مسلم
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
وأول طريق للحب، وأعظم وسيلة للوصول، وأصدق برهان على الإجلال، أن يدلف
إلى أبوابه، ويمرغ الجبين في محرابه، وينطرح على أعتابه، يملأ قلبه خشوعًا،
ويحني ظهره خضوعًا، ويسجد بالوجه للذي شَقَّ سمعه وبصره، فكانت الصلاة
التي هي صلة العبد بربه، والمعبود بخالقه، والحبيب بحبيبه ..
قال -صلى الله عليه وسلم-: "بُنِىَ
الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ
وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَإِقَامِ الصَّلاَةِ،
وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَحَجِّ الْبَيْت".
إن المتأمل لأركان هذا الدين وترتيبها لَيَجد في ذلك أسرارًا عظيمة, وحكمًا
قويمة، وإعجازًا مبهرًا، وهذه إشارات سريعة، لبعض تلك الأسرار، وهاتيك
الحكم.
فأول ركن فيه هو شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فهذا هو
الأساس المتين، والركن الركين، والحصن الحصين؛ فهو الأصل الذي خَلق الله
الخَلْق لأجله، وبعث الرسل، وأنزل الكتب،(وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء:25].
إنه توحيده -جل وعلا-، وإفراده بالعبادة، وهذه الكلمة العظيمة تحمل في طياتها من الجمال والجلال ما لا حد له، (وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [آل عمران:62]، (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) [الأنعام:102].
ولقد جاءت الآيات القرآنية مؤكدة هذا المعنى العظيم، ففي كتاب الله تعالى
مئات الآيات التي تدعو إلى توحيد الله تعالى وإفراده بالعبادة، والبعد عن
الشرك به -جل وعلا-، إضافة إلى الآيات الكونية، والبراهين العقلية التي كل
شيء منها يشهد بأنه -جل وعلا- الواحد الأحد.
وشهادة أن لا إله إلا الله هي أساس الدين، وعنوانه، وركن الأركان، وهي كلمة
عظيمة القدر، جليلة الشأن، وهي مفتاح الجنة؛ وقد وردت أحاديث كثيرة في
فضائلها، وعظيم شأنها، قال -صلى الله عليه وسلم- : "قال
موسى -عليه السلام- يا رب! علمني شيئاً أذكرك به، وأدعوك به. قال: قل يا
موسى لا إله إلا الله. فقال: يا ربّ! كل عبادك يقول هذا! قال: قل لا إله
إلا الله. فقال لا إله إلا أنت. قال: إنما أريد شيئاً تـخصني به. فقال: يا
موسى، لو أن السماوات السبع والأرضين السبع في كفة، ولا إله إلا الله في
كفة، مالت بهن لا إله إلا الله"؛ و"من قال لا إله إلا الله موقنًا بها من قلبه دخل الجنة".
وقد قرن الله الشهادة بتوحيده بشهادة أن محمدًا رسول الله؛ لأنه -صلى الله
عليه وسلم- هو الهادي إلى عبادته، والدال على رضوانه، والمبلِّغ لرسالته،
ومن لم يتعرف على المرسِل من خلال رسوله الذي أرسله وأيده بالحجج
والبراهين، وجعل معه الحكم والكتاب والنبوة، فأنَّى له أن يهتدي إلى هذا
الخالق العظيم؟ وإلى جنته ورضوانه؟.
ومن أعظم دلائل الصدق وبراهين التوحيد والحب أن يتبع رسوله، وأن يحب حبيبه، (قُلْ
إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ
وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [آل عمران:31]، ومن أطاع الرسول فقد أطاع الله، ومن عصاه فقد عصا الله.
ثم تأتي بقية أركان الإسلام في ترتيبها العميق، وتناسقها الوثيق، لتؤكد هذا
التوحيد، والحب، والخضوع والاتباع؛ تأتي لتُقَرِّب هذا الإنسان الموحِّد
المتبع من حبيبه، وتحبِّبه إلى خالقه، وترفعه إلى آفاق الجمال والجلال،
وتؤهله للفوز بجنته وحبه ورضوانه.
وأول طريق للحب، وأعظم وسيلة للوصول، وأصدق برهان على الإجلال، أن يدلف إلى
أبوابه، ويمرغ الجبين في محرابه، وينطرح على أعتابه، يملأ قلبه خشوعًا،
ويحني ظهره خضوعًا، ويسجد بالوجه للذي شَقَّ سمعه وبصره، فكانت الصلاة التي
هي صلة العبد بربه، والمعبود بخالقه، والحبيب بحبيبه.
إنها المناجاة، والتكبير والتسبيح، والإخبات والإجلال، والتوسل والانطراح؛
وهي -مع ما فيها من توحيد وتقديس وإجلال ومحبة ورفعة للمرء- بها تغفر
الذنوب، وتكفَّر الخطايا، وتُمحى السيئات، (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) [هود:114].
وهي عماد الدين، وقرة عيون الموحدين، ولا حظَّ في الإسلام لمن تركها؛ ومَن
حافظ عليها بوضوئها وركوعها وسجودها كان على الله عهد أن يدخله الجنة.
وبعد هذا التوحيد، وهذا الإجلال، وهذه التزكية، وهذا الأداء لِحَقِّ
الواحدِ الأحَد، يأتي الركن الثالث؛ أداءً لحقوق العباد، وقيامًا بواجب
الأخوة الدينية وهو الزكاة؛ وقد جاءت متوسطة لهذه الأركان، جاءت لتكون مع
ذلك تزكية للنفس، وتهذيبًا للروح، وتعويدًا على كريم الخلال، وجميل الخصال.
فكما أكرمك ربك، وجاد عليك، وآتاك من فضله، يجب أن تكون كريمًا، معطاءً،
باذلاً للخير والمعروف، وما تبذله لأخيك فهو بذل لربك، وعطاء لخالقك، يرفع
به درجاتك، ويعظِّم به حسناتك، فَيُعَوِّدك على البذل مما تملك، والإنفاق
مما تحب.
وقد جاءت الزكاة مقرونة بالصلاة في آيات كثيرة: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) [البقرة:43، 83، 110؛ النساء:77؛ النور:56؛ المزمل:20]؛ بل جاءت في أول سورة البقرة في وصف المهتدين بأنهم (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) [البقرة:3].
ولقد كثرت الآيات المرغِّبة في فضل الزكاة والبذل في سبيل الله، قال تعالى: (مَثَلُ
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ
حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ
وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [البقرة:261]، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ) [البقرة:267].
فالبذل والكرم والإنفاق صنعة ربانية، وسمة إلهية، والله تعالى أكرم
الأكرمين، وجاء بنبيه ليكون أكرم الناس، وأجودهم؛ والواجب على متَّبِعيه
ومُحِبِّيه أن يهتدوا بهداه.
وكما امتحنك الله بالبذل مما تحب في الزكاة، يأتي بعدها الامتحان بالامتناع
عما تحب، والإمساك عما ترغب، وذلك بالصيام عن المأكل والمشرب؛ وقبل ذلك
صيام النفس، وتهذيب الروح، وإمساك الجوارح؛ فيعيش المسلم شهرًا كاملاً يزكي
فيه نفسه، ويهذِّب روحه، ويصقل مشاعره: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة:183]؛ "من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه".
وكأن المسلم إذا وحَّدَ ربه، وآمن برسوله، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة، وصام
رمضان، أصبح مؤهلاً بذلك إلى ضيافة عظيمة، ودعوة كريمة، ومنحة جليلة،
فيدعوه ربه إلى رحابه، ويناديه إلى أحب البقاع إليه؛ ليكرِّمَه أعظم
الإكرام، ويجود عليه بأوسع الجود، ويدعوه إلى ضيافة يعود بعدها كيوم ولدته
أمه.
ولكنه -جل وعلا- يتعطَّف على المدعوين، ويترفَّق بالزائرين، فيعذر من لم
يستطع إجابة الدعوة، ويقبل عذر من حالت ظروفه عن الحضور، ويسجله في صحائف
الحاضرين، وسجلات الزائرين، بِنِيَّتِهِ الصادقة، ويجعل له عوضًا عن هذه
الدعوة الجليلة بدائل أخرى ينال فيها حظًّا كبيرًا من الأجر والمغفرة،
كصيام يوم عرفة، وصلاة العيد، والتقرب بالأضحية.
وكل هذه الأركان عبارة عن مدارس ربانية، ومناهل إيمانية، ومراتع تربوية،
تُهَذَّبُ فيها النفوس، وترتقي الأرواح، وتتعود على جميل الخلال، وكريم
الخصال، وروائع الأخلاق؛ فيصبح المسلم بالقيام بها مثالا رائعًا لكل معاني
السمو والرفعة، والخلُق والإحسان والمثل.
إن أركان هذا الدين -بروعتها وجمالها وجلالها- ليست عَنَتاً أو مشقَّةً أو
حَرَجاً، بل هي أوامر سهلة، وشرائع يسيرة، وفرائض سمحة، فيها من فنون
الخير، وصنوف الفضل، وأبواب المغفرة، وسبل العطاء وراحة النفس، وإرواء
الضمائر، ما لا حد له، ولا نهاية لآماده.
جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّه -صلى الله عليه وسلم- حَتَّى دَنَا
مِنْه، فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنِ الإِسْلاَمِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
-صلى الله عليه وسلم-: "خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِى الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ". فَقَالَ: هَلْ عَلَىَّ غَيْرُهُنَّ؟ قَالَ: "لاَ. إِلاَّ أَنْ تَطَّوَّعَ. وَصِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ". فَقَالَ: هَلْ عَلَىَّ غَيْرُهُ؟ فَقَالَ: "لاَ. إِلاَّ أَنْ تَطَّوَّعَ." وَذَكَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الزَّكَاةَ، فَقَالَ: هَلْ عَلَىَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: "لاَ. إِلاَّ أَنْ تَطَّوَّعَ".
قَالَ: فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ: وَاللَّهِ لاَ أَزِيدُ عَلَى
هَذَا وَلاَ أَنْقُصُ مِنْهُ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّه -صلى الله عليه
وسلم-: "أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ" . [مسلم1/31].
فعلى المسلم أن يحرص على أركان دينه، وفرائض ربه، وعُمُد إسلامه؛ وأن يمضي
في مسيرته الإيمانية مع ربه، فيحافظ على الشرائع، ويلتزم المنهج، ويمضي على
الصراط المستقيم، للفوز برضوان الغفور الرحيم.
إلى أبوابه، ويمرغ الجبين في محرابه، وينطرح على أعتابه، يملأ قلبه خشوعًا،
ويحني ظهره خضوعًا، ويسجد بالوجه للذي شَقَّ سمعه وبصره، فكانت الصلاة
التي هي صلة العبد بربه، والمعبود بخالقه، والحبيب بحبيبه ..
قال -صلى الله عليه وسلم-: "بُنِىَ
الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ
وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَإِقَامِ الصَّلاَةِ،
وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَحَجِّ الْبَيْت".
إن المتأمل لأركان هذا الدين وترتيبها لَيَجد في ذلك أسرارًا عظيمة, وحكمًا
قويمة، وإعجازًا مبهرًا، وهذه إشارات سريعة، لبعض تلك الأسرار، وهاتيك
الحكم.
فأول ركن فيه هو شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فهذا هو
الأساس المتين، والركن الركين، والحصن الحصين؛ فهو الأصل الذي خَلق الله
الخَلْق لأجله، وبعث الرسل، وأنزل الكتب،(وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء:25].
إنه توحيده -جل وعلا-، وإفراده بالعبادة، وهذه الكلمة العظيمة تحمل في طياتها من الجمال والجلال ما لا حد له، (وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [آل عمران:62]، (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) [الأنعام:102].
ولقد جاءت الآيات القرآنية مؤكدة هذا المعنى العظيم، ففي كتاب الله تعالى
مئات الآيات التي تدعو إلى توحيد الله تعالى وإفراده بالعبادة، والبعد عن
الشرك به -جل وعلا-، إضافة إلى الآيات الكونية، والبراهين العقلية التي كل
شيء منها يشهد بأنه -جل وعلا- الواحد الأحد.
وشهادة أن لا إله إلا الله هي أساس الدين، وعنوانه، وركن الأركان، وهي كلمة
عظيمة القدر، جليلة الشأن، وهي مفتاح الجنة؛ وقد وردت أحاديث كثيرة في
فضائلها، وعظيم شأنها، قال -صلى الله عليه وسلم- : "قال
موسى -عليه السلام- يا رب! علمني شيئاً أذكرك به، وأدعوك به. قال: قل يا
موسى لا إله إلا الله. فقال: يا ربّ! كل عبادك يقول هذا! قال: قل لا إله
إلا الله. فقال لا إله إلا أنت. قال: إنما أريد شيئاً تـخصني به. فقال: يا
موسى، لو أن السماوات السبع والأرضين السبع في كفة، ولا إله إلا الله في
كفة، مالت بهن لا إله إلا الله"؛ و"من قال لا إله إلا الله موقنًا بها من قلبه دخل الجنة".
وقد قرن الله الشهادة بتوحيده بشهادة أن محمدًا رسول الله؛ لأنه -صلى الله
عليه وسلم- هو الهادي إلى عبادته، والدال على رضوانه، والمبلِّغ لرسالته،
ومن لم يتعرف على المرسِل من خلال رسوله الذي أرسله وأيده بالحجج
والبراهين، وجعل معه الحكم والكتاب والنبوة، فأنَّى له أن يهتدي إلى هذا
الخالق العظيم؟ وإلى جنته ورضوانه؟.
ومن أعظم دلائل الصدق وبراهين التوحيد والحب أن يتبع رسوله، وأن يحب حبيبه، (قُلْ
إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ
وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [آل عمران:31]، ومن أطاع الرسول فقد أطاع الله، ومن عصاه فقد عصا الله.
ثم تأتي بقية أركان الإسلام في ترتيبها العميق، وتناسقها الوثيق، لتؤكد هذا
التوحيد، والحب، والخضوع والاتباع؛ تأتي لتُقَرِّب هذا الإنسان الموحِّد
المتبع من حبيبه، وتحبِّبه إلى خالقه، وترفعه إلى آفاق الجمال والجلال،
وتؤهله للفوز بجنته وحبه ورضوانه.
وأول طريق للحب، وأعظم وسيلة للوصول، وأصدق برهان على الإجلال، أن يدلف إلى
أبوابه، ويمرغ الجبين في محرابه، وينطرح على أعتابه، يملأ قلبه خشوعًا،
ويحني ظهره خضوعًا، ويسجد بالوجه للذي شَقَّ سمعه وبصره، فكانت الصلاة التي
هي صلة العبد بربه، والمعبود بخالقه، والحبيب بحبيبه.
إنها المناجاة، والتكبير والتسبيح، والإخبات والإجلال، والتوسل والانطراح؛
وهي -مع ما فيها من توحيد وتقديس وإجلال ومحبة ورفعة للمرء- بها تغفر
الذنوب، وتكفَّر الخطايا، وتُمحى السيئات، (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) [هود:114].
وهي عماد الدين، وقرة عيون الموحدين، ولا حظَّ في الإسلام لمن تركها؛ ومَن
حافظ عليها بوضوئها وركوعها وسجودها كان على الله عهد أن يدخله الجنة.
وبعد هذا التوحيد، وهذا الإجلال، وهذه التزكية، وهذا الأداء لِحَقِّ
الواحدِ الأحَد، يأتي الركن الثالث؛ أداءً لحقوق العباد، وقيامًا بواجب
الأخوة الدينية وهو الزكاة؛ وقد جاءت متوسطة لهذه الأركان، جاءت لتكون مع
ذلك تزكية للنفس، وتهذيبًا للروح، وتعويدًا على كريم الخلال، وجميل الخصال.
فكما أكرمك ربك، وجاد عليك، وآتاك من فضله، يجب أن تكون كريمًا، معطاءً،
باذلاً للخير والمعروف، وما تبذله لأخيك فهو بذل لربك، وعطاء لخالقك، يرفع
به درجاتك، ويعظِّم به حسناتك، فَيُعَوِّدك على البذل مما تملك، والإنفاق
مما تحب.
وقد جاءت الزكاة مقرونة بالصلاة في آيات كثيرة: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) [البقرة:43، 83، 110؛ النساء:77؛ النور:56؛ المزمل:20]؛ بل جاءت في أول سورة البقرة في وصف المهتدين بأنهم (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) [البقرة:3].
ولقد كثرت الآيات المرغِّبة في فضل الزكاة والبذل في سبيل الله، قال تعالى: (مَثَلُ
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ
حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ
وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [البقرة:261]، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ) [البقرة:267].
فالبذل والكرم والإنفاق صنعة ربانية، وسمة إلهية، والله تعالى أكرم
الأكرمين، وجاء بنبيه ليكون أكرم الناس، وأجودهم؛ والواجب على متَّبِعيه
ومُحِبِّيه أن يهتدوا بهداه.
وكما امتحنك الله بالبذل مما تحب في الزكاة، يأتي بعدها الامتحان بالامتناع
عما تحب، والإمساك عما ترغب، وذلك بالصيام عن المأكل والمشرب؛ وقبل ذلك
صيام النفس، وتهذيب الروح، وإمساك الجوارح؛ فيعيش المسلم شهرًا كاملاً يزكي
فيه نفسه، ويهذِّب روحه، ويصقل مشاعره: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة:183]؛ "من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه".
وكأن المسلم إذا وحَّدَ ربه، وآمن برسوله، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة، وصام
رمضان، أصبح مؤهلاً بذلك إلى ضيافة عظيمة، ودعوة كريمة، ومنحة جليلة،
فيدعوه ربه إلى رحابه، ويناديه إلى أحب البقاع إليه؛ ليكرِّمَه أعظم
الإكرام، ويجود عليه بأوسع الجود، ويدعوه إلى ضيافة يعود بعدها كيوم ولدته
أمه.
ولكنه -جل وعلا- يتعطَّف على المدعوين، ويترفَّق بالزائرين، فيعذر من لم
يستطع إجابة الدعوة، ويقبل عذر من حالت ظروفه عن الحضور، ويسجله في صحائف
الحاضرين، وسجلات الزائرين، بِنِيَّتِهِ الصادقة، ويجعل له عوضًا عن هذه
الدعوة الجليلة بدائل أخرى ينال فيها حظًّا كبيرًا من الأجر والمغفرة،
كصيام يوم عرفة، وصلاة العيد، والتقرب بالأضحية.
وكل هذه الأركان عبارة عن مدارس ربانية، ومناهل إيمانية، ومراتع تربوية،
تُهَذَّبُ فيها النفوس، وترتقي الأرواح، وتتعود على جميل الخلال، وكريم
الخصال، وروائع الأخلاق؛ فيصبح المسلم بالقيام بها مثالا رائعًا لكل معاني
السمو والرفعة، والخلُق والإحسان والمثل.
إن أركان هذا الدين -بروعتها وجمالها وجلالها- ليست عَنَتاً أو مشقَّةً أو
حَرَجاً، بل هي أوامر سهلة، وشرائع يسيرة، وفرائض سمحة، فيها من فنون
الخير، وصنوف الفضل، وأبواب المغفرة، وسبل العطاء وراحة النفس، وإرواء
الضمائر، ما لا حد له، ولا نهاية لآماده.
جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّه -صلى الله عليه وسلم- حَتَّى دَنَا
مِنْه، فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنِ الإِسْلاَمِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
-صلى الله عليه وسلم-: "خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِى الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ". فَقَالَ: هَلْ عَلَىَّ غَيْرُهُنَّ؟ قَالَ: "لاَ. إِلاَّ أَنْ تَطَّوَّعَ. وَصِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ". فَقَالَ: هَلْ عَلَىَّ غَيْرُهُ؟ فَقَالَ: "لاَ. إِلاَّ أَنْ تَطَّوَّعَ." وَذَكَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الزَّكَاةَ، فَقَالَ: هَلْ عَلَىَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: "لاَ. إِلاَّ أَنْ تَطَّوَّعَ".
قَالَ: فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ: وَاللَّهِ لاَ أَزِيدُ عَلَى
هَذَا وَلاَ أَنْقُصُ مِنْهُ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّه -صلى الله عليه
وسلم-: "أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ" . [مسلم1/31].
فعلى المسلم أن يحرص على أركان دينه، وفرائض ربه، وعُمُد إسلامه؛ وأن يمضي
في مسيرته الإيمانية مع ربه، فيحافظ على الشرائع، ويلتزم المنهج، ويمضي على
الصراط المستقيم، للفوز برضوان الغفور الرحيم.
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى