رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
شرح عمدة الأحكام ح 224 في حرمة صيد الحرم ولقطته وشوكه
المؤلف عبد الرحمن السحيم
عدد القراء 3423
نص الدرس
شرح عمدة الأحكام ح 224 في حرمة صيد الحرم ولقطته وشوكه
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ – : لا هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ , وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ . وَإِذَا اُسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا .
وَقَالَ : يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ : إنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ الْقِتَالُ فِيهِ لأَحَدٍ قَبْلِي , وَلَمْ يَحِلَّ لِي إلاَّ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ؛ فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ . لا يُعْضَدُ شَوْكُهُ , وَلا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ , وَلا يَلْتَقِطُ لُقْطَتَهُ إلاَّ مَنْ عَرَّفَهَا ، وَلا يُخْتَلَى خَلاهُ .
فَقَالَ الْعَبَّاسُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , إلاَّ الإِذْخِرَ ، فَإِنَّهُ لِقَيْنِهِمْ وَبُيُوتِهِمْ . فَقَالَ: إلاَّ الإِذْخِرَ .
القَينُ : الحَدَّاد .
في الحديث مسائل :
1= قوله : " لا هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ "
هل يتعارض هذا مع قوله عليه الصلاة والسلام : لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها . رواه الإمام أحمد وأبو داود .
ومثله قوله عليه الصلاة والسلام لمجاشع بن مسعود رضي الله عنه : مَضَتِ الهجرة لأهلها . رواه البخاري .
وفي رواية له : ذَهَبَ أهل الهجرة بما فيها .
لا تَعارُض بينهما ، لأن الأول بخصوص مكة ، أي لا هَجرَة بعد فتح مكة .
والثاني عام في بقاء حُكم الهجرة ، من بلد الكُفر إلى بلد الإسلام ، ومن بلد البدعة إلى بلد السنة ، ومن بلد المعصية إلى بلد الطاعة .
قال ابن عبد البر : معناه لا هجرة تُبْتَدأ بعد الفتح مُفترضة ، لا على أهل مكة ولا على غيرهم . اهـ .
وقال النووي : قال أصحابنا وغيرهم من العلماء : الهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام باقية إلى يوم القيامة وتأوّلوا هذا الحديث تأويلين :
أحدهما : لا هجرة بعد الفتح من مكة ، لأنها صارت دار إسلام ، فلا تُتَصَوّر منها الهجرة .
والثاني : - وهو الأصح - أن معناه أن الهجرة الفاضلة المهمّة المطلوبة التي يمتاز بها أهلها امتيازا ظاهرا انقطعت بفتح مكة ، ومَضَتْ لأهلها الذين هاجروا قبل فتح مكة ، لأن الإسلام قوي وعَزّ بعد فتح مكة عزا ظاهرا ، بخلاف ما قبله . اهـ .
ويَعضد القول الثاني ما جاء في حديث مُجاشع بن مسعود رضي الله عنه ، وفيه : ذَهَبَ أهل الهجرة بما فيها .
2= قوله : " وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ "
وهذا موافِق لِقوله عليه الصلاة والسلام لمجاشع بن مسعود رضي الله عنه .
روى البخاري من حديث مجاشع رضي الله عنه قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم أنا وأخي ، فقلت : بَايِعْنَا على الهجرة . فقال : مَضَتِ الهجرة لأهلها . فقلت : عَلامَ تُبَايِعُنا ؟ قال : على الإسلام والجهاد . رواه البخاري .
قال النووي : " ولكن جهاد ونية " معناه أن تحصيل الخير بسبب الهجرة قد انقطع بفتح مكة ، ولكن حَصِّلُوه بالجهاد والنية الصالحة . وفى هذا الحثّ على نِيّـة الخير مُطلقا ، وأنه يثاب على الـنِّـيَّـة .
3= قوله صلى الله عليه وسلم :" وَإِذَا اُسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا " معناه : إذا طلبكم الإمام للخروج إلى الجهاد فاخرجوا . وهذا دليل على أن الجهاد ليس فرض عين ، بل فرض كفاية إذا فعله من تحصل بهم الكفاية سَقَطَ الْحَرَج عن الباقين ، وإن تركوه كلهم أثِمُوا كلهم . قال أصحابنا : الجهاد اليوم فرض كفاية ، إلا أن يَنْزِل الكفار بِبَلَد المسلمين ، فَيَتَعَيّن عليهم الجهاد ، فإن لم يكن في أهل ذلك البلد كفاية وَجَبَ على من يليهم تَتْمِيم الكفاية . قاله النووي .
4= في حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قال : قال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ .
وفي حديث أبي شُريحٍ السابق " الْغَد مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ " .
فهل كانت خطبته صلى الله عليه وسلم في يوم الفتح أو في اليوم الثاني ؟
لا تَعارُض بين الحديثين ، لأن فَتح مكة يُسمّى به اليوم الذي دَخَل فيه النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة ، وتُسمّى به تلك الأيام التي أقامها النبي صلى الله عليه وسلم في مكة بعد الفتح ، ويُسمّى به العام ، ومنه حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دَخَل عام الفتح وعلى رأسه المغفر . رواه البخاري ومسلم . وسيأتي شرحه .
فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يَخطُب أول يود دَخَل مكة ، وإنما خَطَب في اليوم الثاني من دخوله ، فأبو شُريح رضي الله عنه قاله على وجه الدقّة ، وابن عباس على وجه الإجمال .
5= هل تحريم مكة كان في زمن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أو كان قبل ذلك ؟
تحريم مكة كان قبل ذلك – كما سيأتي – .
وقد يقول قائل : ما فائدة تحريم النبي صلى الله عليه وسلم لها مع كونها مُحرّمة من زمن إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، ومع كون ذلك مُستَقِرّاً عند العرب قبل الإسلام ؟
فالجواب عنه : أن ذلك للتأكيد على حُرمة مكة ، وعلى حُرمة سَفك الدم فيها ، وقَطع شوكها ... - إلى غير ذلك مما سيأتي بيانه - .
وتضمّن ذلك إزالة شُبهة ، وهي قد يقول قائل ، أو يَحتَجّ مُحتَجّ بِقتال النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح .
6= هل إبراهيم عليه الصلاة والسلام هو الذي حَرَّم مكة ؟
في الحديث : " أن إبراهيم حَرّم مكة " .
وفي الحديث أيضا : " إنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ تَعَالَى , وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ "
وفي التنْزِيل : (إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا) .
كيف الجمع بينهما ؟
الجواب :
مِن الأحاديث الدّالة على أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام حرّم مكة : حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أن إبراهيم حَرّم مكة ، ودعا لها ، وحَرّمتُ المدينة كما حَرّم إبراهيم مكة ، ودعوت لها في مُدّها وصَاعها مثل ما دعا إبراهيم عليه السلام لمكة . رواه البخاري ومسلم .
ومِن الأحاديث التي تدلّ على أن الله حرّم مكة : حديث أبي شريح العدوي رضي الله عنه – حديث الباب –
وفي رواية للبخاري : إن الله حَرَّم مكة يوم خلق السماوات والأرض ، فهي حرام بحرام الله إلى يوم القيامة لم تحل لأحد قبلي ، ولا تحل لأحد بعدي ، ولم تحلل لي إلا ساعة من الدهر .
والجمع بين هذه الأحاديث ، والتوفيق بينها أن يُقال :
إن الله هو الذي حرّم مكة ، وجَعَلها حراماً إلى يوم القيامة .
وإبراهيم عليه الصلاة والسلام أول من بنى البيت ، كما هو معلوم ، فتكون من هذا الباب نسبة التحريم إليه، وإلاّ فمن المعلوم أن الأنبياء لا يُحرِّمون مِن قِبَل أنفسهم .
ويكون إبراهيم عليه السلام هو أول من أُوحِي إليه تحريم البيت ، أي بعد بنائه للبيت .
فتكون نسبة التحريم إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام .
وأصل التحريم من الله تبارك وتعالى .
فإن من المعلوم بداهة أن التحليل والتحريم تشريع ، وهو من الله ابتداءً .
ويُقال مثل ذلك في اللعن .
فإن في بعض الأحاديث لعن الله ، وفي بعضها لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقد يكون في الشيء الواحد ، كما في حديث ابن مسعود – المتّفقِ عليه – ، وفي أوله قال : لَعَنَ الله الواشمات ، والموتشمات ، والمتنمصات ، والمتفلِّجات للحُسن ، المغيرات خلق الله . فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب ، فجاءت فقالت : إنه بلغني أنك لَعَنْتَ كَيْتَ وكَيْت ؟ فقال : ومالي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ الحديث .
فالشاهد من ذلك أن ابن مسعود رضي الله عنه نَسَب اللعن ابتداء إلى الله ، ثم لما رُوجِع قال : ومالي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
فابتداء التشريع من الله ، وقد يُنسب إلى مَن جاء به .
أو يُنسب إلى أول من عمِل به .
كما يُقال : فعل الأمير كذا .
وقد لا يكون للأمير إلا إصدار الأمر .
وهذا جائز في اللغة ، ولذا جاءت اللغة العربية بالتوكيد والمؤكِّدات .
فإذا قلت : جاء الأمير فيُحتمل أنك تريد رسوله أو أمره أو بعض حاشيته ، ونحو ذلك .
لكنك عندما تقول : جاء الأمير بنفسه ، فقد أكّدت قولك بأنك لا تعني سواه .
فعلى هذا لا يكون هناك إشكال في إضافة تحريم مكة إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام لأنه أول من جاء به وعمِل به .
ولا إشكال في إضافته لله لأن الله تبارك وتعالى هو الذي أمَرَ به وشَرَعه .
كما تقول : ناقة الله ، وتقول : ناقة قوم صالح .
قال ابن عطية في تفسيره : ولا تعارُض بين الحديثين ، لأن الأول إخبار بسابِق علم الله فيها وقضائه وكون الْحُرْمَة مُدة آدم وأوقات عمارة القُطر بإيمان .
والثاني إخبار بتجديد إبراهيم لحرمتها وإظهاره ذلك بعد الدثور .
وكل مقال من هذين الإخْبَارَين حسن في مقامه . عَظَّم الحرمة ثاني يوم الفتح على المؤمنين بإسناد التحريم إلى الله تعالى ، وذَكَر إبراهيم عند تحريمه المدينة مثالاً لنفسه ، ولا محالة أن تحريم المدينة هو أيضا من قِبَلِ الله تعالى ومْنْ نافِذ قضائه وسابِق علمه . اهـ .
وقول ابن عطية " بعد الدثور " أي بعد الاندثار .
وقال القرطبي في تفسير سورة البقرة : اخْتَلَف العلماء في مكة هل صارت حرما آمنا بسؤال إبراهيم ، أو كانت قبله كذلك ؟
على قولين :
أحدهما : أنها لم تزل حَرَماً من الجبابرة المسلطين ومن الخسوف والزلازل ، وسائر المثُلات التي تَحِلّ بالبلاد وجعل في النفوس المتمردة من تعظيمها والهيبة لها ما صار به أهلها متميزين بالأمن من غيرهم من أهل القرى ، ولقد جَعَل فيها سبحانه من العلامة العظيمة على توحيده ما شُوهِد من أمْرِ الصيد فيها ، فيجتمع فيها الكلب والصيد فلا يُهَيّج الكلب الصيد ، ولا يَنْفُر منه ، حتى إذا خَرَجَا من الحرم عَدا الكلب عليه ، وعاد إلى النفور والهرب . وإنما سأل إبراهيم ربه أن يجعلها أمْناً
المؤلف عبد الرحمن السحيم
عدد القراء 3423
نص الدرس
شرح عمدة الأحكام ح 224 في حرمة صيد الحرم ولقطته وشوكه
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ – : لا هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ , وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ . وَإِذَا اُسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا .
وَقَالَ : يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ : إنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ الْقِتَالُ فِيهِ لأَحَدٍ قَبْلِي , وَلَمْ يَحِلَّ لِي إلاَّ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ؛ فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ . لا يُعْضَدُ شَوْكُهُ , وَلا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ , وَلا يَلْتَقِطُ لُقْطَتَهُ إلاَّ مَنْ عَرَّفَهَا ، وَلا يُخْتَلَى خَلاهُ .
فَقَالَ الْعَبَّاسُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , إلاَّ الإِذْخِرَ ، فَإِنَّهُ لِقَيْنِهِمْ وَبُيُوتِهِمْ . فَقَالَ: إلاَّ الإِذْخِرَ .
القَينُ : الحَدَّاد .
في الحديث مسائل :
1= قوله : " لا هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ "
هل يتعارض هذا مع قوله عليه الصلاة والسلام : لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها . رواه الإمام أحمد وأبو داود .
ومثله قوله عليه الصلاة والسلام لمجاشع بن مسعود رضي الله عنه : مَضَتِ الهجرة لأهلها . رواه البخاري .
وفي رواية له : ذَهَبَ أهل الهجرة بما فيها .
لا تَعارُض بينهما ، لأن الأول بخصوص مكة ، أي لا هَجرَة بعد فتح مكة .
والثاني عام في بقاء حُكم الهجرة ، من بلد الكُفر إلى بلد الإسلام ، ومن بلد البدعة إلى بلد السنة ، ومن بلد المعصية إلى بلد الطاعة .
قال ابن عبد البر : معناه لا هجرة تُبْتَدأ بعد الفتح مُفترضة ، لا على أهل مكة ولا على غيرهم . اهـ .
وقال النووي : قال أصحابنا وغيرهم من العلماء : الهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام باقية إلى يوم القيامة وتأوّلوا هذا الحديث تأويلين :
أحدهما : لا هجرة بعد الفتح من مكة ، لأنها صارت دار إسلام ، فلا تُتَصَوّر منها الهجرة .
والثاني : - وهو الأصح - أن معناه أن الهجرة الفاضلة المهمّة المطلوبة التي يمتاز بها أهلها امتيازا ظاهرا انقطعت بفتح مكة ، ومَضَتْ لأهلها الذين هاجروا قبل فتح مكة ، لأن الإسلام قوي وعَزّ بعد فتح مكة عزا ظاهرا ، بخلاف ما قبله . اهـ .
ويَعضد القول الثاني ما جاء في حديث مُجاشع بن مسعود رضي الله عنه ، وفيه : ذَهَبَ أهل الهجرة بما فيها .
2= قوله : " وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ "
وهذا موافِق لِقوله عليه الصلاة والسلام لمجاشع بن مسعود رضي الله عنه .
روى البخاري من حديث مجاشع رضي الله عنه قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم أنا وأخي ، فقلت : بَايِعْنَا على الهجرة . فقال : مَضَتِ الهجرة لأهلها . فقلت : عَلامَ تُبَايِعُنا ؟ قال : على الإسلام والجهاد . رواه البخاري .
قال النووي : " ولكن جهاد ونية " معناه أن تحصيل الخير بسبب الهجرة قد انقطع بفتح مكة ، ولكن حَصِّلُوه بالجهاد والنية الصالحة . وفى هذا الحثّ على نِيّـة الخير مُطلقا ، وأنه يثاب على الـنِّـيَّـة .
3= قوله صلى الله عليه وسلم :" وَإِذَا اُسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا " معناه : إذا طلبكم الإمام للخروج إلى الجهاد فاخرجوا . وهذا دليل على أن الجهاد ليس فرض عين ، بل فرض كفاية إذا فعله من تحصل بهم الكفاية سَقَطَ الْحَرَج عن الباقين ، وإن تركوه كلهم أثِمُوا كلهم . قال أصحابنا : الجهاد اليوم فرض كفاية ، إلا أن يَنْزِل الكفار بِبَلَد المسلمين ، فَيَتَعَيّن عليهم الجهاد ، فإن لم يكن في أهل ذلك البلد كفاية وَجَبَ على من يليهم تَتْمِيم الكفاية . قاله النووي .
4= في حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قال : قال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ .
وفي حديث أبي شُريحٍ السابق " الْغَد مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ " .
فهل كانت خطبته صلى الله عليه وسلم في يوم الفتح أو في اليوم الثاني ؟
لا تَعارُض بين الحديثين ، لأن فَتح مكة يُسمّى به اليوم الذي دَخَل فيه النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة ، وتُسمّى به تلك الأيام التي أقامها النبي صلى الله عليه وسلم في مكة بعد الفتح ، ويُسمّى به العام ، ومنه حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دَخَل عام الفتح وعلى رأسه المغفر . رواه البخاري ومسلم . وسيأتي شرحه .
فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يَخطُب أول يود دَخَل مكة ، وإنما خَطَب في اليوم الثاني من دخوله ، فأبو شُريح رضي الله عنه قاله على وجه الدقّة ، وابن عباس على وجه الإجمال .
5= هل تحريم مكة كان في زمن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أو كان قبل ذلك ؟
تحريم مكة كان قبل ذلك – كما سيأتي – .
وقد يقول قائل : ما فائدة تحريم النبي صلى الله عليه وسلم لها مع كونها مُحرّمة من زمن إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، ومع كون ذلك مُستَقِرّاً عند العرب قبل الإسلام ؟
فالجواب عنه : أن ذلك للتأكيد على حُرمة مكة ، وعلى حُرمة سَفك الدم فيها ، وقَطع شوكها ... - إلى غير ذلك مما سيأتي بيانه - .
وتضمّن ذلك إزالة شُبهة ، وهي قد يقول قائل ، أو يَحتَجّ مُحتَجّ بِقتال النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح .
6= هل إبراهيم عليه الصلاة والسلام هو الذي حَرَّم مكة ؟
في الحديث : " أن إبراهيم حَرّم مكة " .
وفي الحديث أيضا : " إنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ تَعَالَى , وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ "
وفي التنْزِيل : (إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا) .
كيف الجمع بينهما ؟
الجواب :
مِن الأحاديث الدّالة على أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام حرّم مكة : حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أن إبراهيم حَرّم مكة ، ودعا لها ، وحَرّمتُ المدينة كما حَرّم إبراهيم مكة ، ودعوت لها في مُدّها وصَاعها مثل ما دعا إبراهيم عليه السلام لمكة . رواه البخاري ومسلم .
ومِن الأحاديث التي تدلّ على أن الله حرّم مكة : حديث أبي شريح العدوي رضي الله عنه – حديث الباب –
وفي رواية للبخاري : إن الله حَرَّم مكة يوم خلق السماوات والأرض ، فهي حرام بحرام الله إلى يوم القيامة لم تحل لأحد قبلي ، ولا تحل لأحد بعدي ، ولم تحلل لي إلا ساعة من الدهر .
والجمع بين هذه الأحاديث ، والتوفيق بينها أن يُقال :
إن الله هو الذي حرّم مكة ، وجَعَلها حراماً إلى يوم القيامة .
وإبراهيم عليه الصلاة والسلام أول من بنى البيت ، كما هو معلوم ، فتكون من هذا الباب نسبة التحريم إليه، وإلاّ فمن المعلوم أن الأنبياء لا يُحرِّمون مِن قِبَل أنفسهم .
ويكون إبراهيم عليه السلام هو أول من أُوحِي إليه تحريم البيت ، أي بعد بنائه للبيت .
فتكون نسبة التحريم إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام .
وأصل التحريم من الله تبارك وتعالى .
فإن من المعلوم بداهة أن التحليل والتحريم تشريع ، وهو من الله ابتداءً .
ويُقال مثل ذلك في اللعن .
فإن في بعض الأحاديث لعن الله ، وفي بعضها لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقد يكون في الشيء الواحد ، كما في حديث ابن مسعود – المتّفقِ عليه – ، وفي أوله قال : لَعَنَ الله الواشمات ، والموتشمات ، والمتنمصات ، والمتفلِّجات للحُسن ، المغيرات خلق الله . فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب ، فجاءت فقالت : إنه بلغني أنك لَعَنْتَ كَيْتَ وكَيْت ؟ فقال : ومالي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ الحديث .
فالشاهد من ذلك أن ابن مسعود رضي الله عنه نَسَب اللعن ابتداء إلى الله ، ثم لما رُوجِع قال : ومالي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
فابتداء التشريع من الله ، وقد يُنسب إلى مَن جاء به .
أو يُنسب إلى أول من عمِل به .
كما يُقال : فعل الأمير كذا .
وقد لا يكون للأمير إلا إصدار الأمر .
وهذا جائز في اللغة ، ولذا جاءت اللغة العربية بالتوكيد والمؤكِّدات .
فإذا قلت : جاء الأمير فيُحتمل أنك تريد رسوله أو أمره أو بعض حاشيته ، ونحو ذلك .
لكنك عندما تقول : جاء الأمير بنفسه ، فقد أكّدت قولك بأنك لا تعني سواه .
فعلى هذا لا يكون هناك إشكال في إضافة تحريم مكة إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام لأنه أول من جاء به وعمِل به .
ولا إشكال في إضافته لله لأن الله تبارك وتعالى هو الذي أمَرَ به وشَرَعه .
كما تقول : ناقة الله ، وتقول : ناقة قوم صالح .
قال ابن عطية في تفسيره : ولا تعارُض بين الحديثين ، لأن الأول إخبار بسابِق علم الله فيها وقضائه وكون الْحُرْمَة مُدة آدم وأوقات عمارة القُطر بإيمان .
والثاني إخبار بتجديد إبراهيم لحرمتها وإظهاره ذلك بعد الدثور .
وكل مقال من هذين الإخْبَارَين حسن في مقامه . عَظَّم الحرمة ثاني يوم الفتح على المؤمنين بإسناد التحريم إلى الله تعالى ، وذَكَر إبراهيم عند تحريمه المدينة مثالاً لنفسه ، ولا محالة أن تحريم المدينة هو أيضا من قِبَلِ الله تعالى ومْنْ نافِذ قضائه وسابِق علمه . اهـ .
وقول ابن عطية " بعد الدثور " أي بعد الاندثار .
وقال القرطبي في تفسير سورة البقرة : اخْتَلَف العلماء في مكة هل صارت حرما آمنا بسؤال إبراهيم ، أو كانت قبله كذلك ؟
على قولين :
أحدهما : أنها لم تزل حَرَماً من الجبابرة المسلطين ومن الخسوف والزلازل ، وسائر المثُلات التي تَحِلّ بالبلاد وجعل في النفوس المتمردة من تعظيمها والهيبة لها ما صار به أهلها متميزين بالأمن من غيرهم من أهل القرى ، ولقد جَعَل فيها سبحانه من العلامة العظيمة على توحيده ما شُوهِد من أمْرِ الصيد فيها ، فيجتمع فيها الكلب والصيد فلا يُهَيّج الكلب الصيد ، ولا يَنْفُر منه ، حتى إذا خَرَجَا من الحرم عَدا الكلب عليه ، وعاد إلى النفور والهرب . وإنما سأل إبراهيم ربه أن يجعلها أمْناً
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى