رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده:
ذم الإسلام التعصب ونهى الشرع عنه سواء أكان التعصب لشخص أو قبيلة أو مال أو جاه أو غيره, بل ونسب الإسلام العصبية إلى الجاهلية ووصفها بالمنتنة؛ تقبيحاً لها وتنفيراً من شأنها.
والعصبية لها صور شتى؛ فمنها العصبية من أجل الدنيا كعصبية الرجل لذاته ومبالغته في نرجسيته, وكعصبية الرجل لولده وأهله وقبيلته, وكعصبية الرجل لبلده وجنسيته وازدراءه من دونه من الجنسيات ولو كانوا مسلمين, ومن أدهى صور العصبية الحديثة التعصب لناد أو فريق رياضي تعصباً قد يودي بحياة صاحبه في حمأة الانفعال, وقد حدث وإنا لله وإنا إليه راجعون.
وقد جاء في الحديث الذي أخرجه مسلم بسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كنا مع النبي في غزاة، فكسع رجل من المهاجرين - أي ضرب - رجلاً من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فقال رسول الله: « ما بال دعوى الجاهلية؟ » قالوا: يا رسول الله، كسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال: « دعوها فإنها منتنة ».
إن الافتخار بالآباء والاعتزاز بالانتماء القبلي قد يدفع المرء إلى النار التي حذرنا الله منها؛ ذلك أنه قد يفتخر بالكفرة من آبائه وأجداده، وما دفعه لذلك إلا العصبية الجاهلية، وتعالوا بنا نسمع هذا الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد بإسناد صحيح عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: انتسب رجلان على عهد رسول الله فقال أحدهما: أنا فلان بن فلان، فمن أنت لا أم لك. فقال رسول الله: « انتسب رجلان على عهد موسى عليه السلام، فقال أحدهما: أنا فلان ابن فلان حتى تسعة، فمن أنت لا أم لك؟ قال: أنا فلان ابن فلان ابن الإسلام، قال: فأوحى الله إلى موسى عليه السلام أن هذين المنتسبين، أما أنت أيها المنتمي إلى تسعة من النار، فأنت عاشرهم، وأما أنت يا هذا المنتسب إلى اثنين في الجنة فأنت ثالثهما في الجنة».
فياله من مرض فتاك قد يودي بالمحبة ويذهب الألفة ويغري العداوة بين الأحباب ويفرق بين الأقران ويثير الحروب بين القبائل والعشائر, ويزرع الضغائن بين من يفترض أنهم بنيان مرصوص.
وأما التعصب للمال والدنيا والإخلاد إليها فقد سماها الشرع عبادة عياذاً بالله, فقد جاء في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم تعس عبد الخميصة تعس عبد الخميلة إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش، طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله أشعث رأسه مغبرة قدماه إن كان في الحراسة كان في الحراسة وإن كان في الساقة كان في الساقة إن استأذن لم يؤذن له وإن شفع لم يشفع ».
ومن صور العصبية أيضاً التعصب الديني, ومنه المذهبية المذمومة التي يقدم فيها الأتباع قول المذهب على قول الله ورسوله, والصورة الأضيق من صور هذا النوع هي صورة التعصب للشيخ حتى لو خالف الدليل الصحيح من الكتاب والسنة.
ومن صور التعصب الحديثة التعصب لجماعة أو حزب, فتجد المنتمي إليه يدين بالولاء لأصحاب جماعته دون غيرهم من المسلمين, وهذا مذموم لا محالة فالله قال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّـهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: 10].
قال الإمام ابن كثير رحمه الله: "أي الجميع إخوة في الدين كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه»، وفي الصحيح: « والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه »، وفي الصحيح أيضا: « إذا دعا المسلم لأخيه بظهر الغيب قال الملك آمين ولك بمثله »، والأحاديث في هذا كثيرة، وفي الصحيح: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتواصلهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر»، وفي الصحيح أيضا: « المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا » وشبك بين أصابعه صلى الله عليه وسلم، وقال أحمد حدثنا أحمد بن الحجاج حدثنا عبد الله أخبرنا مصعب بن ثابت حدثني أبو حازم قال: سمعت سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إن المؤمن من أهل الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد يألم المؤمن لأهل الإيمان كما يألم الجسد لما في الرأس» [تفرد به أحمد ولا بأس بإسناده] وقوله تعالى: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } يعني الفئتين المقتتلتين، { وَاتَّقُوا اللَّـهَ } أي في جميع أموركم { لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } وهذا تحقيق منه تعالى للرحمة لمن اتقاه".
وقد وصفت السنة المطهرة التعصب لشيخ أو عالم حبر واتباعه حتى لو خالف الدليل بالعبادة.
قال صاحب معارج القبول: "وقد سمى الله تعالى طاعة العلماء والأمراء في تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحله، سمى ذلك عبادة وأنه اتخاذ لهم أربابا من دون الله فقال تعالى: { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّـهِ } [التوبة: 31] الآية.
قال عدي بن حاتم رضي الله عنه حين سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلوها: إنا لسنا نعبدهم. قال: « أليس يحلون ما حرم الله فتحلونه ويحرمون ما أحل الله فتحرمونه؟ » قال: بلى، قال: « فتلك عبادتكم إياهم ».
فالتعصب لعالم أو شيخ حال مخالفته للكتاب والسنة تعصب مذموم قد يورد صاحبه المهالك.
ومما تنفطر منه القلوب في عصرنا الحاضر تقليد بعض صغار الأسنان لبعض الدعاة الذين يلتصقون بهم في سب وتجريح دعاة آخرين قد يكونوا من الربانيين العاملين.
فليعلم هؤلاء أن لحوم العلماء مسمومة وليعدوا للسؤال أمام الله عز وجل جواباً من الآن على خوضهم فيما لا يحسنون وتعاليهم على من بذلوا أوقاتهم وأموالهم وأبدانهم في الدعوة إلى الله عز وجل, وقد يكونوا من أوليائه سبحانه الذين توعد الله بالمحاربة من بارزهم بالعداوة.
روى الإمام البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله قال: « من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه ».
وقد تواترت الآثار عن أئمة السلف الدالة على ضرورة ووجوب اتباع الدليل وترك التقليد الأعمى والتعصب المذموم.
قال العلامة الألباني رحمه الله:
أقوال الأئمة في اتباع السنة وترك أقوالهم المخالفة لها:
1/ أبو حنيفة رحمه الله:
فأولهم الإمام أبو حنيفة النعمان بن مثبت رحمه الله وقد روي عنه أصحابه أقوالا شتى وعبارات متنوعة كلها تؤدي إلى شيء واحد وهو وجوب الأخذ بالحديث وترك تقليد آراء الأئمة المخالفة لها:
1- "إذا صح الحديث فهو مذهبي" [ابن عابدين في "الحاشية" 1 / 63].
2- "لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين أخذناه" [ابن عابدين في "حاشيته على البحر الرائق" 6 / 293]، وفي رواية: "حرام على من لم يعرف دليلي أن يفتي بكلامي"، زاد في رواية: "فإننا بشر نقول القول اليوم ونرجع عنه غدا".
وفي أخرى: "ويحك يا يعقوب -هو أبو يوسف- لا تكتب كل ما تسمع مني فإني قد أرى الرأي اليوم وأتركه غدا وأرى الرأي غدا وأتركه بعد غد".
3- "إذا قلت قولا يخالف كتاب الله تعالى وخبر الرسول صلى الله عليه وسلم فاتركوا قولي" [الفلاني في "الإيقاظ" ص 50].
2/ مالك بن أنس رحمه الله:
وأما الإمام مالك بن أنس رحمه الله فقال:
1- "إنما أنا بشر أخطئ وأصيب فانظروا في رأيي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه" [ابن عبد البر في "الجامع" 2 / 32].
2- "ليس أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا ويؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم" [ابن عبد البر في "الجامع" 2 / 91].
3- قال ابن وهب: سمعت مالكا سئل عن تخليل أصابع الرجلين في الوضوء فقال: "ليس ذلك على الناس"، قال: "فتركته حتى خف الناس فقلت له: عندنا في ذلك سنة، فقال: وما هي؟ قلت: حدثنا الليث بن سعد وابن لهيعة وعمرو بن الحارث عن يزيد بن عمرو المعافري عن أبي عبد الرحمن الحنبلي عن المستورد بن شداد القرشي قال: « رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدلك بخنصره ما بين أصابع رجليه »، فقال: إن هذا الحديث حسن وما سمعت به قط إلا الساعة ثم سمعته بعد ذلك يسأل فيأمر بتخليل الأصابع". [مقدمة "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم ص 31 - 32].
3/ الشافعي رحمه الله:
وأما الإمام الشافعي رحمه الله فالقول عنه في ذلك أكثر وأطيب وأتباعه أكثر عملا بها وأسعد فمنها:
1- "ما من أحد إلا وتذهب عليه سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعزب عنه فمهما قلت من قول أو أصلت من أصل فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لخلاف ما قلت فالقول ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قولي" ["تاريخ دمشق" لابن عساكر 15 / 1 / 3].
2- "أجمع المسلمون على أن من استبان له سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحل له أن يدعها لقول أحد" [الفلاني ص 68]
3- "إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوا ما قلت"، وفي رواية: "فاتبعوها ولا تلتفتوا إلى قول أحد" [النووي في "المجموع" 1 / 63].
4- "إذا صح الحديث فهو مذهبي" [النووي 1 / 63].
5- "أنتم أعلم بالحديث والرجال مني فإذا كان الحديث صحيح فأعلموني به أي شيء يكون: كوفيا أو بصريا أو شاميا حتى أذهب إليه إذا كان صحيحا" [الخطيب في "الاحتجاج بالشافعي" 8 / 1].
6- "كل مسألة صح فيها الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أهل النقل بخلاف ما قلت فأنا راجع عنها في حياتي وبعد موتي" [أبو نعيم في "الحلية" 9 / 107].
7- "إذا رأيتموني أقول قولا وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافه فاعلموا أن عقلي قد ذهب" [ابن عساكر بسند صحيح 15 / 10 / 1].
8- "كل ما قلت فكان عن النبي صلى الله عليه وسلم خلاف قولي مما يصح فحديث النبي أولى فلا تقلدوني" [ابن عساكر بسند صحيح 15 / 9 / 2].
9- "كل حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو قولي وإن لم تسمعوه مني" [ابن أبي حاتم 93 - 94].
4/ أحمد بن حنبل رحمه الله:
وأما الإمام أحمد فهو أكثر الأئمة جمعا للسنة وتمسكا بها حتى كان يكره وضع الكتب التي تشتمل على التفريع والرأي، ولذلك قال:
1- "لا تقلدني ولا تقلد مالكا ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري وخذ من حيث أخذوا" [ابن القيم في "إعلام الموقعين" 2 / 302]،
وفي رواية: "لا تقلد دينك أحدا من هؤلاء ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فخذ به ثم التابعين بعد الرجل فيه مخير"،
وقال مرة: "الاتباع أن يتبع الرجل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه ثم هو من بعد التابعين مخير" [أبو داود في "مسائل الإمام أحمد" ص 276 - 277].
2- "رأي الأوزاعي ورأي مالك ورأي أبي حنيفة كله رأي وهو عندي سواء وإنما الحجة في الآثار" [ابن عبد البر في "الجامع" 2 / 149].
3- "من رد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو على شفا هلكة" [ابن الجوزي في "المناقب" ص 182].
تلك هي أقوال الأئمة رضي الله تعالى عنهم في الأمر بالتمسك بالحديث والنهي عن تقليدهم دون بصيرة وهي من الوضوح والبيان بحيث لا تقبل جدلا ولا تأويلا وعليه فإن من تمسك بكل ما ثبت في السنة ولو خالف بعض أقوال الأئمة لا يكون مباينا لمذهبهم ولا خارجا عن طريقتهم بل هو متبع لهم جميعا ومتمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها وليس كذلك من ترك السنة المثبتة لمجرد مخالتفها لقولهم بل هو بذلك عاص لهم ومخالف لأقوالهم المتقدمة والله تعالى يقول: { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]، وقال: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [النور: 63].
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: "فالواجب على كل من بلغه أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وعرفه أن يبينه للأمة وينصح لهم ويأمرهم باتباع أمره وإن خالف ذلك رأي عظيم من الأمة فإن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن يعظم ويقتدى به من رأى أي معظم قد خالف أمره في بعض الأشياء خطأ ومن هنا رد الصحابة ومن بعدهم على كل مخالف سنة صحيحة وربما أغلظوا في الرد لا بغضا له بل هو محبوب عندهم معظم في نفوسهم لكن رسول الله أحب إليهم وأمره فوق أمر كل مخلوق فإذا تعارض أمر الرسول وأمر غيره فأمر الرسول أولى أن يقدم ويتبع
ولا يمنع من ذلك تعظيم من خالف أمره وإن كان مغفورا له بل ذلك المخالف المغفور له لا يكره أن يخالف أمره إذا ظهر أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بخلافه".
قلت: كيف يكرهون ذلك وقد أمروا به أتباعهم كما مر وأوجبوا عليهم أن يتركوا أقوالهم المخالفة للسنة؟ بل إن الشافعي رحمه الله أمر أصحابه أن ينسبوا السنة الصحيحة إليه ولو لم يأخذ بها أو أخذ بخلافها؟ ولذلك لما جمع المحقق ابن دقيق العيد رحمه الله المسائل التي خالف مذهب كل واحد من الأئمة الأربعة الحديث فيها انفرادا واجتماعا في مجلد ضخم قال في أوله: "إن نسبة هذه المسائل إلى الأئمة المجتهدين حرام وإنه يجب على الفقهاء المقلدين لهم معرفتها لئلا يعزوها إليهم فيكذبوا عليهم".
ترك الأتباع بعض أقوال أئمتهم اتباعا للسنة:
ولذلك كله كان أتباع الأئمة ثلة من الأولين وقليل من الآخرين، لا يأخذون بأقوال أئمتهم كلها بل قد تركوا كثيرا منها لما ظهر لهم مخالفتها للسنة حتى أن الإمامين: محمد بن الحسن وأبا يوسف رحمهما الله قد خالفا شيخهما أبا حنيفة في نحو ثلث المذهب، وكتب الفروع كفيلة ببيان ذلك ونحو هذا يقال في الإمام المزني وغيره من أتباع الشافعي وغيره ولو ذهبنا نضرب على ذلك الأمثلة لطال بنا الكلام ولخرجنا به عما قصدنا إليه في هذا البحث من الإيجاز فلنقتصر على مثالين اثنين:
1- قال الإمام محمد في "موطئه" ص 158: قال محمد: "أما أبو حنيفة رحمه الله فكان لا يرى في الاستسقاء صلاة وأما في قولنا فإن الإمام يصلي بالناس ركعتين ثم يدعو ويحول رداءه" إلخ.
2- وهذا عصام بن يوسف البلخي من أصحاب الإمام محمد ومن الملازمين للإمام أبي يوسف كان يفتي بخلاف قول الإمام أبي حنيفة كثيرا لأنه لم يعلم الدليل وكان يظهر له دليل غيره فيفتي به، ولذلك كان يرفع يديه عند الركوع والرفع منه كما هو في السنة المتواترة عنه صلى الله عليه وسلم فلم يمنعه من العمل بها أن أئمته الثلاثة قالوا بخلافها وذلك ما يجب أن يكون عليه كل مسلم بشهادة الأئمة الأربعة وغيرهم كما تقدم.
فاللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه وأصلح قلوبنا بالإيمان واغفر لنا يا رحمن.
ذم الإسلام التعصب ونهى الشرع عنه سواء أكان التعصب لشخص أو قبيلة أو مال أو جاه أو غيره, بل ونسب الإسلام العصبية إلى الجاهلية ووصفها بالمنتنة؛ تقبيحاً لها وتنفيراً من شأنها.
والعصبية لها صور شتى؛ فمنها العصبية من أجل الدنيا كعصبية الرجل لذاته ومبالغته في نرجسيته, وكعصبية الرجل لولده وأهله وقبيلته, وكعصبية الرجل لبلده وجنسيته وازدراءه من دونه من الجنسيات ولو كانوا مسلمين, ومن أدهى صور العصبية الحديثة التعصب لناد أو فريق رياضي تعصباً قد يودي بحياة صاحبه في حمأة الانفعال, وقد حدث وإنا لله وإنا إليه راجعون.
وقد جاء في الحديث الذي أخرجه مسلم بسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كنا مع النبي في غزاة، فكسع رجل من المهاجرين - أي ضرب - رجلاً من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فقال رسول الله: « ما بال دعوى الجاهلية؟ » قالوا: يا رسول الله، كسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال: « دعوها فإنها منتنة ».
إن الافتخار بالآباء والاعتزاز بالانتماء القبلي قد يدفع المرء إلى النار التي حذرنا الله منها؛ ذلك أنه قد يفتخر بالكفرة من آبائه وأجداده، وما دفعه لذلك إلا العصبية الجاهلية، وتعالوا بنا نسمع هذا الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد بإسناد صحيح عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: انتسب رجلان على عهد رسول الله فقال أحدهما: أنا فلان بن فلان، فمن أنت لا أم لك. فقال رسول الله: « انتسب رجلان على عهد موسى عليه السلام، فقال أحدهما: أنا فلان ابن فلان حتى تسعة، فمن أنت لا أم لك؟ قال: أنا فلان ابن فلان ابن الإسلام، قال: فأوحى الله إلى موسى عليه السلام أن هذين المنتسبين، أما أنت أيها المنتمي إلى تسعة من النار، فأنت عاشرهم، وأما أنت يا هذا المنتسب إلى اثنين في الجنة فأنت ثالثهما في الجنة».
فياله من مرض فتاك قد يودي بالمحبة ويذهب الألفة ويغري العداوة بين الأحباب ويفرق بين الأقران ويثير الحروب بين القبائل والعشائر, ويزرع الضغائن بين من يفترض أنهم بنيان مرصوص.
وأما التعصب للمال والدنيا والإخلاد إليها فقد سماها الشرع عبادة عياذاً بالله, فقد جاء في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم تعس عبد الخميصة تعس عبد الخميلة إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش، طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله أشعث رأسه مغبرة قدماه إن كان في الحراسة كان في الحراسة وإن كان في الساقة كان في الساقة إن استأذن لم يؤذن له وإن شفع لم يشفع ».
ومن صور العصبية أيضاً التعصب الديني, ومنه المذهبية المذمومة التي يقدم فيها الأتباع قول المذهب على قول الله ورسوله, والصورة الأضيق من صور هذا النوع هي صورة التعصب للشيخ حتى لو خالف الدليل الصحيح من الكتاب والسنة.
ومن صور التعصب الحديثة التعصب لجماعة أو حزب, فتجد المنتمي إليه يدين بالولاء لأصحاب جماعته دون غيرهم من المسلمين, وهذا مذموم لا محالة فالله قال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّـهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: 10].
قال الإمام ابن كثير رحمه الله: "أي الجميع إخوة في الدين كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه»، وفي الصحيح: « والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه »، وفي الصحيح أيضا: « إذا دعا المسلم لأخيه بظهر الغيب قال الملك آمين ولك بمثله »، والأحاديث في هذا كثيرة، وفي الصحيح: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتواصلهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر»، وفي الصحيح أيضا: « المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا » وشبك بين أصابعه صلى الله عليه وسلم، وقال أحمد حدثنا أحمد بن الحجاج حدثنا عبد الله أخبرنا مصعب بن ثابت حدثني أبو حازم قال: سمعت سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إن المؤمن من أهل الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد يألم المؤمن لأهل الإيمان كما يألم الجسد لما في الرأس» [تفرد به أحمد ولا بأس بإسناده] وقوله تعالى: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } يعني الفئتين المقتتلتين، { وَاتَّقُوا اللَّـهَ } أي في جميع أموركم { لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } وهذا تحقيق منه تعالى للرحمة لمن اتقاه".
وقد وصفت السنة المطهرة التعصب لشيخ أو عالم حبر واتباعه حتى لو خالف الدليل بالعبادة.
قال صاحب معارج القبول: "وقد سمى الله تعالى طاعة العلماء والأمراء في تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحله، سمى ذلك عبادة وأنه اتخاذ لهم أربابا من دون الله فقال تعالى: { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّـهِ } [التوبة: 31] الآية.
قال عدي بن حاتم رضي الله عنه حين سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلوها: إنا لسنا نعبدهم. قال: « أليس يحلون ما حرم الله فتحلونه ويحرمون ما أحل الله فتحرمونه؟ » قال: بلى، قال: « فتلك عبادتكم إياهم ».
فالتعصب لعالم أو شيخ حال مخالفته للكتاب والسنة تعصب مذموم قد يورد صاحبه المهالك.
ومما تنفطر منه القلوب في عصرنا الحاضر تقليد بعض صغار الأسنان لبعض الدعاة الذين يلتصقون بهم في سب وتجريح دعاة آخرين قد يكونوا من الربانيين العاملين.
فليعلم هؤلاء أن لحوم العلماء مسمومة وليعدوا للسؤال أمام الله عز وجل جواباً من الآن على خوضهم فيما لا يحسنون وتعاليهم على من بذلوا أوقاتهم وأموالهم وأبدانهم في الدعوة إلى الله عز وجل, وقد يكونوا من أوليائه سبحانه الذين توعد الله بالمحاربة من بارزهم بالعداوة.
روى الإمام البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله قال: « من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه ».
وقد تواترت الآثار عن أئمة السلف الدالة على ضرورة ووجوب اتباع الدليل وترك التقليد الأعمى والتعصب المذموم.
قال العلامة الألباني رحمه الله:
أقوال الأئمة في اتباع السنة وترك أقوالهم المخالفة لها:
1/ أبو حنيفة رحمه الله:
فأولهم الإمام أبو حنيفة النعمان بن مثبت رحمه الله وقد روي عنه أصحابه أقوالا شتى وعبارات متنوعة كلها تؤدي إلى شيء واحد وهو وجوب الأخذ بالحديث وترك تقليد آراء الأئمة المخالفة لها:
1- "إذا صح الحديث فهو مذهبي" [ابن عابدين في "الحاشية" 1 / 63].
2- "لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين أخذناه" [ابن عابدين في "حاشيته على البحر الرائق" 6 / 293]، وفي رواية: "حرام على من لم يعرف دليلي أن يفتي بكلامي"، زاد في رواية: "فإننا بشر نقول القول اليوم ونرجع عنه غدا".
وفي أخرى: "ويحك يا يعقوب -هو أبو يوسف- لا تكتب كل ما تسمع مني فإني قد أرى الرأي اليوم وأتركه غدا وأرى الرأي غدا وأتركه بعد غد".
3- "إذا قلت قولا يخالف كتاب الله تعالى وخبر الرسول صلى الله عليه وسلم فاتركوا قولي" [الفلاني في "الإيقاظ" ص 50].
2/ مالك بن أنس رحمه الله:
وأما الإمام مالك بن أنس رحمه الله فقال:
1- "إنما أنا بشر أخطئ وأصيب فانظروا في رأيي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه" [ابن عبد البر في "الجامع" 2 / 32].
2- "ليس أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا ويؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم" [ابن عبد البر في "الجامع" 2 / 91].
3- قال ابن وهب: سمعت مالكا سئل عن تخليل أصابع الرجلين في الوضوء فقال: "ليس ذلك على الناس"، قال: "فتركته حتى خف الناس فقلت له: عندنا في ذلك سنة، فقال: وما هي؟ قلت: حدثنا الليث بن سعد وابن لهيعة وعمرو بن الحارث عن يزيد بن عمرو المعافري عن أبي عبد الرحمن الحنبلي عن المستورد بن شداد القرشي قال: « رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدلك بخنصره ما بين أصابع رجليه »، فقال: إن هذا الحديث حسن وما سمعت به قط إلا الساعة ثم سمعته بعد ذلك يسأل فيأمر بتخليل الأصابع". [مقدمة "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم ص 31 - 32].
3/ الشافعي رحمه الله:
وأما الإمام الشافعي رحمه الله فالقول عنه في ذلك أكثر وأطيب وأتباعه أكثر عملا بها وأسعد فمنها:
1- "ما من أحد إلا وتذهب عليه سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعزب عنه فمهما قلت من قول أو أصلت من أصل فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لخلاف ما قلت فالقول ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قولي" ["تاريخ دمشق" لابن عساكر 15 / 1 / 3].
2- "أجمع المسلمون على أن من استبان له سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحل له أن يدعها لقول أحد" [الفلاني ص 68]
3- "إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوا ما قلت"، وفي رواية: "فاتبعوها ولا تلتفتوا إلى قول أحد" [النووي في "المجموع" 1 / 63].
4- "إذا صح الحديث فهو مذهبي" [النووي 1 / 63].
5- "أنتم أعلم بالحديث والرجال مني فإذا كان الحديث صحيح فأعلموني به أي شيء يكون: كوفيا أو بصريا أو شاميا حتى أذهب إليه إذا كان صحيحا" [الخطيب في "الاحتجاج بالشافعي" 8 / 1].
6- "كل مسألة صح فيها الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أهل النقل بخلاف ما قلت فأنا راجع عنها في حياتي وبعد موتي" [أبو نعيم في "الحلية" 9 / 107].
7- "إذا رأيتموني أقول قولا وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافه فاعلموا أن عقلي قد ذهب" [ابن عساكر بسند صحيح 15 / 10 / 1].
8- "كل ما قلت فكان عن النبي صلى الله عليه وسلم خلاف قولي مما يصح فحديث النبي أولى فلا تقلدوني" [ابن عساكر بسند صحيح 15 / 9 / 2].
9- "كل حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو قولي وإن لم تسمعوه مني" [ابن أبي حاتم 93 - 94].
4/ أحمد بن حنبل رحمه الله:
وأما الإمام أحمد فهو أكثر الأئمة جمعا للسنة وتمسكا بها حتى كان يكره وضع الكتب التي تشتمل على التفريع والرأي، ولذلك قال:
1- "لا تقلدني ولا تقلد مالكا ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري وخذ من حيث أخذوا" [ابن القيم في "إعلام الموقعين" 2 / 302]،
وفي رواية: "لا تقلد دينك أحدا من هؤلاء ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فخذ به ثم التابعين بعد الرجل فيه مخير"،
وقال مرة: "الاتباع أن يتبع الرجل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه ثم هو من بعد التابعين مخير" [أبو داود في "مسائل الإمام أحمد" ص 276 - 277].
2- "رأي الأوزاعي ورأي مالك ورأي أبي حنيفة كله رأي وهو عندي سواء وإنما الحجة في الآثار" [ابن عبد البر في "الجامع" 2 / 149].
3- "من رد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو على شفا هلكة" [ابن الجوزي في "المناقب" ص 182].
تلك هي أقوال الأئمة رضي الله تعالى عنهم في الأمر بالتمسك بالحديث والنهي عن تقليدهم دون بصيرة وهي من الوضوح والبيان بحيث لا تقبل جدلا ولا تأويلا وعليه فإن من تمسك بكل ما ثبت في السنة ولو خالف بعض أقوال الأئمة لا يكون مباينا لمذهبهم ولا خارجا عن طريقتهم بل هو متبع لهم جميعا ومتمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها وليس كذلك من ترك السنة المثبتة لمجرد مخالتفها لقولهم بل هو بذلك عاص لهم ومخالف لأقوالهم المتقدمة والله تعالى يقول: { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]، وقال: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [النور: 63].
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: "فالواجب على كل من بلغه أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وعرفه أن يبينه للأمة وينصح لهم ويأمرهم باتباع أمره وإن خالف ذلك رأي عظيم من الأمة فإن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن يعظم ويقتدى به من رأى أي معظم قد خالف أمره في بعض الأشياء خطأ ومن هنا رد الصحابة ومن بعدهم على كل مخالف سنة صحيحة وربما أغلظوا في الرد لا بغضا له بل هو محبوب عندهم معظم في نفوسهم لكن رسول الله أحب إليهم وأمره فوق أمر كل مخلوق فإذا تعارض أمر الرسول وأمر غيره فأمر الرسول أولى أن يقدم ويتبع
ولا يمنع من ذلك تعظيم من خالف أمره وإن كان مغفورا له بل ذلك المخالف المغفور له لا يكره أن يخالف أمره إذا ظهر أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بخلافه".
قلت: كيف يكرهون ذلك وقد أمروا به أتباعهم كما مر وأوجبوا عليهم أن يتركوا أقوالهم المخالفة للسنة؟ بل إن الشافعي رحمه الله أمر أصحابه أن ينسبوا السنة الصحيحة إليه ولو لم يأخذ بها أو أخذ بخلافها؟ ولذلك لما جمع المحقق ابن دقيق العيد رحمه الله المسائل التي خالف مذهب كل واحد من الأئمة الأربعة الحديث فيها انفرادا واجتماعا في مجلد ضخم قال في أوله: "إن نسبة هذه المسائل إلى الأئمة المجتهدين حرام وإنه يجب على الفقهاء المقلدين لهم معرفتها لئلا يعزوها إليهم فيكذبوا عليهم".
ترك الأتباع بعض أقوال أئمتهم اتباعا للسنة:
ولذلك كله كان أتباع الأئمة ثلة من الأولين وقليل من الآخرين، لا يأخذون بأقوال أئمتهم كلها بل قد تركوا كثيرا منها لما ظهر لهم مخالفتها للسنة حتى أن الإمامين: محمد بن الحسن وأبا يوسف رحمهما الله قد خالفا شيخهما أبا حنيفة في نحو ثلث المذهب، وكتب الفروع كفيلة ببيان ذلك ونحو هذا يقال في الإمام المزني وغيره من أتباع الشافعي وغيره ولو ذهبنا نضرب على ذلك الأمثلة لطال بنا الكلام ولخرجنا به عما قصدنا إليه في هذا البحث من الإيجاز فلنقتصر على مثالين اثنين:
1- قال الإمام محمد في "موطئه" ص 158: قال محمد: "أما أبو حنيفة رحمه الله فكان لا يرى في الاستسقاء صلاة وأما في قولنا فإن الإمام يصلي بالناس ركعتين ثم يدعو ويحول رداءه" إلخ.
2- وهذا عصام بن يوسف البلخي من أصحاب الإمام محمد ومن الملازمين للإمام أبي يوسف كان يفتي بخلاف قول الإمام أبي حنيفة كثيرا لأنه لم يعلم الدليل وكان يظهر له دليل غيره فيفتي به، ولذلك كان يرفع يديه عند الركوع والرفع منه كما هو في السنة المتواترة عنه صلى الله عليه وسلم فلم يمنعه من العمل بها أن أئمته الثلاثة قالوا بخلافها وذلك ما يجب أن يكون عليه كل مسلم بشهادة الأئمة الأربعة وغيرهم كما تقدم.
فاللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه وأصلح قلوبنا بالإيمان واغفر لنا يا رحمن.
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى