حبيبه الرحمن
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
الشيخ / عبد الله بن محمد البصري
الفوز العظيم والخسران المبين
الخطبة الأولى
أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ وَأَطِيعُوهُ ، وَاعمُرُوا أَوقَاتَكُم بما يُرضِيهِ مِنَ الأَقوَالِ وَالأَعمَالِ ، وَتَزَوَّدُوا بما يَكُونُ لَكُم ذُخرًا يَومَ المَآلِ ؛ فَإِنَّ الدُّنيَا إِلى فَنَاءٍ وَزَوَالٍ { يَا قَومِ إِنَّمَا هَذِهِ الحَيَاةُ الدُّنيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ القَرَارِ . مَن عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجزَى إِلاَّ مِثلَهَا وَمَن عَمِلَ صَالِحًا مِن ذَكَرٍ أَو أُنثَى وَهُوَ مُؤمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدخُلُونَ الجَنَّةَ يُرزَقُونَ فِيهَا بِغَيرِ حِسَابٍ}
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، لِكُلِّ امرِئٍ في هَذِهِ الدُّنيَا وِجهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا ، وكُلٌّ في هَذِهِ الحَيَاةِ يَغدُو فَبَائِعٌ نَفسَهُ فَمُعتِقُهَا أَو مُوبِقُهَا ، وَيَومَ يُبَعثَرُ مَا في القُبُورِ وَيُحَصَّلُ مَا في الصُّدُورِ ، إِذْ ذَاكَ تُكشَفُ صُّحُفُ الأَعمَالِ وَتَظهَرُ نَتَائِجُ الأَفعَالِ {فَمَن زُحزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدخِلَ الجَنَّةَ فَقَد فَازَ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنيَا إِلاَّ مَتَاعُ الغُرُورِ} نَعَم ، مَن صُرِفَ عَنهُ العَذَابُ يَومَئِذٍ وأُدخِلَ الجَنَّةَ فَقَد فَازَ {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِن عَصَيتُ رَبِّي عَذَابَ يَومٍ عَظِيمٍ . مَن يُصرَفْ عَنهُ يَومَئِذٍ فَقَد رَحِمَهُ وَذَلِكَ الفَوزُ المُبِينُ} وَكَيفَ لا يَكُونُ فَوزًا مُبِينًا عَظِيمًا وَصَاحِبُهُ قَد نَالَ النَّعِيمَ المُقِيمَ ، وَظَفِرَ بِرِضوَانِ رَبِّهِ الرَّحِيمِ ، وَتَمَتَّعَ بِرُؤيَةِ وَجهِهِ الكَرِيمِ ، في خُلُودٍ لا انقِطَاعَ لَهُ وَرِزقٍ مَالَهُ مِن نَفَادٍ ، وَفَوزٍ بِنَعِيمٍ لا مَثِيلَ لَهُ وَلا شَبِيهَ ، لا يُكَدِّرُهُ تَفكِيرٌ في مَوتٍ ، وَلا يُنَغِّصُهُ هَمٌّ وَلا غَمٌّ وَلا سُقمٌ ؛ يَقُولُ أَهلُهُ وَهُم يَرَونَه : {أَفَمَا نَحنُ بِمَيِّتِينَ . إِلاَّ مَوتَتَنَا الأُولى وَمَا نَحنُ بِمُعَذَّبِينَ . إِنَّ هَذَا لَهُوَ الفَوزُ العَظِيمُ} وَيَقُولُ ـ سُبحَانَهُ ـ في وَصفِهِم : {لا يَذُوقُونَ فِيهَا المَوتَ إِلاَّ المَوتَةَ الأُولى وَوَقَاهُم عَذَابَ الجَحِيمِ . فَضلاً مِن رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الفَوزُ العَظِيمُ} أَلا وَإِنَّ أَسَاسَ هَذَا الفَوزِ وَأَصلَهُ الَّذِي لا يَتَحَقَّقُ إِلاَّ بِهِ وَلا يَحصُلُ إِلاَّ لأَهلِهِ ، هُوَ الإِيمَانُ وَالعَمَلُ الصَّالِحُ ، جَاءَتِ الآيَاتُ في كِتَابِ اللهِ بِذَلِكَ عَامَّةً وَخَاصَّةً ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : {وَعَدَ الله المُؤمِنِينَ وَالمُؤمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجرِي مِن تَحتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً في جَنَّاتِ عَدنٍ وَرِضوَانٌ مِنَ اللهِ أَكبرُ ذَلِكَ هُوَ الفَوزُ العَظِيمُ} وَقَالَ ـ تَعَالى ـ : {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدخِلُهُم رَبُّهُم في رَحمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الفَوزُ المُبِينُ} وَقَالَ ـ تَعَالى ـ : {لِيُدخِلَ المُؤمِنِينَ وَالمُؤمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجرِي مِن تَحتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنهُم سَيِّئَاتِهِم وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ الله فَوزًا عَظِيمًا} وَقَالَ ـ جَلَّ وَعَلا ـ : {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم جَنَّاتٌ تَجرِي مِن تَحتِهَا الأَنهَارُ ذَلِكَ الفَوزُ الكَبِيرُ} وَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : {أَلا إِنَّ أَولِيَاءَ اللهِ لا خَوفٌ عَلَيهِم وَلا هُم يَحزَنُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ . لَهُمُ البُشرَى في الحَيَاةِ الدِّنيَا وَفي الآخِرَةِ لا تَبدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الفَوزُ العَظِيمُ} وَمِنَ الأَعمَالِ الصَّالِحَةِ التي خُصَّت بِالذِّكرِ في كِتَابِ اللهِ وَوُعِدَ عَامِلُهَا بِالفَوزِ ، الجِهَادُ في سَبِيلِ اللهِ وَالهِجرَةُ إِلَيهِ ، وَالتَّحَلِّي بِالصِّدقِ في الأَقوَالِ وَالأَعمَالِ وَالمَقَاصِدِ ، قَالَ ـ تَعَالى ـ : {إِنَّ اللهَ اشتَرَى مِنَ المُؤمِنِينَ أَنفُسَهُم وَأَموَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ في سَبِيلِ اللهِ فَيَقتُلُونَ وَيُقتَلُونَ وَعدًا عَلَيهِ حَقًّا في التَّورَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالقُرآنِ وَمَن أَوفى بِعَهدِهِ مِنَ اللهِ فَاستَبشِرُوا بِبَيعِكُمُ الَّذِي بَايَعتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الفَوزُ العَظِيمُ} وَقَالَ ـ جَلَّ وَعَلا ـ : {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا في سَبِيلِ اللهِ بِأَموَالِهِم وَأَنفُسِهِم أَعظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الفَائِزُونَ} وَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : {قَالَ اللهُ هَذَا يَومُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدقُهُم لَهُم جَنَّاتٌ تَجرِي مِن تَحتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللهُ عَنهُم وَرَضُوا عَنهُ ذَلِكَ الفَوزُ العَظِيمُ} وَحَتَّى لا يَظُنَّ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ أَنَّهُ يَستَطِيعُ تَحقِيقَ الفَوزِ بالتَّعَبُّدِ للهِ ـ تَعَالى ـ بِطَاعَةِ غَيرِهِ أَو بِاتِّبَاعِ شَرعٍ غَيرِ شَرعِ نَبِيِّهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ فَقَد تَعَدَّدَتِ الآيَاتُ الَّتي تُعَلِّقُ الفَوزَ العَظِيمَ بِطَاعَةِ اللهِ ـ تَعَالى ـ وَتَقوَاهُ وَخَشيَتِهِ ، وَطَاعَةِ رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ ـ جَلَّ وَعَلا ـ {وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَائِزُونَ} وَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : {إِنَّ لِلمُتَّقِينَ مَفَازًا} وَقَالَ ـ تَعَالى ـ : {تِلكَ حُدُودُ اللهِ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجرِي مِن تَحتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الفَوزُ العَظِيمُ} وَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : {وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَد فَازَ فَوزًا عَظِيمًا} وَحِينَ تَنحَرِفُ فِطَرُ بَعضِ النَّاسِ وَتَضعُفُ عُقُولُهُم فَيُسَوُّونَ بَينَ مُؤمِنٍ وَكَافِرٍ فِيمَا قَد يُسَمَّى بِوِحدَةِ الأَديَانِ أَو نَحوِهَا ، يُكَذِّبُهُمُ اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ فيَقُولُ : {لا يَستَوِي أَصحَابُ النَّارِ وَأَصحَابُ الجَنَّةِ أَصحَابُ الجَنَّةِ هُمُ الفَائِزُونَ} وَحِينَ يَظُنُّ بَعضُ النَّاسِ أَنَّهُ قَد أُوتيَ فَهمًا جَدِيدًا لِلإِسلامِ ، أَو أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَن يَتَّبِعَ غَيرَهُ في شَرقٍ أَو غَربٍ ، إِذْ ذَاكَ تَأتي آيَاتُ الكِتَابِ مُبَيِّنَةً أَنَّ الفَوزَ في تَحقِيقِ كَمَالِ الإِسلامِ ، وَأَنَّ ذَلِكَّ لا يَكُونُ إِلاَّ بِاتِّبَاعِ سَلَفِ هَذِهِ الأُمَّةِ ، الَّذِينَ صَحِبُوا النَّبيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ وَحَضَرُوا التَّنزِيلَ وَفَهِمُوا التَأوِيلَ ، قَالَ ـ تَعَالى ـ : {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُم وَرَضُوا عَنهُ وَأَعَدَّ لَهُم جَنَّاتٍ تَجرِي تَحتَهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الفَوزُ العَظِيمُ} أَلا فَاتَّقُوا اللهَ ـ عِبَادَ اللهِ ـ وَمَن أَرَادَ الفَوزَ في الآخِرَةِ فَلْيَصبِرْ في الدِّنيَا عَلَى الطَّاعَاتِ وَلْيَصبِرْ عَنِ المَعَاصِي ، وَلْيَتَصَبَّرْ عَلَى مَا يُصِيبُهُ مِن أَقدَارِ اللهِ المُؤلِمَةِ ؛ فَإِنَّ الإِيمَانَ وَالعَمَلَ الصَّالِحَ يَحتَاجَانِ إِلى صَبرٍ وَمُصَابَرَةٍ وَجِهَادٍ وَمُجَاهَدَةٍ ؛ لِيُحَقِّقَ العَبدُ الفَوزَ في الآخِرَةِ ، فَيَكُونَ مِمَّن ثَقُلَت مَوَازِينُهُم وَقَالَ اللهُ ـ تَعَالى ـ فِيهِم : {إِنِّي جَزَيتُهُمُ اليَومَ بما صَبَرُوا أَنَّهُم هُمُ الفَائِزُونَ} وَأَبشِرُوا ـ مَعشَرَ المُؤمِنِينَ ـ فَإِنَّ حَمَلَةَ عَرشِ الرَّحمَنِ يَستَغفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَيَدعُونَ اللهَ ـ تَعَالى ـ بِأَن يَحفَظَهُم مِن مُوجِبَاتِ سَخَطِهِ ؛ لِيَفُوزُوا بِرِضوَانِهِ وَجَنَّتِهِ ، قَالَ اللهُ ـ تَعَالى ـ عَنهُم : {الَّذِينَ يَحمِلُونَ العَرشَ وَمَن حَولَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمدِ رَبِّهِم وَيُؤمِنُونَ بِهِ وَيَستَغفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعتَ كُلَّ شَيءٍ رَحمَةً وَعِلمًا فَاغفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِم عَذَابَ الجَحِيمِ . رَبَّنَا وَأَدخِلهُم جَنَّاتِ عَدنٍ الَّتي وَعَدتَهُم وَمَن صَلَحَ مِن آبَائِهِم وَأَزوَاجِهِم وَذُرِّيَّاتِهِم إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ . وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَومَئِذٍ فَقَد رَحِمتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الفَوزُ العَظِيمُ} أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ : {يَومَ يَجمَعُكُم لِيَومِ الجَمعِ ذَلِكَ يَومُ التَّغَابُنِ وَمَن يُؤمِنْ بِاللهِ وَيَعمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجرِي مِن تَحتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الفَوزُ العَظِيمُ}
الخطبة الثانية
أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ وَأَطِيعُوهُ ، فَإِنَّ تَقوَاهُ ـ سُبحَانَهُ ـ سَبَبٌ لِلفَوزِ يَومَ القِيَامَةِ {وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِم لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُم يَحزَنُونَ}
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، الخَسَارَةُ مُرٌّ مَذَاقُهَا ، شَدِيدٌ عَلَى النَّفسِ وَطؤُهَا ، غَيرَ أَنَّهُ وَمَهمَا تَنَوَّعَت خَسَارَةُ الإِنسَانِ أَو تَعَدَّدَت ، فَفَقَدَ أَهلاً أَو وَلَدًا ، أَو مَالاً أَو سُلطَانًا أَو جَاهًا ، أَو أَخفَقَ في امتِحَانٍ دُنيَوِيٍّ ، فَإِنَّهُ لا أَعظَمَ وَلا أَشَدَّ مِن خَسَارَتِهِ دِينَهُ وَإِيمَانَهُ ؛ إِذْ بِهِ خَسَارَةُ نَفسِهِ وَهَلاكُهُ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُم فَهُم لا يُؤمِنُونَ} وَإِذَا كَانَ كُلُّ عَاقِلٍ يَسعَى في نَفعِ أَهلِهِ وَوَلَدِهِ ، وَتَرَى كُلَّ أَبٍ يَحرِصُ عَلَى نَجَاحِ أَبنَائِهِ في امتحَانَاتِ الدُّنيَا ، وَيَسُرُّهُ أَن يَنَالُوا فِيهَا أَعلَى الشَّهَادَاتِ وَالمُستَوَيَاتِ ، فَإِنَّ مِن أَشَدِّ الخُسرَانِ الَّذِي يُصِيبُ مَن قَصَّرُوا في إِيصَالِ أَعظَمِ نَفعٍ لأَهلِيهِم وَأَولادِهِم في الدُّنيَا وَهُوَ الإِيمَانُ وَالعَمَلُ الصَّالِحُ ؛ أَنَّهُم يُعَذَّبُونَ في النَّارِ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : {إِنَّ الخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُم وَأَهلِيهِم يَومَ القِيَامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالمِينَ في عَذَابٍ مُقِيمٍ} وَقَالَ ـ جَلَّ وَعَلا ـ : {قُلْ إِنَّ الخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُم وَأَهلِيهِم يَومَ القِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الخُسرَانُ المُبِينُ} أَلا وَإِنَّ أَسبَابَ الخُسرَانِ في الآخِرَةِ كَثِيرَةٌ ، غَيرَ أَنَّ طَاعَةَ الشَّيطَانِ هِيَ أَصلُ الخُسرَانِ وَأَسَاسُهُ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : {وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيطَانَ وَلِيًّا مِن دُونِ اللهِ فَقَد خَسِرَ خُسرَانًا مُبِينًا} وَمَا ذَاكَ إِلاَّ لأَنَّهُ يَدعُو إِلى التَّكذِيبِ بِلِقَاءِ اللهِ ، وَالمُكَذِّبُونَ بِهِ خَاسِرُونَ {قَد خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللهِ} وَيَدعُو لِلكُفرِ بِالقُرآنِ وَمَا فِيهِ مِنَ الهُدَى وَالرَّشَادِ {وَمَن يَكفُر بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ} {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللهِ أُولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ} وَيَدعُو لاتِّخَاذِ دِينٍ غَيرِ الإِسلامِ {وَمَن يَبتَغِ غَيرَ الإِسلامِ دِينًا فَلَن يُقبَلَ مِنهُ وَهُوَ في الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ} {وَمَن يَكفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَد حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ في الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ} بَلْ وَلا يَكتَفِي مِمَّن تَبِعَهُ حَتَّى يَجعَلَهُ مِن دُعَاةِ البَاطِلِ وَأَنصَارِهِ المُحَارِبِينَ لِلحَقِّ وَأَتبَاعِهِ {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ أُولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ} وَكَم مِن مُجتَهِدٍ في بَاطِلٍ لا يَنفَعُهُ اجتِهَادُهُ! وَكَم مِن مُنقَطِعٍ في مَعبَدٍ أَو كَنِيسَةٍ يَتَعَبَّدُ فِيهَا لا تُغني عَنهُ عِبَادَتُهُ شَيئًَا! وَكَم مِن مُرِيدٍ بِعَمَلِهِ غَيرَ وَجهِ اللهِ لم يَنَلْ إِلاَّ الخَسَارَةَ! {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالأَخسَرِينَ أَعمَالاً . الَّذِينَ ضَلَّ سَعيُهُم في الحَيَاةِ الدُّنيَا وَهُم يَحسَبُونَ أَنَّهُم يُحسِنُونَ صُنعًا} أَلا فَاحذَرُوا الشَّيطَانَ فَإِنَّهُ لَكُم عَدُوٌّ مَبِينٌ ، وَاحذَرُوا مِن خِفَّةِ المَوَازِينِ بِتَركِ العَمَلِ الصَّالِحِ وَالتَّمَادِي في العَمَلِ السَّيِّئِ {وَمَن خَفَّت مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُم في جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} وَكُونُوا مِن حِزبِ اللهِ الطَّائِعِينَ المُفلِحِينَ ، وَاحذَرُوا مِن أَن تَكُونُوا مِن حِزبِ الشَّيطَانِ {أَلا إِنَّ حِزبَ الشَّيطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ} وَالحَذَرَ الحَذَرَ مِن كَيدِ الكُفَّارِ وَأَعوَانِهِم وَأَذنَابِهِم مِنَ المُنَافِقِينَ وَالعِلمَانِيِّينَ ، ممَّن يُسَاوِمُونَكُم عَلَى التَّخلِّي عَن ثَوَابِتِ دِينِكُم ، أَو يَسُوقُونَكُم لِلتَّسَاهُلِ في أَعرَاضِكُم ، أَو يُرِيدُونَ الشَّرَّ لِنِسَائِكُم ، بما يَزعُمُونَهُ مِن تَحرِيرٍ لِلمَرأَةِ أَو يَدعُونَ إِلَيهِ مِن مُسَاوَاةٍ بَينَهَا وَبَينَ الرِّجَالِ ، أَو يُزَيِّنُونَهُ في نَظَرِهَا مِن قِيَادَةٍ لِلسَّيَّارَةِ وَخُرُوجٍ مِن بَيتِهَا ، وَتَفَلُّتٍ مِن أَحكَامِ دِينِهَا ، أَو تَمَرُّدٍ عَلَى وُلاةِ أَمرِهَا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُم عَلَى أَعقَابِكُم فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ} وَإِيَّاكُم وَالاشتِغَالَ بِالمَالِ وَالوَلَدِ عَنِ الفَرَائِضِ وَالوَاجِبَاتِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُم أَموَالُكُم وَلا أَولادُكُم عَن ذِكرِ اللهِ وَمَن يَفعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ} وَتَوَاصَوا بِالحَقِّ وَاصبِرُوا عَلَيهِ ، وَمُرُوا بِالمَعرُوفِ وَكُونُوا مِن أَهلِهِ ، وَانهَوا عَنِ المُنكَرِ وَابتَعِدُوا عَنهُ ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَصلٌ مِن أُصُولِ النَّجَاةِ مِنَ الخَسَارَةِ {وَالعَصرِ . إِنَّ الإِنسَانَ لَفي خُسرٍ . إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوا بِالحَقِّ وَتَوَاصَوا بِالصَّبرِ}
الفوز العظيم والخسران المبين
الخطبة الأولى
أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ وَأَطِيعُوهُ ، وَاعمُرُوا أَوقَاتَكُم بما يُرضِيهِ مِنَ الأَقوَالِ وَالأَعمَالِ ، وَتَزَوَّدُوا بما يَكُونُ لَكُم ذُخرًا يَومَ المَآلِ ؛ فَإِنَّ الدُّنيَا إِلى فَنَاءٍ وَزَوَالٍ { يَا قَومِ إِنَّمَا هَذِهِ الحَيَاةُ الدُّنيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ القَرَارِ . مَن عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجزَى إِلاَّ مِثلَهَا وَمَن عَمِلَ صَالِحًا مِن ذَكَرٍ أَو أُنثَى وَهُوَ مُؤمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدخُلُونَ الجَنَّةَ يُرزَقُونَ فِيهَا بِغَيرِ حِسَابٍ}
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، لِكُلِّ امرِئٍ في هَذِهِ الدُّنيَا وِجهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا ، وكُلٌّ في هَذِهِ الحَيَاةِ يَغدُو فَبَائِعٌ نَفسَهُ فَمُعتِقُهَا أَو مُوبِقُهَا ، وَيَومَ يُبَعثَرُ مَا في القُبُورِ وَيُحَصَّلُ مَا في الصُّدُورِ ، إِذْ ذَاكَ تُكشَفُ صُّحُفُ الأَعمَالِ وَتَظهَرُ نَتَائِجُ الأَفعَالِ {فَمَن زُحزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدخِلَ الجَنَّةَ فَقَد فَازَ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنيَا إِلاَّ مَتَاعُ الغُرُورِ} نَعَم ، مَن صُرِفَ عَنهُ العَذَابُ يَومَئِذٍ وأُدخِلَ الجَنَّةَ فَقَد فَازَ {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِن عَصَيتُ رَبِّي عَذَابَ يَومٍ عَظِيمٍ . مَن يُصرَفْ عَنهُ يَومَئِذٍ فَقَد رَحِمَهُ وَذَلِكَ الفَوزُ المُبِينُ} وَكَيفَ لا يَكُونُ فَوزًا مُبِينًا عَظِيمًا وَصَاحِبُهُ قَد نَالَ النَّعِيمَ المُقِيمَ ، وَظَفِرَ بِرِضوَانِ رَبِّهِ الرَّحِيمِ ، وَتَمَتَّعَ بِرُؤيَةِ وَجهِهِ الكَرِيمِ ، في خُلُودٍ لا انقِطَاعَ لَهُ وَرِزقٍ مَالَهُ مِن نَفَادٍ ، وَفَوزٍ بِنَعِيمٍ لا مَثِيلَ لَهُ وَلا شَبِيهَ ، لا يُكَدِّرُهُ تَفكِيرٌ في مَوتٍ ، وَلا يُنَغِّصُهُ هَمٌّ وَلا غَمٌّ وَلا سُقمٌ ؛ يَقُولُ أَهلُهُ وَهُم يَرَونَه : {أَفَمَا نَحنُ بِمَيِّتِينَ . إِلاَّ مَوتَتَنَا الأُولى وَمَا نَحنُ بِمُعَذَّبِينَ . إِنَّ هَذَا لَهُوَ الفَوزُ العَظِيمُ} وَيَقُولُ ـ سُبحَانَهُ ـ في وَصفِهِم : {لا يَذُوقُونَ فِيهَا المَوتَ إِلاَّ المَوتَةَ الأُولى وَوَقَاهُم عَذَابَ الجَحِيمِ . فَضلاً مِن رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الفَوزُ العَظِيمُ} أَلا وَإِنَّ أَسَاسَ هَذَا الفَوزِ وَأَصلَهُ الَّذِي لا يَتَحَقَّقُ إِلاَّ بِهِ وَلا يَحصُلُ إِلاَّ لأَهلِهِ ، هُوَ الإِيمَانُ وَالعَمَلُ الصَّالِحُ ، جَاءَتِ الآيَاتُ في كِتَابِ اللهِ بِذَلِكَ عَامَّةً وَخَاصَّةً ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : {وَعَدَ الله المُؤمِنِينَ وَالمُؤمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجرِي مِن تَحتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً في جَنَّاتِ عَدنٍ وَرِضوَانٌ مِنَ اللهِ أَكبرُ ذَلِكَ هُوَ الفَوزُ العَظِيمُ} وَقَالَ ـ تَعَالى ـ : {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدخِلُهُم رَبُّهُم في رَحمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الفَوزُ المُبِينُ} وَقَالَ ـ تَعَالى ـ : {لِيُدخِلَ المُؤمِنِينَ وَالمُؤمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجرِي مِن تَحتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنهُم سَيِّئَاتِهِم وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ الله فَوزًا عَظِيمًا} وَقَالَ ـ جَلَّ وَعَلا ـ : {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم جَنَّاتٌ تَجرِي مِن تَحتِهَا الأَنهَارُ ذَلِكَ الفَوزُ الكَبِيرُ} وَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : {أَلا إِنَّ أَولِيَاءَ اللهِ لا خَوفٌ عَلَيهِم وَلا هُم يَحزَنُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ . لَهُمُ البُشرَى في الحَيَاةِ الدِّنيَا وَفي الآخِرَةِ لا تَبدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الفَوزُ العَظِيمُ} وَمِنَ الأَعمَالِ الصَّالِحَةِ التي خُصَّت بِالذِّكرِ في كِتَابِ اللهِ وَوُعِدَ عَامِلُهَا بِالفَوزِ ، الجِهَادُ في سَبِيلِ اللهِ وَالهِجرَةُ إِلَيهِ ، وَالتَّحَلِّي بِالصِّدقِ في الأَقوَالِ وَالأَعمَالِ وَالمَقَاصِدِ ، قَالَ ـ تَعَالى ـ : {إِنَّ اللهَ اشتَرَى مِنَ المُؤمِنِينَ أَنفُسَهُم وَأَموَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ في سَبِيلِ اللهِ فَيَقتُلُونَ وَيُقتَلُونَ وَعدًا عَلَيهِ حَقًّا في التَّورَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالقُرآنِ وَمَن أَوفى بِعَهدِهِ مِنَ اللهِ فَاستَبشِرُوا بِبَيعِكُمُ الَّذِي بَايَعتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الفَوزُ العَظِيمُ} وَقَالَ ـ جَلَّ وَعَلا ـ : {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا في سَبِيلِ اللهِ بِأَموَالِهِم وَأَنفُسِهِم أَعظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الفَائِزُونَ} وَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : {قَالَ اللهُ هَذَا يَومُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدقُهُم لَهُم جَنَّاتٌ تَجرِي مِن تَحتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللهُ عَنهُم وَرَضُوا عَنهُ ذَلِكَ الفَوزُ العَظِيمُ} وَحَتَّى لا يَظُنَّ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ أَنَّهُ يَستَطِيعُ تَحقِيقَ الفَوزِ بالتَّعَبُّدِ للهِ ـ تَعَالى ـ بِطَاعَةِ غَيرِهِ أَو بِاتِّبَاعِ شَرعٍ غَيرِ شَرعِ نَبِيِّهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ فَقَد تَعَدَّدَتِ الآيَاتُ الَّتي تُعَلِّقُ الفَوزَ العَظِيمَ بِطَاعَةِ اللهِ ـ تَعَالى ـ وَتَقوَاهُ وَخَشيَتِهِ ، وَطَاعَةِ رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ ـ جَلَّ وَعَلا ـ {وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَائِزُونَ} وَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : {إِنَّ لِلمُتَّقِينَ مَفَازًا} وَقَالَ ـ تَعَالى ـ : {تِلكَ حُدُودُ اللهِ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجرِي مِن تَحتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الفَوزُ العَظِيمُ} وَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : {وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَد فَازَ فَوزًا عَظِيمًا} وَحِينَ تَنحَرِفُ فِطَرُ بَعضِ النَّاسِ وَتَضعُفُ عُقُولُهُم فَيُسَوُّونَ بَينَ مُؤمِنٍ وَكَافِرٍ فِيمَا قَد يُسَمَّى بِوِحدَةِ الأَديَانِ أَو نَحوِهَا ، يُكَذِّبُهُمُ اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ فيَقُولُ : {لا يَستَوِي أَصحَابُ النَّارِ وَأَصحَابُ الجَنَّةِ أَصحَابُ الجَنَّةِ هُمُ الفَائِزُونَ} وَحِينَ يَظُنُّ بَعضُ النَّاسِ أَنَّهُ قَد أُوتيَ فَهمًا جَدِيدًا لِلإِسلامِ ، أَو أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَن يَتَّبِعَ غَيرَهُ في شَرقٍ أَو غَربٍ ، إِذْ ذَاكَ تَأتي آيَاتُ الكِتَابِ مُبَيِّنَةً أَنَّ الفَوزَ في تَحقِيقِ كَمَالِ الإِسلامِ ، وَأَنَّ ذَلِكَّ لا يَكُونُ إِلاَّ بِاتِّبَاعِ سَلَفِ هَذِهِ الأُمَّةِ ، الَّذِينَ صَحِبُوا النَّبيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ وَحَضَرُوا التَّنزِيلَ وَفَهِمُوا التَأوِيلَ ، قَالَ ـ تَعَالى ـ : {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُم وَرَضُوا عَنهُ وَأَعَدَّ لَهُم جَنَّاتٍ تَجرِي تَحتَهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الفَوزُ العَظِيمُ} أَلا فَاتَّقُوا اللهَ ـ عِبَادَ اللهِ ـ وَمَن أَرَادَ الفَوزَ في الآخِرَةِ فَلْيَصبِرْ في الدِّنيَا عَلَى الطَّاعَاتِ وَلْيَصبِرْ عَنِ المَعَاصِي ، وَلْيَتَصَبَّرْ عَلَى مَا يُصِيبُهُ مِن أَقدَارِ اللهِ المُؤلِمَةِ ؛ فَإِنَّ الإِيمَانَ وَالعَمَلَ الصَّالِحَ يَحتَاجَانِ إِلى صَبرٍ وَمُصَابَرَةٍ وَجِهَادٍ وَمُجَاهَدَةٍ ؛ لِيُحَقِّقَ العَبدُ الفَوزَ في الآخِرَةِ ، فَيَكُونَ مِمَّن ثَقُلَت مَوَازِينُهُم وَقَالَ اللهُ ـ تَعَالى ـ فِيهِم : {إِنِّي جَزَيتُهُمُ اليَومَ بما صَبَرُوا أَنَّهُم هُمُ الفَائِزُونَ} وَأَبشِرُوا ـ مَعشَرَ المُؤمِنِينَ ـ فَإِنَّ حَمَلَةَ عَرشِ الرَّحمَنِ يَستَغفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَيَدعُونَ اللهَ ـ تَعَالى ـ بِأَن يَحفَظَهُم مِن مُوجِبَاتِ سَخَطِهِ ؛ لِيَفُوزُوا بِرِضوَانِهِ وَجَنَّتِهِ ، قَالَ اللهُ ـ تَعَالى ـ عَنهُم : {الَّذِينَ يَحمِلُونَ العَرشَ وَمَن حَولَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمدِ رَبِّهِم وَيُؤمِنُونَ بِهِ وَيَستَغفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعتَ كُلَّ شَيءٍ رَحمَةً وَعِلمًا فَاغفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِم عَذَابَ الجَحِيمِ . رَبَّنَا وَأَدخِلهُم جَنَّاتِ عَدنٍ الَّتي وَعَدتَهُم وَمَن صَلَحَ مِن آبَائِهِم وَأَزوَاجِهِم وَذُرِّيَّاتِهِم إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ . وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَومَئِذٍ فَقَد رَحِمتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الفَوزُ العَظِيمُ} أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ : {يَومَ يَجمَعُكُم لِيَومِ الجَمعِ ذَلِكَ يَومُ التَّغَابُنِ وَمَن يُؤمِنْ بِاللهِ وَيَعمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجرِي مِن تَحتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الفَوزُ العَظِيمُ}
الخطبة الثانية
أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ وَأَطِيعُوهُ ، فَإِنَّ تَقوَاهُ ـ سُبحَانَهُ ـ سَبَبٌ لِلفَوزِ يَومَ القِيَامَةِ {وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِم لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُم يَحزَنُونَ}
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، الخَسَارَةُ مُرٌّ مَذَاقُهَا ، شَدِيدٌ عَلَى النَّفسِ وَطؤُهَا ، غَيرَ أَنَّهُ وَمَهمَا تَنَوَّعَت خَسَارَةُ الإِنسَانِ أَو تَعَدَّدَت ، فَفَقَدَ أَهلاً أَو وَلَدًا ، أَو مَالاً أَو سُلطَانًا أَو جَاهًا ، أَو أَخفَقَ في امتِحَانٍ دُنيَوِيٍّ ، فَإِنَّهُ لا أَعظَمَ وَلا أَشَدَّ مِن خَسَارَتِهِ دِينَهُ وَإِيمَانَهُ ؛ إِذْ بِهِ خَسَارَةُ نَفسِهِ وَهَلاكُهُ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُم فَهُم لا يُؤمِنُونَ} وَإِذَا كَانَ كُلُّ عَاقِلٍ يَسعَى في نَفعِ أَهلِهِ وَوَلَدِهِ ، وَتَرَى كُلَّ أَبٍ يَحرِصُ عَلَى نَجَاحِ أَبنَائِهِ في امتحَانَاتِ الدُّنيَا ، وَيَسُرُّهُ أَن يَنَالُوا فِيهَا أَعلَى الشَّهَادَاتِ وَالمُستَوَيَاتِ ، فَإِنَّ مِن أَشَدِّ الخُسرَانِ الَّذِي يُصِيبُ مَن قَصَّرُوا في إِيصَالِ أَعظَمِ نَفعٍ لأَهلِيهِم وَأَولادِهِم في الدُّنيَا وَهُوَ الإِيمَانُ وَالعَمَلُ الصَّالِحُ ؛ أَنَّهُم يُعَذَّبُونَ في النَّارِ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : {إِنَّ الخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُم وَأَهلِيهِم يَومَ القِيَامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالمِينَ في عَذَابٍ مُقِيمٍ} وَقَالَ ـ جَلَّ وَعَلا ـ : {قُلْ إِنَّ الخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُم وَأَهلِيهِم يَومَ القِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الخُسرَانُ المُبِينُ} أَلا وَإِنَّ أَسبَابَ الخُسرَانِ في الآخِرَةِ كَثِيرَةٌ ، غَيرَ أَنَّ طَاعَةَ الشَّيطَانِ هِيَ أَصلُ الخُسرَانِ وَأَسَاسُهُ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : {وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيطَانَ وَلِيًّا مِن دُونِ اللهِ فَقَد خَسِرَ خُسرَانًا مُبِينًا} وَمَا ذَاكَ إِلاَّ لأَنَّهُ يَدعُو إِلى التَّكذِيبِ بِلِقَاءِ اللهِ ، وَالمُكَذِّبُونَ بِهِ خَاسِرُونَ {قَد خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللهِ} وَيَدعُو لِلكُفرِ بِالقُرآنِ وَمَا فِيهِ مِنَ الهُدَى وَالرَّشَادِ {وَمَن يَكفُر بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ} {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللهِ أُولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ} وَيَدعُو لاتِّخَاذِ دِينٍ غَيرِ الإِسلامِ {وَمَن يَبتَغِ غَيرَ الإِسلامِ دِينًا فَلَن يُقبَلَ مِنهُ وَهُوَ في الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ} {وَمَن يَكفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَد حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ في الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ} بَلْ وَلا يَكتَفِي مِمَّن تَبِعَهُ حَتَّى يَجعَلَهُ مِن دُعَاةِ البَاطِلِ وَأَنصَارِهِ المُحَارِبِينَ لِلحَقِّ وَأَتبَاعِهِ {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ أُولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ} وَكَم مِن مُجتَهِدٍ في بَاطِلٍ لا يَنفَعُهُ اجتِهَادُهُ! وَكَم مِن مُنقَطِعٍ في مَعبَدٍ أَو كَنِيسَةٍ يَتَعَبَّدُ فِيهَا لا تُغني عَنهُ عِبَادَتُهُ شَيئًَا! وَكَم مِن مُرِيدٍ بِعَمَلِهِ غَيرَ وَجهِ اللهِ لم يَنَلْ إِلاَّ الخَسَارَةَ! {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالأَخسَرِينَ أَعمَالاً . الَّذِينَ ضَلَّ سَعيُهُم في الحَيَاةِ الدُّنيَا وَهُم يَحسَبُونَ أَنَّهُم يُحسِنُونَ صُنعًا} أَلا فَاحذَرُوا الشَّيطَانَ فَإِنَّهُ لَكُم عَدُوٌّ مَبِينٌ ، وَاحذَرُوا مِن خِفَّةِ المَوَازِينِ بِتَركِ العَمَلِ الصَّالِحِ وَالتَّمَادِي في العَمَلِ السَّيِّئِ {وَمَن خَفَّت مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُم في جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} وَكُونُوا مِن حِزبِ اللهِ الطَّائِعِينَ المُفلِحِينَ ، وَاحذَرُوا مِن أَن تَكُونُوا مِن حِزبِ الشَّيطَانِ {أَلا إِنَّ حِزبَ الشَّيطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ} وَالحَذَرَ الحَذَرَ مِن كَيدِ الكُفَّارِ وَأَعوَانِهِم وَأَذنَابِهِم مِنَ المُنَافِقِينَ وَالعِلمَانِيِّينَ ، ممَّن يُسَاوِمُونَكُم عَلَى التَّخلِّي عَن ثَوَابِتِ دِينِكُم ، أَو يَسُوقُونَكُم لِلتَّسَاهُلِ في أَعرَاضِكُم ، أَو يُرِيدُونَ الشَّرَّ لِنِسَائِكُم ، بما يَزعُمُونَهُ مِن تَحرِيرٍ لِلمَرأَةِ أَو يَدعُونَ إِلَيهِ مِن مُسَاوَاةٍ بَينَهَا وَبَينَ الرِّجَالِ ، أَو يُزَيِّنُونَهُ في نَظَرِهَا مِن قِيَادَةٍ لِلسَّيَّارَةِ وَخُرُوجٍ مِن بَيتِهَا ، وَتَفَلُّتٍ مِن أَحكَامِ دِينِهَا ، أَو تَمَرُّدٍ عَلَى وُلاةِ أَمرِهَا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُم عَلَى أَعقَابِكُم فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ} وَإِيَّاكُم وَالاشتِغَالَ بِالمَالِ وَالوَلَدِ عَنِ الفَرَائِضِ وَالوَاجِبَاتِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُم أَموَالُكُم وَلا أَولادُكُم عَن ذِكرِ اللهِ وَمَن يَفعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ} وَتَوَاصَوا بِالحَقِّ وَاصبِرُوا عَلَيهِ ، وَمُرُوا بِالمَعرُوفِ وَكُونُوا مِن أَهلِهِ ، وَانهَوا عَنِ المُنكَرِ وَابتَعِدُوا عَنهُ ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَصلٌ مِن أُصُولِ النَّجَاةِ مِنَ الخَسَارَةِ {وَالعَصرِ . إِنَّ الإِنسَانَ لَفي خُسرٍ . إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوا بِالحَقِّ وَتَوَاصَوا بِالصَّبرِ}
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى