ام الشهيد
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
رمضان... في المسجد الذي اعتدتُ الصلاةَ فيه كلَّ ليلة، دخلتُ في أول ليلة، بعدما طال الشَّوق للمسجد، وصوتِ الشَّيخ، وكلِّ شيء، فكلُّ نسمة في هذا الشهر لها ذكرياتٌ وأشواقٌ.
لَفَتَ نَظَرِي مشهدٌ: أختٌ مِن نفس جامِعَتِي، تجلس مُنزَويةً في أحدِ الأركان ساهمةً، على كلِّ خلية منْ خلايا وجهها أَلَمٌ لا يُضاهِيه أَلَمٌ، وحزنٌ عميقٌ، وكانتْ عيناها جافَّة، تَأَمَّلْتُها، إنَّها إحدى الأَخَوات الدَّاعيات في الجامعة، عجبًا!
دائمًا كانتْ مِثالاً للنَّشاطِ والهِمَّة، أُقِيمَتِ الصَّلاة، فاصْطَفَّ الناس، لَفَتَ نَظَري أنَّ الأختَ قامتْ بِتَثَاقُل؛ كأنها مريضة، وَقَفَتْ تُصَلِّي بِجِوَاري، وكان صوتُ الشيخ رائعًا، باكيًا، أثار في جُمُوع المُصَلِّينَ الخشوعَ والعَبَرَات؛ لكنِّي كنتُ مشغولةً بالأُخت التي تُصَلِّي بِجِواري، لم تَبْكِ، فقط شعرتُ بِجَسَدِها ينتفضُ في أَلَمٍ، وبعد الصلاة جَلَسَتْ وقدِ ازدادَ الأَلَمُ في وَجْهِها، وصارَ وَجْهُها شاحبًا، وكانتْ بين كلِّ ركعَتَيْنِ تنكمشُ في جلستها؛ تنظرُ إلى ما حولها كأنها انفصلتْ عنِ العالَم، عدتُ إلى بيتي، وصورتُها لا تُفارِق مُخَيِّلتي، كنتُ أشعرُ بالرَّغبة في التَّعَرُّف عليها، وإزالة أحْزَانِها، عزمتُ على التَّحَدُّث إليها في اليوم التالي، ذهبتُ إليها، وعَرَّفتُها بنفسي، نظَرَتْ إليَّ نظرةً خاوِيةً، وقالتْ: نعم، أسمع عنكِ في الجامعة، وأعرف أنَّكِ مِن أنشط الدُّعاة هناك.
ابْتَسَمْتُ، وقلتُ لها: بل نحن جميعًا نعرف همتكِ في الدَّعوة، أنتِ قدوةٌ صالحة لنا جميعًا.
سَكَتَتْ، وقد عَلاَ وَجْهَها أَلَمٌ أَشَد.
قلتُ لها في قَلَقٍ: أختي، هل هناك شيءٌ يؤلمكِ؟ هل أنتِ مريضة؟
قالتْ: لا.
قلتُ لها: ماذا هناك؟ أنتِ في حالةٍ غير طبيعيَّة.
فسَكَتَتْ.
قلتُ لها: أختي، بالله عليكِ أخبريني، ما بكِ؟ أنا لا أَتَدَخَّل في شؤونكِ؛ لكن لا أستطيعُ أن أراكِ في هذه الحالة، وقد أستطيعُ مساعدتكِ.
نَظَرَتْ لي نظرةً تنمُّ عن صراعٍ.
قلتُ - أسْتَحِثُّها على الحديثِ -: لقد أَقْسَمْتُ عليكِ، يجبُ أن تبرِّي قَسَمي.
نَظَرَتْ لي في حزنٍ، ثم أَطْرَقَتْ، وقالتْ: إنَّه الوَسْواس.
قلتُ لها: أُختي، أفصحي عن مكنونات صدركِ.
نَظَرَتْ لي نظرةً متأملةً، وبَدَأَتْ تحكي: في البداية كنتُ نشيطةً جدًّا في الدَّعْوة، وكنتُ لا أتركُ فرضًا ولا سُنَّةً، كنتُ قويَّةً في أمر الله، بدأ الوسواس:
- إعجاب بالنفس، رياء، كنتُ أجاهدُ نيَّتي، ثمَّ ما أن أبدأ العمل، أجده قويًّا جدًّا لا أستطيعُ مقاومته: ما أفضلكِ، ما أحسنكِ، أنتِ لا تُضَاهين، آه، هذا العمل سيجعلكِ مشهورةً، هذا العمل سيجعل الآخرين مبهورينَ بكِ، ستنالينَ مجدًا وشهرةً، وسيعرف الجميعُ قيمتكِ.
كنتُ أقاومُ، وأقاومُ، وأقاوم، وكلَّما ازْدَادَتِ المُقاوَمة، وكلما زادَ الإحساس وتَعَمَّق، شعرت بالإحباط والهزيمة.
كنتُ أقولُ لِنَفْسِي: لماذا تَقُومينَ بالدَّعْوَةِ؟ إنَّ عملَكِ باطلٌ، هَلاَّ جلستِ في بيتكِ، واعتزلتِ الناسَ، وواظَبْتِ على صلاتكِ وسُننكِ؛ حتى تُصْبِحِي أقوى، فيمكنكِ مُواجهة العالَم؟
ففعلتُ، وتَرَكْتُ الدَّعوة، كنتُ أرى المنكرَ أمامي فلا أنكر؛ لأنني أخشى الرِّياء، وأخشى العُجْب والكِبْر، امْتَنَعْتُ عنِ البُكاء مِن خشيةِ الله؛ لأنَّني أظنُّ أنَّني أُمَثِّل، والآن لا أستطيع أن أدمعَ دمعةً، لا في سِرٍّ ولا عَلَن، أشْعُر أنَّ صلاتي وسُنني غير مقبولةٍ، أقوم للصَّلاة بِتَثَاقُل، فهي غير مقبولة أصلاً، أكْرَهُ نفسي؛ لأنني أشعر أنَّني أفضل منَ الناس، أتمنَّى الموت؛ لِيَنْتهيَ هذا العذاب، وأخْشَاهُ لأنِّي أعرفُ ماذا ينتظرني، لسانِي ثقيل، وقلبي فتر عن ذِكْر الله، والآن قد وَصَلْتُ لمرحلة منَ القُنُوط واليأس، أحسب معها أنني وَلَجْتُ بابًا للكُفر.
ربَّتُّ على كتِفِها، وابتسمتُ، وقلتُ: أختي الحبيبة، هَوِّني على نفسكِ، فالأمرُ يَسيرٌ، وعلاجُه أيسر.
نَظَرَتْ لي، وفي عينيها نظرة تنمُّ عن عدم التَّصديق، وقالت: أنتِ لا تعلمينَ ما يَمُوج في صدري.
قلتُ لها: بل أعلم جيدًا، لستِ وَحدكِ، وكلُّ ما ذكرتِ عندي له حلٌّ، والله المستعان.
هَتَفَتْ في لهفةٍ: حقًّا؟
قلتُ لها: حقًّا.
وابْتَسَمْتُ، وابْتَسَمَتْ، وانْحَلَّتِ المشكلة بِفَضْلٍ منَ الله، تُرى كيف؟
ابْتَسَمْتُ، وقلتُ لها: الأمر هَيِّن - إن شاء العليُّ القدير - عندما كنتِ داعيةً إلى الله، هل يترككِ الشيطان؟ وماذا يفعل في البيت الخَرِب؟
جاءكِ في وسواس الرِّياء؛ يُلقِي لكِ الشُّبهة في صَبْر، كنتِ تقومينَ وتَظُنِّينَ أنكِ لا تُقُومينَ.
قالتْ: كيف؟
قلتُ: أليس حزنكِ مُقَاوَمة؟ أليسَ أَلَمكِ وصراعُ نفسِكِ مع الوَسواس مُقاوَمة؟ لكن عدم معرفتِكِ بذلك أَدَّى إلى تَصَاعُد الصِّراع، ومِن ثَمَّ الاسْتسلام؛ لأنَّ الأَلَم زَاد، وصارَ لا يُطاق، وعندما شعرتِ بالإحباط والهزيمة، وَلَج الشيطان من هذا الباب، فهو بابُه المُفَضَّل، وصِرْتِ أنتِ لُقمةً سائِغة لكلِّ إلقاء، وصار يُلبس عليكِ دينَكِ، وسَقَطتِ في الفَخِّ؛ لأنك لم تَتَعَلمي حديثَ النفس، ولم تُتْقِني خباياه ودُرُوبه.
تعالي أُحَدِّثكِ عن حديث النَّفس الذي اضطررتُ اضطرارًا لِتَعَلُّمِه، عندما أصابني ما أصابك:
إنَّ هناك حديثَ نفسٍ يدور في صَدْر كُلٍّ منَّا، فمَنِ الذي يَتَحَدَّث؟
الأول شيطان، ويُقَابله مَلَك.
قالتْ: وما الدَّليل؟
قلتُ: قال - تعالى -: {وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ * أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} [ق: 23، 24]، ثمَّ قال - تعالى - في نفس السورة: {قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ} [ق: 27]، إذًا ترينَ أنَّ القرينَ الأول يَتَحَدَّث بِلَهْجة الشاهد الذي يشهد على الإنسان بما فعل منَ المَعَاصي، والقرينُ الثاني يَتَحَدَّث بلهجة المُتَّهَم الذي يَنْفِي عن نفسه تُهمة الإِضْلال، فالأوَّل هو قرينه منَ الملائِكة، والثاني: هو قرينُه منَ الشَّيَاطِين، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ للمَلَك بابن آدم لمة، وللشَّيطان به لَمَّة)).
سَكَتَتْ قليلاً، ثم قالتْ: أكْمِلي.
قلتُ: هذانِ طَرَفانِ من خارج النفس، وهناك طرفان من داخل النفس.
قالتْ: ما هما؟
قلتُ:هواكِ، وفطرتكِ.
قالتْ في حيرة: ما الفرق؟
قلتُ: إن الله - تعالى - لَمَّا خلق الإنسان رَكَّبَ فيه فطرة مَجْبُولة على الخير، كما جَعَل له هوًى يَدْعُوه إلى الشَّهَوَات؛ قال - تعالى -: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 8 - 10]، إذًا فالإنسانُ فيه داعي الخير، وداعي الشَّر، والقلب بين هذه الأطراف حَكَم.
قالتْ في حيرة: القلبُ أم العقل؟
قلتُ مُبْتَسمَة: العقلُ في القلب؛ قال - تعالي -: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} [الحج: 46].
سَكَتَتْ قليلاً، ثم قالتْ في تَرَدُّدٍ: الأمرُ بَدَأَ يَلْتَبِس عليَّ.
أمسكتُ ورقةً وقلمًا، ورسمتُ لها:
قالتِ الأختُ: نعم؛ الآن وَضَحتِ الرُّؤية بعض الشَّيء، أَكْمِلي الشَّرح.
قلتُ: الآن نحتاج للتَّمييز بين نَزْغِ الشيطان وبين إلقاء المَلَك، كما نحتاج للتَّمييز بين الهوى وبين الفطرة.
قالتْ: بالتأكيد؛ لأنَّنا لو حَدَّدنا المُتَحدث، سنرى هل نقبل أو لا؟
قلتُ مُبتَسمة: وإذا عَرَفنا مَن المُتَحَدث، سنَتَّخذُ كذلك ردَّ الفعل المُناسب، وبالتالي لن يَتَمَكَّن منَّا اليأس، ولا الفُتُور، ولا الإحباط.
قالَتْ: كيف؟
قلتُ: مثلاً، الآن أنتِ مَيَّزتِ أنَّ هذا نَزْغ شيطان، ستقولينَ: إذًا هو إلقاءٌ يجبُ عليَّ ردُّه، وعندما تعرفينَ الهوى ستُخالِفينَه، وبذلك تَكُونينَ وافَقْتِ أمر الله.
قالَتْ: نعم.
قلْتُ: لكن قبل أن نَتَحَدَّث عنِ التَّمييز بين مختلف الوَسَاوس، نُوَضِّح أولاً متى يكون المرء محاسبًا، ومتى لا يكون محاسبًا؛ يعني متى يَتَحَوَّل الوَسواس إلى كَسْب قلبي؟ وهذا سَيُسَاعدنا كثيرًا في تحديد مَنِ الذي يُوَسْوس، كما أنه يُساعد مَن لَدَيْه وسواس مرضي على مُقَاومته، وكذلكَ فإنَّ في هذه المنطقة بالذَّات - وأعني بها القلب - أولَ طريقِ جهادِ النَّفس، فإن صَلُحَتِ المُضْغة، صَلُحَتْ سائر العِبَادات، سنعرفُ متى يكون الرِّياء خاطرًا، أو وَسْواسًا؟ ومتى يكون كَسْبًا؟ ومتى يكون العُجْب خاطرًا؟ ومتى يكون كسبًا؟ ومتى تكون الاعتقادات الخاطئة - من كفر أو رغبات شهوانيَّة... إلخ - خواطرَ؟ ومتى تكون كسبًا؟ ومتى يكون النِّسيان محاسَبًا عليه؟ ومتى لا يكون؟ وسَنَتَعَلَّم تجارة العلماء - وهي النوايا باختصار - سنعرف متى يكون الإنسان محاسَبًا على ما مَرَّ بذهنه؟ ومتى لا يكون؟ وبالتالي سَنَشْعُر بالارتياح والتَّصَالُح مع نفوسِنا، ولن نظلَّ ندور في دائرة مُفْرَغة، وسَنَتَعَلَّم كيف نَتَحَكَّم في الخاطر ونُوَجهه إلى رَفْع هِممنا، وكيف نقوِّي عزمنا على الإخلاص، وباختصار مرة أخرى: سنعيشُ في عالمٍ آخرَ، عالمٍ كاملٍ، كنَّا في غَفلةٍ عنه، فأَهْلَكَتْنا غَفْلَتُنا.
قالت: لقد شَوَّقتِني، أريدُ أن أسمعَ الشَّرح.
قلتُ: نبدأ - إن شاء الله -:
أولاً: ما الفرق بين منطقة الكَسْب، ومنطقة الخَوَاطر؟
الخواطر ما يَرِد على قلبكِ من أفكار، كما بَيَّنَّا أطرافه سابقًا، ثم يَقْبل قلبكِ الخاطر، أو يردُّه، أو يَتَجَاهله.
وهذه الرُّسومات التَّوضيحيَّة التالية تُبَيِّن كيفيَّات قَبول الخاطر، ورده، وتَجَاهُله، ونبدأ بخاطر الخير:
قالتْ: هَلاَّ شرحتِ.
قلتُ: يأتيكِ خاطر الخير فتَقْبلينه، أو تَرُدِّينه، أو تَتَجاهلينه، كما قُلنا.
والرَّسمة السابقة تَتَحَدَّث عن قبولكِ الخاطر، ثم نَنْظر ما أنواع قَبول خاطر الخير؟ فقد يقبل شخص خاطر الخير لله - تعالى - وهذا إخلاص، أو لِغَير الله، أو يشرك في نِيَّته.
الآن نحن نَتَحَدَّث عن خاطر الخير وقبوله، وكيفيات قَبوله، وما سَيَتَرَتَّب على ذلك مِن إثمٍ، أو أجر، ثمَّ نَتَحَدَّث عن ردِّ خاطر الخير، ونسيان خاطر الخير، ثمَّ نَتَحَدَّثُ عن خاطِرِ الشَّرِّ بِنَفْس التَّسَلسُل: قبوله، وكيفيَّات قَبوله، ورده، وكيفيَّات رده، وبهذا سنكون عَرَفنا كما ذكرتُ مِن قبلُ متى يُحَاسَب الإنسانُ على ما مَرَّ في قلبه؟ ومتى يُؤْجَر؟ ومتى يأثم؟ ومتى يسقط عنه الإثم والأَجْر؟
فالرَّسمة السابقة رَأَيْنا فيها أنَّ المَلَك أوِ الفطرة أَلْقَتِ الخاطر، ثم بَدَأَ القَلْب يَتَفَاعَلُ بالقَبُول، وشَرَحْنا كيفيَّات التَّفاعُل، وما المُتَرَتِّب عليها من إثمٍ وأَجْرٍ، فقط اصْبِري معي، وتابعي، فهذه مُقَدِّمة لا بُدَّ منها؛ لكي نفهمَ الأمرَ باسْتِفاضةٍ وشُمُولٍ.
قالتْ: هلاَّ وَضَّحْتِ الرَّسمة أكثر.
قلتُ: الكَسْبُ القلبي أمامه سَهْمان، وهما يُشيرانِ لِقَبُول الخاطِر؛ بمعنى: أنَّ قَبول الخاطر هو الكَسْب القلبي، وعنيتُ بِقَبُول الخاطر أنَّ القَلْب يعزم عَزْمًا على القَبول بهذه الكيفيَّات المذكورة، تحت الأسهم (لله، لغير الله... إلخ)، فالآن الخاطر يُلقيه المَلَك أوِ الفطرة من نفسكِ: صَلِّي، زَكِّي، صومي... إلخ.
فيعزم قلبكِ على الفعل لله أو لغير الله... إلخ، حتى الآن أنتِ لم تصومي، ولم تُزَكِّي، ولم تفعلي شيئًا، فقط نَتَحَدَّث عنِ العزم قبل الفعل، أنتِ أخذْتِ الأجْرَ أوِ الإثم على العمل القلبي قبل الفعل، يعني لو استيقظتِ فلم تصومي؛ لأيِّ ظرف قدريٍّ، أو حتى لِلْكَسل؛ لكن كان عزمُكِ صادقًا، فأنتِ كان لكِ أجر العزم والإرادة والنِّيَّة؛ كما روى ابن عباس عنِ النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ الله كَتَبَ الحسنات والسيئات، ثم بَيَّن ذلك، فمَنْ هَمَّ بحسنةٍ فلم يَعْمَلْها، كُتبتْ له حسنة كاملة، ومَن هَمَّ بها فعملها، كُتِبَتْ له عشر حسنات، إلى سبعمائة ضعف، والله يُضاعِفُ لِمَن يشاء)).
قالتْ: نعم، أَكْمِلي.
قلتُ: الآن نرسم رسمةً أخرى.
قلتُ لها: انظُري في الرَّسمة، إذا أتى الإنسانَ خاطرُ خيرٍ فردَّه، فهو بين الإثم ونقصان الإيمان، لاحِظي هنا أمرًا مهمًّا:
أولاً: أنا أَتَحَدَّث عن خاطر خير مُجَرَّد، لا خاطر خير مشتبه فيه.
قالتْ في حَيْرة: بمعنى؟
قلتُ: يعني قد يكون خاطر الخير تَشْبيهًا منَ الشَّيطان؛ لِيَجْعل الإنسان يَشْتغل بِمَفْضُول، مثلاً: فلو تفطَّنَ له المُؤْمِنُ ورده، لا يدخل في بابِنا هذا.
قالتْ: هل يمكن أن تعطيني مثالاً؟
قلتُ: مثلاً، أنتِ تَقْرَئينَ القُرآن، وأُذِّن الأذان، فوَقَع في قلبكِ أنَّكِ تُريدينَ الاستزادة منَ القراءة، ولا تُرَدِّدين خلف الأذان، أو تأخير الصلاة، هل هذا خاطر خير؟
في ظاهره نعم؛ لكن في باطنه يُضَيِّع عبادة وقت... والأمثلة كثيرة.
قالت:نعم، فهمتُ.
إذًا؛ لو جاء خاطرُ الخير الحقيقي، فَرَّدَهُ الإنسان، ما معنى رَدِّه؟
لاحِظي أيضًا، أنا لا أتحدَّثُ عنِ النِّسيان، أوِ الانشغال، أنا أتحدثُ عن إرادة رَدِّه، مثلاً: فتاة غير محجبةٍ يَأْتِيها هاتفٌ داخليٌّ: تَحَجَّبِي، هذا أفضل، فترده، وتقول في نفسها: ليس الآن، أنا أحب الزِّينة، فبالقطع هي بإرادتها آثِمَة؛ لعدم لبس الحجاب؛ لأنَّها عَزَمَتْ على عدم الطاعة.
مثال آخر: هاتفٌ يأتيكِ: تَصَدَّقي، فتَبْخلينَ، البُخل هنا عَمَل قلبي، وهو العزم على عدم التَّصَدُّق، والعمل القلبي إرادة، والإرادة نحن محاسبونَ عليها، وإن كانتِ الصَّدَقة سُنَّة، وليست فريضة؛ لكن الإيمانَ يَزِيدُ وينقص بهذه العزيمة، هل هذا واضح؟
قالتْ: نعم.
سَكَتَتْ لحظةً، ثم قالت: هنا مسألة.
قلتُ لها: تَفَضَّلِي.
قالتْ: الآية: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آَدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه: 115]، فما أحوال النسيان؟
قلتُ لها: النِّسيان نَوْعَان:
نسيانٌ حقيقي، وهو أن يرد الخاطر ويذهب دون عزم، لا على قبول، ولا رد.
ونسيان كَسْبِي: وهو المقصود في الآية، وهو أن يرد الخاطر فَنَتَجَاهله عن عَمْد.
يأتي الآن دور خاطرِ الشَّرِّ، رسمتُ رسمةً، وقلتُ لها: انظري وتابِعي:
ومنها: أنَّ ما أورثَ أُنْسًا ونورًا في القلب، وانشراحًا في الصَّدر، فهو منَ المَلَك، وما أَوْرَثَ ضد ذلك، فهو منَ الشيطان.
ومنها: أنَّ ما أورثَ سَكينةً وطُمأنينةً، فهو منَ المَلَك، وما أورثَ قَلَقًا وانْزِعاجًا واضْطرابًا، فهو منَ الشيطان.
فالإلهام المَلَكِي يَكْثُر في القلوب الطَّاهرة النقيَّة، التي قدِ استنارتْ بنور الله، فَلِلْمَلَكِ بها اتِّصال، وبينه وبينها مناسبة، فإنه طَيِّبٌ طاهِر، لا يجاوِرُ إلاَّ قلبًا يُناسِبه، فتكون لَمَّة المَلَك أكثر مِن لَمَّة الشيطان بهذا القلب.
وأمَّا القلب المَيِّت الذي قدِ اسْوَدَّ بدخان الشهوات والشبهات، فإلقاء الشيطان وَلَمُّه به أكثر من لَمَّة الملك".اهـ، مِن "كتاب ابن القيم".
قالتْ: إذًا وَضَح الفرق؛ لكن هذا يُعيدنا للوَسواس الأول، إنَّني يكثر بي خاطر السُّوء؛ لأنَّ قلبي خرب.
ابْتَسَمْتُ، وقلتُ: بل ماذا يفعل الشيطان في البيت الخَرِب، هذا محض إيمان، وكلام ابن القيم: أنَّ الشيطان له بالقلب الصالح لَمَّات أيضًا، حتى ينتصرَ الخير فيه أو الشر، فيصيرُ القلب سليمًا أو ميتًا، فإذا كان القلب مُسْتَسْلِمًا للشُّبُهات والشَّهوات، يَأْتِيها من غير امتناعٍ ولا خَشْيَة، فهو القلب الذي اسْوَدَّ، والذي يَتَبَاعَدُ عنه المَلَك، فلا يكاد يُؤَنِّبُ نفسه إلاَّ كَسَرابٍ يراه مِن بعيد، ولا يدركه أبدًا، فابن القَيِّم يَتَحَدَّث عن آخر مراحل القلوب، حين يصلَ القلب الذي قاوَمَ وَجَاهَدَ إلى مأربه منَ السلامة، وحين يصل القلب الذي اسْتَسْلَمَ، وانقاد للشَّرِّ إلى الموت، فمع المقاومة، والاستعاذة، وكثرة الاستغفار، وحُضُور القلب في الخَيْرات، ومتابعة النوايا، والإصرار على الصالحات، ومُجاهَدة النفس، وتزكيتها بالأذكار؛ والقرآن، والدعاء - ستَجِدين أن الأمورَ صارَتْ أفضل - إن شاء الله - وأنَّ لَمَّات المَلَك صارت أقرب، وأن لَمَّات الشَّيطان صارتْ أبعد، فلا يكاد يكون للقلب شهوة ولا شبهة تُخَالف أمر الحق، وهذا أمرٌ عظيمٌ، وجائزة جليلة من ربٍّ كريم؛ قال - تعالى -: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69].
فقط عليكِ بِنَصيحة الصَّالحين والصَّالحات، واثْبُتِي على الحقِّ لا على غيره، واجْلِسي مع نفسكِ خمس دقائق قبلَ أيِّ عملٍ؛ لِتُجَدِّدي النِّيَّة، وإن وجدتِ لَمًّا منَ الشيطان، فاستعيذي بالله - تعالى - واعلمي: أنَّ الحزنَ مِن جنود الشيطان، فجَدِّدي النِّيَّة، وتَحرَّي الحق، ولا تتركيه أبدًا، واعلمِي: أنَّ الشَّهوات من نفسكِ، وأن الشُّبُهات منَ الشَّيْطان، فخَالِفي النَّفْس والشَّيْطان.
ولا تَنْسَي تجديد إيمانك بلا إله إلا الله.
----------------------------------
[1] كلُّ ما سيأتي هو خُلاصة محاضرات قيِّمة؛ للدكتور/ محمود عبدالرازق الرضواني، مع ما تَيَسَّرَ من كُتُب ابن القيم الجوزية.
وسواس
سارة بنت محمد حسن
لَفَتَ نَظَرِي مشهدٌ: أختٌ مِن نفس جامِعَتِي، تجلس مُنزَويةً في أحدِ الأركان ساهمةً، على كلِّ خلية منْ خلايا وجهها أَلَمٌ لا يُضاهِيه أَلَمٌ، وحزنٌ عميقٌ، وكانتْ عيناها جافَّة، تَأَمَّلْتُها، إنَّها إحدى الأَخَوات الدَّاعيات في الجامعة، عجبًا!
دائمًا كانتْ مِثالاً للنَّشاطِ والهِمَّة، أُقِيمَتِ الصَّلاة، فاصْطَفَّ الناس، لَفَتَ نَظَري أنَّ الأختَ قامتْ بِتَثَاقُل؛ كأنها مريضة، وَقَفَتْ تُصَلِّي بِجِوَاري، وكان صوتُ الشيخ رائعًا، باكيًا، أثار في جُمُوع المُصَلِّينَ الخشوعَ والعَبَرَات؛ لكنِّي كنتُ مشغولةً بالأُخت التي تُصَلِّي بِجِواري، لم تَبْكِ، فقط شعرتُ بِجَسَدِها ينتفضُ في أَلَمٍ، وبعد الصلاة جَلَسَتْ وقدِ ازدادَ الأَلَمُ في وَجْهِها، وصارَ وَجْهُها شاحبًا، وكانتْ بين كلِّ ركعَتَيْنِ تنكمشُ في جلستها؛ تنظرُ إلى ما حولها كأنها انفصلتْ عنِ العالَم، عدتُ إلى بيتي، وصورتُها لا تُفارِق مُخَيِّلتي، كنتُ أشعرُ بالرَّغبة في التَّعَرُّف عليها، وإزالة أحْزَانِها، عزمتُ على التَّحَدُّث إليها في اليوم التالي، ذهبتُ إليها، وعَرَّفتُها بنفسي، نظَرَتْ إليَّ نظرةً خاوِيةً، وقالتْ: نعم، أسمع عنكِ في الجامعة، وأعرف أنَّكِ مِن أنشط الدُّعاة هناك.
ابْتَسَمْتُ، وقلتُ لها: بل نحن جميعًا نعرف همتكِ في الدَّعوة، أنتِ قدوةٌ صالحة لنا جميعًا.
سَكَتَتْ، وقد عَلاَ وَجْهَها أَلَمٌ أَشَد.
قلتُ لها في قَلَقٍ: أختي، هل هناك شيءٌ يؤلمكِ؟ هل أنتِ مريضة؟
قالتْ: لا.
قلتُ لها: ماذا هناك؟ أنتِ في حالةٍ غير طبيعيَّة.
فسَكَتَتْ.
قلتُ لها: أختي، بالله عليكِ أخبريني، ما بكِ؟ أنا لا أَتَدَخَّل في شؤونكِ؛ لكن لا أستطيعُ أن أراكِ في هذه الحالة، وقد أستطيعُ مساعدتكِ.
نَظَرَتْ لي نظرةً تنمُّ عن صراعٍ.
قلتُ - أسْتَحِثُّها على الحديثِ -: لقد أَقْسَمْتُ عليكِ، يجبُ أن تبرِّي قَسَمي.
نَظَرَتْ لي في حزنٍ، ثم أَطْرَقَتْ، وقالتْ: إنَّه الوَسْواس.
قلتُ لها: أُختي، أفصحي عن مكنونات صدركِ.
نَظَرَتْ لي نظرةً متأملةً، وبَدَأَتْ تحكي: في البداية كنتُ نشيطةً جدًّا في الدَّعْوة، وكنتُ لا أتركُ فرضًا ولا سُنَّةً، كنتُ قويَّةً في أمر الله، بدأ الوسواس:
- إعجاب بالنفس، رياء، كنتُ أجاهدُ نيَّتي، ثمَّ ما أن أبدأ العمل، أجده قويًّا جدًّا لا أستطيعُ مقاومته: ما أفضلكِ، ما أحسنكِ، أنتِ لا تُضَاهين، آه، هذا العمل سيجعلكِ مشهورةً، هذا العمل سيجعل الآخرين مبهورينَ بكِ، ستنالينَ مجدًا وشهرةً، وسيعرف الجميعُ قيمتكِ.
كنتُ أقاومُ، وأقاومُ، وأقاوم، وكلَّما ازْدَادَتِ المُقاوَمة، وكلما زادَ الإحساس وتَعَمَّق، شعرت بالإحباط والهزيمة.
كنتُ أقولُ لِنَفْسِي: لماذا تَقُومينَ بالدَّعْوَةِ؟ إنَّ عملَكِ باطلٌ، هَلاَّ جلستِ في بيتكِ، واعتزلتِ الناسَ، وواظَبْتِ على صلاتكِ وسُننكِ؛ حتى تُصْبِحِي أقوى، فيمكنكِ مُواجهة العالَم؟
ففعلتُ، وتَرَكْتُ الدَّعوة، كنتُ أرى المنكرَ أمامي فلا أنكر؛ لأنني أخشى الرِّياء، وأخشى العُجْب والكِبْر، امْتَنَعْتُ عنِ البُكاء مِن خشيةِ الله؛ لأنَّني أظنُّ أنَّني أُمَثِّل، والآن لا أستطيع أن أدمعَ دمعةً، لا في سِرٍّ ولا عَلَن، أشْعُر أنَّ صلاتي وسُنني غير مقبولةٍ، أقوم للصَّلاة بِتَثَاقُل، فهي غير مقبولة أصلاً، أكْرَهُ نفسي؛ لأنني أشعر أنَّني أفضل منَ الناس، أتمنَّى الموت؛ لِيَنْتهيَ هذا العذاب، وأخْشَاهُ لأنِّي أعرفُ ماذا ينتظرني، لسانِي ثقيل، وقلبي فتر عن ذِكْر الله، والآن قد وَصَلْتُ لمرحلة منَ القُنُوط واليأس، أحسب معها أنني وَلَجْتُ بابًا للكُفر.
ربَّتُّ على كتِفِها، وابتسمتُ، وقلتُ: أختي الحبيبة، هَوِّني على نفسكِ، فالأمرُ يَسيرٌ، وعلاجُه أيسر.
نَظَرَتْ لي، وفي عينيها نظرة تنمُّ عن عدم التَّصديق، وقالت: أنتِ لا تعلمينَ ما يَمُوج في صدري.
قلتُ لها: بل أعلم جيدًا، لستِ وَحدكِ، وكلُّ ما ذكرتِ عندي له حلٌّ، والله المستعان.
هَتَفَتْ في لهفةٍ: حقًّا؟
قلتُ لها: حقًّا.
وابْتَسَمْتُ، وابْتَسَمَتْ، وانْحَلَّتِ المشكلة بِفَضْلٍ منَ الله، تُرى كيف؟
ابْتَسَمْتُ، وقلتُ لها: الأمر هَيِّن - إن شاء العليُّ القدير - عندما كنتِ داعيةً إلى الله، هل يترككِ الشيطان؟ وماذا يفعل في البيت الخَرِب؟
جاءكِ في وسواس الرِّياء؛ يُلقِي لكِ الشُّبهة في صَبْر، كنتِ تقومينَ وتَظُنِّينَ أنكِ لا تُقُومينَ.
قالتْ: كيف؟
قلتُ: أليس حزنكِ مُقَاوَمة؟ أليسَ أَلَمكِ وصراعُ نفسِكِ مع الوَسواس مُقاوَمة؟ لكن عدم معرفتِكِ بذلك أَدَّى إلى تَصَاعُد الصِّراع، ومِن ثَمَّ الاسْتسلام؛ لأنَّ الأَلَم زَاد، وصارَ لا يُطاق، وعندما شعرتِ بالإحباط والهزيمة، وَلَج الشيطان من هذا الباب، فهو بابُه المُفَضَّل، وصِرْتِ أنتِ لُقمةً سائِغة لكلِّ إلقاء، وصار يُلبس عليكِ دينَكِ، وسَقَطتِ في الفَخِّ؛ لأنك لم تَتَعَلمي حديثَ النفس، ولم تُتْقِني خباياه ودُرُوبه.
تعالي أُحَدِّثكِ عن حديث النَّفس الذي اضطررتُ اضطرارًا لِتَعَلُّمِه، عندما أصابني ما أصابك:
إنَّ هناك حديثَ نفسٍ يدور في صَدْر كُلٍّ منَّا، فمَنِ الذي يَتَحَدَّث؟
الأول شيطان، ويُقَابله مَلَك.
قالتْ: وما الدَّليل؟
قلتُ: قال - تعالى -: {وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ * أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} [ق: 23، 24]، ثمَّ قال - تعالى - في نفس السورة: {قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ} [ق: 27]، إذًا ترينَ أنَّ القرينَ الأول يَتَحَدَّث بِلَهْجة الشاهد الذي يشهد على الإنسان بما فعل منَ المَعَاصي، والقرينُ الثاني يَتَحَدَّث بلهجة المُتَّهَم الذي يَنْفِي عن نفسه تُهمة الإِضْلال، فالأوَّل هو قرينه منَ الملائِكة، والثاني: هو قرينُه منَ الشَّيَاطِين، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ للمَلَك بابن آدم لمة، وللشَّيطان به لَمَّة)).
سَكَتَتْ قليلاً، ثم قالتْ: أكْمِلي.
قلتُ: هذانِ طَرَفانِ من خارج النفس، وهناك طرفان من داخل النفس.
قالتْ: ما هما؟
قلتُ:هواكِ، وفطرتكِ.
قالتْ في حيرة: ما الفرق؟
قلتُ: إن الله - تعالى - لَمَّا خلق الإنسان رَكَّبَ فيه فطرة مَجْبُولة على الخير، كما جَعَل له هوًى يَدْعُوه إلى الشَّهَوَات؛ قال - تعالى -: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 8 - 10]، إذًا فالإنسانُ فيه داعي الخير، وداعي الشَّر، والقلب بين هذه الأطراف حَكَم.
قالتْ في حيرة: القلبُ أم العقل؟
قلتُ مُبْتَسمَة: العقلُ في القلب؛ قال - تعالي -: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} [الحج: 46].
سَكَتَتْ قليلاً، ثم قالتْ في تَرَدُّدٍ: الأمرُ بَدَأَ يَلْتَبِس عليَّ.
أمسكتُ ورقةً وقلمًا، ورسمتُ لها:
قالتِ الأختُ: نعم؛ الآن وَضَحتِ الرُّؤية بعض الشَّيء، أَكْمِلي الشَّرح.
قلتُ: الآن نحتاج للتَّمييز بين نَزْغِ الشيطان وبين إلقاء المَلَك، كما نحتاج للتَّمييز بين الهوى وبين الفطرة.
قالتْ: بالتأكيد؛ لأنَّنا لو حَدَّدنا المُتَحدث، سنرى هل نقبل أو لا؟
قلتُ مُبتَسمة: وإذا عَرَفنا مَن المُتَحَدث، سنَتَّخذُ كذلك ردَّ الفعل المُناسب، وبالتالي لن يَتَمَكَّن منَّا اليأس، ولا الفُتُور، ولا الإحباط.
قالَتْ: كيف؟
قلتُ: مثلاً، الآن أنتِ مَيَّزتِ أنَّ هذا نَزْغ شيطان، ستقولينَ: إذًا هو إلقاءٌ يجبُ عليَّ ردُّه، وعندما تعرفينَ الهوى ستُخالِفينَه، وبذلك تَكُونينَ وافَقْتِ أمر الله.
قالَتْ: نعم.
قلْتُ: لكن قبل أن نَتَحَدَّث عنِ التَّمييز بين مختلف الوَسَاوس، نُوَضِّح أولاً متى يكون المرء محاسبًا، ومتى لا يكون محاسبًا؛ يعني متى يَتَحَوَّل الوَسواس إلى كَسْب قلبي؟ وهذا سَيُسَاعدنا كثيرًا في تحديد مَنِ الذي يُوَسْوس، كما أنه يُساعد مَن لَدَيْه وسواس مرضي على مُقَاومته، وكذلكَ فإنَّ في هذه المنطقة بالذَّات - وأعني بها القلب - أولَ طريقِ جهادِ النَّفس، فإن صَلُحَتِ المُضْغة، صَلُحَتْ سائر العِبَادات، سنعرفُ متى يكون الرِّياء خاطرًا، أو وَسْواسًا؟ ومتى يكون كَسْبًا؟ ومتى يكون العُجْب خاطرًا؟ ومتى يكون كسبًا؟ ومتى تكون الاعتقادات الخاطئة - من كفر أو رغبات شهوانيَّة... إلخ - خواطرَ؟ ومتى تكون كسبًا؟ ومتى يكون النِّسيان محاسَبًا عليه؟ ومتى لا يكون؟ وسَنَتَعَلَّم تجارة العلماء - وهي النوايا باختصار - سنعرف متى يكون الإنسان محاسَبًا على ما مَرَّ بذهنه؟ ومتى لا يكون؟ وبالتالي سَنَشْعُر بالارتياح والتَّصَالُح مع نفوسِنا، ولن نظلَّ ندور في دائرة مُفْرَغة، وسَنَتَعَلَّم كيف نَتَحَكَّم في الخاطر ونُوَجهه إلى رَفْع هِممنا، وكيف نقوِّي عزمنا على الإخلاص، وباختصار مرة أخرى: سنعيشُ في عالمٍ آخرَ، عالمٍ كاملٍ، كنَّا في غَفلةٍ عنه، فأَهْلَكَتْنا غَفْلَتُنا.
قالت: لقد شَوَّقتِني، أريدُ أن أسمعَ الشَّرح.
قلتُ: نبدأ - إن شاء الله -:
أولاً: ما الفرق بين منطقة الكَسْب، ومنطقة الخَوَاطر؟
الخواطر ما يَرِد على قلبكِ من أفكار، كما بَيَّنَّا أطرافه سابقًا، ثم يَقْبل قلبكِ الخاطر، أو يردُّه، أو يَتَجَاهله.
وهذه الرُّسومات التَّوضيحيَّة التالية تُبَيِّن كيفيَّات قَبول الخاطر، ورده، وتَجَاهُله، ونبدأ بخاطر الخير:
قالتْ: هَلاَّ شرحتِ.
قلتُ: يأتيكِ خاطر الخير فتَقْبلينه، أو تَرُدِّينه، أو تَتَجاهلينه، كما قُلنا.
والرَّسمة السابقة تَتَحَدَّث عن قبولكِ الخاطر، ثم نَنْظر ما أنواع قَبول خاطر الخير؟ فقد يقبل شخص خاطر الخير لله - تعالى - وهذا إخلاص، أو لِغَير الله، أو يشرك في نِيَّته.
الآن نحن نَتَحَدَّث عن خاطر الخير وقبوله، وكيفيات قَبوله، وما سَيَتَرَتَّب على ذلك مِن إثمٍ، أو أجر، ثمَّ نَتَحَدَّث عن ردِّ خاطر الخير، ونسيان خاطر الخير، ثمَّ نَتَحَدَّثُ عن خاطِرِ الشَّرِّ بِنَفْس التَّسَلسُل: قبوله، وكيفيَّات قَبوله، ورده، وكيفيَّات رده، وبهذا سنكون عَرَفنا كما ذكرتُ مِن قبلُ متى يُحَاسَب الإنسانُ على ما مَرَّ في قلبه؟ ومتى يُؤْجَر؟ ومتى يأثم؟ ومتى يسقط عنه الإثم والأَجْر؟
فالرَّسمة السابقة رَأَيْنا فيها أنَّ المَلَك أوِ الفطرة أَلْقَتِ الخاطر، ثم بَدَأَ القَلْب يَتَفَاعَلُ بالقَبُول، وشَرَحْنا كيفيَّات التَّفاعُل، وما المُتَرَتِّب عليها من إثمٍ وأَجْرٍ، فقط اصْبِري معي، وتابعي، فهذه مُقَدِّمة لا بُدَّ منها؛ لكي نفهمَ الأمرَ باسْتِفاضةٍ وشُمُولٍ.
قالتْ: هلاَّ وَضَّحْتِ الرَّسمة أكثر.
قلتُ: الكَسْبُ القلبي أمامه سَهْمان، وهما يُشيرانِ لِقَبُول الخاطِر؛ بمعنى: أنَّ قَبول الخاطر هو الكَسْب القلبي، وعنيتُ بِقَبُول الخاطر أنَّ القَلْب يعزم عَزْمًا على القَبول بهذه الكيفيَّات المذكورة، تحت الأسهم (لله، لغير الله... إلخ)، فالآن الخاطر يُلقيه المَلَك أوِ الفطرة من نفسكِ: صَلِّي، زَكِّي، صومي... إلخ.
فيعزم قلبكِ على الفعل لله أو لغير الله... إلخ، حتى الآن أنتِ لم تصومي، ولم تُزَكِّي، ولم تفعلي شيئًا، فقط نَتَحَدَّث عنِ العزم قبل الفعل، أنتِ أخذْتِ الأجْرَ أوِ الإثم على العمل القلبي قبل الفعل، يعني لو استيقظتِ فلم تصومي؛ لأيِّ ظرف قدريٍّ، أو حتى لِلْكَسل؛ لكن كان عزمُكِ صادقًا، فأنتِ كان لكِ أجر العزم والإرادة والنِّيَّة؛ كما روى ابن عباس عنِ النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ الله كَتَبَ الحسنات والسيئات، ثم بَيَّن ذلك، فمَنْ هَمَّ بحسنةٍ فلم يَعْمَلْها، كُتبتْ له حسنة كاملة، ومَن هَمَّ بها فعملها، كُتِبَتْ له عشر حسنات، إلى سبعمائة ضعف، والله يُضاعِفُ لِمَن يشاء)).
قالتْ: نعم، أَكْمِلي.
قلتُ: الآن نرسم رسمةً أخرى.
قلتُ لها: انظُري في الرَّسمة، إذا أتى الإنسانَ خاطرُ خيرٍ فردَّه، فهو بين الإثم ونقصان الإيمان، لاحِظي هنا أمرًا مهمًّا:
أولاً: أنا أَتَحَدَّث عن خاطر خير مُجَرَّد، لا خاطر خير مشتبه فيه.
قالتْ في حَيْرة: بمعنى؟
قلتُ: يعني قد يكون خاطر الخير تَشْبيهًا منَ الشَّيطان؛ لِيَجْعل الإنسان يَشْتغل بِمَفْضُول، مثلاً: فلو تفطَّنَ له المُؤْمِنُ ورده، لا يدخل في بابِنا هذا.
قالتْ: هل يمكن أن تعطيني مثالاً؟
قلتُ: مثلاً، أنتِ تَقْرَئينَ القُرآن، وأُذِّن الأذان، فوَقَع في قلبكِ أنَّكِ تُريدينَ الاستزادة منَ القراءة، ولا تُرَدِّدين خلف الأذان، أو تأخير الصلاة، هل هذا خاطر خير؟
في ظاهره نعم؛ لكن في باطنه يُضَيِّع عبادة وقت... والأمثلة كثيرة.
قالت:نعم، فهمتُ.
إذًا؛ لو جاء خاطرُ الخير الحقيقي، فَرَّدَهُ الإنسان، ما معنى رَدِّه؟
لاحِظي أيضًا، أنا لا أتحدَّثُ عنِ النِّسيان، أوِ الانشغال، أنا أتحدثُ عن إرادة رَدِّه، مثلاً: فتاة غير محجبةٍ يَأْتِيها هاتفٌ داخليٌّ: تَحَجَّبِي، هذا أفضل، فترده، وتقول في نفسها: ليس الآن، أنا أحب الزِّينة، فبالقطع هي بإرادتها آثِمَة؛ لعدم لبس الحجاب؛ لأنَّها عَزَمَتْ على عدم الطاعة.
مثال آخر: هاتفٌ يأتيكِ: تَصَدَّقي، فتَبْخلينَ، البُخل هنا عَمَل قلبي، وهو العزم على عدم التَّصَدُّق، والعمل القلبي إرادة، والإرادة نحن محاسبونَ عليها، وإن كانتِ الصَّدَقة سُنَّة، وليست فريضة؛ لكن الإيمانَ يَزِيدُ وينقص بهذه العزيمة، هل هذا واضح؟
قالتْ: نعم.
سَكَتَتْ لحظةً، ثم قالت: هنا مسألة.
قلتُ لها: تَفَضَّلِي.
قالتْ: الآية: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آَدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه: 115]، فما أحوال النسيان؟
قلتُ لها: النِّسيان نَوْعَان:
نسيانٌ حقيقي، وهو أن يرد الخاطر ويذهب دون عزم، لا على قبول، ولا رد.
ونسيان كَسْبِي: وهو المقصود في الآية، وهو أن يرد الخاطر فَنَتَجَاهله عن عَمْد.
يأتي الآن دور خاطرِ الشَّرِّ، رسمتُ رسمةً، وقلتُ لها: انظري وتابِعي:
ومنها: أنَّ ما أورثَ أُنْسًا ونورًا في القلب، وانشراحًا في الصَّدر، فهو منَ المَلَك، وما أَوْرَثَ ضد ذلك، فهو منَ الشيطان.
ومنها: أنَّ ما أورثَ سَكينةً وطُمأنينةً، فهو منَ المَلَك، وما أورثَ قَلَقًا وانْزِعاجًا واضْطرابًا، فهو منَ الشيطان.
فالإلهام المَلَكِي يَكْثُر في القلوب الطَّاهرة النقيَّة، التي قدِ استنارتْ بنور الله، فَلِلْمَلَكِ بها اتِّصال، وبينه وبينها مناسبة، فإنه طَيِّبٌ طاهِر، لا يجاوِرُ إلاَّ قلبًا يُناسِبه، فتكون لَمَّة المَلَك أكثر مِن لَمَّة الشيطان بهذا القلب.
وأمَّا القلب المَيِّت الذي قدِ اسْوَدَّ بدخان الشهوات والشبهات، فإلقاء الشيطان وَلَمُّه به أكثر من لَمَّة الملك".اهـ، مِن "كتاب ابن القيم".
قالتْ: إذًا وَضَح الفرق؛ لكن هذا يُعيدنا للوَسواس الأول، إنَّني يكثر بي خاطر السُّوء؛ لأنَّ قلبي خرب.
ابْتَسَمْتُ، وقلتُ: بل ماذا يفعل الشيطان في البيت الخَرِب، هذا محض إيمان، وكلام ابن القيم: أنَّ الشيطان له بالقلب الصالح لَمَّات أيضًا، حتى ينتصرَ الخير فيه أو الشر، فيصيرُ القلب سليمًا أو ميتًا، فإذا كان القلب مُسْتَسْلِمًا للشُّبُهات والشَّهوات، يَأْتِيها من غير امتناعٍ ولا خَشْيَة، فهو القلب الذي اسْوَدَّ، والذي يَتَبَاعَدُ عنه المَلَك، فلا يكاد يُؤَنِّبُ نفسه إلاَّ كَسَرابٍ يراه مِن بعيد، ولا يدركه أبدًا، فابن القَيِّم يَتَحَدَّث عن آخر مراحل القلوب، حين يصلَ القلب الذي قاوَمَ وَجَاهَدَ إلى مأربه منَ السلامة، وحين يصل القلب الذي اسْتَسْلَمَ، وانقاد للشَّرِّ إلى الموت، فمع المقاومة، والاستعاذة، وكثرة الاستغفار، وحُضُور القلب في الخَيْرات، ومتابعة النوايا، والإصرار على الصالحات، ومُجاهَدة النفس، وتزكيتها بالأذكار؛ والقرآن، والدعاء - ستَجِدين أن الأمورَ صارَتْ أفضل - إن شاء الله - وأنَّ لَمَّات المَلَك صارت أقرب، وأن لَمَّات الشَّيطان صارتْ أبعد، فلا يكاد يكون للقلب شهوة ولا شبهة تُخَالف أمر الحق، وهذا أمرٌ عظيمٌ، وجائزة جليلة من ربٍّ كريم؛ قال - تعالى -: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69].
فقط عليكِ بِنَصيحة الصَّالحين والصَّالحات، واثْبُتِي على الحقِّ لا على غيره، واجْلِسي مع نفسكِ خمس دقائق قبلَ أيِّ عملٍ؛ لِتُجَدِّدي النِّيَّة، وإن وجدتِ لَمًّا منَ الشيطان، فاستعيذي بالله - تعالى - واعلمي: أنَّ الحزنَ مِن جنود الشيطان، فجَدِّدي النِّيَّة، وتَحرَّي الحق، ولا تتركيه أبدًا، واعلمِي: أنَّ الشَّهوات من نفسكِ، وأن الشُّبُهات منَ الشَّيْطان، فخَالِفي النَّفْس والشَّيْطان.
ولا تَنْسَي تجديد إيمانك بلا إله إلا الله.
----------------------------------
[1] كلُّ ما سيأتي هو خُلاصة محاضرات قيِّمة؛ للدكتور/ محمود عبدالرازق الرضواني، مع ما تَيَسَّرَ من كُتُب ابن القيم الجوزية.
وسواس
سارة بنت محمد حسن
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى