقُول فيه بذلك لكان حسنًا، ولكن حَصَل القَصْد بِدُون مُوَاجَهة، والجَوَابُ أنَّ المُرَادَ أن صورة الغيبة مَوْجُودة فيه، وإن لم يَتَناول الغيبة المَذْمومة شرعًا، وغايته أنَّ تعريف الغِيبة المذكور أَوَّلاً هو اللُّغَوي، وإذا اسْتُثْنِيَ منه ما ذُكِرَ كان ذلك تعريفها الشَّرْعي.
قولُه في الحديث: ((إنَّ شَرَّ الناس)): استئناف كَلام كالتَّعليل لِتَرْكِه مُواجَهَته بما ذَكَرَه في غَيْبَته، ويُسْتَنْبَطُ منه أنَّ المُجَاهِرَ بالفسق والشَّرِّ لا يكون ما يذكر عنه من ذلك من وَرَائه منَ الغِيبة المَذْمُومة، قال العلماء: تُبَاحُ الغِيبَة في كلِّ غَرَضٍ صحيحٍ شرعًا؛ حيثُ يَتَعَيَّنُ طريقًا إلى الوُصُول إليه بها: كالتَّظَلُّم، والاستعانة على تغيير المنكر، والاستفتاء، والمُحَاكَمة، والتَّحْذير منَ الشَّرِّ، ويدخل فيه تَجْريح الرُّواة والشُّهود، وإعلام مَن له وِلاية عامَّة بسيرة مَن هو تحت يَده، وجواب الاستشارة في نِكاح أوْ عَقْد منَ العُقُود، وكذا مَن رأى مُتَفَقِّهًا يَتَرَدَّد إلى مُبْتَدِع أو فاسِقٍ ويخاف عليه الاقتداء به، وممَّن تَجُوز غِيبتُهم مَن يَتَجَاهر بالفِسْق، أو الظُّلم، أوِ البدعة، وممَّا يدخل في ضابط الغِيبة وليس بِغِيبة ما تَقَدَّم تفصيله في "باب ما يجوز من ذِكْر الناس" فيُسْتَثْنَى أيضًا، والله أعلم.
ابْتَسَمَ منتصرًا، وقال: أرأيتَ، يجوز ذِكْرُ المبتدعة والفَسَقة.
قلتُ: أخي، أَصْلَحَكَ الله، وهل قلنا غير هذا، لكن الشيخ الذي تَحَدَّثْت أنت عنه ليس منَ المبتدعة، ولا الفَسَقة، وقد نقلتُ لك كلامَ الشاطبي في بيان مَن يُسَمَّى مُبتدعًا.
قال - وقد علا صوته -: لكن ابن حجر يقول: إن مَنِ اطَّلَع على حال مُبتدع، وَجَب بيانُه للأمَّة.
قلتُ له: أخي، قد سألتكَ أمس: كيف اطَّلَعْتَ على حاله، فلم تُجِبْني بكلام شافٍ؛ بل زعمْتَ أنَّ الثقات نقلوا لك عنِ الثقات، وأنَّ الثقات قالوا - وكلامهم ثقة -: إنه مبتدع.
قل لي يا أخي: أليس هذا السَّنَد مُعضلاً قليلاً؟ أعْنِي أنَّ فيه مجاهيل؟
احْمَرَّ وجهه غضبًا، وقال:
إذًا خُذِ الدَّليل الثاني:
قَلَّبَ كتابًا بين يديه، ثم قال في انتصار: إليك الدليلَ الثاني، لَمَّا انتهت فاطمة بنت قيس من عدة طلاقها من زوجها أبي عمرو بن حفص، ذَكَرَتْ للنبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّ مُعاوية بن أبي سفيان وأبا جهم خَطَبَاها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أما أبو جَهْم، فلا يضع عصاه عن عاتِقه، وأمَّا مُعاوية فَصُعْلُوكٌ لا مالَ له، انكحي أسامة بن زيد))، قالتْ: فَكَرِهْتُه، ثم قال: ((انْكِحي أسامة))، فَنَكَحْتُه، فجعلَ الله فيه خيرًا، واغتبطت؛ والحديث في مسلم.
ثم أضاف: وطبعًا لا يخفى عليك أنه بالتَّأكيد لِكُلٍّ مِن معاوية وأبي جَهْم فضائل، لكن في مقام النُّصح جاز فَضْح حالهم، فليس معنى أن يكونَ المُحَذَّر منه صاحب فضائل أَلاَّ نَنْصَحَ الناس من شروره.
قلتُ: يا أخي، أصلحك الله، انْظُر لِقَوْل النووي في "شرحه لِمُسلم": "وفيه دليل على جواز ذِكْر الإنسان بما فيه عند المُشَاوَرة، وطَلَب النصيحة، ولا يكون هذا منَ الغِيبة المُحَرَّمة"، لاحِظْ كلمة "بما فيه"، وَضَعْ تحتها ألف خَطّ، "بما فيه" وليس بما أَدَّعِيه، وليس بما أفهمه خطأ عنه،وهل النَّصيحة أن أقول: ضالٌّ، مضلٌّ، مُبتدعٌ، زائغٌ، وعندما أسألك: ما بدعته؟ تقول: لا يُجَرِّح المجروحين، ويبطن كذا وكذا؟
النبي - صلى الله عليه وسلم - اطَّلَع على حال شخصٍ فَحَذَّرَ مِن عيبه الذي يضرُّ المرأة، لم يخبرها بعيوب أخرى لا تخصُّها، ونحن لسنا ضد التَّحذير منَ المُبتدعة، لكن يجب أولاً أن يكونوا مبتدعة، أليس كذلك؟ أمَّا أن يختلفَ معي شيخٌ في مسألة ما، فأُغَلِّظُ له القول، وأحذر منه، أو ألاَّ يعجبني غير نفسي فأرى الكلَّ على خطأٍ، وأَتَعَنَّتُ في فَهْم مقاصدهم لِأَرْمِيهم بالبدعة، وما يدريني لعلِّي أنا المخطئ، أليس كذلك؟
قال في ازدراء: إن كنتَ أنت تشكُّ في اعتقادكَ، فلا تدري إذا اختلفَ معك شيخٌ إن كانَ الحقُّ معك أم معه، فأنا لا أشكُّ في اعتقادي.
قلتُ له: أَصْلَحَكَ الله، ورزقني الصبر والسلوان، أنا لا أشُكُّ في اعتقادي بالتأكيد، ولا أتَحَدَّثُ عن الاعتقاد أصلاً، لكنَّكَ لم تَقُلْ لي: أين بدعة الاعتقاد التي وقع فيها الشيخ المجروح بكل هذه الفظائع: ضال، مضل، زائغ عن الحق، مبتدع؟! لو قلت: هذا صوفي، أو شيعي ما ناقشتك، لكنَّكَ تقولها في علماء السُّنَّة.
قال في عناد: والنَّبِي - صلى الله عليه وسلم - قالها في صحابِيَّيْنِ.
قلت له: النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ماذا؟ قال عنِ الصحابيينِ: ضالٌّ، مُضِلٌّ، زائغٌ؟
قال: لا، ولكن قال: ((لا يضع العصا عن عاتقه))، وقال عن الآخر: ((صعلوك لا مال له)).
قلتُ: يعني قال ما فيهما بعبارةٍ مُهَذَّبةٍ، أمَّا أنتَ فقلتَ في الشيخ ما ليس فيه، واستخدمت عبارة - معذرة - غير مُهَذَّبة.
سَكَتَ مُكْرَهًا، وقال في غضب: إذًا خُذِ الدَّليل الثالث.
قلتُ له وأنا أنْتَقِي كلماتي: أخي، لسنا في حلبة مصارعة، ولْيَنْتَهِ الحوار عند هذا الحدِّ، فكلُّ دليل ستخبرني به أنا أعرفه وأحفظه عن ظهر قَلْب، وَكُلُّها أدلة لن تعطيكَ الحق في جرح علماء ينتسبون لأهل السنة بما ليس فيهم استنادًا لفهمك الخاطئ عنهم، لا والله، لم يكن هذا سلوك السَّلَفِ الصَّالِح، لا الصَّحابة، ولا التابعين، ولا مَن تَبِع هؤلاء بإحسانٍ إلى يومِ الدِّين، انْظُر إلى وَرَعِ هؤلاء القوم في لَفْظِهم، وفي قَوْلِهم، وفي صَمْتِهم، وستعرف جيدًا أنَّ الأمر ليس كما تقول، اقرأ في كُتُب السَّلَف، وانظر حِلْمهم، وعدم تحميلهم اللَّفظ فوق ما يحتمل، اقْرَأ في كُتُب السلف، وانهل مِن عِلْمِهم تعرف أنَّ ما تفعل أنت وغيرك، وأن ما نهشْتَ مِن لحم علماء أجلاَّء من أهل السنة غير جائز، تَذَكَّر وقوفكَ يوم العرش عُريانًا، وأنت تسأل ما الذي دفعكَ أن تقول في هذا وذاك: مبتدع، هل سيقبل منكَ أن تقول لله - تعالى -: قلتُ فيه: مبتدعٌ؛ لأنَّه لم يوافقني في جرح أو تعديل؟ أو لأنِّي ظَنَنْتُ أنَّه عني بقوله هذا كذا؟ أو لأن فلانًا وفلانًا أسقطه، ولا يقبل جرح الأقران؟
ماذا ستقول لله - تعالى - إن سَأَلَكَ: لِمَ صَددت عن أهل العلم؟ {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} [البقرة: 114].
أتكون عونًا للمُبتدعة الحقيقيين على إسقاط علماء السُّنَّة الذَّابِّينَ عنها؟ لقد فعلنا إذًا ما عجز عنه الغرب.
إنا لله وإنا إليه راجعون.
جرح وتعديل
سارة بنت محمد حسن
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى