حبيبه الرحمن
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
الشيخ / إبراهيم بن محمد الحقيل
تَحْصِينُ القُلُوبِ فِي المِحَنِ بِاليَقِينِ
25/5/1432
الحَمْدُ لِلَّهِ العَلِيْمِ القَدِيْرِ [رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ] {الرعد:2} نَحْمَدُهُ عَلَى نِعَمِهِ وَآلَائِهِ، وَنَشْكُرُهُ عَلَى عَطَائِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا الَلهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ دَلَّتْ صِفَاتُهُ وَآيَاتُهُ وَأَفْعَالُهُ عَلَى رُبُوبِيَّتِهِ وَأُلُوهِيَّتِهِ، فَلَا إِلَهَ لَنَا غَيرُهُ، وَلَا رَبَّ لَنَا سِوَاهُ، وَلَا نَعْبُدُ إِلَّا إِيَّاهُ، مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَو كَرِهَ الكَافِرُونَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَمِينُهُ عَلَى وَحْيِّهِ.. بَعَثَهُ الَلهُ تَعَالَى بِالإِيْمَانِ وَاليَقِينِ؛ لِيُطَهِّرَ بِهِ الْقُلُوبَ مِنْ رِجْسِهَا، وَيُزِيلَ شَكَّهَا وَجَحْدَهَا، وَيَمْلَأَهَا سَكِينَةً وَطُمَأْنِينَةً وَيَقِينَاً، صَلَّى اللَهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَعَلِّقُوا بِهِ قُلُوبَكُمْ، وَسَلِّمُوا لَهُ أُمُورَكُمْ، وَأَخْلِصُوا لَهُ دِيْنَكُمْ؛ فَإِنَّ القُوَّةَ لِلهِ جَمِيعَاً، فَمَا شَاءَ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، أَسْقَطَ بِقُدْرَتِهِ عُرُوشَاً مَا ظَنَّ أَحَدٌ أَنَّهَا تَسْقُطُ، وَنَزَعَ الْمُلْكَ مِنْ جَبَابِرَةٍ ظَنُّوا أَنَّهُمْ يُخَلَّدُونَ فِي سُلْطَانِهِمْ، فَأَتَاهُمُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا، وَكَسَاهُمْ ذُلَّاً وَعَارَاً لَا يُنْسَى، فَصَارُوا مِنَ القُصُورِ إِلَى السُّجُونِ، وَبَعْدَ الأَمْرِ وَالنَّهْيِّ يُسْأَلُونَ وَيُهَانُونَ، فَلَا مُلْكَ يَدُومُ إِلَّا لِلَهِ الوَاحِدِ القَهَّارِ [لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ] {الأنبياء:23} [تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ المُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] {الملك:1}.
أَيُّهَا النَّاسُ: تَمُوجُ الْأَرْضُ بِأَحْدَاثٍ لَا يَعْلَمُ النَّاسُ آخِرَهَا، وَلَا يُدْرِكُونَ أَبْعَادَهَا وَنَتَائِجَهَا، وتَفْجَأُهُمْ أَخْبَارٌ لَا يَتَصَوَّرُونَهَا وَلَا يَتَوقَعُونَهَا.. وَمَنْ يُعْنَونَ بِدِرَاسَةِ طَبِيعَةِ الأَرْضِ وَتَغَيُّرَاتِهَا، وَيَرْصُدُونَ كَوَارِثَهَا وَتَحوُلَاتِهَا يُنْذِرُونَ بِأَخْطَارٍ مُحْدِقَةٍ بِالبِشَرِ تَتَغَيَّرُ فِيهَا تَرْكِيبَةُ الأَرْضِ وَأَجْوَاؤُهَا وَمُدُنُهَا وَسَوَاحِلُهَا..لَكِنَّهُمْ لَا يَجْزِمُونَ بِذَلِكَ، وَلَا يَدْرُونَ مَتَى يَكُونُ؟ وَلَا كَيفَ يَكُونُ، وَلَا سُبُلَ النَّجَاةِ مِنهُ، إِنْ يَظُنُّونَ إِلَّا ظَنَّاً وَمَا هُمْ بِمُسْتَيقِنِينَ..
وَعُلَمَاءُ الاجْتِمَاعِ وَالسِّيَاسَةِ وَالاقْتِصَادِ يُحَاوِلُونَ قِرَاءَةَ الوَاقِعِ قِرَاءَةً صَحِيحَةً لاسْتِشْرَافِ المسْتَقْبَلِ، وَتَوَقِّي الْمَخَاطِرِ، وَتَقْلِيلِ الْخَسَائِرِ، لَكِنَّهُمْ أَيْضَاً لَا يَصِلُونَ إِلَى يَقِينٍ، وَلَا يَعْلَمُونَ الغَيبَ القَرِيبُ فَضْلَاً عَنِ البَعِيدِ.. وَكَثِيرٌ مِنَ الدُّوَلِ الْمُتَقَدِّمَةِ قَدْ يَسْعَى سَاسَتُهَا فِي زَوَالِهَا مِنْ حَيْثُ أَرَادُوا الْحِفَاظَ عَلَيهَا، كَمَا نَزَعَ اللَهُ تَعَالَى قَومَاً مِنْ عُرُوشِهِمْ بِكَسْبِ أَيْدِيهِمْ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ، وَلِلرَّبِ سُبْحَانَهُ تَدَابِيرُ لَا يُدْرِكُهَا الْنَّاسِ، فَمَا أَعْظَمَ قُدْرَةَ اللَّهِ تَعَالَى! وَمَا أَوْسَعَ عِلْمَهُ! وَمَا أَعْجَزَ البَشَرَ وَأَشَدَّ جَهْلَهُمْ! وَلَوْ عَلِمُوا مَا عَلِمُوا، وَمَلَكُوا مِنَ القُوَّةِ مَا مَلَكُوا..
إِرْهَاصَاتٌ وَتَوَقَّعَاتٌ تُنْذِرُ بِتَغَيُّرَاتٍ كُبْرَى.. قَدْ تَمْتَدُّ لِتَشْمَلَ البَسِيطَةَ كُلَّهَا.. مَخَاوِفُ وَهَوَاجِسُ تُقْلِقُ كُبْرَيَاتِ الْدُّوَلِ.. وَتَقُضُّ مَضَاجِعَ أَقْوَيَاءِ الْبَشَرِ، يُخْفُونَهَا وَلَا يُبْدُونَهَا، وَيَتَجَلَّدُونَ أَمَامَ الْمَلَأِ إِزَاءَهَا وَهِيَ تَأْكُلُ قُلُوبَهُم..
إِجْرَاءَاتٌ وَاحْتِرَازَاتٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى تَوَقُعَّاتٍ يَسْعَى لَهَا الْأَقْوِيَاءُ مِنَ الْدُّوَلِ وَالْأَفْرَادِ لِتَأْمِينِ أَنْفُسِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَأَوْلادِهِمْ، وَلِتَحْصِينِ دُوَلِهِمْ مِنَ الِاضْطِرَابِ، وَلَكِنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى ظَنٍّ، وَقَدْ يَأْتِيهِمْ خَطَرُهُمْ مِنْ مَأْمَنِهِمْ. فَلَا أَحَدَ غَيْرُ اللَهِ تَعَالَى يَعْلَمُ مَا سَيَكُوْنُ، وَلَا كَيْفَ يَكُوْنُ، وَلَا مَتَى يَكُوْنُ.. وَقَدْ يَحْتَرِزُ الْعَبْدُ بِمَا يَكُوْنُ وَبَالَاً عَلَيْهِ، وَقَدْ يَفِرُّ مِنْ مَأْمَنِهِ إِلَى مَحَلِّ خَوْفِهِ وَهُوَ لَا يَدْرِي.. [وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتَاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا] {الحشر:2}.
وَإِذَا كَانَتِ الْأَحْدَاثُ وَنَتَائِجُهَا بِخَيْرِهَا وَشَرِّهَا وَحُلْوِهَا وَمُرِّهَا لَا تَخْرُجُ عَنْ تَدْبِيرِ اللَه تَعَالَى وَأَمْرِهِ وَقَدَرِهِ؛ فَإِنَّ أَعْظَمَ حِرْزٍ يَحْتَرِزُ بِهِ الْعَبْدُ، وَأَقْوَى حِصْنٍ يَتَحَصَّنُ بِهِ مِنْ كُلِّ حَدَثٍ: الْيَقِيْنُ بِاللَهِ تَعَالَى.. الْيَقِيْنُ بِعِلْمِهِ لِلْغَيبِ، وَإِحَاطَتِهِ بِكُلِّ شَيْءٍ [إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا] {طه:98} [ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ] {البقرة:29} [عَالِمُ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الكَبِيرُ المُتَعَالِ] {الرعد:9}.
وَالْيَقِيْنُ بِقُدْرَتِهِ سُبْحَانَهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَلَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ فِيْ الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ [أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] {البقرة:106} [وَللهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] {آل عمران:189}
وَفِي الْجَمْعِ بَيْنَ العِلْمِ وَالْقُدْرَةِ [إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ] {النحل:70} [وَهُوَ العَلِيمُ القَدِيرُ] {الرُّوم:54} [لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا] {الطَّلاق:12}
وَفِي الْدُّعَاءِ الْمَأْثُوْرِ فَي الاسْتِخَارَةِ:«اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ العَظِيمِ، فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلاَ أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ وَلاَ أَعْلَمُ، وَأَنْتَ عَلَّامُ الغُيُوبِ»رواه البخاري.
وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ يَتَوَسَّلُ فِي بَعْضِ أَدْعِيَتِهِ لِلَهِ تَعَالَى بِصِفَتَي العِلْمِ وَالْقُدْرَةِ فَيَقُوْلُ:«اللَّهُمَّ بِعِلْمِكَ الْغَيْبَ، وَقُدْرَتِكَ عَلَى الْخَلْقِ»رواه النسائي.
وَاليَقِيْنُ بِحِكْمَةِ اللَهُ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ وَقَدَرِهِ وَفِعْلِهِ وَشَرْعِهِ، فَلَا يَخْلُقُ إِلَّا لِحِكْمَةٍ، وَلَا يَأْمُرُ أَمْرَاً كَوْنِيَّاً إِلَّا لِحِكْمَةٍ، وَلَا يُقَدِّرُ قَدَرَاً إِلَّا لِحِكْمَةٍ، وَلَا يَشْرَعُ شَرْعَاً إِلَّا لِحِكْمَةٍ [وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ] {النساء:26} [إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ] {الأنعام:83}
واليَقِينُ بِرَحْمَةِ الَلهِ تَعَالَى [كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ] {الأنعام:12} [إِنَّهُ هُوَ البَرُّ الرَّحِيمُ] {الطُّور:28} [رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا] {غافر:7} [وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ] {الأعراف:156}.
إِنَّ كُلَّ أَمْرٍ نُحَاذِرُهُ، وَكُلَّ حَدَثٍ نَتَوَقَّعُهُ، لَا يَخْرُجُ عَن عِلْمِ الَلهِ تَعَالَى وَقُدْرَتِهِ؛ فَالْيَقِيْنُ بِذَلِكَ يُقَوِّي قَلْبَ الْمُؤْمِنِ الْمُوْقِنِ، وَيُخَفِّفُ عَنْهُ أَلَمَ الْمَصَائِبِ وَالْكَوَارِثِ، فَهِيَ مَعَ ضَخَامَتِهَا وَقُوَّةِ تَدْمِيرِهَا وَفَدَاحَةِ آثَارِهَا تَصْغُرُ وَتَضْمَحِلُّ فِيْ قُلُوْبِ الْمُوْقِنِينَ بِعِلْمِ الَلهِ تَعَالَى وَقُدْرَتِهِ، وَكَأَنَّهَا شَيْءٌ صَغِيرٌ لَا يُؤْبَهُ بِهِ، فَيَزُوْلُ بِيَقِيْنِهِمْ أَثَرُهَا مِنْ قُلُوْبِهِمْ، وَبِيَقِينِهِمْ يَخِفُّ وَقْعُهَا وَأَلَمُهَا عَلَى نُفُوسِهِمْ.. فَبَرْدُ الْيَقِيْنِ يَأْتِي عَلَى حَرَارَةِ الْكَارِثَةِ فَيُزِيلُهُ، فَيَطْمَئِنُ الْقَلْبُ وَيُمْلَأُ بِالسَّكِينَةِ.
وَيَقِينَهُمْ بِحِكْمَةِ الَلهِ تَعَالَى يَمْلَأُ قُلُوْبَهُمْ ثِقَةً بِالَلهِ تَعَالَى فِي أَنَّ مَا يُحْدِثُهُ مِنْ أَحْدَاثٍ، وَمَا يُقَدِّرُهُ مِنْ أَقْدَارٍ عَلَى الْأَفْرَادِ وَالْدُّوَلِ وَالْأُمَمِ فِيهِ مِنَ الحِكَمِ مَا يَعْلَمُونَ بَعْضَهَا أَوْ يَجْهَلُونَهَا كُلَّهَا، فِيَقِينُهُمْ بِحِكْمَةِ الَلهِ تَعَالَى يُزِيلُ مَا يَقْذِفُهُ الشَّيْطَانُ فِي قُلُوْبِهِمْ مِنْ زَعْمِ عَبَثِيَّةِ الأَحْدَاثِ، وَصُدَفِ الأَقْدَارِ..تِلْكَ الْأَفْكَارُ الْشَّيطَانِيَّةُ الَّتِي تَفْتِكُ بِقُلُوبِ العَدَمِيِّينَ وَالعَبَثِيِّينَ وَالَوجْودِيِّينَ.
وَمَنْ أَيْقَنَ بِرَبٍ حَكِيْمٍ عَلِمَ أَنَّ لِجَمِيعِ أَفْعَالِهِ حِكَمَاً فَاسْتَرَاحَ مِنْ التَّفْكِيْرِ وَالْهَوَاجِيسِ، وَلَمْ يَسْتَسْلِمْ لِوَسَاوِسِ إِبْلِيسَ، وَأَمَّنَ نَفْسَهُ فِيْ الْمُسْتَقْبَلِ الْمَنْظُورِ، وَلَمْ يَخَفِ الغَيبَ الْمَجْهُولَ.. وَالْيَقِينُ بِرَحْمَةِ الَلهِ تَعَالَى فِيْهِ أَمَانٌ وَتَسْلِيَةٌ لَا يَجِدُهَا مَنْ فَقَدُوا الْيَقِيْنَ، وَسَاءَتْ ظُنُوْنُهُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِيْنَ.
إِنَّ مَنْ أَيْقَنَ أَنَّ الَلهَ تَعَالَى أَرْحَمُ بِهِ مِنْ وَالِدَتِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِيْنَ، بَلْ أَرْحَمُ بِهِ مِنْ نَفْسِهِ الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيهِ كَيْفَ يَخْشَى قَدَرَاً مَخْبُوءَاً؟ وَكَيْفَ يَخَافُ غَيْبَاً مَجْهُولَاً؟ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ الَّذِي يُقَدِّرُ الْقَدَرَ، وَيَكْتُبُ الْغَيْبَ أَرْحَمُ بِهِ مِنْ أَيِّ أَحَدٍ؟! رَأَى النَّبِيُّ صَلَّى الَلهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْرَأَةً مَسْبِيَّةً إِذَا وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْيِّ أَخَذَتْهُ، فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَتُرَوْنَ هَذِهِ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ قَالُوا: لاَ وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لاَ تَطْرَحَهُ، فَقَالَ: لَلهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا» متفق عليه.
بِالْيَقِيْنِ وَاجَهَ مُوْسَى عَلَيْهِ الْسَّلَامُ أَعْتَى الْبَشَرِ، وَأَشَدَّهُمْ قَسْوَةً، وَأَكْثَرَهُمْ طُغْيَانَاً، وَقَالَ فِي وَجْهِهِ بِثَبَاتٍ وَيَقِينٍ [وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا] {الإسراء:102} وَكَانَ عَلَيْهِ الْسَّلَامُ يُرِيْدُ أَنْ يَغْرِسَ فِيهِمُ الْيَقِيْنَ بِذِكْرِ آَيَاتِ الَلهِ تَعَالَى الْكَوْنِيَّةِ وَالْشَرْعِيَّةِ، فَنَازَعَهُ فِرْعَونُ فِي الرُّبُوْبِيَّةِ لَكِنَّ مُوْسَى رَدَّ عَلَيهِ بِمَا يُفِيدُ اليَقِيْنَ لِمَنْ أَرَادَهُ وَلَمْ يُكَابِرْ [قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ العَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ] {الشعراء:23-24}.
وَبِالصَّبْرِ وَاليَقِينِ تُنَالُ الْإِمَامَةُ فِي الدِّينِ؛ فَالَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ بِوَعْدِ الَلهِ تَعَالَى، وَلَا يَصْبِرُونَ عَلَى ابْتِلَائِهِ، وَلَا يَثْبُتُونَ عَلَى الْحَقِّ الَّذِي ارتَضَاهُ لَيْسُوا جَدِيرِينَ بِالْتَّمْكِينِ لَهُمْ فِي الأَرْضِ، وَلَا إِمَامَةِ النَاسِ فِي الهُدَى، وَقَدْ أَخْبَرَ الَلهُ تَعَالَى عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَزِمُوا الصَّبْرَ وَالْيَقِينَ فَقَالَ سُبْحَانَهُ فِيْهِمْ [وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ] {السجدة:24}، وَفِي أَحْوَالِ الْفِتَنِ وَالْمِحَنِ لَا يَثْبُتُ عَلَى الْهُدَى، وَلَا يَدْعُو النَّاسَ إِلَى الْحَقِّ إِلَّا أَهْلُ الْيَقِينِ، يُثَبِّتُهُمُ الَلهُ تَعَالَى بِيَقِينِهِم بِهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَحَذَّرَ الَلهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ صَلَّى الَلهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ مِنَ الِاسْتِمَاعِ إِلَى أَهْلِ الشَّكِّ وَالرَّيبِ، أَوِ الاغْتِرَارِ بِأَحْوَالِهِمْ، أَوِ الِانْخِدَاعِ بِبَلَاغَةِ أَقْوَالِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ يُغْرُونَ مَنْ يُوَافِقُهُمْ، وَيَسْتَفِزُّونَ مَنْ يُخَالِفُهُمْ، وَهَدَفُهُم فِيْ ذَلِكَ كُلِّهِ نَزْعُ الْيَقِينُ مِنْ قُلُوْبِ الْمُؤْمِنِيْنَ، وَتَحْوِيلُهُمْ إِلَى مُرْتَابَيْنَ.. وَحَقِيْقٌ بِمَنْ مَلَكَ الْإِيْمَانَ أَنْ يَسْعَى إِلَى اليَقِينِ، وَأَنْ لَا يَتَنَازَلَ عَنْهُ مَهْمَا كَلَّفَ الْأَمْرُ، وَأَنْ يَصْبِرَ عَلَى الْأَذَى فِيْ سَبِيلِهِ [فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ الَلهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ] {الرُّوم:60}.
إِنَّ أَعْظَمَ أَمَانٍ يُؤَمِّنُ بِهِ الإِنْسَانُ نَفْسَهُ وَأَهْلَهُ وَوَلَدَهُ مِنَ الْفِتَنِ، وَأَقْوَى حِصْنٍ يَتَحَصَّنُ بِهِ حَالَ الْمِحَنِ: اليَقِيْنُ بِالَلهِ تَعَالَى، فَمَا أَحْوَجَ قُلُوْبَنَا إِلَيهِ فِي زَمَنٍ اشْتَدَّتْ فِيْهِ الفِتَنُ، وَتَتَابَعَتِ الْمِحَنُ، وَاخْتَلَطَ الأَمْرُ، وَتَسَارَعَتِ الْأَحْدَاثُ.. وَمَا أَسْعَدَنَا إِنْ مَلَأْنَا بِهِ قُلُوْبَنَا وَقُلُوْبَ أَهْلِيْنَا وَأَولَادِنَا؛ ذَلِكَ أَنَّ اليَقِيْنَ عِلْمٌ يَحْصُلُ بِهِ ثَلَجُ الصَّدْرِ وَيُسَمَّى بَرْدَ اليَقِينِ. فَهُوَ العِلْمُ الَّذِي يَكُونُ بِهِ اطْمِئْنَانُ النَّفْسِ، وَيَزُولُ ارْتِيَابُهَا وَاضْطِرَابُهَا، وَلَوْ مَاجَتِ الدُّنْيَا بِأَجْمَعِهَا، قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ الَلهُ عَنْهُ «لَمَّا حَضَرَ الْبَأْسُ يَوْمَ بَدْرٍ اتَّقَيْنَا بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى الَلهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ، مَا كَانَ أَحَدٌ أَقْرَبَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ مِنْهُ» رواه أحمد.
اللَّهُمَّ امْلَأْ قُلُوْبَنَا بِالإِيْمَانِ وَالْيَقِينِ، وَثَبِّتْنَا عَلَى الْحَقِّ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ مَضَلَّاتِ الفِتَنِ وَالأَهْوَاءِ، اللَّهُمَّ إِنِّا نَسْأَلُكَ اليَقِينَ وَالعَافِيَةَ، وَالْمُعَافَاةَ الدَّائِمَةَ فِي الدِّينِ وَالْدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ..
وَأَقُوْلُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ الَلهَ...
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدَاً طَيِّبَاً كَثِيْرَاً مُبَارَكَاً فِيْهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا الَلهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ، صَلَّى الَلهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيهِ وَعَلَىَ آَلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الْدِّيِنِ..
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا الَلهَ تَعَالَى وَأَطِيْعُوْهُ [وَاتَّقُوا يَوْمَاً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئَاً وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُوْنَ].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: كَانَ السَّلَفُ الصَّالِحُ عَلَيهِمْ رَحْمَةُ الَلهِ تَعَالَى يَتَحَصَّنُونَ مِنَ الْبَلَاءِ بِاليَقِيْنِ، وَيَتَسَلَّحُونَ فِي مُوَاجَهَتِهِ بِالصَّبْرِ وَالْرِّضَا، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ أَخْبَارٌ غَزِيْرَةٌ، وَأَحْوَالٌ عَجِيْبَةٌ..
إِنَّ مِنْ أَسْبَابِ تَحْصِيلِ اليَقِيْنِ: مَعْرِفَةَ مَقَامَهِ مِنَ الدِّيْنِ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيْثِ «إِنَّ النَّاسَ لَمْ يُؤْتَوْا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا خَيْرًا مِنَ الْيَقِينِ وَالْعَافِيَةِ فَسَلُوهُمَا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ» قَالَ الْحَسَنُ رَحِمَهُ الَلهُ تَعَالَى:«بِالْيَقِينِ طُلِبَتِ الْجَنَّةُ, وَبِالْيَقِينِ هُرِبَ مِنَ النَّارِ, وَبِالْيَقِينِ أُتِيَتِ الْفَرَائِضُ, وَبِالْيَقْيِنِ صُبِرَ عَلَى الْحَقِّ, وَفِي مُعَافَاةِ اللَّهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ، قَدْ وَاللَّهِ رَأَيْنَاهُمْ يَتَقَارَبُونَ فِي الْعَافِيَةِ فَلَمَّا نَزَلَ الْبَلَاءُ تَفَارَقُوا»
وَمِنْ أَسْبَابِ تَحْصِيلِ اليَقِيْنِ: الدُّعَاءُ بِهِ، وَوَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الَلهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُ الَلهَ تَعَالَى أَنْ يَقْسِمَ لَهُ مِنَ اليَقِيْنِ مَا يُهَوِّنُ بِهِ عَلَيهِ مَصَائِبَ الدُّنْيَا، ومِنْ دُعَاءِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «اللَّهُمَّ هَبْ لِي إِيمَانًا وَيَقِينًا وَمُعَافَاةً وَنِيَّةً» وكَانَ عَطَاءُ الْخُرَاسَانِيُّ رَحِمَهُ الَلهُ تَعَالَى لَا يَقُومُ مِنْ مَجْلِسِهِ حَتَّى يَقُولَ:«اللَّهُمَّ هَبْ لَنَا يَقِينًا بِكَ حَتَّى تَهُونَ عَلَيْنَا مُصِيبَاتُ الدُّنْيَا, وَحَتَّى نَعْلَمَ أَنَّهُ لَا يُصِيبُنَا إِلَّا مَا كُتِبَ لَنَا عَلَيْنَا, وَلَا يَأْتِينَا مِنْ هَذَا الرِّزْقِ إِلَّا مَا قَسَمْتَ بِهِ»
وَمِنْ أَسْبَابِ تَحْصِيلِ اليَقِيْنِ: التَّفَكُّرُ فِي أَحْوَالِ السَّابِقِيْنَ، وَقِرَاءَةُ أَخْبَارِهِمْ فِي القُرْآنِ الكَرِيمِ، وَتَعَلُّمُ الْيَقِينِ مِنْ آيَاتِهِ العَظِيْمَةِ، كَمَا قَالَ الَلهُ تَعَالَى [هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ] {الجاثية:20}.
قَالَ خَالِدُ بْنُ مَعْدَانَ رَحِمَهُ الَلهُ تَعَالَى: «تَعَلَّمُوا الْيَقِينَ كَمَا تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ حَتَّى تَعْرِفُوهُ فَإِنِّي أَتَعَلَّمُهُ» وَمَرِضَ الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ رَحِمَهُ الَلهُ تَعَالَى فَقِيلَ لَهُ: «أَلَا نَدْعُو لَكَ طَبِيبًا؟ قَالَ: أَنْظِرُونِي، فَتَفَكَّرَ, ثُمَّ قَالَ:[وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا] {الفرقان: 38} فَذَكَرَ مِنْ حِرْصِهِمْ عَلَى الدُّنْيَا وَرَغْبَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا فِيهَا قَالَ: فَقَدْ كَانَتْ فِيهِمْ أَطِبَّاءُ وَكَانَتْ فِيهِمْ مَرْضَى فَلَا أَرَى الْمُدَاوِي بَقِيَ وَلَا الْمُدَاوَى هَلَكَ ...»
وَقَبْلَ ذَلِكَ وَبَعْدَهُ تَعَلُّقُ الْقَلْبِ بِالَلهِ تَعَالَى، فَلَا يَرْكَنُ إِلَى مَخْلُوقٍ مَهْمَّا بَلَغَتْ قُوَّتُهُ، أَوْ عَلَتْ مَنْزِلَتُهُ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِسَبَبٍ مَهْمَّا كَانَ مَتِينَاً [إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْرَّزَّاقُ ذُوْ الْقُوَّةِ الْمَتِيْنُ] {الْذَّارِيَاتِ:58} بَلْ يَرْكَنُ إِلَى الَلهِ وَحْدَهُ، وَلَا يَكُوْنُ فِي قَلْبِهِ سِوَاهُ، قَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ الَلهِ رَحِمَهُ الَلهُ تَعَالَى: حَرَامٌ عَلَى قَلْبٍ أَنْ يَشْتَمَّ رَائِحَةَ اليَقِينِ وَفِيهِ سُكُونٌ إِلَى غَيْرِ اللَّهِ تعالى.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ..
تَحْصِينُ القُلُوبِ فِي المِحَنِ بِاليَقِينِ
25/5/1432
الحَمْدُ لِلَّهِ العَلِيْمِ القَدِيْرِ [رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ] {الرعد:2} نَحْمَدُهُ عَلَى نِعَمِهِ وَآلَائِهِ، وَنَشْكُرُهُ عَلَى عَطَائِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا الَلهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ دَلَّتْ صِفَاتُهُ وَآيَاتُهُ وَأَفْعَالُهُ عَلَى رُبُوبِيَّتِهِ وَأُلُوهِيَّتِهِ، فَلَا إِلَهَ لَنَا غَيرُهُ، وَلَا رَبَّ لَنَا سِوَاهُ، وَلَا نَعْبُدُ إِلَّا إِيَّاهُ، مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَو كَرِهَ الكَافِرُونَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَمِينُهُ عَلَى وَحْيِّهِ.. بَعَثَهُ الَلهُ تَعَالَى بِالإِيْمَانِ وَاليَقِينِ؛ لِيُطَهِّرَ بِهِ الْقُلُوبَ مِنْ رِجْسِهَا، وَيُزِيلَ شَكَّهَا وَجَحْدَهَا، وَيَمْلَأَهَا سَكِينَةً وَطُمَأْنِينَةً وَيَقِينَاً، صَلَّى اللَهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَعَلِّقُوا بِهِ قُلُوبَكُمْ، وَسَلِّمُوا لَهُ أُمُورَكُمْ، وَأَخْلِصُوا لَهُ دِيْنَكُمْ؛ فَإِنَّ القُوَّةَ لِلهِ جَمِيعَاً، فَمَا شَاءَ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، أَسْقَطَ بِقُدْرَتِهِ عُرُوشَاً مَا ظَنَّ أَحَدٌ أَنَّهَا تَسْقُطُ، وَنَزَعَ الْمُلْكَ مِنْ جَبَابِرَةٍ ظَنُّوا أَنَّهُمْ يُخَلَّدُونَ فِي سُلْطَانِهِمْ، فَأَتَاهُمُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا، وَكَسَاهُمْ ذُلَّاً وَعَارَاً لَا يُنْسَى، فَصَارُوا مِنَ القُصُورِ إِلَى السُّجُونِ، وَبَعْدَ الأَمْرِ وَالنَّهْيِّ يُسْأَلُونَ وَيُهَانُونَ، فَلَا مُلْكَ يَدُومُ إِلَّا لِلَهِ الوَاحِدِ القَهَّارِ [لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ] {الأنبياء:23} [تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ المُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] {الملك:1}.
أَيُّهَا النَّاسُ: تَمُوجُ الْأَرْضُ بِأَحْدَاثٍ لَا يَعْلَمُ النَّاسُ آخِرَهَا، وَلَا يُدْرِكُونَ أَبْعَادَهَا وَنَتَائِجَهَا، وتَفْجَأُهُمْ أَخْبَارٌ لَا يَتَصَوَّرُونَهَا وَلَا يَتَوقَعُونَهَا.. وَمَنْ يُعْنَونَ بِدِرَاسَةِ طَبِيعَةِ الأَرْضِ وَتَغَيُّرَاتِهَا، وَيَرْصُدُونَ كَوَارِثَهَا وَتَحوُلَاتِهَا يُنْذِرُونَ بِأَخْطَارٍ مُحْدِقَةٍ بِالبِشَرِ تَتَغَيَّرُ فِيهَا تَرْكِيبَةُ الأَرْضِ وَأَجْوَاؤُهَا وَمُدُنُهَا وَسَوَاحِلُهَا..لَكِنَّهُمْ لَا يَجْزِمُونَ بِذَلِكَ، وَلَا يَدْرُونَ مَتَى يَكُونُ؟ وَلَا كَيفَ يَكُونُ، وَلَا سُبُلَ النَّجَاةِ مِنهُ، إِنْ يَظُنُّونَ إِلَّا ظَنَّاً وَمَا هُمْ بِمُسْتَيقِنِينَ..
وَعُلَمَاءُ الاجْتِمَاعِ وَالسِّيَاسَةِ وَالاقْتِصَادِ يُحَاوِلُونَ قِرَاءَةَ الوَاقِعِ قِرَاءَةً صَحِيحَةً لاسْتِشْرَافِ المسْتَقْبَلِ، وَتَوَقِّي الْمَخَاطِرِ، وَتَقْلِيلِ الْخَسَائِرِ، لَكِنَّهُمْ أَيْضَاً لَا يَصِلُونَ إِلَى يَقِينٍ، وَلَا يَعْلَمُونَ الغَيبَ القَرِيبُ فَضْلَاً عَنِ البَعِيدِ.. وَكَثِيرٌ مِنَ الدُّوَلِ الْمُتَقَدِّمَةِ قَدْ يَسْعَى سَاسَتُهَا فِي زَوَالِهَا مِنْ حَيْثُ أَرَادُوا الْحِفَاظَ عَلَيهَا، كَمَا نَزَعَ اللَهُ تَعَالَى قَومَاً مِنْ عُرُوشِهِمْ بِكَسْبِ أَيْدِيهِمْ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ، وَلِلرَّبِ سُبْحَانَهُ تَدَابِيرُ لَا يُدْرِكُهَا الْنَّاسِ، فَمَا أَعْظَمَ قُدْرَةَ اللَّهِ تَعَالَى! وَمَا أَوْسَعَ عِلْمَهُ! وَمَا أَعْجَزَ البَشَرَ وَأَشَدَّ جَهْلَهُمْ! وَلَوْ عَلِمُوا مَا عَلِمُوا، وَمَلَكُوا مِنَ القُوَّةِ مَا مَلَكُوا..
إِرْهَاصَاتٌ وَتَوَقَّعَاتٌ تُنْذِرُ بِتَغَيُّرَاتٍ كُبْرَى.. قَدْ تَمْتَدُّ لِتَشْمَلَ البَسِيطَةَ كُلَّهَا.. مَخَاوِفُ وَهَوَاجِسُ تُقْلِقُ كُبْرَيَاتِ الْدُّوَلِ.. وَتَقُضُّ مَضَاجِعَ أَقْوَيَاءِ الْبَشَرِ، يُخْفُونَهَا وَلَا يُبْدُونَهَا، وَيَتَجَلَّدُونَ أَمَامَ الْمَلَأِ إِزَاءَهَا وَهِيَ تَأْكُلُ قُلُوبَهُم..
إِجْرَاءَاتٌ وَاحْتِرَازَاتٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى تَوَقُعَّاتٍ يَسْعَى لَهَا الْأَقْوِيَاءُ مِنَ الْدُّوَلِ وَالْأَفْرَادِ لِتَأْمِينِ أَنْفُسِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَأَوْلادِهِمْ، وَلِتَحْصِينِ دُوَلِهِمْ مِنَ الِاضْطِرَابِ، وَلَكِنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى ظَنٍّ، وَقَدْ يَأْتِيهِمْ خَطَرُهُمْ مِنْ مَأْمَنِهِمْ. فَلَا أَحَدَ غَيْرُ اللَهِ تَعَالَى يَعْلَمُ مَا سَيَكُوْنُ، وَلَا كَيْفَ يَكُوْنُ، وَلَا مَتَى يَكُوْنُ.. وَقَدْ يَحْتَرِزُ الْعَبْدُ بِمَا يَكُوْنُ وَبَالَاً عَلَيْهِ، وَقَدْ يَفِرُّ مِنْ مَأْمَنِهِ إِلَى مَحَلِّ خَوْفِهِ وَهُوَ لَا يَدْرِي.. [وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتَاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا] {الحشر:2}.
وَإِذَا كَانَتِ الْأَحْدَاثُ وَنَتَائِجُهَا بِخَيْرِهَا وَشَرِّهَا وَحُلْوِهَا وَمُرِّهَا لَا تَخْرُجُ عَنْ تَدْبِيرِ اللَه تَعَالَى وَأَمْرِهِ وَقَدَرِهِ؛ فَإِنَّ أَعْظَمَ حِرْزٍ يَحْتَرِزُ بِهِ الْعَبْدُ، وَأَقْوَى حِصْنٍ يَتَحَصَّنُ بِهِ مِنْ كُلِّ حَدَثٍ: الْيَقِيْنُ بِاللَهِ تَعَالَى.. الْيَقِيْنُ بِعِلْمِهِ لِلْغَيبِ، وَإِحَاطَتِهِ بِكُلِّ شَيْءٍ [إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا] {طه:98} [ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ] {البقرة:29} [عَالِمُ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الكَبِيرُ المُتَعَالِ] {الرعد:9}.
وَالْيَقِيْنُ بِقُدْرَتِهِ سُبْحَانَهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَلَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ فِيْ الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ [أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] {البقرة:106} [وَللهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] {آل عمران:189}
وَفِي الْجَمْعِ بَيْنَ العِلْمِ وَالْقُدْرَةِ [إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ] {النحل:70} [وَهُوَ العَلِيمُ القَدِيرُ] {الرُّوم:54} [لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا] {الطَّلاق:12}
وَفِي الْدُّعَاءِ الْمَأْثُوْرِ فَي الاسْتِخَارَةِ:«اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ العَظِيمِ، فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلاَ أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ وَلاَ أَعْلَمُ، وَأَنْتَ عَلَّامُ الغُيُوبِ»رواه البخاري.
وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ يَتَوَسَّلُ فِي بَعْضِ أَدْعِيَتِهِ لِلَهِ تَعَالَى بِصِفَتَي العِلْمِ وَالْقُدْرَةِ فَيَقُوْلُ:«اللَّهُمَّ بِعِلْمِكَ الْغَيْبَ، وَقُدْرَتِكَ عَلَى الْخَلْقِ»رواه النسائي.
وَاليَقِيْنُ بِحِكْمَةِ اللَهُ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ وَقَدَرِهِ وَفِعْلِهِ وَشَرْعِهِ، فَلَا يَخْلُقُ إِلَّا لِحِكْمَةٍ، وَلَا يَأْمُرُ أَمْرَاً كَوْنِيَّاً إِلَّا لِحِكْمَةٍ، وَلَا يُقَدِّرُ قَدَرَاً إِلَّا لِحِكْمَةٍ، وَلَا يَشْرَعُ شَرْعَاً إِلَّا لِحِكْمَةٍ [وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ] {النساء:26} [إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ] {الأنعام:83}
واليَقِينُ بِرَحْمَةِ الَلهِ تَعَالَى [كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ] {الأنعام:12} [إِنَّهُ هُوَ البَرُّ الرَّحِيمُ] {الطُّور:28} [رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا] {غافر:7} [وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ] {الأعراف:156}.
إِنَّ كُلَّ أَمْرٍ نُحَاذِرُهُ، وَكُلَّ حَدَثٍ نَتَوَقَّعُهُ، لَا يَخْرُجُ عَن عِلْمِ الَلهِ تَعَالَى وَقُدْرَتِهِ؛ فَالْيَقِيْنُ بِذَلِكَ يُقَوِّي قَلْبَ الْمُؤْمِنِ الْمُوْقِنِ، وَيُخَفِّفُ عَنْهُ أَلَمَ الْمَصَائِبِ وَالْكَوَارِثِ، فَهِيَ مَعَ ضَخَامَتِهَا وَقُوَّةِ تَدْمِيرِهَا وَفَدَاحَةِ آثَارِهَا تَصْغُرُ وَتَضْمَحِلُّ فِيْ قُلُوْبِ الْمُوْقِنِينَ بِعِلْمِ الَلهِ تَعَالَى وَقُدْرَتِهِ، وَكَأَنَّهَا شَيْءٌ صَغِيرٌ لَا يُؤْبَهُ بِهِ، فَيَزُوْلُ بِيَقِيْنِهِمْ أَثَرُهَا مِنْ قُلُوْبِهِمْ، وَبِيَقِينِهِمْ يَخِفُّ وَقْعُهَا وَأَلَمُهَا عَلَى نُفُوسِهِمْ.. فَبَرْدُ الْيَقِيْنِ يَأْتِي عَلَى حَرَارَةِ الْكَارِثَةِ فَيُزِيلُهُ، فَيَطْمَئِنُ الْقَلْبُ وَيُمْلَأُ بِالسَّكِينَةِ.
وَيَقِينَهُمْ بِحِكْمَةِ الَلهِ تَعَالَى يَمْلَأُ قُلُوْبَهُمْ ثِقَةً بِالَلهِ تَعَالَى فِي أَنَّ مَا يُحْدِثُهُ مِنْ أَحْدَاثٍ، وَمَا يُقَدِّرُهُ مِنْ أَقْدَارٍ عَلَى الْأَفْرَادِ وَالْدُّوَلِ وَالْأُمَمِ فِيهِ مِنَ الحِكَمِ مَا يَعْلَمُونَ بَعْضَهَا أَوْ يَجْهَلُونَهَا كُلَّهَا، فِيَقِينُهُمْ بِحِكْمَةِ الَلهِ تَعَالَى يُزِيلُ مَا يَقْذِفُهُ الشَّيْطَانُ فِي قُلُوْبِهِمْ مِنْ زَعْمِ عَبَثِيَّةِ الأَحْدَاثِ، وَصُدَفِ الأَقْدَارِ..تِلْكَ الْأَفْكَارُ الْشَّيطَانِيَّةُ الَّتِي تَفْتِكُ بِقُلُوبِ العَدَمِيِّينَ وَالعَبَثِيِّينَ وَالَوجْودِيِّينَ.
وَمَنْ أَيْقَنَ بِرَبٍ حَكِيْمٍ عَلِمَ أَنَّ لِجَمِيعِ أَفْعَالِهِ حِكَمَاً فَاسْتَرَاحَ مِنْ التَّفْكِيْرِ وَالْهَوَاجِيسِ، وَلَمْ يَسْتَسْلِمْ لِوَسَاوِسِ إِبْلِيسَ، وَأَمَّنَ نَفْسَهُ فِيْ الْمُسْتَقْبَلِ الْمَنْظُورِ، وَلَمْ يَخَفِ الغَيبَ الْمَجْهُولَ.. وَالْيَقِينُ بِرَحْمَةِ الَلهِ تَعَالَى فِيْهِ أَمَانٌ وَتَسْلِيَةٌ لَا يَجِدُهَا مَنْ فَقَدُوا الْيَقِيْنَ، وَسَاءَتْ ظُنُوْنُهُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِيْنَ.
إِنَّ مَنْ أَيْقَنَ أَنَّ الَلهَ تَعَالَى أَرْحَمُ بِهِ مِنْ وَالِدَتِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِيْنَ، بَلْ أَرْحَمُ بِهِ مِنْ نَفْسِهِ الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيهِ كَيْفَ يَخْشَى قَدَرَاً مَخْبُوءَاً؟ وَكَيْفَ يَخَافُ غَيْبَاً مَجْهُولَاً؟ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ الَّذِي يُقَدِّرُ الْقَدَرَ، وَيَكْتُبُ الْغَيْبَ أَرْحَمُ بِهِ مِنْ أَيِّ أَحَدٍ؟! رَأَى النَّبِيُّ صَلَّى الَلهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْرَأَةً مَسْبِيَّةً إِذَا وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْيِّ أَخَذَتْهُ، فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَتُرَوْنَ هَذِهِ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ قَالُوا: لاَ وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لاَ تَطْرَحَهُ، فَقَالَ: لَلهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا» متفق عليه.
بِالْيَقِيْنِ وَاجَهَ مُوْسَى عَلَيْهِ الْسَّلَامُ أَعْتَى الْبَشَرِ، وَأَشَدَّهُمْ قَسْوَةً، وَأَكْثَرَهُمْ طُغْيَانَاً، وَقَالَ فِي وَجْهِهِ بِثَبَاتٍ وَيَقِينٍ [وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا] {الإسراء:102} وَكَانَ عَلَيْهِ الْسَّلَامُ يُرِيْدُ أَنْ يَغْرِسَ فِيهِمُ الْيَقِيْنَ بِذِكْرِ آَيَاتِ الَلهِ تَعَالَى الْكَوْنِيَّةِ وَالْشَرْعِيَّةِ، فَنَازَعَهُ فِرْعَونُ فِي الرُّبُوْبِيَّةِ لَكِنَّ مُوْسَى رَدَّ عَلَيهِ بِمَا يُفِيدُ اليَقِيْنَ لِمَنْ أَرَادَهُ وَلَمْ يُكَابِرْ [قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ العَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ] {الشعراء:23-24}.
وَبِالصَّبْرِ وَاليَقِينِ تُنَالُ الْإِمَامَةُ فِي الدِّينِ؛ فَالَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ بِوَعْدِ الَلهِ تَعَالَى، وَلَا يَصْبِرُونَ عَلَى ابْتِلَائِهِ، وَلَا يَثْبُتُونَ عَلَى الْحَقِّ الَّذِي ارتَضَاهُ لَيْسُوا جَدِيرِينَ بِالْتَّمْكِينِ لَهُمْ فِي الأَرْضِ، وَلَا إِمَامَةِ النَاسِ فِي الهُدَى، وَقَدْ أَخْبَرَ الَلهُ تَعَالَى عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَزِمُوا الصَّبْرَ وَالْيَقِينَ فَقَالَ سُبْحَانَهُ فِيْهِمْ [وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ] {السجدة:24}، وَفِي أَحْوَالِ الْفِتَنِ وَالْمِحَنِ لَا يَثْبُتُ عَلَى الْهُدَى، وَلَا يَدْعُو النَّاسَ إِلَى الْحَقِّ إِلَّا أَهْلُ الْيَقِينِ، يُثَبِّتُهُمُ الَلهُ تَعَالَى بِيَقِينِهِم بِهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَحَذَّرَ الَلهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ صَلَّى الَلهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ مِنَ الِاسْتِمَاعِ إِلَى أَهْلِ الشَّكِّ وَالرَّيبِ، أَوِ الاغْتِرَارِ بِأَحْوَالِهِمْ، أَوِ الِانْخِدَاعِ بِبَلَاغَةِ أَقْوَالِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ يُغْرُونَ مَنْ يُوَافِقُهُمْ، وَيَسْتَفِزُّونَ مَنْ يُخَالِفُهُمْ، وَهَدَفُهُم فِيْ ذَلِكَ كُلِّهِ نَزْعُ الْيَقِينُ مِنْ قُلُوْبِ الْمُؤْمِنِيْنَ، وَتَحْوِيلُهُمْ إِلَى مُرْتَابَيْنَ.. وَحَقِيْقٌ بِمَنْ مَلَكَ الْإِيْمَانَ أَنْ يَسْعَى إِلَى اليَقِينِ، وَأَنْ لَا يَتَنَازَلَ عَنْهُ مَهْمَا كَلَّفَ الْأَمْرُ، وَأَنْ يَصْبِرَ عَلَى الْأَذَى فِيْ سَبِيلِهِ [فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ الَلهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ] {الرُّوم:60}.
إِنَّ أَعْظَمَ أَمَانٍ يُؤَمِّنُ بِهِ الإِنْسَانُ نَفْسَهُ وَأَهْلَهُ وَوَلَدَهُ مِنَ الْفِتَنِ، وَأَقْوَى حِصْنٍ يَتَحَصَّنُ بِهِ حَالَ الْمِحَنِ: اليَقِيْنُ بِالَلهِ تَعَالَى، فَمَا أَحْوَجَ قُلُوْبَنَا إِلَيهِ فِي زَمَنٍ اشْتَدَّتْ فِيْهِ الفِتَنُ، وَتَتَابَعَتِ الْمِحَنُ، وَاخْتَلَطَ الأَمْرُ، وَتَسَارَعَتِ الْأَحْدَاثُ.. وَمَا أَسْعَدَنَا إِنْ مَلَأْنَا بِهِ قُلُوْبَنَا وَقُلُوْبَ أَهْلِيْنَا وَأَولَادِنَا؛ ذَلِكَ أَنَّ اليَقِيْنَ عِلْمٌ يَحْصُلُ بِهِ ثَلَجُ الصَّدْرِ وَيُسَمَّى بَرْدَ اليَقِينِ. فَهُوَ العِلْمُ الَّذِي يَكُونُ بِهِ اطْمِئْنَانُ النَّفْسِ، وَيَزُولُ ارْتِيَابُهَا وَاضْطِرَابُهَا، وَلَوْ مَاجَتِ الدُّنْيَا بِأَجْمَعِهَا، قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ الَلهُ عَنْهُ «لَمَّا حَضَرَ الْبَأْسُ يَوْمَ بَدْرٍ اتَّقَيْنَا بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى الَلهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ، مَا كَانَ أَحَدٌ أَقْرَبَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ مِنْهُ» رواه أحمد.
اللَّهُمَّ امْلَأْ قُلُوْبَنَا بِالإِيْمَانِ وَالْيَقِينِ، وَثَبِّتْنَا عَلَى الْحَقِّ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ مَضَلَّاتِ الفِتَنِ وَالأَهْوَاءِ، اللَّهُمَّ إِنِّا نَسْأَلُكَ اليَقِينَ وَالعَافِيَةَ، وَالْمُعَافَاةَ الدَّائِمَةَ فِي الدِّينِ وَالْدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ..
وَأَقُوْلُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ الَلهَ...
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدَاً طَيِّبَاً كَثِيْرَاً مُبَارَكَاً فِيْهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا الَلهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ، صَلَّى الَلهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيهِ وَعَلَىَ آَلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الْدِّيِنِ..
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا الَلهَ تَعَالَى وَأَطِيْعُوْهُ [وَاتَّقُوا يَوْمَاً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئَاً وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُوْنَ].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: كَانَ السَّلَفُ الصَّالِحُ عَلَيهِمْ رَحْمَةُ الَلهِ تَعَالَى يَتَحَصَّنُونَ مِنَ الْبَلَاءِ بِاليَقِيْنِ، وَيَتَسَلَّحُونَ فِي مُوَاجَهَتِهِ بِالصَّبْرِ وَالْرِّضَا، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ أَخْبَارٌ غَزِيْرَةٌ، وَأَحْوَالٌ عَجِيْبَةٌ..
إِنَّ مِنْ أَسْبَابِ تَحْصِيلِ اليَقِيْنِ: مَعْرِفَةَ مَقَامَهِ مِنَ الدِّيْنِ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيْثِ «إِنَّ النَّاسَ لَمْ يُؤْتَوْا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا خَيْرًا مِنَ الْيَقِينِ وَالْعَافِيَةِ فَسَلُوهُمَا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ» قَالَ الْحَسَنُ رَحِمَهُ الَلهُ تَعَالَى:«بِالْيَقِينِ طُلِبَتِ الْجَنَّةُ, وَبِالْيَقِينِ هُرِبَ مِنَ النَّارِ, وَبِالْيَقِينِ أُتِيَتِ الْفَرَائِضُ, وَبِالْيَقْيِنِ صُبِرَ عَلَى الْحَقِّ, وَفِي مُعَافَاةِ اللَّهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ، قَدْ وَاللَّهِ رَأَيْنَاهُمْ يَتَقَارَبُونَ فِي الْعَافِيَةِ فَلَمَّا نَزَلَ الْبَلَاءُ تَفَارَقُوا»
وَمِنْ أَسْبَابِ تَحْصِيلِ اليَقِيْنِ: الدُّعَاءُ بِهِ، وَوَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الَلهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُ الَلهَ تَعَالَى أَنْ يَقْسِمَ لَهُ مِنَ اليَقِيْنِ مَا يُهَوِّنُ بِهِ عَلَيهِ مَصَائِبَ الدُّنْيَا، ومِنْ دُعَاءِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «اللَّهُمَّ هَبْ لِي إِيمَانًا وَيَقِينًا وَمُعَافَاةً وَنِيَّةً» وكَانَ عَطَاءُ الْخُرَاسَانِيُّ رَحِمَهُ الَلهُ تَعَالَى لَا يَقُومُ مِنْ مَجْلِسِهِ حَتَّى يَقُولَ:«اللَّهُمَّ هَبْ لَنَا يَقِينًا بِكَ حَتَّى تَهُونَ عَلَيْنَا مُصِيبَاتُ الدُّنْيَا, وَحَتَّى نَعْلَمَ أَنَّهُ لَا يُصِيبُنَا إِلَّا مَا كُتِبَ لَنَا عَلَيْنَا, وَلَا يَأْتِينَا مِنْ هَذَا الرِّزْقِ إِلَّا مَا قَسَمْتَ بِهِ»
وَمِنْ أَسْبَابِ تَحْصِيلِ اليَقِيْنِ: التَّفَكُّرُ فِي أَحْوَالِ السَّابِقِيْنَ، وَقِرَاءَةُ أَخْبَارِهِمْ فِي القُرْآنِ الكَرِيمِ، وَتَعَلُّمُ الْيَقِينِ مِنْ آيَاتِهِ العَظِيْمَةِ، كَمَا قَالَ الَلهُ تَعَالَى [هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ] {الجاثية:20}.
قَالَ خَالِدُ بْنُ مَعْدَانَ رَحِمَهُ الَلهُ تَعَالَى: «تَعَلَّمُوا الْيَقِينَ كَمَا تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ حَتَّى تَعْرِفُوهُ فَإِنِّي أَتَعَلَّمُهُ» وَمَرِضَ الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ رَحِمَهُ الَلهُ تَعَالَى فَقِيلَ لَهُ: «أَلَا نَدْعُو لَكَ طَبِيبًا؟ قَالَ: أَنْظِرُونِي، فَتَفَكَّرَ, ثُمَّ قَالَ:[وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا] {الفرقان: 38} فَذَكَرَ مِنْ حِرْصِهِمْ عَلَى الدُّنْيَا وَرَغْبَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا فِيهَا قَالَ: فَقَدْ كَانَتْ فِيهِمْ أَطِبَّاءُ وَكَانَتْ فِيهِمْ مَرْضَى فَلَا أَرَى الْمُدَاوِي بَقِيَ وَلَا الْمُدَاوَى هَلَكَ ...»
وَقَبْلَ ذَلِكَ وَبَعْدَهُ تَعَلُّقُ الْقَلْبِ بِالَلهِ تَعَالَى، فَلَا يَرْكَنُ إِلَى مَخْلُوقٍ مَهْمَّا بَلَغَتْ قُوَّتُهُ، أَوْ عَلَتْ مَنْزِلَتُهُ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِسَبَبٍ مَهْمَّا كَانَ مَتِينَاً [إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْرَّزَّاقُ ذُوْ الْقُوَّةِ الْمَتِيْنُ] {الْذَّارِيَاتِ:58} بَلْ يَرْكَنُ إِلَى الَلهِ وَحْدَهُ، وَلَا يَكُوْنُ فِي قَلْبِهِ سِوَاهُ، قَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ الَلهِ رَحِمَهُ الَلهُ تَعَالَى: حَرَامٌ عَلَى قَلْبٍ أَنْ يَشْتَمَّ رَائِحَةَ اليَقِينِ وَفِيهِ سُكُونٌ إِلَى غَيْرِ اللَّهِ تعالى.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ..
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى