عبير الروح
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
فصل
في سيـــاق مغازيــــه
أول لواء عقده لحمرة في رمضان على رأس سبعة أشهر من الهجرة ورعثة في ثلاثين من المهاجرين خاصة ، يعترض عيراً لقريش ، جاءت من الشام ، فيها أبو جهل في ثلاثمائة ، فلما التقوا حجر بينهم مجدى بن عمرو الجهنى ، وكان حليفاً للفريقين .
ثم بعث عبيدة بن الحارث في سرية إلى بطن رابغ في شوال في ستين من المهاجرين ، فلقى أبا سفيان في مائتين ، فكان بينهم رمى ، ولم يسلوا السيوف ، وكان سعد أول من رمى بسهم في سبيل الله ، وقدمها ابن إسحاق على سرية حمزة .
ثم بعث سعداً إلى الحرار على رأس تسعة أشهر في غشرين راكباً ، يعترضون عيراً لقريش ، فلما بلغوه ، وجدوها مرت بالأمس ، ثم غزا بنفسه غزوة الأبواء وهى أول غزوة غزاها بنفسه ، خرج في المهاجرين خاصة يعترض عيراً لقريش ، فلم يلق كيداً .
ثم غزا أبواط في شهر ربيع في مائتين من أصحاب يعترض عيراً لقريش ، حتى بلغ أبواط فلم يلق كيداً فرجع .
ثم خرج على رأس ثلاثة عشر شهراً لطلب كرز بن جابر لما أغار على سرح المدينة ، حتى بلغ سفوان من ناحية بدر ، ففاته كرز .
ثم خرج على رأس ستة عشر شهراً في مائة وخمسين من المهاجرين ، يعترض عياً لقريش ذاهبة إلى الشام ، فبلغ ذا العشيرة ، فوجدها قد فاتته وهى التي خرج في طلبها لما رجعت ، فكانت وقعة بدر .
ثم بعض عبد الله بن جحش إلى نخلة في أثنى عشر رجلاً من المهاجرين ، كل اثنين يعتقان على بعير ، فوصلوا على بطن نخلة يريدون عيراً لقريش ، وأضل سعد وعنبة بن غزوان بعيراً لهما ، فتخلفا في طله ، ونفذوا إلى طن نخلة ، فمرت بهم عير لقريش ، قالوا : نحن في آخر يوم من رجب ، وإن تركناهم الليلة دخلوا الحرم .
ثم اجمعوا على ملاقاتهم ، فرمى أحدهم عمرو بن الحضرمى ، فتله وأسروا عثمان والحكم ، وافلت نوفل ، وعزلوا الخمس ، فكان أول خمس في الإسلام ، فأنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهن واشتد إنكار قريش ، وزعموا أنهم وجدوا مقالا ، واشتد على المسلمين ذلك ، فأنزل الله عز وجل : (يسالونك عن الشهر الحرام) الآية "البقرة : 217" ، يقول سبحانه : هذا وإن كان كبيراً ، فما ارتكبتموه أنتم من الكفر ، والصد عن سبيل الله وبيته ، وإخراج المسلمين الذين هم أهله منه ، والشرك الذى أنتم عليه ، والفتنة التي حصلت منكم أكبر عند الله ، والأكثر فسروا "الفتنة" هنا بالشرك ، وحقيقتها : أنها الشرك الذى يدعو صاحبه إليه ، ويعاقب من لم يفتتن به .
ولهذا يقال لهم في النار : (ذوقوا فتنتكم) "سورة الذاريات : 14" قال ابن عباس : تكذيبكم ، وحقيقته : ذوقوا نهاية فتنتكم ، كقوله : (ذوقوا ما كنتم تكسبون) "سورة الزمر : 24" .
ومنه قوله تعالى : (إن الذين قتنوا المؤمنين والمؤمنات) "سورة البروج : 10" فسرت بإحراق المؤمنين بالنار ، واللفظ أعم ، وحقيقته : عذبوا المؤمنين ليفتنوهم عن دينهم .
وأما الفتنة المضافة إلى الله كقوله : (فتنا بعضهم بعض) "سورة الأنعام : 53" (إن هى إلا فتنتك) "سورة الأعراف : 155" فهى الامتحان بالنعم والمصائب ، فهذه لون وفتنة المشركين لون ، وفتنة المؤمن في ولده وماله وجاره لون آخر .
والفتنة بين أهل الإسلام ، كأهل الجمل وصفين لون آخر ، وهى التي أمر فيها صلى الله عليه وسلم باعتزال الطائفتين .
وقد تأتى مراداً بها المعصية ، كقوله تعالى : (ألا في الفتنة سقطوا) "وسورة التوبة : 50" أى : وقعوا في فتنة النفاق ، وفروا إليها من فتنة بنات بنى الأصفر .
والمقصود أنه سبحانه حكم بين أوليائه وأعدائه بالعدل ، ولم يؤيس أولياءه إذا كانوا متأولين أو مقصرين تقصيراً يعفر لهم في جنب ما فعلوه من التوحيد والطاعات والهجرة .
فصل
فلما كان في رمضان من هذه السنة بلغه صلى الله عليه وسلم خبر العير المقبلة من الشام ، فندب للخروج غليها ولم يحتفل لها ، لأنه خرج مسرعاً في ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً معهم فرسان على سبعين بعيراً ، يعتقونها ، وبلغ الصريخ مكة ، فخرجوا كما قال تعالى : (بطراً ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله ) " سورة الأنفال : 47" فجمعهم الله على غير ميعاد ، كما قال تعالى : (ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد) الآية "سورة الأنفال : 41" ، فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خروجهم استشار أصحابه .
فتكلم المهاجرين ، فأحسنوا ، ثم استشارهم ثانياً ، فتكلم المهاجرون ، ثم استشارهم ثالثاً ، ففهمت الأنصار أنه يعنيهم ، فبادر سعد بن معاذ فتكلم بكلامه المشهور ، وقال المقداد كلامه المشهور ، فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما سمع من أصحابه وقال : "سيروا ، وابشروا ، فإن الله وعدنى إحدى الطائفتين ، وإنى قد رأيت مصارع القوم " .
فسار إلى الأبد ، فلما طلع المشركون وتراءى الجمعان ، قام ورفع يديه ، واستنصر ربه ، واستنصر المسلمون الله ، واستغاثوه ، فأوحى الله إليه : ( أنى ممدكم بألف من الملائكة مردفين ) "سورة الأنفال : 6" قرىء بكسر الدال وفتحها ، فقيل : المعنى أنهم ردف لكم ، وقيل : يردف بعضهم بعضاً لم يأتوا دفعة واحدة ، فإن قيل : هنا ذكر ألفاً ، وفى (أل عمران) ثلاث آلاف وخمسة ؟ قيل : فيه قولات :
أحدهما : أنه يوم أحد ، وهو معلق لى شرط ، ففات وفات الإمداد .
والثانى : يوم بدر ، وحجته أن السياق يدل عليه ، كقوله : (ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم ) الآية إلى قوله : (وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن قلوبكم به ) "سورة آل عمران : 132-135" . فلما استغاثوه أمدهم بألف ، ثم بثلاثة ثم بخمسة ، وكان متابعة الإمداد أحسن موقعاً وأقوى لنفوسهم ، وأسر لها .
وقال أهل القول الأول : القصة في سياق أحد ، ودخول بدر اعتراض ، فذكرهم نعمته ببدر ، ثم عاد إلى قصة احد ، وأخبر عن قول رسوله لهم : (ألن يكفيكم) الآية ، ثم وعدهم أنهم إن صبروا واتقوا أمدهم بخمسة آلاف ، فهذا من قول رسوله ، والذى ببدر من قوله تعالى : وهو مطلق ، وذاك معلق ، والكلام في قصة أحد مستوفاة مطولة ، وفى (الأنفال) قصة بدر مستوفاة مطولة ، ويوضحه قوله : ( ويؤتوكم من فورهم هذا ) قال مجاهد : يوم أحد ، وهذا يستلزم أن يكون الإمداد فيه ، فلا يصح قوله : إن الإمداد يوم بدر ، الإتيان من فورهم يوم أحد .
ولما عزموا على الخروج ، ذكروا ما بينهم وبين بنى كنانة من الحر فتبدى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك ، وقال : (لا غالب لكم اليوم من الناس وإنى جار لكم) "سورة الأنفال : 49" من أن تأتيكم كنانة شئ تكرهونه ، فلما تعبوا للقتال ورأى جند الله قد نزلت من السماء ، فر ، ونكص على عقبيه ، فقالوا : إلى أين يا سراقة ، ألم تكن قلت إنك جار لنا ؟ فقال : (إنى أرى مالا ترون إنى أخاف الله والله شديد العقاب وصدق في قوله : ( إنى أرى ما لا ترون) وكذب في قوله : (إنى أخاف الله ) . وقيل : خاف أن يهلك معهم وهو أظهر. ولما رأى المنافقون ومن في قله مرض قلة حزب الله ، وكثرة أعدائه ، ظنوا أن الغلبة بالكثرة ، فقالوا: ( غر هؤلاء دينهم ) ، فأخبر سبحانه أن النصر بالتوكل لا بالكثرة ولا بالعدد، وأنه عزيز لا يغالب حكيم ينصر المستحق وإن كان ضعيفاً .
وفرغ رسول الله صلي الله عليه وسلم من شأن بدر والأسرى في شوال ، ثم نهض صلوات الله عليه بعد ذلك بسبعة أيام إلي نبي سليم ، فبلغ ماء يقال له: الكُدر ، فأقام عليه ثلاثاً ثم انصرف.
ولما رجع فل المشركين إلي مكة نذر أبو سفيان ألا يمس رأسه ماء حتى يغزو رسول الله صلي الله عليه وسلم، فخرج في مائتي راكب حتى بلغ طرف المدينة، وبات ليلة عند سلام بن مشكم ، فبطن له خبر الناس، فلما أصبح قطع أصواراً من النخل ، وقتل رجلاً من الأنصار وحليفاً له، فخرج رسول الله صلي الله عليه وسلم في طلبه ففاته ، وطرح الكفار سويقاً كثيرا يتخففون به ، فسُميت غزوة السويق.
ثم غزا نجداً يريد غطفان ، فأقام هناك صفراً كله من السنة الثالثة ثم انصرف ولم يلق حرباً ، ثم خرج يريد قريشاً ، فبلغ بحران ، معدناً بالحجاز فلم يلق حرباً ، فأقام هناك ربيع الآخر وجمادى الأولى ، ثم انصرف.
ثم غزا بني قينقاع ، ثم قتل كعب بن الأشرف ، وأذن في قتل من وجُد من اليهود لنقضهم العهد ، ومحاربتهم الله ورسوله.
ولما قتل الله أشراف قريش ببدر ورأس فيهم أبو سفيان ، جمع الجموع ، وأقبل بهم إلى المدينة فنزل قريباً من أحد . وكانت وقعة أحد المشهورة واستعرض الشباب يومئذ ، فرد من استصغره عن القتال ، منهم ابن عمر وأسامة وزيد بن ثابت وعرابة بن أوس ، وأجاز من رآه مطيقاً منهم سمرة بن جندب ، ورافع بن خديج ، ولهما خمس عشرة سنة ، وقالت طائفة : أجاز لإطاقتهم ولا تأثير للبلوغ وعدمه في ذلك قالوا: وفي بعض ألفاظ حديث ابن عمر : فلما رآني مطيقاً أجازني.
ثم ذكر قصة الأصيرم، وكلام ابي سفيان علي الجبل ن وهي ما روي البخاري في " صحيحه" عن البراء بن عازب رضي الله عليه وسلم: " لا تجيبوه" قال: أفي القوم محمد؟ فقال صلي الله عليه وسلم : فقال : أفي القوم ابن الخطاب؟ فقال : لا تجيبوه" فقال إن هؤلاء قد قتلوا ، فلو كانوا أحياء لأجابوا فلم يملك عمر نفسه ، فقال كذبت يا عدو الله أبقي الله تعالي لك ما يخزيك ويسوؤك.
قال أبو سفيان : أعلُ هُبل ، أعلُ هُبل . فقال النبي صلي الله عليه وسلم : " أجييبوه" قالوا : ما نقول؟ قال : قولوا : الله أعلي وأجل" قال أبو سفيان : لنا العزّى ولا عزّى لكم . فقال النبي صلي الله عليه وسلم " أجيبوه " ، قالوا ما نقول ؟ قال : " قولوا : الله مولانا ولا مولي لكم" . قال أبو سفيان : يوم بيوم بدر ، والحرب سجال فأجابه عمر: لا سواء قتلانا في الجنة ، وقتلاكم في النار . ثم قال أبو سفيان: وستجدون مثه لم آمر بها ولم تسؤني. فأمر بجوابه عند افتخاره بآلهته وشركه، تعظيماً للتوحيد ، وإعلامه بعزة إله المسلمين , ولم يأمرهم بإجابته أو نهاهم حين قال : أفيكم محمد ؟ الخ .... لأن كَلمهم لَم يبرد في طلب القوم، ونار غيظهم متوقدة ، فلما قال : كفيتموهم حمي عمر ، وقال : كذبت ، ونار يا عدو الله , ففيه من الشجاعة ، والتعرف إلي العدو في تلك الحال ، ما يؤذن بالبسالة ، وأنه وقومه جديرون بعدم الخوف ، فكان في جوابه من الغيظ للعدو ، والفت في عضده ما ليس في جوابه حين سأل عنهم ، فترك الجواب الأول منته نفسه موتهم ، وحصل له من الكبر والإعجاب ما حصل، كان في جوابه إهانة وإذلال ، فلم يكنن مخالفاً لقوله صلي الله عليه وسلم : " لا تجيبوه".
في سيـــاق مغازيــــه
أول لواء عقده لحمرة في رمضان على رأس سبعة أشهر من الهجرة ورعثة في ثلاثين من المهاجرين خاصة ، يعترض عيراً لقريش ، جاءت من الشام ، فيها أبو جهل في ثلاثمائة ، فلما التقوا حجر بينهم مجدى بن عمرو الجهنى ، وكان حليفاً للفريقين .
ثم بعث عبيدة بن الحارث في سرية إلى بطن رابغ في شوال في ستين من المهاجرين ، فلقى أبا سفيان في مائتين ، فكان بينهم رمى ، ولم يسلوا السيوف ، وكان سعد أول من رمى بسهم في سبيل الله ، وقدمها ابن إسحاق على سرية حمزة .
ثم بعث سعداً إلى الحرار على رأس تسعة أشهر في غشرين راكباً ، يعترضون عيراً لقريش ، فلما بلغوه ، وجدوها مرت بالأمس ، ثم غزا بنفسه غزوة الأبواء وهى أول غزوة غزاها بنفسه ، خرج في المهاجرين خاصة يعترض عيراً لقريش ، فلم يلق كيداً .
ثم غزا أبواط في شهر ربيع في مائتين من أصحاب يعترض عيراً لقريش ، حتى بلغ أبواط فلم يلق كيداً فرجع .
ثم خرج على رأس ثلاثة عشر شهراً لطلب كرز بن جابر لما أغار على سرح المدينة ، حتى بلغ سفوان من ناحية بدر ، ففاته كرز .
ثم خرج على رأس ستة عشر شهراً في مائة وخمسين من المهاجرين ، يعترض عياً لقريش ذاهبة إلى الشام ، فبلغ ذا العشيرة ، فوجدها قد فاتته وهى التي خرج في طلبها لما رجعت ، فكانت وقعة بدر .
ثم بعض عبد الله بن جحش إلى نخلة في أثنى عشر رجلاً من المهاجرين ، كل اثنين يعتقان على بعير ، فوصلوا على بطن نخلة يريدون عيراً لقريش ، وأضل سعد وعنبة بن غزوان بعيراً لهما ، فتخلفا في طله ، ونفذوا إلى طن نخلة ، فمرت بهم عير لقريش ، قالوا : نحن في آخر يوم من رجب ، وإن تركناهم الليلة دخلوا الحرم .
ثم اجمعوا على ملاقاتهم ، فرمى أحدهم عمرو بن الحضرمى ، فتله وأسروا عثمان والحكم ، وافلت نوفل ، وعزلوا الخمس ، فكان أول خمس في الإسلام ، فأنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهن واشتد إنكار قريش ، وزعموا أنهم وجدوا مقالا ، واشتد على المسلمين ذلك ، فأنزل الله عز وجل : (يسالونك عن الشهر الحرام) الآية "البقرة : 217" ، يقول سبحانه : هذا وإن كان كبيراً ، فما ارتكبتموه أنتم من الكفر ، والصد عن سبيل الله وبيته ، وإخراج المسلمين الذين هم أهله منه ، والشرك الذى أنتم عليه ، والفتنة التي حصلت منكم أكبر عند الله ، والأكثر فسروا "الفتنة" هنا بالشرك ، وحقيقتها : أنها الشرك الذى يدعو صاحبه إليه ، ويعاقب من لم يفتتن به .
ولهذا يقال لهم في النار : (ذوقوا فتنتكم) "سورة الذاريات : 14" قال ابن عباس : تكذيبكم ، وحقيقته : ذوقوا نهاية فتنتكم ، كقوله : (ذوقوا ما كنتم تكسبون) "سورة الزمر : 24" .
ومنه قوله تعالى : (إن الذين قتنوا المؤمنين والمؤمنات) "سورة البروج : 10" فسرت بإحراق المؤمنين بالنار ، واللفظ أعم ، وحقيقته : عذبوا المؤمنين ليفتنوهم عن دينهم .
وأما الفتنة المضافة إلى الله كقوله : (فتنا بعضهم بعض) "سورة الأنعام : 53" (إن هى إلا فتنتك) "سورة الأعراف : 155" فهى الامتحان بالنعم والمصائب ، فهذه لون وفتنة المشركين لون ، وفتنة المؤمن في ولده وماله وجاره لون آخر .
والفتنة بين أهل الإسلام ، كأهل الجمل وصفين لون آخر ، وهى التي أمر فيها صلى الله عليه وسلم باعتزال الطائفتين .
وقد تأتى مراداً بها المعصية ، كقوله تعالى : (ألا في الفتنة سقطوا) "وسورة التوبة : 50" أى : وقعوا في فتنة النفاق ، وفروا إليها من فتنة بنات بنى الأصفر .
والمقصود أنه سبحانه حكم بين أوليائه وأعدائه بالعدل ، ولم يؤيس أولياءه إذا كانوا متأولين أو مقصرين تقصيراً يعفر لهم في جنب ما فعلوه من التوحيد والطاعات والهجرة .
فصل
فلما كان في رمضان من هذه السنة بلغه صلى الله عليه وسلم خبر العير المقبلة من الشام ، فندب للخروج غليها ولم يحتفل لها ، لأنه خرج مسرعاً في ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً معهم فرسان على سبعين بعيراً ، يعتقونها ، وبلغ الصريخ مكة ، فخرجوا كما قال تعالى : (بطراً ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله ) " سورة الأنفال : 47" فجمعهم الله على غير ميعاد ، كما قال تعالى : (ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد) الآية "سورة الأنفال : 41" ، فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خروجهم استشار أصحابه .
فتكلم المهاجرين ، فأحسنوا ، ثم استشارهم ثانياً ، فتكلم المهاجرون ، ثم استشارهم ثالثاً ، ففهمت الأنصار أنه يعنيهم ، فبادر سعد بن معاذ فتكلم بكلامه المشهور ، وقال المقداد كلامه المشهور ، فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما سمع من أصحابه وقال : "سيروا ، وابشروا ، فإن الله وعدنى إحدى الطائفتين ، وإنى قد رأيت مصارع القوم " .
فسار إلى الأبد ، فلما طلع المشركون وتراءى الجمعان ، قام ورفع يديه ، واستنصر ربه ، واستنصر المسلمون الله ، واستغاثوه ، فأوحى الله إليه : ( أنى ممدكم بألف من الملائكة مردفين ) "سورة الأنفال : 6" قرىء بكسر الدال وفتحها ، فقيل : المعنى أنهم ردف لكم ، وقيل : يردف بعضهم بعضاً لم يأتوا دفعة واحدة ، فإن قيل : هنا ذكر ألفاً ، وفى (أل عمران) ثلاث آلاف وخمسة ؟ قيل : فيه قولات :
أحدهما : أنه يوم أحد ، وهو معلق لى شرط ، ففات وفات الإمداد .
والثانى : يوم بدر ، وحجته أن السياق يدل عليه ، كقوله : (ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم ) الآية إلى قوله : (وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن قلوبكم به ) "سورة آل عمران : 132-135" . فلما استغاثوه أمدهم بألف ، ثم بثلاثة ثم بخمسة ، وكان متابعة الإمداد أحسن موقعاً وأقوى لنفوسهم ، وأسر لها .
وقال أهل القول الأول : القصة في سياق أحد ، ودخول بدر اعتراض ، فذكرهم نعمته ببدر ، ثم عاد إلى قصة احد ، وأخبر عن قول رسوله لهم : (ألن يكفيكم) الآية ، ثم وعدهم أنهم إن صبروا واتقوا أمدهم بخمسة آلاف ، فهذا من قول رسوله ، والذى ببدر من قوله تعالى : وهو مطلق ، وذاك معلق ، والكلام في قصة أحد مستوفاة مطولة ، وفى (الأنفال) قصة بدر مستوفاة مطولة ، ويوضحه قوله : ( ويؤتوكم من فورهم هذا ) قال مجاهد : يوم أحد ، وهذا يستلزم أن يكون الإمداد فيه ، فلا يصح قوله : إن الإمداد يوم بدر ، الإتيان من فورهم يوم أحد .
ولما عزموا على الخروج ، ذكروا ما بينهم وبين بنى كنانة من الحر فتبدى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك ، وقال : (لا غالب لكم اليوم من الناس وإنى جار لكم) "سورة الأنفال : 49" من أن تأتيكم كنانة شئ تكرهونه ، فلما تعبوا للقتال ورأى جند الله قد نزلت من السماء ، فر ، ونكص على عقبيه ، فقالوا : إلى أين يا سراقة ، ألم تكن قلت إنك جار لنا ؟ فقال : (إنى أرى مالا ترون إنى أخاف الله والله شديد العقاب وصدق في قوله : ( إنى أرى ما لا ترون) وكذب في قوله : (إنى أخاف الله ) . وقيل : خاف أن يهلك معهم وهو أظهر. ولما رأى المنافقون ومن في قله مرض قلة حزب الله ، وكثرة أعدائه ، ظنوا أن الغلبة بالكثرة ، فقالوا: ( غر هؤلاء دينهم ) ، فأخبر سبحانه أن النصر بالتوكل لا بالكثرة ولا بالعدد، وأنه عزيز لا يغالب حكيم ينصر المستحق وإن كان ضعيفاً .
وفرغ رسول الله صلي الله عليه وسلم من شأن بدر والأسرى في شوال ، ثم نهض صلوات الله عليه بعد ذلك بسبعة أيام إلي نبي سليم ، فبلغ ماء يقال له: الكُدر ، فأقام عليه ثلاثاً ثم انصرف.
ولما رجع فل المشركين إلي مكة نذر أبو سفيان ألا يمس رأسه ماء حتى يغزو رسول الله صلي الله عليه وسلم، فخرج في مائتي راكب حتى بلغ طرف المدينة، وبات ليلة عند سلام بن مشكم ، فبطن له خبر الناس، فلما أصبح قطع أصواراً من النخل ، وقتل رجلاً من الأنصار وحليفاً له، فخرج رسول الله صلي الله عليه وسلم في طلبه ففاته ، وطرح الكفار سويقاً كثيرا يتخففون به ، فسُميت غزوة السويق.
ثم غزا نجداً يريد غطفان ، فأقام هناك صفراً كله من السنة الثالثة ثم انصرف ولم يلق حرباً ، ثم خرج يريد قريشاً ، فبلغ بحران ، معدناً بالحجاز فلم يلق حرباً ، فأقام هناك ربيع الآخر وجمادى الأولى ، ثم انصرف.
ثم غزا بني قينقاع ، ثم قتل كعب بن الأشرف ، وأذن في قتل من وجُد من اليهود لنقضهم العهد ، ومحاربتهم الله ورسوله.
ولما قتل الله أشراف قريش ببدر ورأس فيهم أبو سفيان ، جمع الجموع ، وأقبل بهم إلى المدينة فنزل قريباً من أحد . وكانت وقعة أحد المشهورة واستعرض الشباب يومئذ ، فرد من استصغره عن القتال ، منهم ابن عمر وأسامة وزيد بن ثابت وعرابة بن أوس ، وأجاز من رآه مطيقاً منهم سمرة بن جندب ، ورافع بن خديج ، ولهما خمس عشرة سنة ، وقالت طائفة : أجاز لإطاقتهم ولا تأثير للبلوغ وعدمه في ذلك قالوا: وفي بعض ألفاظ حديث ابن عمر : فلما رآني مطيقاً أجازني.
ثم ذكر قصة الأصيرم، وكلام ابي سفيان علي الجبل ن وهي ما روي البخاري في " صحيحه" عن البراء بن عازب رضي الله عليه وسلم: " لا تجيبوه" قال: أفي القوم محمد؟ فقال صلي الله عليه وسلم : فقال : أفي القوم ابن الخطاب؟ فقال : لا تجيبوه" فقال إن هؤلاء قد قتلوا ، فلو كانوا أحياء لأجابوا فلم يملك عمر نفسه ، فقال كذبت يا عدو الله أبقي الله تعالي لك ما يخزيك ويسوؤك.
قال أبو سفيان : أعلُ هُبل ، أعلُ هُبل . فقال النبي صلي الله عليه وسلم : " أجييبوه" قالوا : ما نقول؟ قال : قولوا : الله أعلي وأجل" قال أبو سفيان : لنا العزّى ولا عزّى لكم . فقال النبي صلي الله عليه وسلم " أجيبوه " ، قالوا ما نقول ؟ قال : " قولوا : الله مولانا ولا مولي لكم" . قال أبو سفيان : يوم بيوم بدر ، والحرب سجال فأجابه عمر: لا سواء قتلانا في الجنة ، وقتلاكم في النار . ثم قال أبو سفيان: وستجدون مثه لم آمر بها ولم تسؤني. فأمر بجوابه عند افتخاره بآلهته وشركه، تعظيماً للتوحيد ، وإعلامه بعزة إله المسلمين , ولم يأمرهم بإجابته أو نهاهم حين قال : أفيكم محمد ؟ الخ .... لأن كَلمهم لَم يبرد في طلب القوم، ونار غيظهم متوقدة ، فلما قال : كفيتموهم حمي عمر ، وقال : كذبت ، ونار يا عدو الله , ففيه من الشجاعة ، والتعرف إلي العدو في تلك الحال ، ما يؤذن بالبسالة ، وأنه وقومه جديرون بعدم الخوف ، فكان في جوابه من الغيظ للعدو ، والفت في عضده ما ليس في جوابه حين سأل عنهم ، فترك الجواب الأول منته نفسه موتهم ، وحصل له من الكبر والإعجاب ما حصل، كان في جوابه إهانة وإذلال ، فلم يكنن مخالفاً لقوله صلي الله عليه وسلم : " لا تجيبوه".
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى