مسلم
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
وضع علماء العربية قواعد ضبطوا من خلالها أصول البيان، ووزنوا على وفقها أسلوب الكلام، وقرروا أن الخروج عن هذه القواعد لا ينبغي أن يكون إلا لداع يستدعي هذا الخروج. ومن القواعد التي قرروها: أن الاسم إذا ذُكر أولاً، فلا يعاد ثانية، وإنما يُذكر مضمراً، غير أنهم سوغوا إعادة الاسم الظاهر ثانية لمعنى ما، وعبروا عن هذا الأسلوب بقولهم: وضع الظاهر موضع المضمر، أو إظهار ما حقه الإضمار. فما هو هذا الأسلوب، وما هي أمثلته من القرآن الكريم.
الأصل في الكلام
الإظهار والإضمار أمر يتعلق بالأسماء، والأصل في الأسماء أن تكون ظاهرة، وأنه إذا ذُكر الاسم ثانياً أن يُذكر مضمراً؛ للاستغناء عنه بالظاهر السابق. فأنت تقول: كان الجو لطيفاً، إنه لم يكن حاراً ولا بارداً. فأضمرت (الاسم) في قولك: (إنه)؛ لأنه ليس من السائغ لغة، أن تعيده ثانية، فتقول: إن الجو...هذا هو الأصل في الكلام.
غير أن هذا الأصل قد يأتي في سياق الكلام ما يستدعي الخروج عنه، فيعاد الاسم ظاهراً، وكان حقه أن يكون مضمراً، والمثال عليه في كلامهم قول عدي بن زيد:
لا أرى الموت يسبق الموت شيء نغص الموت ذا الغنى والفقيرا
فقد كرر (الموت) في البيت ثلاثاً؛ تهويلاً لأمره، وتعظيماً لشأنه. وهذا يفيد أن الخروج عن هذا الأصل لا بد أن يكون لفائدة، تتحقق بذكر الاسم ثانية، وما لا يُلحظ فيه فائدة، يكون تكرار الاسم مما يعاب في أصول الكلام.
والمعهود من أهل العربية أن يبحثوا هذا الباب ضمن مباحثهم اللغوية العامة، ويتعرضوا له في أثناء كلامهم عن تلك المباحث. وقد ذكر السيوطي أنه وقف على تأليف في هذا الباب لـ ابن الصائغ، بيد أنه لم يذكر عنوان هذا التأليف.
الغرض من هذا الأسلوب
ذكرنا أن الأصل في الاسم أن لا يعاد ذكره ثانية، إلا إذا كان هناك غرض وفائدة في هذه الإعادة، فيُعدل عن هذا الأصل. وقد ذكر أهل العلم بالعربية أسباباً تستدعي هذا العدول، نذكر أهمها مع التمثيل لها من القرآن الكريم:
أولاً: زيادة التقرير والتمكين، مثاله قوله تعالى: {وبالحق أنزلناه وبالحق نزل} (الإسراء:105)، أصل الكلام: (وبالحق أنزلناه وبه نزل)، لكن كرر الاسم ثانية زيادة في تقرير حقيقة نزول القرآن بالحق، وتمكيناً لهذه الحقيقة في النفوس. وعلى هذا النحو جاء قوله سبحانه: {لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب} (آل عمران:78).
ثانياً: قصد التعظيم، والأمثلة عليه كثيرة، منها قوله سبحانه: {أولم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده} (العنكبوت:19)، ثم قال: {قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة} (العنكبوت:20)، فقد صرح باسم {الله} ثانية في قوله: {ثم الله ينشئ النشأة الآخرة}، ومقتضى القواعد أن يقول: (كيف يبدئ الله الخلق ثم ينشئ النشأة الآخرة)، لكن أعاد الاسم ثانية؛ للدلالة والتنبيه على عِظَمِ هذا الأمر.
ثالثاً: قصد الإهانة والتحقير، من ذلك قوله عز وجل: {لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان} (النور:21)، أصل الكلام: (ومن يتبع خطواته)، لكن أعاد ذكر الاسم ثانية، تحقيراً لشأن الشيطان، وتنبيهاً على خطر اتباعه. ومن هذا القبيل قوله سبحانه: {أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون} (المجادلة:19).
رابعاً: إزالة اللَبس حيث يوهم الضمير أنه غير المراد، كقوله تعالى: {الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء} (محمد:6)، لو قال: (عليهم دائرته) لالتبس بأن يكون الضمير عائداً إلى الله تعالى، فأعاد الاسم ثانية؛ دفعاً لهذا اللَبس. ونظيره قوله عز وجل: {وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا} (الإسراء:78)، فلو قال: (إنه كان مشهوداً) لأوهم عود الضمير إلى (الفجر).
خامساً: قصد تربية المهابة وإدخال الروع على ضمير السامع بذكر الاسم المقتضي لذلك، مثاله قوله عز وجل: {وقال الذين في النار لخزنة جهنم} (غافر:49)، لم يقل: (لخزنتها) مع أنه الأصل؛ وذلك للتخويف من أمرها، وبيان خطرها.
سادساً: قصد تقوية داعية الأمور، من ذلك قوله عز وجل: {فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين} (آل عمران:159)، لم يقل: (إنه يحب المتوكلين)، أو (إني أحب المتوكلين)؛ تقوية لداعية المأمور بـ (التوكل) بالتصريح باسم المتوكل عليه.
سابعاً: تعظيم الأمر، كقوله سبحانه: {وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب} (ص:4)، كان القياس أن يقال: (وقالوا هذا ساحر كذاب)، عطفاً على (عجبوا)، وإنما أتى باسم (الكافرين) مُظْهَراً بعد إضماره؛ للإشعار بتعظيم ما اجترؤوا عليه من القول في أمر النبي صلى الله عليه وسلم. ونظيره قوله عز وجل: {وأما الذين فسقوا فمأواهم النار كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار} (السجدة:20)، لم يقل: (ذوقوا عذابها)، بل أعاد الاسم ثانية؛ للتخويف والتنبيه على عِظَمِ الأمر، والمبالغة في شأن النار.
ثامناً: قصد التوسل بالظاهر إلى الوصف، نحو قوله تعالى: {فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته} (الأعراف:158)، بعد قوله في صدر الآية: {إني رسول الله إليكم جميعا}، فلم يقل: (فآمنوا بالله وبي)؛ ليتمكن من إجراء الصفات التي ذكرها من النبي الأمي، الذي يؤمن بالله، فإنه لو قال: (وبي) لم يتمكن من ذلك؛ لأن (الضمير) لا يوصف؛ ليعلم أن الذي وجب الإيمان به والاتباع له، هو من وُصِفَ بهذه الصفات.
تاسعاً: التنبيه على علة الحكم، من ذلك قوله سبحانه: {فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء} (البقرة:59)، فلم يقل: (عليهم)؛ لأنه ليس في (الضمير) ما في قوله: {الذين ظلموا} من ذِكْر (الظلم) المستحَقِّ به العذاب. ونظيره قوله تعالى: {فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين} (البقرة:89)، الأصل: (فلعنة الله عليهم)، لكن أظهر الاسم؛ للدلالة على أن اللعنة لحقتهم لكفرهم.
عاشراً: قصد العموم، من ذلك قوله عز وجل: {وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء} (يوسف:53)، فإنه لو قيل: (إنها لأمارة بالسوء) لاقتضى تخصيص ذلك بيوسف عليه السلام فحسب، فأتى بالاسم الظاهر؛ ليدل على أن المراد التعميم. ونظير هذا قوله سبحانه: {وإنا إذا أذقنا الإنسان منا رحمة فرح بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور} (الشورى:48)، فلم يقل: (فإنه كفور)؛ مبالغة في إثبات أن هذا الجنس شأنه كفران النعم.
حادي عشر: قصد الذم، وهو كثير، منه قوله تعالى: {يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا} (النبأ:40)، قال الزمخشري: {المرء} هو الكافر، وهو ظاهر، وُضِع موضع الضمير؛ لزيادة الذم.
وثمة أسباب أُخر يُخرج بها عن مقتضى قاعدة الإضمار إلى الإظهار، تتبين في الأمثلة القرآنية الآتي ذكرها.
وقد ذكر الزركشي أن وَضْع الظاهر موضع المضمر حقه أن يكون في الجملة الواحدة، نحو {الحاقة * ما الحاقة}، فأما إذا وقع في جملتين فأمره سهل، وهو أفصح من وقوعه في الجملة الواحدة؛ لأن الكلام جملتان؛ فحَسُنَ فيها ما لا يَحْسُن في الجملة الواحدة. وأما مثاله في الجملتين، فقوله تعالى: {واتقوا الله ويعلمكم الله} (البقرة:286)، وقوله سبحانه: {إنا مهلكو أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين} (العنكبوت:31).
ثم قال أهل اللغة والبيان: إنه متى طال الكلام حَسُن إيقاع الظاهر موضع المضمر؛ كيلا يبقى الذهن متشاغلاً بسبب ما يعود عليه اللفظ، فيفوته ما شُرع فيه، كقوله سبحانه: {يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس} (النور:35)، فلما طال الكلام، أعاد لفظ الجلالة {الله} ثانية.
أمثلة هذا الأسلوب من القرآن الكريم
قوله عز وجل: {وما يفعلوا من خير فلن يكفروه والله عليم بالمتقين} (آل عمران:115)، مقتضى الكلام: (والله عليم بهم)، لكن وضع الظاهر موضع المضمر؛ إيذاناً بالعلة، وأنه لا يفوز عنده إلا أهل التقوى.
قوله سبحانه: {سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين} (آل عمران:151)، أي: (مثواهم)، وإنما وضع الظاهر موضع الضمير؛ للتغليظ والتعليل والإشعار بأنهم في إشراكهم ظالمون، واضعون للشيء في غير موضعه.
قوله تعالى: {ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون} (الجمعة:8)، وضع الظاهر موضع المضمر؛ لإشعار ذلك بإحاطته بكل شيء يقع منهم مما يكتمونه، ويتظاهرون به، وإخباره لهم به، ومجازاتهم عليه.
قوله عز وجل: {فأبى الظالمون إلا كفورا} (الإسراء:99)، وضع الظاهر موضع المضمر؛ للحكم عليهم بالظلم، ومجاوزة الحد.
قوله تعالى: {القارعة * ما القارعة} (القارعة:1-2)، وضع الظاهر موضع الضمير؛ تعظيماً لأمرها، وتفخيماً لشأنها. ونظيره قوله سبحانه: {الحاقة * ما الحاقة} (الحاقة:1-2).
قوله سبحانه: {وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا} (النساء:37)، وضع الظاهر (الكافرين) موضع المضمر؛ إشعاراً بأن مَنْ هذا شأنه، فهو كافر لنعمة الله، ومَنْ كان كافراً لنعمة الله، فله عذاب يهينه، كما أهان النعمة بالبخل والإخفاء.
قوله عز وجل: {ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا} (الأنعام:150)، وضع الظاهر موضع المضمر؛ للدلالة على أن من كذب بآيات الله، وعدل به غيره، فهو متبع للهوى لا غير؛ لأنه لو اتبع الدليل لم يكن إلا مصدقاً بالآيات موحداً لله تعالى.
قوله تعالى: {وإن الظالمين لفي شقاق بعيد} (الحج:53)، الأصل: (وإنهم لفي شقاق بعيد)، لكن أظهر الاسم؛ للشهادة عليهم بهذه الصفة الذميمة.
قوله سبحانه: {وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين} (الأنعام:55)، وضع الظاهر {المجرمين} موضع المضمر؛ للتنصيص على أنهم المراد؛ ولإجراء وصف (الإجرام) عليهم.
قوله عز وجل: {فلا تأس على القوم الكافرين} (المائدة:68)، وضع الظاهر موضع الضمير؛ لبيان أنهم قوم تمكن الكفر منهم، وصار وصفاً لازما لهم.
والأمثلة القرآنية على هذا الأسلوب كثيرة، لا تخفى على من علم الأصل الذي تقرر.
الأصل في الكلام
الإظهار والإضمار أمر يتعلق بالأسماء، والأصل في الأسماء أن تكون ظاهرة، وأنه إذا ذُكر الاسم ثانياً أن يُذكر مضمراً؛ للاستغناء عنه بالظاهر السابق. فأنت تقول: كان الجو لطيفاً، إنه لم يكن حاراً ولا بارداً. فأضمرت (الاسم) في قولك: (إنه)؛ لأنه ليس من السائغ لغة، أن تعيده ثانية، فتقول: إن الجو...هذا هو الأصل في الكلام.
غير أن هذا الأصل قد يأتي في سياق الكلام ما يستدعي الخروج عنه، فيعاد الاسم ظاهراً، وكان حقه أن يكون مضمراً، والمثال عليه في كلامهم قول عدي بن زيد:
لا أرى الموت يسبق الموت شيء نغص الموت ذا الغنى والفقيرا
فقد كرر (الموت) في البيت ثلاثاً؛ تهويلاً لأمره، وتعظيماً لشأنه. وهذا يفيد أن الخروج عن هذا الأصل لا بد أن يكون لفائدة، تتحقق بذكر الاسم ثانية، وما لا يُلحظ فيه فائدة، يكون تكرار الاسم مما يعاب في أصول الكلام.
والمعهود من أهل العربية أن يبحثوا هذا الباب ضمن مباحثهم اللغوية العامة، ويتعرضوا له في أثناء كلامهم عن تلك المباحث. وقد ذكر السيوطي أنه وقف على تأليف في هذا الباب لـ ابن الصائغ، بيد أنه لم يذكر عنوان هذا التأليف.
الغرض من هذا الأسلوب
ذكرنا أن الأصل في الاسم أن لا يعاد ذكره ثانية، إلا إذا كان هناك غرض وفائدة في هذه الإعادة، فيُعدل عن هذا الأصل. وقد ذكر أهل العلم بالعربية أسباباً تستدعي هذا العدول، نذكر أهمها مع التمثيل لها من القرآن الكريم:
أولاً: زيادة التقرير والتمكين، مثاله قوله تعالى: {وبالحق أنزلناه وبالحق نزل} (الإسراء:105)، أصل الكلام: (وبالحق أنزلناه وبه نزل)، لكن كرر الاسم ثانية زيادة في تقرير حقيقة نزول القرآن بالحق، وتمكيناً لهذه الحقيقة في النفوس. وعلى هذا النحو جاء قوله سبحانه: {لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب} (آل عمران:78).
ثانياً: قصد التعظيم، والأمثلة عليه كثيرة، منها قوله سبحانه: {أولم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده} (العنكبوت:19)، ثم قال: {قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة} (العنكبوت:20)، فقد صرح باسم {الله} ثانية في قوله: {ثم الله ينشئ النشأة الآخرة}، ومقتضى القواعد أن يقول: (كيف يبدئ الله الخلق ثم ينشئ النشأة الآخرة)، لكن أعاد الاسم ثانية؛ للدلالة والتنبيه على عِظَمِ هذا الأمر.
ثالثاً: قصد الإهانة والتحقير، من ذلك قوله عز وجل: {لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان} (النور:21)، أصل الكلام: (ومن يتبع خطواته)، لكن أعاد ذكر الاسم ثانية، تحقيراً لشأن الشيطان، وتنبيهاً على خطر اتباعه. ومن هذا القبيل قوله سبحانه: {أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون} (المجادلة:19).
رابعاً: إزالة اللَبس حيث يوهم الضمير أنه غير المراد، كقوله تعالى: {الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء} (محمد:6)، لو قال: (عليهم دائرته) لالتبس بأن يكون الضمير عائداً إلى الله تعالى، فأعاد الاسم ثانية؛ دفعاً لهذا اللَبس. ونظيره قوله عز وجل: {وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا} (الإسراء:78)، فلو قال: (إنه كان مشهوداً) لأوهم عود الضمير إلى (الفجر).
خامساً: قصد تربية المهابة وإدخال الروع على ضمير السامع بذكر الاسم المقتضي لذلك، مثاله قوله عز وجل: {وقال الذين في النار لخزنة جهنم} (غافر:49)، لم يقل: (لخزنتها) مع أنه الأصل؛ وذلك للتخويف من أمرها، وبيان خطرها.
سادساً: قصد تقوية داعية الأمور، من ذلك قوله عز وجل: {فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين} (آل عمران:159)، لم يقل: (إنه يحب المتوكلين)، أو (إني أحب المتوكلين)؛ تقوية لداعية المأمور بـ (التوكل) بالتصريح باسم المتوكل عليه.
سابعاً: تعظيم الأمر، كقوله سبحانه: {وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب} (ص:4)، كان القياس أن يقال: (وقالوا هذا ساحر كذاب)، عطفاً على (عجبوا)، وإنما أتى باسم (الكافرين) مُظْهَراً بعد إضماره؛ للإشعار بتعظيم ما اجترؤوا عليه من القول في أمر النبي صلى الله عليه وسلم. ونظيره قوله عز وجل: {وأما الذين فسقوا فمأواهم النار كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار} (السجدة:20)، لم يقل: (ذوقوا عذابها)، بل أعاد الاسم ثانية؛ للتخويف والتنبيه على عِظَمِ الأمر، والمبالغة في شأن النار.
ثامناً: قصد التوسل بالظاهر إلى الوصف، نحو قوله تعالى: {فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته} (الأعراف:158)، بعد قوله في صدر الآية: {إني رسول الله إليكم جميعا}، فلم يقل: (فآمنوا بالله وبي)؛ ليتمكن من إجراء الصفات التي ذكرها من النبي الأمي، الذي يؤمن بالله، فإنه لو قال: (وبي) لم يتمكن من ذلك؛ لأن (الضمير) لا يوصف؛ ليعلم أن الذي وجب الإيمان به والاتباع له، هو من وُصِفَ بهذه الصفات.
تاسعاً: التنبيه على علة الحكم، من ذلك قوله سبحانه: {فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء} (البقرة:59)، فلم يقل: (عليهم)؛ لأنه ليس في (الضمير) ما في قوله: {الذين ظلموا} من ذِكْر (الظلم) المستحَقِّ به العذاب. ونظيره قوله تعالى: {فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين} (البقرة:89)، الأصل: (فلعنة الله عليهم)، لكن أظهر الاسم؛ للدلالة على أن اللعنة لحقتهم لكفرهم.
عاشراً: قصد العموم، من ذلك قوله عز وجل: {وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء} (يوسف:53)، فإنه لو قيل: (إنها لأمارة بالسوء) لاقتضى تخصيص ذلك بيوسف عليه السلام فحسب، فأتى بالاسم الظاهر؛ ليدل على أن المراد التعميم. ونظير هذا قوله سبحانه: {وإنا إذا أذقنا الإنسان منا رحمة فرح بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور} (الشورى:48)، فلم يقل: (فإنه كفور)؛ مبالغة في إثبات أن هذا الجنس شأنه كفران النعم.
حادي عشر: قصد الذم، وهو كثير، منه قوله تعالى: {يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا} (النبأ:40)، قال الزمخشري: {المرء} هو الكافر، وهو ظاهر، وُضِع موضع الضمير؛ لزيادة الذم.
وثمة أسباب أُخر يُخرج بها عن مقتضى قاعدة الإضمار إلى الإظهار، تتبين في الأمثلة القرآنية الآتي ذكرها.
وقد ذكر الزركشي أن وَضْع الظاهر موضع المضمر حقه أن يكون في الجملة الواحدة، نحو {الحاقة * ما الحاقة}، فأما إذا وقع في جملتين فأمره سهل، وهو أفصح من وقوعه في الجملة الواحدة؛ لأن الكلام جملتان؛ فحَسُنَ فيها ما لا يَحْسُن في الجملة الواحدة. وأما مثاله في الجملتين، فقوله تعالى: {واتقوا الله ويعلمكم الله} (البقرة:286)، وقوله سبحانه: {إنا مهلكو أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين} (العنكبوت:31).
ثم قال أهل اللغة والبيان: إنه متى طال الكلام حَسُن إيقاع الظاهر موضع المضمر؛ كيلا يبقى الذهن متشاغلاً بسبب ما يعود عليه اللفظ، فيفوته ما شُرع فيه، كقوله سبحانه: {يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس} (النور:35)، فلما طال الكلام، أعاد لفظ الجلالة {الله} ثانية.
أمثلة هذا الأسلوب من القرآن الكريم
قوله عز وجل: {وما يفعلوا من خير فلن يكفروه والله عليم بالمتقين} (آل عمران:115)، مقتضى الكلام: (والله عليم بهم)، لكن وضع الظاهر موضع المضمر؛ إيذاناً بالعلة، وأنه لا يفوز عنده إلا أهل التقوى.
قوله سبحانه: {سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين} (آل عمران:151)، أي: (مثواهم)، وإنما وضع الظاهر موضع الضمير؛ للتغليظ والتعليل والإشعار بأنهم في إشراكهم ظالمون، واضعون للشيء في غير موضعه.
قوله تعالى: {ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون} (الجمعة:8)، وضع الظاهر موضع المضمر؛ لإشعار ذلك بإحاطته بكل شيء يقع منهم مما يكتمونه، ويتظاهرون به، وإخباره لهم به، ومجازاتهم عليه.
قوله عز وجل: {فأبى الظالمون إلا كفورا} (الإسراء:99)، وضع الظاهر موضع المضمر؛ للحكم عليهم بالظلم، ومجاوزة الحد.
قوله تعالى: {القارعة * ما القارعة} (القارعة:1-2)، وضع الظاهر موضع الضمير؛ تعظيماً لأمرها، وتفخيماً لشأنها. ونظيره قوله سبحانه: {الحاقة * ما الحاقة} (الحاقة:1-2).
قوله سبحانه: {وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا} (النساء:37)، وضع الظاهر (الكافرين) موضع المضمر؛ إشعاراً بأن مَنْ هذا شأنه، فهو كافر لنعمة الله، ومَنْ كان كافراً لنعمة الله، فله عذاب يهينه، كما أهان النعمة بالبخل والإخفاء.
قوله عز وجل: {ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا} (الأنعام:150)، وضع الظاهر موضع المضمر؛ للدلالة على أن من كذب بآيات الله، وعدل به غيره، فهو متبع للهوى لا غير؛ لأنه لو اتبع الدليل لم يكن إلا مصدقاً بالآيات موحداً لله تعالى.
قوله تعالى: {وإن الظالمين لفي شقاق بعيد} (الحج:53)، الأصل: (وإنهم لفي شقاق بعيد)، لكن أظهر الاسم؛ للشهادة عليهم بهذه الصفة الذميمة.
قوله سبحانه: {وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين} (الأنعام:55)، وضع الظاهر {المجرمين} موضع المضمر؛ للتنصيص على أنهم المراد؛ ولإجراء وصف (الإجرام) عليهم.
قوله عز وجل: {فلا تأس على القوم الكافرين} (المائدة:68)، وضع الظاهر موضع الضمير؛ لبيان أنهم قوم تمكن الكفر منهم، وصار وصفاً لازما لهم.
والأمثلة القرآنية على هذا الأسلوب كثيرة، لا تخفى على من علم الأصل الذي تقرر.
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى