بنت الاسلام
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
وأخبر صلى الله عليه وسلم أن الشرك أكبر الكبائر، وأعظم الذنوب؛ فمن
أشرك بالله تعالى لا يُقبَل له عمل، ولا يُقام له وزن، ولا تنفعُه طاعة،
ولا تقرِّبه حسنة؛ فالتوحيد هو السبب الأول لنيل مغفرة المولى ورضوانه،
والفوز بنعيمه وجنانه، ومَن جاء به فقد جاء بأعظم أسباب المغفرة، مَن جاء
بالتوحيد، ومعه ملء الأرض خطايا، لقيه الله بقرابها مغفرة؛ فهو تعالى يغفر
ما دون الشرك لمن يشاء، ومن عُذِّبَ مِن الموحِّدين فإنه لا يخلد في النار
..
لفت انتباهي، وأثار اهتمامي أثرٌ عظيم، وكلامٌ بديع، للصحابي الجليل عبد
الله بن مسعود -رضي الله عنه-، وذلك أثناء قراءتي لتفسير سورة النساء، حيث
يذكر المفسرون في أول تفسيرهم لهذه السورة هذا الأثر المروي عن ابن مسعود،
والذي قال فيه: إن في سورة النساء لَخَمْسَ آياتٍ ما يسرُّني أنِّي لي بها
الدنيا وما فيها:
قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء:40].
وقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ
أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ
يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا) [النساء:48].
وقوله تعالى: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا) [النساء:31].
وقوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ
رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا
أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ
الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا) [النساء:64].
وقوله تعالى: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا) [النساء:110].
تأملت هذه الآيات التي شغف بها ابن مسعود، وفرح بها قلبه، وأسعد بها لبه،
وأقسم أنها أحب إليه من الدنيا وما فيها، فوجدت أن ذلك الكلام لم يصدر من
فراغ، ولم يأت بالمصادفة. كيف وهو من الإمام القارئ، العلَّامة المحدِّث،
الفقيه، لقد سبر غور هذه الآيات، فعرف مكنونها، واستهواه مضمونها، إنها
آيات تفيض بالرحمة، وتتدفق بالعطف، وتبين عن الكرم الرباني، وتعلن عن الجود
الإلهي، تملأ الأفئدة رضا، والأنفس أملا، والقلوب رجاء؛ عذوبة ترويك من
ماء البيان، ورقة تستروح منها نسيم الجنان، ونور تبصر به مرآة الإيمان،
ووجه الأمان.
لن أطيل عليكم في المقدمة، ولكني أدعكم مع هذه الآيات العظيمات لتقرؤوها،
وتتدبروها، وتتأملوها، مع إشارات موجزة لبعض ما اشتملت عليه:
الآية الأولى:
(إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء:40].
فالله تعالى لا يظلم عباده يوم القيامة، ولا حتى مثقال ذرة، ولا حبة من خردل، بل يوفيها ويضاعفها لهم إن كانت حسنة، كما قال تعالى: (وَنَضَعُ
الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ
شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا
وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) [الأنبياء:47].
وقال تعالى مخبرا عن لقمان أنه قال: (يَا
بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي
صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ
إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) [لقمان:16]. وقال تعالى: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة:7-8].
كان السلف يقولون الذرة هي البعوضة، وقيل هي الهباءة التي ترى في ضوء
الشمس، وقيل غير ذلك، وكان ذلك أصغر ما يتصورونه، فجاء العلم الحديث ليثبت
أن الذرة شيء محدد يحمل هذا الاسم، وهو أصغر بكثير من الهباءة التي ترى في
ضوء الشمس، فالهباءة ترى بالعين المجردة، أما الذرة فلا تُرَى أبدا؛ حتى
بأعظم المجاهر.
وفي حديث الشفاعة الطويل، يقول الله تعالى: "ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجوه من النار"، وفي لفظ آخر "أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان فأخرجوه من النار فيخرجون خلقا كثيرا" رواه الشيخان. فسبحانه ما أعظمه وأعدله وأحكمه! (وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء:40]
من لطفه وفضله وجوده، أنه يضاعف الحسنات ولا يضاعف السيئات، يقول تعالى: (مَنْ
جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ
بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [الأنعام:160].
واستمع معي إلى هذا الحديث الرائع الماتع، لترَ الجود الإلهي، والكرم الرباني، يقول -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن ربه: "إن
الله عز وجل كتب الحسنات والسيئات، ثم بيَّن ذلك، فمَن هَمَّ بحسَنَةٍ فلم
يعملْها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن همَّ بها فعملها كتبها الله عنده
عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، وإن همَّ بسيئةٍ فلم يعملها
كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن هَمَّ بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة
أو محاها الله، ولن يهلك على الله إلا هالك" رواه مسلم.
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "كل عمل ابن آدم يُضاعَف، الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف" أخرجه مسلم. وجاءه رجل بناقة مخطومة، فقال: يا رسول الله! هذه في سبيل الله. فقال -صلى الله عليه وسلم-: "لك بها يوم القيامة سبع مئة ناقة" رواه مسلم.
بعد هذه الآية مباشرة يأتي قوله تعالى: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا)
[النساء:41]، وهي الآية التي بكى عندها الرسول -صلى الله عليه وسلم- حينما
كان يقرأ عليه ابن مسعود -رضي الله عنه- بعض الآيات من سورة النساء.
الآية الثانية:
قوله تعالى: وقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا
يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ
وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا) [النساء:48]، الشرك هو الذنب الأعظم، والمعصية الكبرى، قال تعالى: (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ) [المائدة:72]، وقال: (وَمَنْ
يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ
الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ)
[الحج:31]، وأخبر -صلى الله عليه وسلم- أن الشرك أكبر الكبائر، وأعظم
الذنوب؛ فمن أشرك بالله تعالى لا يُقبَل له عمل، ولا يُقَام له وزن، ولا
تنفعه طاعة، ولا تقرِّبه حسنة؛ فالتوحيد هو السبب الأول لنيل مغفرة المولى
ورضوانه، والفوز بنعيمه وجنانه، ومَن جاء به فقد جاء بأعظم أسباب المغفرة،
مَن جاء بالتوحيد، ومعه ملء الأرض خطايا، لقيه الله بقرابها مغفرة؛ فهو
تعالى يغفر ما دون الشرك لمن يشاء، ومن عُذِّبَ مِن الموحِّدين فإنه لا
يخلد في النار.
والذي يتأمل القرآن والسنة، يجد أن هنالك ربطا جميلا بين الأمر بالتوحيد وبين طلب المغفرة، وانظر إلى قوله تعالى: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) [محمد:19]، وفي حديث سيد الاستغفار أول كلماته: "اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك..." رواه البخاري.
الآية الثالثة :
قوله تعالى: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا).
إذا اجتنبتم كبائر الآثام التي نهيتم عنها نكفر عنكم صغائر الذنوب،
وندخلكم الجنة. رُوِيَ عن أبي هريرة وأبي سعيد أنهما قالا: خطبنا رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- يوما فقال: "والذي نفسي بيده!" -ثلاث
مرات- ثم أكبَّ، فأكبَّ كلُّ رجل منا يبكي لا ندري على ماذا حلف عليه، ثم
رفع رأسه وفي وجهه البشر، فكان أحبَّ إلينا من حمر النعم، فقال -صلى الله
عليه وسلم-: "ما من عبد يصلي الصلوات الخمس، ويصوم رمضان، ويُخرج الزكاة، ويجتنب الكبائر السبع، إلا فتحت له أبواب الجنة، ثم قيل له ادخل بسلام" رواه النسائي.
وقد فسر -صلى الله عليه وسلم- هذه السبع في حديث آخر فقال: "اجتنبوا السبع الموبقات"، قيل: يا رسول الله، ما هن؟ قال: "الشرك
بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال
اليتيم، والتَّوَلِّي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات" أخرجه البخاري.
والكبائر غير هذه السبع كثيرة جدا، وقد بينت ذلك النصوص الأخرى. قال -صلى الله عليه وسلم: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟" قلنا: بلى يا رسول الله، قال: "الإشراك بالله، وعقوق الوالدين"، وكان متكئا فجلس، قال: "ألا وشهادة الزور، ألا وقول الزور" فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت. متفق عليه.
وقد تعددت آراء العلماء في تعديد الكبائر، فابن عباس سئل: ما السبع
الكبائر؟ فقال: هي إلى السبعين أقرب منها إلى السبع. وقال -في رواية أخرى-:
الكبائر كل ما وعد الله عليه النار. وقيل: الكبائر هي كل معصية موجبة
للحد. فمن أعرض عن الكبائر، وحفظ نفسه منها، فقد ضمن الله له غفران زلاته،
وتكفير سيئاته.
يقول -صلى الله عليه وسلم-: "الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهن؛ إذا اجتنبت الكبائر" رواه مسلم.
وقوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ
رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا
أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ
الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا) [النساء:64]. وقوله تعالى: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا)
[النساء:110]. تتجلى في هاتين الآيتين سعة رحمة الله تعالى، وجميل عفوه،
وعظيم مغفرته، فمن أذنب ذنبا صغيرا كان أو كبيرا، ثم استغفر الله، غفر له،
ولو كانت ذنوبه أعظم من السموات والأرض والجبال. فالمؤمن من سماته أنه إذا
وقع في الذنب، سرعان ما يتذكر ويندم ويخاف. قال تعالى: (وَالَّذِينَ
إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ
فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ
وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [آل عمران:135].
وقد أمر الله تعالى بالاستغفار في آيات كثيرة من كتابه، ولقد كان -صلى الله
عليه وسلم- وهو المغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، يقول: "إني لاستغفر الله في اليوم مائة مرة" أخرجه مسلم.
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "قال الله تعالى:
يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرتُ لك على ما كان منك ولا أبالي، يا
ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتني، غفرت لك ولا أبالي، يا
ابن آدم، إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا
لأتيتك بقرابها مغفرة" رواه الترمذي.
وقد علمنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحاديث عظيمة، فأين نحن منها؟
وأين أبناؤنا وبناتنا منها؟! هل علمناهم إياها، وعرفناهم معناها؟ بدلا من
الكم الزائد، والحشد الهائل من المحفوظات المتدنية، والنصوص الفارغة؟.
من قال: "أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه غفرت ذنوبه وإن كان قد فر من الزحف" رواه أبو داود. وأين نحن من سيد الاستغفار؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: "سيد
الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا
عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شَرِّ ما صنَعْتُ، أبوءُ
لك بنعمتك عليَّ، وأبوء بذنبي، فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. من
قاله في النهار موقنا به، فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة، ومن
قاله من الليل وهو موقن به، فمات قبل أن يصبح، فهو من أهل الجنة" أخرجه البخاري.
أشرك بالله تعالى لا يُقبَل له عمل، ولا يُقام له وزن، ولا تنفعُه طاعة،
ولا تقرِّبه حسنة؛ فالتوحيد هو السبب الأول لنيل مغفرة المولى ورضوانه،
والفوز بنعيمه وجنانه، ومَن جاء به فقد جاء بأعظم أسباب المغفرة، مَن جاء
بالتوحيد، ومعه ملء الأرض خطايا، لقيه الله بقرابها مغفرة؛ فهو تعالى يغفر
ما دون الشرك لمن يشاء، ومن عُذِّبَ مِن الموحِّدين فإنه لا يخلد في النار
..
لفت انتباهي، وأثار اهتمامي أثرٌ عظيم، وكلامٌ بديع، للصحابي الجليل عبد
الله بن مسعود -رضي الله عنه-، وذلك أثناء قراءتي لتفسير سورة النساء، حيث
يذكر المفسرون في أول تفسيرهم لهذه السورة هذا الأثر المروي عن ابن مسعود،
والذي قال فيه: إن في سورة النساء لَخَمْسَ آياتٍ ما يسرُّني أنِّي لي بها
الدنيا وما فيها:
قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء:40].
وقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ
أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ
يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا) [النساء:48].
وقوله تعالى: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا) [النساء:31].
وقوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ
رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا
أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ
الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا) [النساء:64].
وقوله تعالى: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا) [النساء:110].
تأملت هذه الآيات التي شغف بها ابن مسعود، وفرح بها قلبه، وأسعد بها لبه،
وأقسم أنها أحب إليه من الدنيا وما فيها، فوجدت أن ذلك الكلام لم يصدر من
فراغ، ولم يأت بالمصادفة. كيف وهو من الإمام القارئ، العلَّامة المحدِّث،
الفقيه، لقد سبر غور هذه الآيات، فعرف مكنونها، واستهواه مضمونها، إنها
آيات تفيض بالرحمة، وتتدفق بالعطف، وتبين عن الكرم الرباني، وتعلن عن الجود
الإلهي، تملأ الأفئدة رضا، والأنفس أملا، والقلوب رجاء؛ عذوبة ترويك من
ماء البيان، ورقة تستروح منها نسيم الجنان، ونور تبصر به مرآة الإيمان،
ووجه الأمان.
لن أطيل عليكم في المقدمة، ولكني أدعكم مع هذه الآيات العظيمات لتقرؤوها،
وتتدبروها، وتتأملوها، مع إشارات موجزة لبعض ما اشتملت عليه:
الآية الأولى:
(إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء:40].
فالله تعالى لا يظلم عباده يوم القيامة، ولا حتى مثقال ذرة، ولا حبة من خردل، بل يوفيها ويضاعفها لهم إن كانت حسنة، كما قال تعالى: (وَنَضَعُ
الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ
شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا
وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) [الأنبياء:47].
وقال تعالى مخبرا عن لقمان أنه قال: (يَا
بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي
صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ
إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) [لقمان:16]. وقال تعالى: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة:7-8].
كان السلف يقولون الذرة هي البعوضة، وقيل هي الهباءة التي ترى في ضوء
الشمس، وقيل غير ذلك، وكان ذلك أصغر ما يتصورونه، فجاء العلم الحديث ليثبت
أن الذرة شيء محدد يحمل هذا الاسم، وهو أصغر بكثير من الهباءة التي ترى في
ضوء الشمس، فالهباءة ترى بالعين المجردة، أما الذرة فلا تُرَى أبدا؛ حتى
بأعظم المجاهر.
وفي حديث الشفاعة الطويل، يقول الله تعالى: "ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجوه من النار"، وفي لفظ آخر "أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان فأخرجوه من النار فيخرجون خلقا كثيرا" رواه الشيخان. فسبحانه ما أعظمه وأعدله وأحكمه! (وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء:40]
من لطفه وفضله وجوده، أنه يضاعف الحسنات ولا يضاعف السيئات، يقول تعالى: (مَنْ
جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ
بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [الأنعام:160].
واستمع معي إلى هذا الحديث الرائع الماتع، لترَ الجود الإلهي، والكرم الرباني، يقول -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن ربه: "إن
الله عز وجل كتب الحسنات والسيئات، ثم بيَّن ذلك، فمَن هَمَّ بحسَنَةٍ فلم
يعملْها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن همَّ بها فعملها كتبها الله عنده
عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، وإن همَّ بسيئةٍ فلم يعملها
كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن هَمَّ بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة
أو محاها الله، ولن يهلك على الله إلا هالك" رواه مسلم.
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "كل عمل ابن آدم يُضاعَف، الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف" أخرجه مسلم. وجاءه رجل بناقة مخطومة، فقال: يا رسول الله! هذه في سبيل الله. فقال -صلى الله عليه وسلم-: "لك بها يوم القيامة سبع مئة ناقة" رواه مسلم.
بعد هذه الآية مباشرة يأتي قوله تعالى: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا)
[النساء:41]، وهي الآية التي بكى عندها الرسول -صلى الله عليه وسلم- حينما
كان يقرأ عليه ابن مسعود -رضي الله عنه- بعض الآيات من سورة النساء.
الآية الثانية:
قوله تعالى: وقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا
يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ
وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا) [النساء:48]، الشرك هو الذنب الأعظم، والمعصية الكبرى، قال تعالى: (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ) [المائدة:72]، وقال: (وَمَنْ
يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ
الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ)
[الحج:31]، وأخبر -صلى الله عليه وسلم- أن الشرك أكبر الكبائر، وأعظم
الذنوب؛ فمن أشرك بالله تعالى لا يُقبَل له عمل، ولا يُقَام له وزن، ولا
تنفعه طاعة، ولا تقرِّبه حسنة؛ فالتوحيد هو السبب الأول لنيل مغفرة المولى
ورضوانه، والفوز بنعيمه وجنانه، ومَن جاء به فقد جاء بأعظم أسباب المغفرة،
مَن جاء بالتوحيد، ومعه ملء الأرض خطايا، لقيه الله بقرابها مغفرة؛ فهو
تعالى يغفر ما دون الشرك لمن يشاء، ومن عُذِّبَ مِن الموحِّدين فإنه لا
يخلد في النار.
والذي يتأمل القرآن والسنة، يجد أن هنالك ربطا جميلا بين الأمر بالتوحيد وبين طلب المغفرة، وانظر إلى قوله تعالى: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) [محمد:19]، وفي حديث سيد الاستغفار أول كلماته: "اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك..." رواه البخاري.
الآية الثالثة :
قوله تعالى: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا).
إذا اجتنبتم كبائر الآثام التي نهيتم عنها نكفر عنكم صغائر الذنوب،
وندخلكم الجنة. رُوِيَ عن أبي هريرة وأبي سعيد أنهما قالا: خطبنا رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- يوما فقال: "والذي نفسي بيده!" -ثلاث
مرات- ثم أكبَّ، فأكبَّ كلُّ رجل منا يبكي لا ندري على ماذا حلف عليه، ثم
رفع رأسه وفي وجهه البشر، فكان أحبَّ إلينا من حمر النعم، فقال -صلى الله
عليه وسلم-: "ما من عبد يصلي الصلوات الخمس، ويصوم رمضان، ويُخرج الزكاة، ويجتنب الكبائر السبع، إلا فتحت له أبواب الجنة، ثم قيل له ادخل بسلام" رواه النسائي.
وقد فسر -صلى الله عليه وسلم- هذه السبع في حديث آخر فقال: "اجتنبوا السبع الموبقات"، قيل: يا رسول الله، ما هن؟ قال: "الشرك
بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال
اليتيم، والتَّوَلِّي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات" أخرجه البخاري.
والكبائر غير هذه السبع كثيرة جدا، وقد بينت ذلك النصوص الأخرى. قال -صلى الله عليه وسلم: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟" قلنا: بلى يا رسول الله، قال: "الإشراك بالله، وعقوق الوالدين"، وكان متكئا فجلس، قال: "ألا وشهادة الزور، ألا وقول الزور" فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت. متفق عليه.
وقد تعددت آراء العلماء في تعديد الكبائر، فابن عباس سئل: ما السبع
الكبائر؟ فقال: هي إلى السبعين أقرب منها إلى السبع. وقال -في رواية أخرى-:
الكبائر كل ما وعد الله عليه النار. وقيل: الكبائر هي كل معصية موجبة
للحد. فمن أعرض عن الكبائر، وحفظ نفسه منها، فقد ضمن الله له غفران زلاته،
وتكفير سيئاته.
يقول -صلى الله عليه وسلم-: "الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهن؛ إذا اجتنبت الكبائر" رواه مسلم.
وقوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ
رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا
أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ
الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا) [النساء:64]. وقوله تعالى: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا)
[النساء:110]. تتجلى في هاتين الآيتين سعة رحمة الله تعالى، وجميل عفوه،
وعظيم مغفرته، فمن أذنب ذنبا صغيرا كان أو كبيرا، ثم استغفر الله، غفر له،
ولو كانت ذنوبه أعظم من السموات والأرض والجبال. فالمؤمن من سماته أنه إذا
وقع في الذنب، سرعان ما يتذكر ويندم ويخاف. قال تعالى: (وَالَّذِينَ
إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ
فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ
وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [آل عمران:135].
وقد أمر الله تعالى بالاستغفار في آيات كثيرة من كتابه، ولقد كان -صلى الله
عليه وسلم- وهو المغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، يقول: "إني لاستغفر الله في اليوم مائة مرة" أخرجه مسلم.
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "قال الله تعالى:
يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرتُ لك على ما كان منك ولا أبالي، يا
ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتني، غفرت لك ولا أبالي، يا
ابن آدم، إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا
لأتيتك بقرابها مغفرة" رواه الترمذي.
وقد علمنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحاديث عظيمة، فأين نحن منها؟
وأين أبناؤنا وبناتنا منها؟! هل علمناهم إياها، وعرفناهم معناها؟ بدلا من
الكم الزائد، والحشد الهائل من المحفوظات المتدنية، والنصوص الفارغة؟.
من قال: "أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه غفرت ذنوبه وإن كان قد فر من الزحف" رواه أبو داود. وأين نحن من سيد الاستغفار؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: "سيد
الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا
عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شَرِّ ما صنَعْتُ، أبوءُ
لك بنعمتك عليَّ، وأبوء بذنبي، فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. من
قاله في النهار موقنا به، فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة، ومن
قاله من الليل وهو موقن به، فمات قبل أن يصبح، فهو من أهل الجنة" أخرجه البخاري.
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى