عبد الرحمن
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
بسم الله الرحمن الرحيم
أين المفر..؟
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه.
ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان.
(يا أيها الذين أمنوا اتقوا الله حق تقاته، ولا تموتنا إلا وأنتم مسلمون).
أما بعد: عبد الله:
اتقوا الله عباد الله، واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله، يومَ ينفخ في الصورِ، ويبعث من في القبورِ، ويظهرُ المستورُ، يومَ تبلىَ السرائرَ، وتُكشَفُ الضمائرُ ويتميزُ البرُ من الفاجر.
ثم أعلموا أن هناك حقيقةً وأيُ حقيقة!
حقيقةٌ طالما غفلَ عنها الإنسانُ، ولحظةٌ حاسمةٌ ومصيرٌ ومآل.
إنها لحظةُ ملاقيكُم إلى أين من هذه اللحظةِ المهرب، وإلى أين منها المفر ؟
إلى الأمام ملاقيكُم.
إلى الوراءِ ملاقيكُم.
إلى اليميني والشمالِ ملاقيكُم.
إلى أعلا إلى أسفل ملاقيكُم، إلى الوراء ملاقيكم.
لا تمنعُ منه جنود، ولا يُتَحصنُ منه في حصون، مدريكُكم أينما كنتم.
إنه واعظُ لا ينطق، واعظ صامت يأخذَ الغنيَ والفقير، والصحيحَ والسقيمَ، والشريفَ والوضيع، والمقرَ والجاحدَ، والزاهدَ والعابد، والصغيرَ والكبيرَ، الذكرَ والأنثى، كلُ نفسٍ ستذوقهُ شاءت أم أبت.
لعلَكم عرفتموه، لا أظنُ أحداً يجهلُه، أما حقيقتُه فالكل يجهله، إنه الموت.
( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ).
الموتُ ما الموت ؟
أمرُ كبار وكأسُ يدار، في من أقامَ وسار، يخرجُ بصاحبه إلى الجنةِ أو إلى النار.
ما زالَ لأهلِ اللذاتِ مكدرا، ولأصحابِ العقولِ مغيرا ومحيرا، ولأرباب القلوبِ عن الرغبةِ فيما سوى اللهِ زاجرا.
كيفَ وورائُه قبرٌ وحساب، وسؤالٌ وجواب، ومن بعدهِ يومٌ تدهشُ فيه الألبابُ فيعدمُ الجواب.
السكرات، ما أدراكم ما السكرات ؟
عانى منها رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فكان يقول: لا إله إلا الله إن للموت سكرا، اللهم هون علينا سكرات الموت.
سكرات أي سكرات ؟
يقول العلماء كل سكرة منها أشد من ألف ضربة بالسيف.
ملك الموت، ما ملك الموت؟
الدنيا بين يديه كالمائدة بين يدي الرجل يمد يده إلى ما شاء منها بأمر الله فيأخذه.
وإن له لأعوانا ما يعلم عددهم إلا الله، ليس منهم ملك إلا لو أذن الله له أن يلتقم السماوات السبع والأراضين في لقمة واحدة لفعل.
فلا إله إلا الله من لحظة حاسمة لو لم تعتقل الألسنة، وتخدر الأجسام وقت الاحتضار لما مات أحد إلا في شعف الجبال ألما، ولصاح الميت من شدة ما يعاني حتى تندك عليه جدران الغرفة التي هو فيها ولمستطاع أن يحضر ميتا أحدا أبدا، فنسأل الله العافية والسلامة، وأن يهون علينا السكرات.
روي عن الحسن أنه قال:
رأي أحد الصالحين بعد موته فقيل له كيف وجدت طعم الموت؟
قال أواه أواه وجدته والله شديدا، والذي لا إله إلا هو لهو أشد من الطبخ في القدور والنشر بالمناشير، أقبل ملك الموت نحوي حتى استل الروح من كل عضو مني فلو أني طُبخت في القدور سبعين مرة لكان أهون علي.
كفى بالموت طامة وما بعد الموت أطم وأعظم.
ويرى آخر بعد موته في المنام فيقال له: كيف وجدت نفسك ساعة الاحتضار؟
قال كعصفور في مقلاة لا يموت فيستريح ولا ينجو فيطير.
فالله المستعان على تلك اللحظات، و اللهم هون علينا السكرات وجعلها لنا كفرات وآخر المعاناة، وهي كذلك بأذن الله للمؤمنين والمؤمنات، ولغيرهم بداية المعاناة.
عبادَ الله، وفي تلك اللحظاتُ الحرجةُ ينقسمُ الناسُ إلى قسمين، إلى فريقين شقي وسعيد:
فريقُ السعداء حالُهم ما حالُهم:
( تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي ْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ).
ها هيَ أسماءُ بنتُ عميسٍ رضي اللهُ عنها تقول كما روي عنها:
إنا لعند علي رضي اللهُ عنه وأرضاه بعدما ضربَه ابن مُلجِم عليه من الله ما يستحق.
إذ بعليٍ يشهقُ شهقةً فيغمى عليه، ثم يفيقُ ثانيةً وهو يقول:
مرحباً مرحبا، الحمدُ لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الجنةَ، الحمد لله الذي أذهبَ عنا الحزن، لمثلِ هذا فليعملِ العاملون، وليتنافسِ المتنافسون.
فيالها من موعظة ومصير لو وافقت من القلوب حياة. من ظفر بثواب الله فكأنما لم يصب في دنياه.
كأنك لم توتر من الدهر مرة ........ إذا أنت أدركت الذي أنت طالبه
وأسمع معي أخر لسعيد أبن جبير رضي الله عنه يوم يروي لنا قصة صحيحة متواترة كما قال الذهبي في سيره فيقول:
لما مات أبن عباس رضي الله عنه في الطائف، جاء طائر لم يرى مثل خلقته فدخل نعشه، ثم لم يخرج منه، فلما دفن فإذا على شفير القبر تال يتلو لا يرى: ( يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي). فيا لها من خاتمة، ويا له من مصير. والخير في الأمة يستمر، ولن تعدم الأمة خيّر، فأسمع ثالثة إلى هذا الحدث الذي ذكره صاحب كتاب "يا ليت قومي يعلمون)، قال حدثني أحد الصالحين قائلا:
كان هناك رجل صالح من أهل الطائف، كان عابدا فاضلا، نزل مع بعض أصحابه إلى مكة محرما، ودخلوا الحرم بعد أن انتهت صلاة العشاء، فتقدم ليصلي بهم، وهو محرم قد خرج لله عز وجل كما يحسب، فقرأ سورة الضحى، فلما بلغ قول الله عز وجل ( وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى)، شهق وبكى وأبكى، فلما قرأ ( وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى) ترنح قليلا ثم سقط ميتا. فعليه رحمة الله، ليبعث يوم القيامة بأذن الله مصليا، فمن مات على شيء بُعث عليه كما ورد عن المصطفى (صلى الله عليه وسلم).
وآخر يقضي حياته مؤذنا يهتف بالتوحيد كل يوم وليلة خمس مرات، ويؤذن يوما من الأيام ثم يشرع ليقيم الصلاة، ولما انتصف في إقامة الصلاة سقط ميتا فعليه رحمة الله، سنوات يؤذن ثم يجيب داع الله مؤذنا فيُبعث يوم القيامة من أطول الناس أعناقا مؤذنا، فرحمة الله عليه.
يا لها من خواتم طيبة، ملائكةٌ بيضُ الوجوه يتقدمُهم ملكُ الموت، يخاطبُ تلك الأرواح الطيبة:
أيتها النفسُ الطيبةُ أخرجي إلى مغفرةٍ من الله ورضوان وربٍ راضٍ غيرِ غضبان، فتخرجُ تسيل كما تسيلُ القطرةُ من فم السقاء، وتفتحُ لها أبوابُ السماء، وتحملُ الجنازةُ على الأكتاف وهي تصيح وتقول قدمونيَ، قدموني، تسألُ فتجيبُ وتثبتُ، ويفرشُ لها من الجنة، ويفتحُ لها بابٌ إلى الجنة، قد استراحت من تعبِ هذه الدار، وإلى راحةٍ أبديةٍ في دار القرار.
وفريقٌ آخر:
في تلك الساعة يشقى، حسبَ أن الحياة عبثٌ ولهوٌ ولعب، وإذا به يعاني أول المعاناة.
نزلت عليه ملائكةٌ سودُ الوجوه يتقدموهم ملكُ الموت –نعوذ بالله من ختام السوء وساعة السوء- يقول أيتها النفسُ الخبيثةُ أخرجي إلى سخطٍ من الله وغضب.
فتنتزَعُ نزعاً بعد أن تُفرقَ في الجسد، ثم ترفعُ فلا تُفتحُ لها أبوبُ السماء، تحملُ الجنازةُ على الأكتافِ وهي تصيح: يا ويلها أين تذهبون بها، ثم تسألُ فلا تجيب، ويفرشُ لها من النار، ويفتحُ لها بابٌ إلى النار، فنعوذ بالله من النار ومن سوءِ الختامِ وغضبِ الجبار.
ذكر صاحب قصص السعداء والأشقياء أنه وقع حادث في مدينة الرياض على إحدى الطرق السريعة لثلاثة من الشباب، كانوا يستقلون سيارة واحدة، توفي اثنان منهما في الحال، وبقي الثالث في آخر رمق، يقول له رجل المرور الذي حضر الحادث قال لا إله إلا الله، فأخذ يحكي عن نفسه ويقول:
أنا في سقر، أنا في سقر أنا في سقر حتى مات عل ذلك، فلا إله إلا الله.
رجل المرور يسأل ويقول ما هي سقر، فوجد الجواب في كتاب الله عز وجل:
( مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ). ( سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ).
نسأل الله السلامة والعافية. عباد الله:
فريقان لا ثالث، شقي وسعيد:
فريق في الجنة وفريق في السعير.
فريق استراح، وفريق استراح منه العباد والبلاد ومضى إلى جهنم وبئس المهاد.
ألا ترون ألا تتفكرون ألا تنضرون، تشيعون كلَ يومٍ غادياً إلى الله قد قضى نحبه وانقضى أجلَه، حتى تغيبوه في صدعٍ من الأرضِ خُلعَ الأسباب، وتركَ الأحباب، وسكنَ الترابَ، وواجهَ الحسابَ، انتهى أجلُه وأملُه، تبعَه أهلُه ومالُه وعملُه، فرجع الأهلُ والمال وبقي العمل.
فارق الأحبةَ والجيران، هجرَه الأصحابُ والخلان، ما كأنَه فرِحَ يوما ولا ض يوما ما، أرتُهنَ بعملِه فصار فقيراً إلى ما قدم غنياً عن ما تركَ.
جمعوا فما أكلوا الذي جمعوا ...... وبنوا مساكنَهم وما سكنوا
فكأنَهم كانوا بها ضعنا........... لم استراحوا بها ساعةً ضعنوا
ولذلك كان الرسول (صلى الله عليه وسلم) أرحم الناس بالأموات، يقول عوف ابن مالك:
صلى بنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على جنازة رجل من الأنصار، يقول فتخطيت الصفوف حتى اقتربت منه، فسمعته يبكي ويقول: اللهم أغر له، اللهم أرحمه وعافه واعف عنه، وأكرم نزله ووسع مدخله، واغسله بالثلج والماء والبرد.
يقول عوف والذي لا إله إلا هو لوددت أني أنا الميت من حسن دعائه (صلى الله عليه وسلم) له.
ومن رحمته بالأموات (صلى الله عليه وسلم) كان يذهب في الليل ليقف علة مقبرة البقيع فيدعو لعم طويلا ويترحم عليهم طولا (صلوات الله وسلامه عليه)، فما أرسله الله إلا رحمة للعالمين.
وأصحابه كذلك، أبن عمر كان إذا قرأ قول الله : (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ ) بكى وأبكى ودعا للأموات وقال: اللهم لا تحل بيني وبين ما أشتهي، قالوا وما تشتهي؟ قال أن أقول لا إله إلا الله.
فلا إله إلا الله.. ما من ميت إلا ويود أن يسجل في صحيفته لا إله إلا الله، ولكن هيهات حيل بينهم وبينها، وبقي الجزاء والحساب.
فرحم الله امرأ قد من الصالحات لتلك الحفر، ورحم الله حاسب نفسه قبل ذاك اللحد الذي لا أنيس فيه ولا صاحب إلا العمل، وكفى بالموت واعظا.
روي أن عمر أبنُ عبد العزيز رحمَه الله يقول لجلاسه يوما ما:
أرقتُ البارحةَ فلم أنم حتى طلعَ الفجر، قالوا ما أسهرك؟
قال لما أويتُ إلى فراشي ووضعتُ عليَ لحافي تذكرتُ القبرَ، وتذكرتُ الميتَ بعد لياليٍ تمرُ عليه، حينما تركَه أهلُه وأحبتُه وخلانه، تغير ريحُه وتمزقَ كفنُه وسرى الدودُ على خدودِه فليتك ترى تلك الرائحةَ المنتنةَ، وتلك الأكفانَ الممزقةَ، إذا لرأيتَ أمراً مهولا، ثم أنفجر يبكي ويقولُ لا إله إلا الله ولسانُ حالِه:
واللهِ لو قيل لي تأني بفاحشةٍ ......... وأنا عُقباكَ دنيانا وما فيها
لقلتُ لا والذي أخشى عقوبَتَه ...... ولا بأضعافِها ما كنتُ أتيها
تجهزي بجهاز تبلغين به ............. يا نفس قبل الردى لم تخلقي عبثا
كفى بالموت واعظا لمن كان له قلب أو ألقى السمع.
يمر عمرو ابن العاص رضي الله عنه بالمقبرة فيبكي ثم يرجع فيتوضأ ويصلي ركعتين، فيقول أصحابه:
لم فعلت ذلك ؟
قال تذكرت قول الله : (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ ) وأنا أشتهي الصلاة قبل أن يحال بيني وبينها.
عمر الذي حضرته الوفاة فبكى، فقال له ابنه يا أبتاه صف لنا الموت.
قال يا بني الموت أعظم من أن يوصف، لكأن على كتفي جبل رضوى، وكأن في جوفي شوكة عوسج، وكأن روحي تخرج من ثقب ابرة، وكأن السماء اطبقت على الأرض وأنا بينهما.
ثم حول وجهه إلى الحائط ليبكي بكاء مرا فيقول ابنه محسنن ظنه:
أنت من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، أما فتحت مصرا، أما جاهدت في سبيل الله!
فيقول يا بني لقد عشت مراحل ثلاث:
لقد كنت أحرص الناس على قتل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فيا ويلتاه لو مت في ذلك الوقت.
ثم هداني الله فكان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أحب الناس إلي، والله ما كنت أستطيع أن املأ عيني من وجهه حياء منه، والله لو سألتموني أن أصفه الآن ما استطعت، والله ما كنت أملأ عيني إجلالا له، فيا ليتني مت في ذلك الوقت لأنال دعاء النبي (صلى الله عليه وسلم).
يقول ثم تخلفت بعد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فلعبت بنا الدنيا ظهرا لبطن، فما أدري أيؤمر بي إلى الجنة أو النار، لكن عندي كلمة أحاج بها لنفسي عند الله هي لا إله إلا الله محمد رسول الله.
ثم قبض على لا إله إلا الله:( يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ).
يقول أبن عوفٍ رضي الله عنه:
خرجتُ مع عمرَ رضي الله عنه إلى المقبرة، فلما وقفنا عليها، ارتعد وأختلس يدَه من يدي، ثم وضع نفسَه على الأرض وبكى بكاءً طويلاً.
فقلت ما لك يا أميرَ المؤمنين ؟
قال يا ابن عوف ثكلتك أمك أنسيت هذه الحفرة.
حاله يقول: لمثل هذا فأعد.
شد حيازيمك للموت فإن الموت لاقيك ........ لأن لا تجزع للموت إذا حل بواديك.
كفى بالموت واعظا، وبسير الصالحين عنده عبرا.
تحل السكرات بمحمد ابن أدهم فيقول لخادمه: وقد أصابته رعده، يصيح ويقول:
ما لي وللناس، والذي لا إله إلا هو لو استطعت أن أتطوع لله وحدي حيث لا يراني ملكاي لفعلت خوفا من الرياء، ولكن لا أستطيع.
كان يدخل بيته ومعه كوز ماء فيغلق بابه ويقرأ القرآن ويبكي وينشج، فيسمعه ابن له صغير فيقلده في البكاء، فإذا خرج من بيته غسل وجهه واكتحل لكي لا يرى أثر البكاء عليه.
يقول خادمه: دخلت عليه قبل موته بأربعة أيام فقال:
يا أبا عبد الله أبشر فقد نزل بي الموت، وقد من الله علي أن ليس عندي درهم يحاسبني الله عليه، فقد علم ضعفي فإني والله لا أطيق الحساب، فلم يدع عندي شيء يحاسبني عليه فله الحمد.
ثم قال لخادمه أغلق علي الباب، ولا تأذن لأحد علي حتى أموت وأعلم أني أخرج من الدنيا ليس عندي ميراث غير كسائي وإنائي الذي أتوضأ فيه، فغطوا علي بكسائي وتصدقوا بإنائي على مسكين يتوضأ فيه.
ثم لفظ روحه في اليوم الرابع ليلقى الله ليس معه من الدنيا شيء، فرحمه الله رحمة واسعة.
خذ القناعة من دنياك وأرضى بها........ لو لم يكن لك فيها إلا راحة البدن
وانظر إلى من حوى الدنيا بأجمعها....... هل راح منها بغير الحنط والكفن
كفى بالموت واعظا.
وولله لو كان الأمرُ سينتهي بالموت لكان هيناً سهلاً، لكنَه مع شدتِه وهولِه أهونُ مما يليه، والقبرُ مع ظلمتِه أهونُ مما يليه، كلُ ذلك هينٌ إذا قُرنَ بالوقوفِ بين يدي الله الكبيرِ المتعال.
تلفت المرءُ يميناً فلم يرى إلا ما قدم.
وشمالاً فلم يرى إلا ما قدم.
ونظرَ تلقاء وجه فلم يرى إلا النار.
فيا له من موقفٍ ويا لها من خطوبٍ تذهلُ المرضعةُ عما أرضعت وتضعُ كلُ ذاتِ حملٍ حملها، وترى الناسَ سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد.
يبلغ العرق أن يلجم الناس إلجاما، والشمس تدنو منهم قدر ميل، فيالها من أحداثٍ مجردُ تصورُها يخلعُ ويذيبُ الأكباد. يومُ القيامةِ لو علمت بهولِه ......... لفررتَ من أهلٍ ومن أوطانِ.
روي عن الحسن رضي الله عنه:
أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان رأسُه ذات يوم في حجرِ عائشة، فنعس فتذكرت الآخرة فسالت دموعُها على خدِ رسولَ الله (صلى الله عليه وسلم)، فأستيقظَ بدموعها ورفع رأسه وقال ما يبكيك؟
قالت يا رسول الله ذكرتُ الآخرة، فهل تذكرونَ أهليكُم يومَ القيامة؟
قال (صلى الله عليه وسلم) والذي نفسي بيده في ثلاثةِ مواطنَ فإن أحداً لا يذكرُ إلا نفسَه:
إذا وضعتِ الموازين حتى ينظرَ أبنُ أدمَ أيخفُ ميزانُه أم يثقل.
وعند الصحف حتى ينظرَ أبيمينِه يأخذُ أم بشمالِه.
وعند الصراط حتى ينظرَ أيمرَ أم يكردس على وجههِ في جهنم.
يؤتي بإبن أدم حتى يوقفُ بين كفتي الميزان، فتصور نفسِك يا عبد الله وأنت واقفٌ بين الخلائقَ إذ نوديَ باسمك، هلمَ إلى العرضِ على اللهِ الكبير المتعال.
قمتَ ولم يقم غيرك ترتعدُ فرائصُك، تضطربُ رجلاك وجميع جوار، قلبك لدى حنجرتك، خوفٌ وذلٌ وانهيار أعصاب:
شبابكَ في ما أبليتَه ؟
عمرُك فيما أفنيتَه ؟
مالُك من أين اكتسبتَه وفيما أنفقتَه ؟
علمُك ماذا عملتَ به ؟
هذه الأسئلةُ فما الإجابةُ.
كم من كبيرةٍ نسيتهَا قد أثبتَها عليك الملك.
كم من بليتٍ أحدثتهَا.
كم من سريرةٍ كتمتها ظهرت وبدت أمامَ عينيك.
أعظمِ به من موقف، وأعظم به من سائلٍ لا تخفى عليه خافيةٍ، وأعظمِ به من حياءٍ يداخلُك وغم وحزنٍ وأسفٍ شديد، فإما أن يقول الله:
يا عبدي أنا سترتُها عليكَ في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم. فيا لسرورِك وهدئت بالك واطمئنان قلبك والمنادي ينادي: سعدَ فلانُ أبن فلان سعادةً لا يشقى بعدها أبدا.
وأما أن يقولَ الله – عافاك وسلمك الله– إما أن يقول: خذوه فغلوه ثم الجحيمَ صلوه فيذهبُ بك إلى جهنمَ مسود الوجه، كتابك في شمالك ومن وراء ظهرك قد غلت ناصيتك إلى قدمك، أي خزي وأي عارٍ على رؤوس الخلائق ينادى: شقي فلانُ أبن فلان شقاوة لا يسعدُ بعده أبدا.
عباد الله:
الأمر خطير جد خطير، إبليس قد قطع العهد على نفسه ليغوينكم أجمعين، فقال:
وعزتك وجلالك يا رب لا أزال اغويهم ما دامت أرواحهم في أجسادهم.
والله برحمته ومنه يقول:
وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني.
فالبدار البدار، والتوبة التوبة، والاستغفار الاستغفار لا يهلك إلا هالك، ولا يشقى إلا شقي.
أكثروا من ذكر هادم اللذات.
زوروا المقابر فإنها تذكركم الآخرة.
احضروا المحتضرين معتبرين.
اصدقوا الله يصدقكم.
احفظوه يحفظكم وعاملوا الله فلن تخيبوا.
( وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ).
نفعني الله وإياكم بالقرآن وبسنة سيد الأنام عليه الصلاة والسلام، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
عباد الله:
اعلموا أن الآمال تطوى، والأعمار تفنى، والأبدان تحت التراب تبلى، والليل والنهار يقربان كل بعيد ويبليان كل جديد، وفي ذلك والله ما يلهي عن الشهوات، ويسلي عن اللذات، ويرغب في الباقيات الصالحات.
لتفتوا وانظروا وتدبروا وتأملوا بعيون قلوبكم أين من كان حولكم:
أين من كان حولكم ...... من ذوي البأس والخطر
سائلوا عنهم الديار....... واستبحثوا الخبر
سبقونا إلى الرحيل....... وإنا على الأثر
كان عبد الرحمن ابنُ يزيد ابنُ معاوية خلا لعبد الملك أبنُ مروان، فلما مات عبدُ الملكِ ودفنَ وتفرق الناسُ عن قبرِه، وقفَ عليهِ عبد الرحمنُ قائلاً:
أنتَ عبدُ الملك، أنت من كنتَ تعدوني خيراً فأرجوك، وتتوعدُني فأخافُك، الآن تصبحُ وتمسي وليسَ معكَ من ملكِك غير ثوبُك، وليسَ لك من مُلكِكَ سوى ترابِ أربعةِ أذرُعٍ في ذراعين.
إنه لملكٌ هينٌ حقيرٌ وضيعٌ، أفٍ ثم أفٍ لدنياً لا يدومُ نعيمُها، ثم رجعَ إلا أهلِه فأجتهدَ وجد في العبادةِ وعلم أنها الباقيةَ، حتى كان كأنه شن بال من كثرة ما أجهد نفسَه في العبادة.
فدخلَ عليه بعض يعاتبَه لأنه أضر بنفسه، فقال لمن عاتبه:
أسألكَ عن شيء فهل تصدقني فيها، قال نعم.
قال نشدتُك الله عن حالتِكَ التي أنتَ عليها أترضاها حين يأتيك الموت؟
قال اللهم لا.
قال نشدتُك الله أعزمتَ على انتقال منها إلى غيرها؟،
قال اللهمَ لم أشاور عقلي بعد.
قال افتأمن أن لا يأتيكَ ملكُ الموتِ على الحالةِ التي أنت عليها؟
قال اللهم لا آمن.
فقال حالُ ما أقام عليها عاقلٌ وما يقيم عليها ذو قلبٍ ولب، إن الطائرَ إذا علم أن الأنثى قد حملت البيض، أخذ ينقل العيدان لبناء العش قبل الوضع.
أفترُاك ما علمت قُرب رحيلِك إلى القبرِ الذي ستنفردُ فيه وحدَك، ويسدُ عليك فيه بالطينِ وحدَك، آلا عملتَ لك فراشاً من تقوى الله، فمن عمل صالحاً فلأنفسِهم يمهدون.
فلا يومُك الماضي عليكَ بعائد ........ ولا يومُكَ الآتي بهِ أنت واثقُ
فاستعد وأعد.
يا شابا عكف على القرآن:
مسجده ومصلاه، والمسجد مظهره ومخبره اسأل الله الثبات، وازدد من الحسنات، واجعل الآخرة همك يجعل الله غناك في قلبك ويجمع لك شمل، وتأتيك الدنيا راغمة، فجد وسارع واغتنم زمن الصبا.
و يا شابا هجر القرآن:
وأعطى نفسَه هواها فدساها، لتقفنَ موقفاً ينسى الخليلُ به الخليل، وليركبنَ عليكَ من الثرى ثقلُ ثقيل، ولتسألنَ عن النقيرِ، والقطميرِ والصغيرِ والكبير، فعد فالعودُ أحمد قبل أن تقولَ ربي ارجعون فلا رجوع:
ذهبَ العمرُ وفات، يا أسير الشهوات، ومضى وقتُك في لهوٍ وسهوٍ وسبات.
يا شيخا اقترب من القبر:
عرف أنه منه قاب قوسين أو أدنى، فأكثر من الاستغفار، وحبل لسانه عن الزور، ورعى رعيته كما ينبغي، وعرف قدر يومه وليلته بشراكَ بشراك، ضاعف العمل فإن الخيل إذا وصلت إلى نهاية السباق قدمت كل ما لديها من قوة لتفوز بالجائزة.
ويا شيخا نسي الله في شيخوخته بعد شبابه:
فارتكب الجرائم وقارف الكبائر ووقف على عتبة الموت، أين الهوى والشهوات؟ ذهبت وبقيت التبعات، تتمنى بعد يبس العود العَودَ وهيهات.
يا من شاب رأسه فما استحي من الله:
يا من شاب رأسه فانتهك حدود الله وأعرض عن منهج الله تب إلى الله قبل أن تكون ممن لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم.
إلى من ضيعَ الصلاة وأتبعَ الشهوات.
إلى المنافقين والزناة.
إلى الظلمةِ والبغاة.
إلى من طغى وآثر الحياة الدنيا.
إلى المغتابينَ والنمامينَ والحاسدين وأكلة الربا.
إلى من ألهاهم التكاثرَ فنسوا بعثرةَ المقابر وتحصيلَ من في السرائر.
إلى من أضنى عينيه بمشاهدةِ المسلسلات واستقبالِ القاذورات.
إلى من طربت أذنُه باستماعِ الأغنيات.
إلى من شغلته أمواله المحرمة والشركات.
إلى من أعمى الهوى بصرَه وأصم سمعه فكانَ حياً وهو في عدادِ الأموات.
إلى الراشين والمرتشين وأهلِ السكرِ والمخدرات.
إلى المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب.
إلى الكاسيات العاريات.
إلى العصاةِ جميعاً.
من الموتِ والقبرِ والحسابِ أين المفر، أين المفر؟
( كَلَّا لا وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ).
( أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ).
عباد الله: آن الأوان أن نعلنها توبة إلى الله باللسان والجنان.
اللهم صلى على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم انك حميد مجيد.
اللهم آتي نفوسنا تقواها.
اللهم زكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولها. وأنت أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأنصر عبادك الموحدين.
اللهم ارحم من لا راحم له سواك، ولا ناصر له سواك ولا مأوى له سواك، ولا مغيث له سواك.
اللهم ارحم سائلك ومؤملك لا منجى له ولا ملجئ إلا إليك.
اللهم كن للمستضعفين والمضطهدين والمظلومين.
اللهم فرج همهم ونفس كربهم وارفع درجتهم واخلفهم في أهلهم.
اللهم أنزل عليهم من الصبر أضعاف ما نزل بهم من البلاء.
يا سميع الدعاء
الله ارحم موتى المسلمين، اللهم إنهم عبيدك بنوا عبيدك بنو إمائك احتاجوا إلى رحمتك وأنت غني عن عذابهم، الله زد في حسناتهم، وتجاوز عن سيئاتهم أنت أرحم بهم وأنت أرحم الراحمين.
سبحان ربك رب العزة عن ما يصفون وسلام على المرسلين
والحمد لله رب العالمين.
فضيلة الشيخ / علي عبد الخالق القرني
أين المفر..؟
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه.
ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان.
(يا أيها الذين أمنوا اتقوا الله حق تقاته، ولا تموتنا إلا وأنتم مسلمون).
أما بعد: عبد الله:
اتقوا الله عباد الله، واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله، يومَ ينفخ في الصورِ، ويبعث من في القبورِ، ويظهرُ المستورُ، يومَ تبلىَ السرائرَ، وتُكشَفُ الضمائرُ ويتميزُ البرُ من الفاجر.
ثم أعلموا أن هناك حقيقةً وأيُ حقيقة!
حقيقةٌ طالما غفلَ عنها الإنسانُ، ولحظةٌ حاسمةٌ ومصيرٌ ومآل.
إنها لحظةُ ملاقيكُم إلى أين من هذه اللحظةِ المهرب، وإلى أين منها المفر ؟
إلى الأمام ملاقيكُم.
إلى الوراءِ ملاقيكُم.
إلى اليميني والشمالِ ملاقيكُم.
إلى أعلا إلى أسفل ملاقيكُم، إلى الوراء ملاقيكم.
لا تمنعُ منه جنود، ولا يُتَحصنُ منه في حصون، مدريكُكم أينما كنتم.
إنه واعظُ لا ينطق، واعظ صامت يأخذَ الغنيَ والفقير، والصحيحَ والسقيمَ، والشريفَ والوضيع، والمقرَ والجاحدَ، والزاهدَ والعابد، والصغيرَ والكبيرَ، الذكرَ والأنثى، كلُ نفسٍ ستذوقهُ شاءت أم أبت.
لعلَكم عرفتموه، لا أظنُ أحداً يجهلُه، أما حقيقتُه فالكل يجهله، إنه الموت.
( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ).
الموتُ ما الموت ؟
أمرُ كبار وكأسُ يدار، في من أقامَ وسار، يخرجُ بصاحبه إلى الجنةِ أو إلى النار.
ما زالَ لأهلِ اللذاتِ مكدرا، ولأصحابِ العقولِ مغيرا ومحيرا، ولأرباب القلوبِ عن الرغبةِ فيما سوى اللهِ زاجرا.
كيفَ وورائُه قبرٌ وحساب، وسؤالٌ وجواب، ومن بعدهِ يومٌ تدهشُ فيه الألبابُ فيعدمُ الجواب.
السكرات، ما أدراكم ما السكرات ؟
عانى منها رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فكان يقول: لا إله إلا الله إن للموت سكرا، اللهم هون علينا سكرات الموت.
سكرات أي سكرات ؟
يقول العلماء كل سكرة منها أشد من ألف ضربة بالسيف.
ملك الموت، ما ملك الموت؟
الدنيا بين يديه كالمائدة بين يدي الرجل يمد يده إلى ما شاء منها بأمر الله فيأخذه.
وإن له لأعوانا ما يعلم عددهم إلا الله، ليس منهم ملك إلا لو أذن الله له أن يلتقم السماوات السبع والأراضين في لقمة واحدة لفعل.
فلا إله إلا الله من لحظة حاسمة لو لم تعتقل الألسنة، وتخدر الأجسام وقت الاحتضار لما مات أحد إلا في شعف الجبال ألما، ولصاح الميت من شدة ما يعاني حتى تندك عليه جدران الغرفة التي هو فيها ولمستطاع أن يحضر ميتا أحدا أبدا، فنسأل الله العافية والسلامة، وأن يهون علينا السكرات.
روي عن الحسن أنه قال:
رأي أحد الصالحين بعد موته فقيل له كيف وجدت طعم الموت؟
قال أواه أواه وجدته والله شديدا، والذي لا إله إلا هو لهو أشد من الطبخ في القدور والنشر بالمناشير، أقبل ملك الموت نحوي حتى استل الروح من كل عضو مني فلو أني طُبخت في القدور سبعين مرة لكان أهون علي.
كفى بالموت طامة وما بعد الموت أطم وأعظم.
ويرى آخر بعد موته في المنام فيقال له: كيف وجدت نفسك ساعة الاحتضار؟
قال كعصفور في مقلاة لا يموت فيستريح ولا ينجو فيطير.
فالله المستعان على تلك اللحظات، و اللهم هون علينا السكرات وجعلها لنا كفرات وآخر المعاناة، وهي كذلك بأذن الله للمؤمنين والمؤمنات، ولغيرهم بداية المعاناة.
عبادَ الله، وفي تلك اللحظاتُ الحرجةُ ينقسمُ الناسُ إلى قسمين، إلى فريقين شقي وسعيد:
فريقُ السعداء حالُهم ما حالُهم:
( تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي ْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ).
ها هيَ أسماءُ بنتُ عميسٍ رضي اللهُ عنها تقول كما روي عنها:
إنا لعند علي رضي اللهُ عنه وأرضاه بعدما ضربَه ابن مُلجِم عليه من الله ما يستحق.
إذ بعليٍ يشهقُ شهقةً فيغمى عليه، ثم يفيقُ ثانيةً وهو يقول:
مرحباً مرحبا، الحمدُ لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الجنةَ، الحمد لله الذي أذهبَ عنا الحزن، لمثلِ هذا فليعملِ العاملون، وليتنافسِ المتنافسون.
فيالها من موعظة ومصير لو وافقت من القلوب حياة. من ظفر بثواب الله فكأنما لم يصب في دنياه.
كأنك لم توتر من الدهر مرة ........ إذا أنت أدركت الذي أنت طالبه
وأسمع معي أخر لسعيد أبن جبير رضي الله عنه يوم يروي لنا قصة صحيحة متواترة كما قال الذهبي في سيره فيقول:
لما مات أبن عباس رضي الله عنه في الطائف، جاء طائر لم يرى مثل خلقته فدخل نعشه، ثم لم يخرج منه، فلما دفن فإذا على شفير القبر تال يتلو لا يرى: ( يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي). فيا لها من خاتمة، ويا له من مصير. والخير في الأمة يستمر، ولن تعدم الأمة خيّر، فأسمع ثالثة إلى هذا الحدث الذي ذكره صاحب كتاب "يا ليت قومي يعلمون)، قال حدثني أحد الصالحين قائلا:
كان هناك رجل صالح من أهل الطائف، كان عابدا فاضلا، نزل مع بعض أصحابه إلى مكة محرما، ودخلوا الحرم بعد أن انتهت صلاة العشاء، فتقدم ليصلي بهم، وهو محرم قد خرج لله عز وجل كما يحسب، فقرأ سورة الضحى، فلما بلغ قول الله عز وجل ( وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى)، شهق وبكى وأبكى، فلما قرأ ( وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى) ترنح قليلا ثم سقط ميتا. فعليه رحمة الله، ليبعث يوم القيامة بأذن الله مصليا، فمن مات على شيء بُعث عليه كما ورد عن المصطفى (صلى الله عليه وسلم).
وآخر يقضي حياته مؤذنا يهتف بالتوحيد كل يوم وليلة خمس مرات، ويؤذن يوما من الأيام ثم يشرع ليقيم الصلاة، ولما انتصف في إقامة الصلاة سقط ميتا فعليه رحمة الله، سنوات يؤذن ثم يجيب داع الله مؤذنا فيُبعث يوم القيامة من أطول الناس أعناقا مؤذنا، فرحمة الله عليه.
يا لها من خواتم طيبة، ملائكةٌ بيضُ الوجوه يتقدمُهم ملكُ الموت، يخاطبُ تلك الأرواح الطيبة:
أيتها النفسُ الطيبةُ أخرجي إلى مغفرةٍ من الله ورضوان وربٍ راضٍ غيرِ غضبان، فتخرجُ تسيل كما تسيلُ القطرةُ من فم السقاء، وتفتحُ لها أبوابُ السماء، وتحملُ الجنازةُ على الأكتاف وهي تصيح وتقول قدمونيَ، قدموني، تسألُ فتجيبُ وتثبتُ، ويفرشُ لها من الجنة، ويفتحُ لها بابٌ إلى الجنة، قد استراحت من تعبِ هذه الدار، وإلى راحةٍ أبديةٍ في دار القرار.
وفريقٌ آخر:
في تلك الساعة يشقى، حسبَ أن الحياة عبثٌ ولهوٌ ولعب، وإذا به يعاني أول المعاناة.
نزلت عليه ملائكةٌ سودُ الوجوه يتقدموهم ملكُ الموت –نعوذ بالله من ختام السوء وساعة السوء- يقول أيتها النفسُ الخبيثةُ أخرجي إلى سخطٍ من الله وغضب.
فتنتزَعُ نزعاً بعد أن تُفرقَ في الجسد، ثم ترفعُ فلا تُفتحُ لها أبوبُ السماء، تحملُ الجنازةُ على الأكتافِ وهي تصيح: يا ويلها أين تذهبون بها، ثم تسألُ فلا تجيب، ويفرشُ لها من النار، ويفتحُ لها بابٌ إلى النار، فنعوذ بالله من النار ومن سوءِ الختامِ وغضبِ الجبار.
ذكر صاحب قصص السعداء والأشقياء أنه وقع حادث في مدينة الرياض على إحدى الطرق السريعة لثلاثة من الشباب، كانوا يستقلون سيارة واحدة، توفي اثنان منهما في الحال، وبقي الثالث في آخر رمق، يقول له رجل المرور الذي حضر الحادث قال لا إله إلا الله، فأخذ يحكي عن نفسه ويقول:
أنا في سقر، أنا في سقر أنا في سقر حتى مات عل ذلك، فلا إله إلا الله.
رجل المرور يسأل ويقول ما هي سقر، فوجد الجواب في كتاب الله عز وجل:
( مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ). ( سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ).
نسأل الله السلامة والعافية. عباد الله:
فريقان لا ثالث، شقي وسعيد:
فريق في الجنة وفريق في السعير.
فريق استراح، وفريق استراح منه العباد والبلاد ومضى إلى جهنم وبئس المهاد.
ألا ترون ألا تتفكرون ألا تنضرون، تشيعون كلَ يومٍ غادياً إلى الله قد قضى نحبه وانقضى أجلَه، حتى تغيبوه في صدعٍ من الأرضِ خُلعَ الأسباب، وتركَ الأحباب، وسكنَ الترابَ، وواجهَ الحسابَ، انتهى أجلُه وأملُه، تبعَه أهلُه ومالُه وعملُه، فرجع الأهلُ والمال وبقي العمل.
فارق الأحبةَ والجيران، هجرَه الأصحابُ والخلان، ما كأنَه فرِحَ يوما ولا ض يوما ما، أرتُهنَ بعملِه فصار فقيراً إلى ما قدم غنياً عن ما تركَ.
جمعوا فما أكلوا الذي جمعوا ...... وبنوا مساكنَهم وما سكنوا
فكأنَهم كانوا بها ضعنا........... لم استراحوا بها ساعةً ضعنوا
ولذلك كان الرسول (صلى الله عليه وسلم) أرحم الناس بالأموات، يقول عوف ابن مالك:
صلى بنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على جنازة رجل من الأنصار، يقول فتخطيت الصفوف حتى اقتربت منه، فسمعته يبكي ويقول: اللهم أغر له، اللهم أرحمه وعافه واعف عنه، وأكرم نزله ووسع مدخله، واغسله بالثلج والماء والبرد.
يقول عوف والذي لا إله إلا هو لوددت أني أنا الميت من حسن دعائه (صلى الله عليه وسلم) له.
ومن رحمته بالأموات (صلى الله عليه وسلم) كان يذهب في الليل ليقف علة مقبرة البقيع فيدعو لعم طويلا ويترحم عليهم طولا (صلوات الله وسلامه عليه)، فما أرسله الله إلا رحمة للعالمين.
وأصحابه كذلك، أبن عمر كان إذا قرأ قول الله : (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ ) بكى وأبكى ودعا للأموات وقال: اللهم لا تحل بيني وبين ما أشتهي، قالوا وما تشتهي؟ قال أن أقول لا إله إلا الله.
فلا إله إلا الله.. ما من ميت إلا ويود أن يسجل في صحيفته لا إله إلا الله، ولكن هيهات حيل بينهم وبينها، وبقي الجزاء والحساب.
فرحم الله امرأ قد من الصالحات لتلك الحفر، ورحم الله حاسب نفسه قبل ذاك اللحد الذي لا أنيس فيه ولا صاحب إلا العمل، وكفى بالموت واعظا.
روي أن عمر أبنُ عبد العزيز رحمَه الله يقول لجلاسه يوما ما:
أرقتُ البارحةَ فلم أنم حتى طلعَ الفجر، قالوا ما أسهرك؟
قال لما أويتُ إلى فراشي ووضعتُ عليَ لحافي تذكرتُ القبرَ، وتذكرتُ الميتَ بعد لياليٍ تمرُ عليه، حينما تركَه أهلُه وأحبتُه وخلانه، تغير ريحُه وتمزقَ كفنُه وسرى الدودُ على خدودِه فليتك ترى تلك الرائحةَ المنتنةَ، وتلك الأكفانَ الممزقةَ، إذا لرأيتَ أمراً مهولا، ثم أنفجر يبكي ويقولُ لا إله إلا الله ولسانُ حالِه:
واللهِ لو قيل لي تأني بفاحشةٍ ......... وأنا عُقباكَ دنيانا وما فيها
لقلتُ لا والذي أخشى عقوبَتَه ...... ولا بأضعافِها ما كنتُ أتيها
تجهزي بجهاز تبلغين به ............. يا نفس قبل الردى لم تخلقي عبثا
كفى بالموت واعظا لمن كان له قلب أو ألقى السمع.
يمر عمرو ابن العاص رضي الله عنه بالمقبرة فيبكي ثم يرجع فيتوضأ ويصلي ركعتين، فيقول أصحابه:
لم فعلت ذلك ؟
قال تذكرت قول الله : (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ ) وأنا أشتهي الصلاة قبل أن يحال بيني وبينها.
عمر الذي حضرته الوفاة فبكى، فقال له ابنه يا أبتاه صف لنا الموت.
قال يا بني الموت أعظم من أن يوصف، لكأن على كتفي جبل رضوى، وكأن في جوفي شوكة عوسج، وكأن روحي تخرج من ثقب ابرة، وكأن السماء اطبقت على الأرض وأنا بينهما.
ثم حول وجهه إلى الحائط ليبكي بكاء مرا فيقول ابنه محسنن ظنه:
أنت من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، أما فتحت مصرا، أما جاهدت في سبيل الله!
فيقول يا بني لقد عشت مراحل ثلاث:
لقد كنت أحرص الناس على قتل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فيا ويلتاه لو مت في ذلك الوقت.
ثم هداني الله فكان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أحب الناس إلي، والله ما كنت أستطيع أن املأ عيني من وجهه حياء منه، والله لو سألتموني أن أصفه الآن ما استطعت، والله ما كنت أملأ عيني إجلالا له، فيا ليتني مت في ذلك الوقت لأنال دعاء النبي (صلى الله عليه وسلم).
يقول ثم تخلفت بعد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فلعبت بنا الدنيا ظهرا لبطن، فما أدري أيؤمر بي إلى الجنة أو النار، لكن عندي كلمة أحاج بها لنفسي عند الله هي لا إله إلا الله محمد رسول الله.
ثم قبض على لا إله إلا الله:( يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ).
يقول أبن عوفٍ رضي الله عنه:
خرجتُ مع عمرَ رضي الله عنه إلى المقبرة، فلما وقفنا عليها، ارتعد وأختلس يدَه من يدي، ثم وضع نفسَه على الأرض وبكى بكاءً طويلاً.
فقلت ما لك يا أميرَ المؤمنين ؟
قال يا ابن عوف ثكلتك أمك أنسيت هذه الحفرة.
حاله يقول: لمثل هذا فأعد.
شد حيازيمك للموت فإن الموت لاقيك ........ لأن لا تجزع للموت إذا حل بواديك.
كفى بالموت واعظا، وبسير الصالحين عنده عبرا.
تحل السكرات بمحمد ابن أدهم فيقول لخادمه: وقد أصابته رعده، يصيح ويقول:
ما لي وللناس، والذي لا إله إلا هو لو استطعت أن أتطوع لله وحدي حيث لا يراني ملكاي لفعلت خوفا من الرياء، ولكن لا أستطيع.
كان يدخل بيته ومعه كوز ماء فيغلق بابه ويقرأ القرآن ويبكي وينشج، فيسمعه ابن له صغير فيقلده في البكاء، فإذا خرج من بيته غسل وجهه واكتحل لكي لا يرى أثر البكاء عليه.
يقول خادمه: دخلت عليه قبل موته بأربعة أيام فقال:
يا أبا عبد الله أبشر فقد نزل بي الموت، وقد من الله علي أن ليس عندي درهم يحاسبني الله عليه، فقد علم ضعفي فإني والله لا أطيق الحساب، فلم يدع عندي شيء يحاسبني عليه فله الحمد.
ثم قال لخادمه أغلق علي الباب، ولا تأذن لأحد علي حتى أموت وأعلم أني أخرج من الدنيا ليس عندي ميراث غير كسائي وإنائي الذي أتوضأ فيه، فغطوا علي بكسائي وتصدقوا بإنائي على مسكين يتوضأ فيه.
ثم لفظ روحه في اليوم الرابع ليلقى الله ليس معه من الدنيا شيء، فرحمه الله رحمة واسعة.
خذ القناعة من دنياك وأرضى بها........ لو لم يكن لك فيها إلا راحة البدن
وانظر إلى من حوى الدنيا بأجمعها....... هل راح منها بغير الحنط والكفن
كفى بالموت واعظا.
وولله لو كان الأمرُ سينتهي بالموت لكان هيناً سهلاً، لكنَه مع شدتِه وهولِه أهونُ مما يليه، والقبرُ مع ظلمتِه أهونُ مما يليه، كلُ ذلك هينٌ إذا قُرنَ بالوقوفِ بين يدي الله الكبيرِ المتعال.
تلفت المرءُ يميناً فلم يرى إلا ما قدم.
وشمالاً فلم يرى إلا ما قدم.
ونظرَ تلقاء وجه فلم يرى إلا النار.
فيا له من موقفٍ ويا لها من خطوبٍ تذهلُ المرضعةُ عما أرضعت وتضعُ كلُ ذاتِ حملٍ حملها، وترى الناسَ سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد.
يبلغ العرق أن يلجم الناس إلجاما، والشمس تدنو منهم قدر ميل، فيالها من أحداثٍ مجردُ تصورُها يخلعُ ويذيبُ الأكباد. يومُ القيامةِ لو علمت بهولِه ......... لفررتَ من أهلٍ ومن أوطانِ.
روي عن الحسن رضي الله عنه:
أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان رأسُه ذات يوم في حجرِ عائشة، فنعس فتذكرت الآخرة فسالت دموعُها على خدِ رسولَ الله (صلى الله عليه وسلم)، فأستيقظَ بدموعها ورفع رأسه وقال ما يبكيك؟
قالت يا رسول الله ذكرتُ الآخرة، فهل تذكرونَ أهليكُم يومَ القيامة؟
قال (صلى الله عليه وسلم) والذي نفسي بيده في ثلاثةِ مواطنَ فإن أحداً لا يذكرُ إلا نفسَه:
إذا وضعتِ الموازين حتى ينظرَ أبنُ أدمَ أيخفُ ميزانُه أم يثقل.
وعند الصحف حتى ينظرَ أبيمينِه يأخذُ أم بشمالِه.
وعند الصراط حتى ينظرَ أيمرَ أم يكردس على وجههِ في جهنم.
يؤتي بإبن أدم حتى يوقفُ بين كفتي الميزان، فتصور نفسِك يا عبد الله وأنت واقفٌ بين الخلائقَ إذ نوديَ باسمك، هلمَ إلى العرضِ على اللهِ الكبير المتعال.
قمتَ ولم يقم غيرك ترتعدُ فرائصُك، تضطربُ رجلاك وجميع جوار، قلبك لدى حنجرتك، خوفٌ وذلٌ وانهيار أعصاب:
شبابكَ في ما أبليتَه ؟
عمرُك فيما أفنيتَه ؟
مالُك من أين اكتسبتَه وفيما أنفقتَه ؟
علمُك ماذا عملتَ به ؟
هذه الأسئلةُ فما الإجابةُ.
كم من كبيرةٍ نسيتهَا قد أثبتَها عليك الملك.
كم من بليتٍ أحدثتهَا.
كم من سريرةٍ كتمتها ظهرت وبدت أمامَ عينيك.
أعظمِ به من موقف، وأعظم به من سائلٍ لا تخفى عليه خافيةٍ، وأعظمِ به من حياءٍ يداخلُك وغم وحزنٍ وأسفٍ شديد، فإما أن يقول الله:
يا عبدي أنا سترتُها عليكَ في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم. فيا لسرورِك وهدئت بالك واطمئنان قلبك والمنادي ينادي: سعدَ فلانُ أبن فلان سعادةً لا يشقى بعدها أبدا.
وأما أن يقولَ الله – عافاك وسلمك الله– إما أن يقول: خذوه فغلوه ثم الجحيمَ صلوه فيذهبُ بك إلى جهنمَ مسود الوجه، كتابك في شمالك ومن وراء ظهرك قد غلت ناصيتك إلى قدمك، أي خزي وأي عارٍ على رؤوس الخلائق ينادى: شقي فلانُ أبن فلان شقاوة لا يسعدُ بعده أبدا.
عباد الله:
الأمر خطير جد خطير، إبليس قد قطع العهد على نفسه ليغوينكم أجمعين، فقال:
وعزتك وجلالك يا رب لا أزال اغويهم ما دامت أرواحهم في أجسادهم.
والله برحمته ومنه يقول:
وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني.
فالبدار البدار، والتوبة التوبة، والاستغفار الاستغفار لا يهلك إلا هالك، ولا يشقى إلا شقي.
أكثروا من ذكر هادم اللذات.
زوروا المقابر فإنها تذكركم الآخرة.
احضروا المحتضرين معتبرين.
اصدقوا الله يصدقكم.
احفظوه يحفظكم وعاملوا الله فلن تخيبوا.
( وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ).
نفعني الله وإياكم بالقرآن وبسنة سيد الأنام عليه الصلاة والسلام، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
عباد الله:
اعلموا أن الآمال تطوى، والأعمار تفنى، والأبدان تحت التراب تبلى، والليل والنهار يقربان كل بعيد ويبليان كل جديد، وفي ذلك والله ما يلهي عن الشهوات، ويسلي عن اللذات، ويرغب في الباقيات الصالحات.
لتفتوا وانظروا وتدبروا وتأملوا بعيون قلوبكم أين من كان حولكم:
أين من كان حولكم ...... من ذوي البأس والخطر
سائلوا عنهم الديار....... واستبحثوا الخبر
سبقونا إلى الرحيل....... وإنا على الأثر
كان عبد الرحمن ابنُ يزيد ابنُ معاوية خلا لعبد الملك أبنُ مروان، فلما مات عبدُ الملكِ ودفنَ وتفرق الناسُ عن قبرِه، وقفَ عليهِ عبد الرحمنُ قائلاً:
أنتَ عبدُ الملك، أنت من كنتَ تعدوني خيراً فأرجوك، وتتوعدُني فأخافُك، الآن تصبحُ وتمسي وليسَ معكَ من ملكِك غير ثوبُك، وليسَ لك من مُلكِكَ سوى ترابِ أربعةِ أذرُعٍ في ذراعين.
إنه لملكٌ هينٌ حقيرٌ وضيعٌ، أفٍ ثم أفٍ لدنياً لا يدومُ نعيمُها، ثم رجعَ إلا أهلِه فأجتهدَ وجد في العبادةِ وعلم أنها الباقيةَ، حتى كان كأنه شن بال من كثرة ما أجهد نفسَه في العبادة.
فدخلَ عليه بعض يعاتبَه لأنه أضر بنفسه، فقال لمن عاتبه:
أسألكَ عن شيء فهل تصدقني فيها، قال نعم.
قال نشدتُك الله عن حالتِكَ التي أنتَ عليها أترضاها حين يأتيك الموت؟
قال اللهم لا.
قال نشدتُك الله أعزمتَ على انتقال منها إلى غيرها؟،
قال اللهمَ لم أشاور عقلي بعد.
قال افتأمن أن لا يأتيكَ ملكُ الموتِ على الحالةِ التي أنت عليها؟
قال اللهم لا آمن.
فقال حالُ ما أقام عليها عاقلٌ وما يقيم عليها ذو قلبٍ ولب، إن الطائرَ إذا علم أن الأنثى قد حملت البيض، أخذ ينقل العيدان لبناء العش قبل الوضع.
أفترُاك ما علمت قُرب رحيلِك إلى القبرِ الذي ستنفردُ فيه وحدَك، ويسدُ عليك فيه بالطينِ وحدَك، آلا عملتَ لك فراشاً من تقوى الله، فمن عمل صالحاً فلأنفسِهم يمهدون.
فلا يومُك الماضي عليكَ بعائد ........ ولا يومُكَ الآتي بهِ أنت واثقُ
فاستعد وأعد.
يا شابا عكف على القرآن:
مسجده ومصلاه، والمسجد مظهره ومخبره اسأل الله الثبات، وازدد من الحسنات، واجعل الآخرة همك يجعل الله غناك في قلبك ويجمع لك شمل، وتأتيك الدنيا راغمة، فجد وسارع واغتنم زمن الصبا.
و يا شابا هجر القرآن:
وأعطى نفسَه هواها فدساها، لتقفنَ موقفاً ينسى الخليلُ به الخليل، وليركبنَ عليكَ من الثرى ثقلُ ثقيل، ولتسألنَ عن النقيرِ، والقطميرِ والصغيرِ والكبير، فعد فالعودُ أحمد قبل أن تقولَ ربي ارجعون فلا رجوع:
ذهبَ العمرُ وفات، يا أسير الشهوات، ومضى وقتُك في لهوٍ وسهوٍ وسبات.
يا شيخا اقترب من القبر:
عرف أنه منه قاب قوسين أو أدنى، فأكثر من الاستغفار، وحبل لسانه عن الزور، ورعى رعيته كما ينبغي، وعرف قدر يومه وليلته بشراكَ بشراك، ضاعف العمل فإن الخيل إذا وصلت إلى نهاية السباق قدمت كل ما لديها من قوة لتفوز بالجائزة.
ويا شيخا نسي الله في شيخوخته بعد شبابه:
فارتكب الجرائم وقارف الكبائر ووقف على عتبة الموت، أين الهوى والشهوات؟ ذهبت وبقيت التبعات، تتمنى بعد يبس العود العَودَ وهيهات.
يا من شاب رأسه فما استحي من الله:
يا من شاب رأسه فانتهك حدود الله وأعرض عن منهج الله تب إلى الله قبل أن تكون ممن لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم.
إلى من ضيعَ الصلاة وأتبعَ الشهوات.
إلى المنافقين والزناة.
إلى الظلمةِ والبغاة.
إلى من طغى وآثر الحياة الدنيا.
إلى المغتابينَ والنمامينَ والحاسدين وأكلة الربا.
إلى من ألهاهم التكاثرَ فنسوا بعثرةَ المقابر وتحصيلَ من في السرائر.
إلى من أضنى عينيه بمشاهدةِ المسلسلات واستقبالِ القاذورات.
إلى من طربت أذنُه باستماعِ الأغنيات.
إلى من شغلته أمواله المحرمة والشركات.
إلى من أعمى الهوى بصرَه وأصم سمعه فكانَ حياً وهو في عدادِ الأموات.
إلى الراشين والمرتشين وأهلِ السكرِ والمخدرات.
إلى المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب.
إلى الكاسيات العاريات.
إلى العصاةِ جميعاً.
من الموتِ والقبرِ والحسابِ أين المفر، أين المفر؟
( كَلَّا لا وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ).
( أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ).
عباد الله: آن الأوان أن نعلنها توبة إلى الله باللسان والجنان.
اللهم صلى على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم انك حميد مجيد.
اللهم آتي نفوسنا تقواها.
اللهم زكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولها. وأنت أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأنصر عبادك الموحدين.
اللهم ارحم من لا راحم له سواك، ولا ناصر له سواك ولا مأوى له سواك، ولا مغيث له سواك.
اللهم ارحم سائلك ومؤملك لا منجى له ولا ملجئ إلا إليك.
اللهم كن للمستضعفين والمضطهدين والمظلومين.
اللهم فرج همهم ونفس كربهم وارفع درجتهم واخلفهم في أهلهم.
اللهم أنزل عليهم من الصبر أضعاف ما نزل بهم من البلاء.
يا سميع الدعاء
الله ارحم موتى المسلمين، اللهم إنهم عبيدك بنوا عبيدك بنو إمائك احتاجوا إلى رحمتك وأنت غني عن عذابهم، الله زد في حسناتهم، وتجاوز عن سيئاتهم أنت أرحم بهم وأنت أرحم الراحمين.
سبحان ربك رب العزة عن ما يصفون وسلام على المرسلين
والحمد لله رب العالمين.
فضيلة الشيخ / علي عبد الخالق القرني
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى