عابر سبيل
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
أماه.. دعوتي رأس مالي
رأفَت به أمه يومًا فقالت: يا بني.. هوِّن على نفسك..!! ما لي أراك كسيف البال، كثير الانشغال، بالنهار سارح، وبالليل ساهد قائم؟! ليلك بالنهار موصول، وغيابك علينا يطول، مشاغلك حفظناها، وهمومك عرفناها، فمصحفك ودعوتك وكتبك ومصلاك وأوراقك هم كل شواغلك.. متى أراك يا بنيَّ كثيرَ المال مثل فلان؟! ومرتاح البال مثل علان؟! أما لانشغالك مِن آخر؟!
فقال الداعية بأدب: أوَقصَّرتُ في حقكم يا أماه؟!
قالت: لا.. وأُشهد الله على ذلك، فأنت نوارة بيتنا، قُبلتك على يدي مطبوعة، وعطاياك لنا موصولة لا مقطوعة، وحب أهلنا لكَ لا يصل إليه غيرُك، أول زائر للمريض، وأول مواسٍ للجار والقريب والصديق، مواقفك مشهودة، وأخطاؤك معدودة..
لكنني أشفقت عليك يا بني!! هون عليك فالجنة تدرَك بأقل مما تفعل..!!مسح الداعية دمعةً نزلت سريعةً على الخد،
ثم قال لأمه برفق وأدب: وهل الراحة والسعادة إلا ما أنا فيه يا أماه؟! أنا يا أماه دعوتي رأس مالي لو خسرته أفلست، ولو قعدت عنه ضِعت!! أوَيُسعدك يا أماه منِّي أن يزيد مالي أم أن ينموَ عند الله أجري برَجلٍ نقلَه الله بي من الضلالة إلى الهداية؟! أتفرحين لي عندما أنام ملء جفني حتى تنتفخ عيناي فأستريح من الهم والأرق أم عندما تقلقني بالليل آهات اليتامى وأنَّات الأسارى فأقوم فأدعو لهم..!!
أتطيب نفسكِ يا أماه عندما ترينني في ثوب قشيب أم عندما أدفع بثمنه مسألة الذل عن طفل عراقي شريد أو مجاهد فلسطيني طريد..!!
أيبهج نفسك أن أكون مرموق الوظيفة منشغلاً بزيادة الراتب، واقتراب موعد الحافز، ثم أشتري بهذا وذاك طعامًا لذيذًا سرعان ما يذهب طعمُه بعد أول شربة ماء..؟! يا أماه.. الناس تنشد راحة السبت والأحد، لكنني أنشد راحة الأبد!!
ثم بكى فأبكى أمَّه.
فقالت: لكنني أشفق عليك يا بني.
فقال: لكنك غدًا تفرحين لي عندما تعرفين في وجهي نضرة النعيم، وأنا أُسقى من الرحيق المختوم.
قالت: يا بني.. لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، فهوِّن على نفسك.
فقال: وأين الوسع يا أماه؟! أجسامنا تنام حتى تكاد أن يصيبها الملل، وحظُّ الله غائب منها قبل النوم وبعده، وأموالنا التي ننفقها لله لا تساوي معشار ما ننفقها لغيره، والعقول أرهقها مستقبل الولد وزيجة البنت وملابس العيد وكلفة التعليم ومطالب البيت..
أين الوسع الذي يُبذل يا أماه وأحفاد محمد عالةٌ يتكففون الناس، وعصاةُ أمتنا أضعافُ أضعافُ طائعيها؟!
أين الوسع وأمتي مستباحة، وبنو قومي نيامٌ غفلى؟! لقد وهبَنا ربُّنا حياتَنا ثم ضننا عليه بأوقاتنا، ووهبناه الأموال ثم عدنا في هِبتنا وأخرناها للعيال.
قالت: ومتى تستريح؟!
قلت: عندما يستريح أعدائي!! عندما يكف أهل الباطل عن مكر الليل والنهار بأمتي، عندما يتوقفون عن بث الفساد، ونشر الفجور، ووفود التنصير، وإباحة الضلال..عندما يرفعون أيديَهم عن الأقصى، ويتركون العراق..
عندما تمتلئ المساجد وتفرغ السينمات والمسارح..
عندما يكثر على الألسنة القرآن كما كثر الغناء، عندما تفرح كشمير وتعتق الشيشان..
عندما تخاصِم البنوك الربا ويهجر أرضَنا الزنا والخنا..
عندما يستريح إبليس من إغوائه..
عندما نفتح التلفاز فلا نرى في أخبارنا إلا أرضًا زُرعت، ونفوسًا على الإسلام أقبلت، عندما تتفجر من قلوب المسلمين عيون الخير والهدى التي غطَّتها المعاصي وطمستها الفتن.
قالت: تموت ولا تنال منالك.
قلت: إنما نحن لبنات يُبنى بنا حائط العز وقلعة الدين، وشرفٌ لمثلي أن يموت وهو لبنةٌ من لبناتها حتى إذا ما بُنيت وشُيِّدت دخلها أحفادُنا بعز الإسلام فدعوا لنا.
قالت: كلامك كله ألغاز.. لكنه جميل!!
قلت: لكن المهم أن الله يعلمه، وعلى صفحات قلبي وروحي يقرؤه، أنا يا أماه إنسان أشتهي معانقة الحسان، وأكْل جميع الصنوف والألوان، والسهر مع الأصحاب والخلان، لكنني كلما عاجلتني شهوتي عطلتها بالأمل في وعد الله وخوَّفتها من وعيده فترتدع، أنا يا أماه إنسان لا حيوان، إنسان غُذي بالقرآن، فلم يعد كأي إنسان!!
أطرقت الأم أمام عزيمة فارسها المقدام، وروحه الوثَّابة، ونفسه الأبية فطبع على جبينها قبلةً،
وقال لها: أماه.. لا تُتعبي نفسك، فإن لي نفسًا لا تقنع إلا بالجنة والخلافة والأقصى، ولن تستريح إلا بعدهم أو تموت دونهم
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى