خلود
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
وصايا مهمة لطالب العلم
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلّ له، ومن يُضلِلْ فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أمَّا بعد:
فإنَّ من علامة الخير للإنسان أن يتفقه بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يتزيد من ميراث النبوة، فقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين))[1].
وثبت أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:((خيركم من تعلّم القرآن وعلّمه))[2].
ولا شك أن من تعلم القرآن أن يتفقه المسلم في أحكام دينه، مما جاء به كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من الحلال والحرام.
وقد ذكر ابن القيم رحمه الله مفاضلةً بين طالب المال وطالب العلم، فذكر رحمه الله تفضيل طالب العلم على طالب المال بما يقرب من سبعين وجهاً، لأنَّ المستقرئ لحال كثير من الناس اليوم يجد أنهم بين إنسانٍ يطلب المال، ويكدّ بدنه، ويُمضي عمره في ذلك، وبين إنسانٍ يطلب العلم، ويكدّ بدنه، ويُمضي حياته ويقضيهما في ذلك، فذكر ابن القيم رحمه الله ما يقرب من سبعين وجهاً في تفضيل طالب العلم على طالب المال، وأُشير إلى شيء من هذه الأوجه التي ذكرها رحمه الله، فَمِمَّ ذكر قال: إن طالب العلم يدعوا الناس إلى الآخرة بطلبه، وأمَّا طالب المال فإنه يدعوا الناس إلى الدنيا بطلبه.
وذكر أيضاً أن العلم هو ميراث الأنبياء كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظٍّ وافر))[3]
وأما بالنسبة للدنيا فإنها ميراث الملوك، وفرقٌ بين الميراثين. فرق بين أن ينهل الإنسان ويتزيد من ميراث محمد صلى الله عليه وسلم وبين أن يأخذ من ميراث بقية البشر من الملوك، والحكام وغيرهم.
وذكر أيضاً من الأوجه أن العلم يحفظ صاحبه، فالعلم إذا كنت متزيداً به فإنه يحفظ صاحبه، فالعلم إذا كنت مُتزيداً به فإنه يحفظك من أمراض الشبهات، وأمراض الشهوات، بخلاف المال فإن الإنسان محتاجاً إلى أن يحفظ ماله في الصناديق ووراء الأقفال والودائع وغير ذلك.
وأيضاً ذكر من الأوجه أن العلم يتبع صاحبه حتى بعد الموت، حتى بعد موتك يتبعك علمك، إذ إنه من عملك، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((يتبع الميت ثلاث: أهله، وماله، وعمله، فيرجع اثنان، ويبقى واحد، يرجع أهله وماله، ويبقى عمله)) [4]
فالعلم يتبعك حتى بعد موتك، وأمَّا بالنسبة للمال؛ فإنه لا يتبعك بعد الموت، بل إن العلماء رحمهم الله يذكرون في باب الهبة والعطية أن الإنسان إذا مَرِض مرض الموت لا يملك أن يهب إلاّ الثلث فقط، وهذا من صدقة الله عز وجل عليه، وهو حي لا يملك أن يتبرع، لا يملك أن يهب، لا يملك أن يتصدق، لا يملك أن يوقظ، لا يملك أن يوصي إلاّ بالثلث فقط، إذا مرض مرض الموت، وأمَّا الثلثان فإنهما يكونان للورثة، ففرقٌ بين الطالبين، فمن نعمة الله عز وجل ومنّته أن يُهيّئ العبد للتصدي لطلب العلم، والتفقه في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
وهناك وصايا لابد أن يأخذ بها طالب العلم الجاد الذي يريد أن يُلِمّ بشيءٍ من فنون العلم: فمن هذه الوصايا:
أولاً: الإخلاص
يجب على طالب العلم أن يخلص عمله لله، لأن العلم عبادة من أفضل العبادات، وأجلّ القربات، ولهذا ذكر أبو حنيفة أن تعلّم العلم وتعليمه من أفضل العبادات البدنية لما اختلف العلماء رحمهم الله في أيّ العبادات البدنية أفضل.
قال الشافعي: أفضلها الصلاة.
وقال الإمام أحمد رحمه الله: أفضلها الجهاد في سبيل الله.
وقال أبو حنيفة رحمه الله: أفضلها العلم؛ تعلّمه وتعليمه.
ولا شك أن تعلّم العلم وتعليمه من الجهاد في سبيل الله، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع))[5].
والله عز وجل يقول: ((وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)) (التوبة: 122) .
فالله جعل المؤمنين طائفتين: طائفة تنفر في الجهاد في سبيل الله، وطائفة تجلس مع النبي صلى الله عليه وسلم تأخذ عنه سنته، فإذا رجعت الطائفة المجاهدة علّمتها الطائفة القاعدة.
والنبي صلى الله عليه وسلم في حياته جاهد الناس بجهادين:
الجهاد الأول : جهاد العلم والبيان، فهذا في المرحلة المكية مدة ثلاثة عشر سنة، كان النبي صلى الله عليه وسلم يجاهد الناس بغرس التوحيد، ونبذ الشرك وشوائبه، ثم بعد ذلك في المرحلة المدنية، جاهد الناس بجهاد السيف والسنان، فعلينا أيها الأحبة أن نخلص لله عز وجل.
وقال الإمام أحمد: (العلم لا يعدله شيء لمن صحت نيته. قيل: وكيف تصح النية؟ قال: إذا أراد أن يرفع الجهل عن نفسه وعن غيره) .
فإذا أراد بتعلمه أن يرفع الجهل عن نفسه، وعن غيره، وأن يعبد الله على بصيرة، وأن يدعوا الناس إلى هذا العلم الذي تعلمه، فإن هذا لا شك أنه لا يعدله شيء كما قال الإمام أحمد رحمه الله، لأن هذا هو عمل الأنبياء والرسل عليهم السلام، فالذي يقوم بتعلم العلم فإنه يقوم مقام الأنبياء، فإنهم يتعلمون من ربهم، ثم بعد ذلك يُعلّمون الناس، ويوجّهونهم، ويرشدونهم.
فعلينا دائماً وأبداً أن نُعلّق قلوبنا بالله عز وجل، محبة ورهبة ورغبة ورجاء وتوكّلاً واستعانة،وألاّ يلتفت قلب الإنسان إلى المخلوقين وإلى الدنيا وحظوظها الفانية. وفي حديث أبي هريرة صلى الله عليه وسلم في الصحيحين يقول الله في الحديث القدسي: ((أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه))[6].
وذكر سفيان رحمه الله قال:« كانوا يتعلمون النية كما يتعلمون العلم ».
وقال بعض السلف: « رُبَّ عملٍ صغير كبّرته النية، ورُبَّ عملٍ كبير صغّرته النية» فقد يبذل الإنسان جهده، ويعمل، ويُكثر من العمل لكن تصغّره نيته، تكون نيته مشوبة بشوائب الشك، مشوبة بالرياء، مشوبة بالسمعة، مشوبة بالتفات القلب إلى المخلوقين.
فعلى المسلم دائماً وأبداً أن يعلّق قلبه بالله عز وجل، وألا ينظر إلى الدنيا وحظوظها الفانية، وإنما يريد وجه الله عز وجل، والاستزادة من هذا العلم، وتبصير الناس، ودعوتهم، والآثار عن السلف في الإخلاص كثيرة جداً، وقد ذكر أبو واسع رحمه الله قال: كان الرجل يقوم في الصف فتسيل دموعه على لحيته، ولا يشعر به من بجنبه، وكان الرجل يكون رأسه مع رأس امرأته على وسادة واحدة تسيل دموعه على خده لا تشعر به امرأته.
وقال أبو التياح رحمه الله: كان الرجل يقرأ عشرين سنة لا يعلم به جيرانه.
وقال محمد بن الحنفية:الإجابة والإخلاص مقرونان لا فرق بينهما": يعني أن إجابة الدعاء يكون مع الإخلاص، فكل ما كان الإنسان في عمله أخلص؛ كلما كانت استجابة الله له أكثر.
ثانياً: العمل بما علم
وهذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم ، وكذلك أيضاً هدي صحابته رضي الله عنهم، وثبت في صحيح مسلم من حديث أُمّ حبيبة رضي الله عنها أنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((من صلّى لله في يوم وليلة ثنتي عشر ركعة تطوّعاً غير الفريضة إلا بُني له بهنّ بيتٌ في الجنة))[7].
قالت أم حبيبة رضي الله عنها: (فما تركتهن منذ أن سمعتهنَّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال عنبسة – الراوي عن أم حبيبة -: (فما تركتهن منذ سمعتهن من أم حبيبة) قال النعمان بن سالم – الراوي عن عنبسة -: (ما تركتهن منذ سمعتهن من عنبسة). قال عمرو بن أوس – الراوي عن النعمان بن سالم: (فما تركتهن منذ سمعتهن من النعمان بن سالم) .
وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما رأى في منامه النار.... فقصّها على حفصة، فقصتها حفصة على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ((نِعْمَ الرجل عبد الله لو كان يقوم من الليل))[8].
في الصحيحين قال سالم بن عبد الله: « فكان عبد الله لا ينام من الليل إلا قليلاً ».
ومعاذ بن جبل رضي الله عنه يأتي رسولَ الله ويقول: يا رسول الله! دُلّني على عمل يدخلني الجنة، ويباعدني من النار. قال: دُلّني على عمل، يريد أن يعمل، فذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم أركان الإسلام ودعائمه: تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتصوم، وتصلي الصلوات، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحجّ البيت، ثم دلّه على أبواب الخير، ثم قال له: ألا أدلك على رأس الأمر وعموده وذروة سنامه، ثم دلّه على ملاك ذلك كله، لأنه رضي الله عنه أراد العمل[9].
وكان النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث عائشة والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهما، كان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه[10].
كلّ ذلك استجابة لقول الله: ((يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً)) ( المزمل : 1-2 ).
وكان مسروق يقوم الليل حتى انتفخت ساقاه، وكانت امرأته تقف من ورائه وتبكي وتقول: إنَّما أبكي رحمةً له.
فعلينا أيها الأحبة إذا علمنا شيئاً أن نسارع للعمل وامتثاله، هذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم ، وهدي الصحابة.
وقال بعض السلف: إذا أراد الله بعبده خيراً فتح له باب العمل، وأغلق عنه باب الجدل. فكلما رأيت الإنسان أكثر تطبيقاً لسنة النبي صلى الله عليه وسلم ، وأكثر مبادرة إلى العلم والعمل، فاعلم أن ذلك من علامة الخير.
ثالثاً: الدعوة إلى ما تعلم
وهذا داخل فيما سبق، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبايع الناس على ذلك، يقول جرير بن عبد الله كما في الصحيحين: ((بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم))[11].
والله عز وجل يقول: ((قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)) (يوسف:108).
فسبيل النبي صلى الله عليه وسلم وطرقه وهديه وطريق من اتبعه، وهدي من اتبعه، هي الدعوة إلى الله عز وجل.
رابعاً: الصبر على العلم
فالعلم لابد له من مصابرة ومجاهدة، ولن يؤتيك بعضه حتى تؤتيه كلك، ومن يقرأ في حال السلف رحمهم الله، ومن يقرأ في تراجمهم وكُتب الطبقات، وسير العلماء، وأخبار الرجال؛ يجد العجب العجاب في مصابرة العلماء رحمهم الله للعلم، فلابد للإنسان أن يُصابر.
من أئمة العلماء رحمهم الله ابن عباس رضي الله عنهما , لَمّا توفي رسول الله أخذ يجمع سنة النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة رضي الله عنهم، فكان يأتي إلى البيت من أصحاب رسول الله ممن يعلم أن عنده شيئاً من سنة النبي صلى الله عليه وسلم فيضع رداؤه فيتوسده، فتأتي الريح وتسفي عليه التراب حتى يخرج ذلك الصحابي، ثم بعد ذلك يأخذ تلك السنة التي حفظها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وكان أيضاً مالك يفعل نحواً من ذلك مع شيخه نافع مولى ابن عمر رضي الله عنهما, وأخبارهم كثيرة جداً.
خامساً: الحفظ .
على الطالب أن يمرّن نفسه على الحفظ، وإذا قرأت شيئاً في تراجم العلماء رحمهم الله تجد أنهم يذكرون في تراجمهم أنه حفظ القرآن وعمره عشر سنوات، فتجد في ترجمة ابن قدامة رحمه الله صاحب كتاب العمدة؛ تجد أنهم ذكروا أنه حفظ القرآن وعمره عشر سنوات، ثم بعد ذلك نشرع في حفظ بقية المتون كمختصر القرطي، وغيره من متون الحديث، والعقيدة، والأصول، وغير ذلك. فلابد للإنسان أن يحفظ، فالعلماء رحمهم الله جعلوا لكل فنّ شيئاً من المتون، فالحديث له شيءٌ من المتون، والفقه، والعقيدة، وأصول الفقه، وكذلك أيضاً مصطلح الحديث، وغير ذلك.
وأساس العلوم ومصدرها وأُمّها كتاب الله عز وجل، فلابد للطالب أن يربي نفسه على الحفظ، وأن يربيها على حفظ كتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وشيئاً من هذه المتون التي كتبها العلماء رحمهم الله، فإن هذه المتون تعتبر زبدة لهذه الفنون التي يدرسها الطلاب، فلكل فنٍّ من هذه المختصرات التي تعتبر خلاصة وزبدة لذلك الفن، فلابد للإنسان يجمع ذلك في قلبه، وأن يلمّ به لكي يترقَّى في العلم، فالرحبي رحمه الله يقول: فاحفظ؛ فكل حافظٍ إمام، وكما أسلفت إذا قرأت في سير الرجال وتراجم العلماء رحمهم الله تجد أنهم يذكرون عنهم كيف كانوا يحفظون سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، ويحفظن غير ذلك من فنون العلم.
سادساً: حفظ الوقت
لابد من طالب العلم أن يحفظ وقته، وأن يكون شحيحاً بوقته، فإن الوقت هو الحياة، وليس لك من عمرك إلا ما مضيته في طاعة الله، فلابد للطالب أن يتخلص من كثيرٍ من فضول الخلطة، ومن فضول النوم، ومن فضول اللهو، لا مانع أن الإنسان يتم قلبه بأشياء يستعين بها على طلب العلم، وعلى طاعة الله عز وجل، لكن أن يكون الإنسان مبعثراً غير منتظم كثير الخلطة، وكثير النوم، وكثير الذهاب والإياب، والتنـزهات، هذا يضيع عليه الوقت، ولا يستدرك شيئاً، ولا يتمكن الإنسان من الأخذ من ميراث النبوة، والتزيّد بنور العلم، إلا إذا كان حافظاً لوقته، لو قرأت أيضاً في كتب الرجال وسير العلماء، وكيف كانوا حافظين لأوقاتهم لوجدت العجب العجاب.
ابن الجوزي رحمه الله كان من أشد الناس حفظاً لوقته، وكان عامة الناس يغشونه في بيته، فلا يستطيع أن يردّهم، يعني يأتونه لزيارته والجلوس معه وسؤاله فلا يستطيع أن يردّهم، فكان يعمد رحمه الله إذا جاءه العامة يعمد إلى أن يشغلهم ببري الأقلام، فإذا خرجوا استفاد من هذه الأقلام التي قاموا ببريها في الكتابة والتأليف .
وكان ابن عقيل رحمه الله يقول: لا يحل لي أن أُضيّع شيئاً من وقتي، فكان يمضي وقته إمَّا في القراءة والكتابة، أو في الذكر والاستغفار.
سابعاً: أن يكون الطالب منظّماً.
لا يكون مبعثراً، فإنه لا يستفيد، بمعنى أن تكون له أصول وقواعد يسير عليها في كلِّ فنٍّ من فنون العلم يكون له حتى يسير عليه، وهذا المتن كما أسلفت يقوم بحفظه، وتعلّم مسائله، ويعرف راجحه ومرجوحه، ودليل ذلك من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فهذه لابد لطالب العلم من حيث المنهج لابد للطالب أن يسير على هذه القواعد والأصول التي كتبها العلماء من قبل، فإنه إذا لم يكن سائراً على شيءٍ من ذلك فإنه يكون مُبعثر، ويكون غير منتظم، تجد أنه تارةً يقرأ في هذا الباب، وتارةً يقرأ في الباب الآخر، وتارةً يقرأ في هذا الكتاب، وتارةً يقرأ في هذه الفتوى لا يكون منظماً.
وإذا نظرت إلى هدي العلماء السابقين تجد أنهم يسيرون على هذه المتون، فعندنا عمل وعندنا منهج العمل, الإنسان يعمل بما دلّ عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وأمَّا المنهج والتربية والتعليم, فإنه يكون على قواعد وأصول حتى يسير الإنسان إلى مبتغاه وإلى مراده.
ثامناً: أن يقيد الإنسان ويعتني بالكتابة
وتقييد العلم وألا يعتمد على الحفظ، فإن الإنسان إذا كان مُعتمداً على الحفظ فحسب فإن الحفظ خصوصاً، وفي وقتنا هذا سرعان ما يخور، لكن لابد للإنسان أن يعمد على الكتابة، وأن يقيد يكون له حتى يقيد في حواشيه، أو يجعل فيه أوراقاً يُقيّد في هذه الأوراق ما يسمعه، وما يقرأه، وما يتعلمه، لكي يكون هذا المتن مرجعاً يرجع إليه، ويعتمد عليه في الاستذكار والتعليم .
تاسعاً: على الطالب أن يكون له خلة تعنى بالعلم
فإنَّ الإنسان إذا كان له خلّة في العلم وأصحاب يعينونه على ذلك، فإن هذا من أهم الوسائل في طلب العلم أن يكون للإنسان أصحاب وزملاء يُعنون بالعلم، والإنسان على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل، والطير على أشكالها تقع، فإذا كان الإنسان مُزامل لأهل العلم تشبّه بهم، وأعانوه، وأخذ منهم، وصار منهم، وإذا كان مُزاملاً لأصحاب التجارة صار متأثراً بهم، وعلى هذا فقس، فعلى الإنسان أن يكون معه أصحاب يعنون بالعلم يستذكر معهم ويتحفظ معهم شيئاً من المحفوظات، أو شيئاً مما قرأه .
فأسأل الله عز وجل أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح، وأن يجعلنا هداةً مهتدين، غير ضالين ولا مُضلّين، وأن يجعل عملنا خالصاً لوجهه الكريم، وأن يرينا الحق حقّاً ويرزقنا أتباعه، ولا يجعله ملتبساً علينا فنضل,,,
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين...
[1]صحيح رواه البخاري (6229)، ومسلم (2121).
[2]أخرجه البخاري (6/ 108) و أبو داود (1/226) و الترمذي (2 / 149) والدارمي (2/437) وابن نصر في " قيام الليل " (ص 71 ) و ابن ماجة (1/92 و93) و الطيالسي ( ص 13رقم 73 ) وأحمد (ج 1 رقم 412 و413 و 500) و الخطيب (4 / 109 و 11/35) كلهم من طريق أبي عبد الرحمن السلمي عن عثمان ابن عفان مرفوعا و قال الترمذي:" حديث حسن صحيح " .
[3] أخرجه أبو داود في كتاب العلم، باب: الحث على طلب العلم، و(الترميذي) في كتاب العلم، باب: ما جاء في فضل الفقه على العبادة.
[4] أخرجه البُخَارِي 8/134(6514) و"مسلم" 8/211(7534) . والتِّرْمِذِيّ" 2379. و"النَّسائي" 4/53.
[5] أخرجه التِّرْمِذِي (2647) وقال : حديث حسن .
[6]أخرجه مسلم 8/223(7584) و (أحمد) : 2/301(7986) وفي : (6987) وفي : 2/435(9617) .و(ابن ماجة) :4202 و(ابن خزيمة) 938 و (ابن حِبان) 395.
[7] أخرجه أحمد 6/326 و"ابن ماجة" 1141 و"التِّرمِذي" 415. و"النَّسائي" 3/262 , وفي "الكبرى" 1483 وفي 3/263 , و"ابن خزيمة" 1189.
[8]أخرجه البخاري في الصلاة (479) وفي تعبير الرؤيا (36) وفي مناقب ابن عمر (المناقب 48: 1). وفي التعبير أيضاً (35). وفي الفضائل (77: 2) و(77: 3). وأخرجه ابن ماجة في الرؤيا (10: 3).
[9]أخرجه أحمد 5/231(22366). و"ابن ماجة"3973. و"التِّرمِذي"2616. و"النَّسائي" في "الكبرى"11330.
[10]أخرجه "البُخَارِي" 6/169. و"مسلم" 8/141 . و أحمد 6/115.
[11]أخرجه البُخَارِي 1/22(57) و3/247(2715) وفي 1/139(524) . وفي 2/131(1401).وفي 3/94(2157). و"مسلم" 1/54(109) . و"أحمد" 4/360(19405). وفي 4/365 (19458 و19461) قال : حدَّثنا يَحيى ، هو ابن سَعِيد . و"الدارِمِي" 2540. والتِّرْمِذِيّ" 1925. و"النَّسائي" ، في "الكبرى" 317 و7733. و"ابن خزيمة" 2259.
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلّ له، ومن يُضلِلْ فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أمَّا بعد:
فإنَّ من علامة الخير للإنسان أن يتفقه بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يتزيد من ميراث النبوة، فقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين))[1].
وثبت أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:((خيركم من تعلّم القرآن وعلّمه))[2].
ولا شك أن من تعلم القرآن أن يتفقه المسلم في أحكام دينه، مما جاء به كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من الحلال والحرام.
وقد ذكر ابن القيم رحمه الله مفاضلةً بين طالب المال وطالب العلم، فذكر رحمه الله تفضيل طالب العلم على طالب المال بما يقرب من سبعين وجهاً، لأنَّ المستقرئ لحال كثير من الناس اليوم يجد أنهم بين إنسانٍ يطلب المال، ويكدّ بدنه، ويُمضي عمره في ذلك، وبين إنسانٍ يطلب العلم، ويكدّ بدنه، ويُمضي حياته ويقضيهما في ذلك، فذكر ابن القيم رحمه الله ما يقرب من سبعين وجهاً في تفضيل طالب العلم على طالب المال، وأُشير إلى شيء من هذه الأوجه التي ذكرها رحمه الله، فَمِمَّ ذكر قال: إن طالب العلم يدعوا الناس إلى الآخرة بطلبه، وأمَّا طالب المال فإنه يدعوا الناس إلى الدنيا بطلبه.
وذكر أيضاً أن العلم هو ميراث الأنبياء كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظٍّ وافر))[3]
وأما بالنسبة للدنيا فإنها ميراث الملوك، وفرقٌ بين الميراثين. فرق بين أن ينهل الإنسان ويتزيد من ميراث محمد صلى الله عليه وسلم وبين أن يأخذ من ميراث بقية البشر من الملوك، والحكام وغيرهم.
وذكر أيضاً من الأوجه أن العلم يحفظ صاحبه، فالعلم إذا كنت متزيداً به فإنه يحفظ صاحبه، فالعلم إذا كنت مُتزيداً به فإنه يحفظك من أمراض الشبهات، وأمراض الشهوات، بخلاف المال فإن الإنسان محتاجاً إلى أن يحفظ ماله في الصناديق ووراء الأقفال والودائع وغير ذلك.
وأيضاً ذكر من الأوجه أن العلم يتبع صاحبه حتى بعد الموت، حتى بعد موتك يتبعك علمك، إذ إنه من عملك، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((يتبع الميت ثلاث: أهله، وماله، وعمله، فيرجع اثنان، ويبقى واحد، يرجع أهله وماله، ويبقى عمله)) [4]
فالعلم يتبعك حتى بعد موتك، وأمَّا بالنسبة للمال؛ فإنه لا يتبعك بعد الموت، بل إن العلماء رحمهم الله يذكرون في باب الهبة والعطية أن الإنسان إذا مَرِض مرض الموت لا يملك أن يهب إلاّ الثلث فقط، وهذا من صدقة الله عز وجل عليه، وهو حي لا يملك أن يتبرع، لا يملك أن يهب، لا يملك أن يتصدق، لا يملك أن يوقظ، لا يملك أن يوصي إلاّ بالثلث فقط، إذا مرض مرض الموت، وأمَّا الثلثان فإنهما يكونان للورثة، ففرقٌ بين الطالبين، فمن نعمة الله عز وجل ومنّته أن يُهيّئ العبد للتصدي لطلب العلم، والتفقه في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
وهناك وصايا لابد أن يأخذ بها طالب العلم الجاد الذي يريد أن يُلِمّ بشيءٍ من فنون العلم: فمن هذه الوصايا:
أولاً: الإخلاص
يجب على طالب العلم أن يخلص عمله لله، لأن العلم عبادة من أفضل العبادات، وأجلّ القربات، ولهذا ذكر أبو حنيفة أن تعلّم العلم وتعليمه من أفضل العبادات البدنية لما اختلف العلماء رحمهم الله في أيّ العبادات البدنية أفضل.
قال الشافعي: أفضلها الصلاة.
وقال الإمام أحمد رحمه الله: أفضلها الجهاد في سبيل الله.
وقال أبو حنيفة رحمه الله: أفضلها العلم؛ تعلّمه وتعليمه.
ولا شك أن تعلّم العلم وتعليمه من الجهاد في سبيل الله، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع))[5].
والله عز وجل يقول: ((وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)) (التوبة: 122) .
فالله جعل المؤمنين طائفتين: طائفة تنفر في الجهاد في سبيل الله، وطائفة تجلس مع النبي صلى الله عليه وسلم تأخذ عنه سنته، فإذا رجعت الطائفة المجاهدة علّمتها الطائفة القاعدة.
والنبي صلى الله عليه وسلم في حياته جاهد الناس بجهادين:
الجهاد الأول : جهاد العلم والبيان، فهذا في المرحلة المكية مدة ثلاثة عشر سنة، كان النبي صلى الله عليه وسلم يجاهد الناس بغرس التوحيد، ونبذ الشرك وشوائبه، ثم بعد ذلك في المرحلة المدنية، جاهد الناس بجهاد السيف والسنان، فعلينا أيها الأحبة أن نخلص لله عز وجل.
وقال الإمام أحمد: (العلم لا يعدله شيء لمن صحت نيته. قيل: وكيف تصح النية؟ قال: إذا أراد أن يرفع الجهل عن نفسه وعن غيره) .
فإذا أراد بتعلمه أن يرفع الجهل عن نفسه، وعن غيره، وأن يعبد الله على بصيرة، وأن يدعوا الناس إلى هذا العلم الذي تعلمه، فإن هذا لا شك أنه لا يعدله شيء كما قال الإمام أحمد رحمه الله، لأن هذا هو عمل الأنبياء والرسل عليهم السلام، فالذي يقوم بتعلم العلم فإنه يقوم مقام الأنبياء، فإنهم يتعلمون من ربهم، ثم بعد ذلك يُعلّمون الناس، ويوجّهونهم، ويرشدونهم.
فعلينا دائماً وأبداً أن نُعلّق قلوبنا بالله عز وجل، محبة ورهبة ورغبة ورجاء وتوكّلاً واستعانة،وألاّ يلتفت قلب الإنسان إلى المخلوقين وإلى الدنيا وحظوظها الفانية. وفي حديث أبي هريرة صلى الله عليه وسلم في الصحيحين يقول الله في الحديث القدسي: ((أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه))[6].
وذكر سفيان رحمه الله قال:« كانوا يتعلمون النية كما يتعلمون العلم ».
وقال بعض السلف: « رُبَّ عملٍ صغير كبّرته النية، ورُبَّ عملٍ كبير صغّرته النية» فقد يبذل الإنسان جهده، ويعمل، ويُكثر من العمل لكن تصغّره نيته، تكون نيته مشوبة بشوائب الشك، مشوبة بالرياء، مشوبة بالسمعة، مشوبة بالتفات القلب إلى المخلوقين.
فعلى المسلم دائماً وأبداً أن يعلّق قلبه بالله عز وجل، وألا ينظر إلى الدنيا وحظوظها الفانية، وإنما يريد وجه الله عز وجل، والاستزادة من هذا العلم، وتبصير الناس، ودعوتهم، والآثار عن السلف في الإخلاص كثيرة جداً، وقد ذكر أبو واسع رحمه الله قال: كان الرجل يقوم في الصف فتسيل دموعه على لحيته، ولا يشعر به من بجنبه، وكان الرجل يكون رأسه مع رأس امرأته على وسادة واحدة تسيل دموعه على خده لا تشعر به امرأته.
وقال أبو التياح رحمه الله: كان الرجل يقرأ عشرين سنة لا يعلم به جيرانه.
وقال محمد بن الحنفية:الإجابة والإخلاص مقرونان لا فرق بينهما": يعني أن إجابة الدعاء يكون مع الإخلاص، فكل ما كان الإنسان في عمله أخلص؛ كلما كانت استجابة الله له أكثر.
ثانياً: العمل بما علم
وهذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم ، وكذلك أيضاً هدي صحابته رضي الله عنهم، وثبت في صحيح مسلم من حديث أُمّ حبيبة رضي الله عنها أنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((من صلّى لله في يوم وليلة ثنتي عشر ركعة تطوّعاً غير الفريضة إلا بُني له بهنّ بيتٌ في الجنة))[7].
قالت أم حبيبة رضي الله عنها: (فما تركتهن منذ أن سمعتهنَّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال عنبسة – الراوي عن أم حبيبة -: (فما تركتهن منذ سمعتهن من أم حبيبة) قال النعمان بن سالم – الراوي عن عنبسة -: (ما تركتهن منذ سمعتهن من عنبسة). قال عمرو بن أوس – الراوي عن النعمان بن سالم: (فما تركتهن منذ سمعتهن من النعمان بن سالم) .
وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما رأى في منامه النار.... فقصّها على حفصة، فقصتها حفصة على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ((نِعْمَ الرجل عبد الله لو كان يقوم من الليل))[8].
في الصحيحين قال سالم بن عبد الله: « فكان عبد الله لا ينام من الليل إلا قليلاً ».
ومعاذ بن جبل رضي الله عنه يأتي رسولَ الله ويقول: يا رسول الله! دُلّني على عمل يدخلني الجنة، ويباعدني من النار. قال: دُلّني على عمل، يريد أن يعمل، فذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم أركان الإسلام ودعائمه: تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتصوم، وتصلي الصلوات، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحجّ البيت، ثم دلّه على أبواب الخير، ثم قال له: ألا أدلك على رأس الأمر وعموده وذروة سنامه، ثم دلّه على ملاك ذلك كله، لأنه رضي الله عنه أراد العمل[9].
وكان النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث عائشة والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهما، كان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه[10].
كلّ ذلك استجابة لقول الله: ((يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً)) ( المزمل : 1-2 ).
وكان مسروق يقوم الليل حتى انتفخت ساقاه، وكانت امرأته تقف من ورائه وتبكي وتقول: إنَّما أبكي رحمةً له.
فعلينا أيها الأحبة إذا علمنا شيئاً أن نسارع للعمل وامتثاله، هذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم ، وهدي الصحابة.
وقال بعض السلف: إذا أراد الله بعبده خيراً فتح له باب العمل، وأغلق عنه باب الجدل. فكلما رأيت الإنسان أكثر تطبيقاً لسنة النبي صلى الله عليه وسلم ، وأكثر مبادرة إلى العلم والعمل، فاعلم أن ذلك من علامة الخير.
ثالثاً: الدعوة إلى ما تعلم
وهذا داخل فيما سبق، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبايع الناس على ذلك، يقول جرير بن عبد الله كما في الصحيحين: ((بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم))[11].
والله عز وجل يقول: ((قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)) (يوسف:108).
فسبيل النبي صلى الله عليه وسلم وطرقه وهديه وطريق من اتبعه، وهدي من اتبعه، هي الدعوة إلى الله عز وجل.
رابعاً: الصبر على العلم
فالعلم لابد له من مصابرة ومجاهدة، ولن يؤتيك بعضه حتى تؤتيه كلك، ومن يقرأ في حال السلف رحمهم الله، ومن يقرأ في تراجمهم وكُتب الطبقات، وسير العلماء، وأخبار الرجال؛ يجد العجب العجاب في مصابرة العلماء رحمهم الله للعلم، فلابد للإنسان أن يُصابر.
من أئمة العلماء رحمهم الله ابن عباس رضي الله عنهما , لَمّا توفي رسول الله أخذ يجمع سنة النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة رضي الله عنهم، فكان يأتي إلى البيت من أصحاب رسول الله ممن يعلم أن عنده شيئاً من سنة النبي صلى الله عليه وسلم فيضع رداؤه فيتوسده، فتأتي الريح وتسفي عليه التراب حتى يخرج ذلك الصحابي، ثم بعد ذلك يأخذ تلك السنة التي حفظها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وكان أيضاً مالك يفعل نحواً من ذلك مع شيخه نافع مولى ابن عمر رضي الله عنهما, وأخبارهم كثيرة جداً.
خامساً: الحفظ .
على الطالب أن يمرّن نفسه على الحفظ، وإذا قرأت شيئاً في تراجم العلماء رحمهم الله تجد أنهم يذكرون في تراجمهم أنه حفظ القرآن وعمره عشر سنوات، فتجد في ترجمة ابن قدامة رحمه الله صاحب كتاب العمدة؛ تجد أنهم ذكروا أنه حفظ القرآن وعمره عشر سنوات، ثم بعد ذلك نشرع في حفظ بقية المتون كمختصر القرطي، وغيره من متون الحديث، والعقيدة، والأصول، وغير ذلك. فلابد للإنسان أن يحفظ، فالعلماء رحمهم الله جعلوا لكل فنّ شيئاً من المتون، فالحديث له شيءٌ من المتون، والفقه، والعقيدة، وأصول الفقه، وكذلك أيضاً مصطلح الحديث، وغير ذلك.
وأساس العلوم ومصدرها وأُمّها كتاب الله عز وجل، فلابد للطالب أن يربي نفسه على الحفظ، وأن يربيها على حفظ كتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وشيئاً من هذه المتون التي كتبها العلماء رحمهم الله، فإن هذه المتون تعتبر زبدة لهذه الفنون التي يدرسها الطلاب، فلكل فنٍّ من هذه المختصرات التي تعتبر خلاصة وزبدة لذلك الفن، فلابد للإنسان يجمع ذلك في قلبه، وأن يلمّ به لكي يترقَّى في العلم، فالرحبي رحمه الله يقول: فاحفظ؛ فكل حافظٍ إمام، وكما أسلفت إذا قرأت في سير الرجال وتراجم العلماء رحمهم الله تجد أنهم يذكرون عنهم كيف كانوا يحفظون سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، ويحفظن غير ذلك من فنون العلم.
سادساً: حفظ الوقت
لابد من طالب العلم أن يحفظ وقته، وأن يكون شحيحاً بوقته، فإن الوقت هو الحياة، وليس لك من عمرك إلا ما مضيته في طاعة الله، فلابد للطالب أن يتخلص من كثيرٍ من فضول الخلطة، ومن فضول النوم، ومن فضول اللهو، لا مانع أن الإنسان يتم قلبه بأشياء يستعين بها على طلب العلم، وعلى طاعة الله عز وجل، لكن أن يكون الإنسان مبعثراً غير منتظم كثير الخلطة، وكثير النوم، وكثير الذهاب والإياب، والتنـزهات، هذا يضيع عليه الوقت، ولا يستدرك شيئاً، ولا يتمكن الإنسان من الأخذ من ميراث النبوة، والتزيّد بنور العلم، إلا إذا كان حافظاً لوقته، لو قرأت أيضاً في كتب الرجال وسير العلماء، وكيف كانوا حافظين لأوقاتهم لوجدت العجب العجاب.
ابن الجوزي رحمه الله كان من أشد الناس حفظاً لوقته، وكان عامة الناس يغشونه في بيته، فلا يستطيع أن يردّهم، يعني يأتونه لزيارته والجلوس معه وسؤاله فلا يستطيع أن يردّهم، فكان يعمد رحمه الله إذا جاءه العامة يعمد إلى أن يشغلهم ببري الأقلام، فإذا خرجوا استفاد من هذه الأقلام التي قاموا ببريها في الكتابة والتأليف .
وكان ابن عقيل رحمه الله يقول: لا يحل لي أن أُضيّع شيئاً من وقتي، فكان يمضي وقته إمَّا في القراءة والكتابة، أو في الذكر والاستغفار.
سابعاً: أن يكون الطالب منظّماً.
لا يكون مبعثراً، فإنه لا يستفيد، بمعنى أن تكون له أصول وقواعد يسير عليها في كلِّ فنٍّ من فنون العلم يكون له حتى يسير عليه، وهذا المتن كما أسلفت يقوم بحفظه، وتعلّم مسائله، ويعرف راجحه ومرجوحه، ودليل ذلك من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فهذه لابد لطالب العلم من حيث المنهج لابد للطالب أن يسير على هذه القواعد والأصول التي كتبها العلماء من قبل، فإنه إذا لم يكن سائراً على شيءٍ من ذلك فإنه يكون مُبعثر، ويكون غير منتظم، تجد أنه تارةً يقرأ في هذا الباب، وتارةً يقرأ في الباب الآخر، وتارةً يقرأ في هذا الكتاب، وتارةً يقرأ في هذه الفتوى لا يكون منظماً.
وإذا نظرت إلى هدي العلماء السابقين تجد أنهم يسيرون على هذه المتون، فعندنا عمل وعندنا منهج العمل, الإنسان يعمل بما دلّ عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وأمَّا المنهج والتربية والتعليم, فإنه يكون على قواعد وأصول حتى يسير الإنسان إلى مبتغاه وإلى مراده.
ثامناً: أن يقيد الإنسان ويعتني بالكتابة
وتقييد العلم وألا يعتمد على الحفظ، فإن الإنسان إذا كان مُعتمداً على الحفظ فحسب فإن الحفظ خصوصاً، وفي وقتنا هذا سرعان ما يخور، لكن لابد للإنسان أن يعمد على الكتابة، وأن يقيد يكون له حتى يقيد في حواشيه، أو يجعل فيه أوراقاً يُقيّد في هذه الأوراق ما يسمعه، وما يقرأه، وما يتعلمه، لكي يكون هذا المتن مرجعاً يرجع إليه، ويعتمد عليه في الاستذكار والتعليم .
تاسعاً: على الطالب أن يكون له خلة تعنى بالعلم
فإنَّ الإنسان إذا كان له خلّة في العلم وأصحاب يعينونه على ذلك، فإن هذا من أهم الوسائل في طلب العلم أن يكون للإنسان أصحاب وزملاء يُعنون بالعلم، والإنسان على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل، والطير على أشكالها تقع، فإذا كان الإنسان مُزامل لأهل العلم تشبّه بهم، وأعانوه، وأخذ منهم، وصار منهم، وإذا كان مُزاملاً لأصحاب التجارة صار متأثراً بهم، وعلى هذا فقس، فعلى الإنسان أن يكون معه أصحاب يعنون بالعلم يستذكر معهم ويتحفظ معهم شيئاً من المحفوظات، أو شيئاً مما قرأه .
فأسأل الله عز وجل أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح، وأن يجعلنا هداةً مهتدين، غير ضالين ولا مُضلّين، وأن يجعل عملنا خالصاً لوجهه الكريم، وأن يرينا الحق حقّاً ويرزقنا أتباعه، ولا يجعله ملتبساً علينا فنضل,,,
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين...
[1]صحيح رواه البخاري (6229)، ومسلم (2121).
[2]أخرجه البخاري (6/ 108) و أبو داود (1/226) و الترمذي (2 / 149) والدارمي (2/437) وابن نصر في " قيام الليل " (ص 71 ) و ابن ماجة (1/92 و93) و الطيالسي ( ص 13رقم 73 ) وأحمد (ج 1 رقم 412 و413 و 500) و الخطيب (4 / 109 و 11/35) كلهم من طريق أبي عبد الرحمن السلمي عن عثمان ابن عفان مرفوعا و قال الترمذي:" حديث حسن صحيح " .
[3] أخرجه أبو داود في كتاب العلم، باب: الحث على طلب العلم، و(الترميذي) في كتاب العلم، باب: ما جاء في فضل الفقه على العبادة.
[4] أخرجه البُخَارِي 8/134(6514) و"مسلم" 8/211(7534) . والتِّرْمِذِيّ" 2379. و"النَّسائي" 4/53.
[5] أخرجه التِّرْمِذِي (2647) وقال : حديث حسن .
[6]أخرجه مسلم 8/223(7584) و (أحمد) : 2/301(7986) وفي : (6987) وفي : 2/435(9617) .و(ابن ماجة) :4202 و(ابن خزيمة) 938 و (ابن حِبان) 395.
[7] أخرجه أحمد 6/326 و"ابن ماجة" 1141 و"التِّرمِذي" 415. و"النَّسائي" 3/262 , وفي "الكبرى" 1483 وفي 3/263 , و"ابن خزيمة" 1189.
[8]أخرجه البخاري في الصلاة (479) وفي تعبير الرؤيا (36) وفي مناقب ابن عمر (المناقب 48: 1). وفي التعبير أيضاً (35). وفي الفضائل (77: 2) و(77: 3). وأخرجه ابن ماجة في الرؤيا (10: 3).
[9]أخرجه أحمد 5/231(22366). و"ابن ماجة"3973. و"التِّرمِذي"2616. و"النَّسائي" في "الكبرى"11330.
[10]أخرجه "البُخَارِي" 6/169. و"مسلم" 8/141 . و أحمد 6/115.
[11]أخرجه البُخَارِي 1/22(57) و3/247(2715) وفي 1/139(524) . وفي 2/131(1401).وفي 3/94(2157). و"مسلم" 1/54(109) . و"أحمد" 4/360(19405). وفي 4/365 (19458 و19461) قال : حدَّثنا يَحيى ، هو ابن سَعِيد . و"الدارِمِي" 2540. والتِّرْمِذِيّ" 1925. و"النَّسائي" ، في "الكبرى" 317 و7733. و"ابن خزيمة" 2259.
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى