حبيبه الرحمن
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
الشيخ / عبد الله بن محمد البصري
من عمل صالحًا فلنفسه ومن أساء فعليها
أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابتَغُوا إِلَيهِ الوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا في سَبِيلِهِ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ]
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، حِينَ تَعرِفُ النُّفُوسُ قِيمَتَهَا وَقَدرَهَا ، وَتُقِرُّ بِضَعفِهَا وَتَقصِيرِهَا ، إِذْ ذَاكَ تَتَوَاضَعُ لِرَبِّهَا ، وَتَتَطَامَنُ لِخَالِقِهَا وَرَازِقِهَا ، وتَعتَرِفُ بِنِعَمِهِ عَلَيهَا وَتَنسِبُ إِلَيهِ الفَضلَ وَحدَهُ ، وَهِيَ في هَذَا لا يُمكِنُ أَن تَغفَلَ عَن أَعظَمِ نِعمَةٍ أَنعَمَ بها عَلَيهَا ، وَلا أَن تَجحَدَ أَجَلَّ مِنحَةٍ وَهَبَهَا إِيَّاهَا ، إِنَّهَا نِعمَةُ الهِدَايَةِ لِلإِسلامِ ، وَمِنحَةُ عِمَارَةِ القُلُوبِ بِالإِيمَانِ ، وَمِنَّةُ التَّوفِيقِ لِلعَمَلِ الصَّالِحِ وَالعَطَاءِ وَالإِحسَانِ .
وَحِينَ حَاوَلَ قَومٌ أَن يُظهِرُوا لأَنفُسِهِمُ الفَضلَ بِتَصدِيقِهِم لِرَسُولِ اللهِ وَقَد كَذَّبَهُ غَيرُهُم ، وَمَنُّوا عَلَيهِ بِالإِسلامِ وَزَعَمُوا بُلُوغَ الغَايَةِ في الإِيمَانِ ، جَاءَهُمُ الرَّدُّ بِأَلاَّ يَمُنُّوا بِالإِسلامِ وَأَلاَّ يَدَّعُوا كَمَالَ الإِيمَانِ ، وَقَرَّرَ الرَّبُّ ـ تَبَارَكَ وَتَعَالى ـ أَنَّ المِنَّةَ لَهُ وَحدَهُ عَلَيهِم لَو صَدَقُوا في دَعوَاهُم [قَالَتِ الأَعرَابُ آمَنَّا قُلْ لم تُؤمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسلَمنَا وَلَمَّا يَدخُلِ الإِيمَانُ في قُلُوبِكُم وَإِن تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُم مِن أَعمَالِكُم شَيئًا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ . إِنَّمَا المُؤمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لم يَرتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَموَالِهِم وَأَنفُسِهِم في سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ . قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُم وَاللهُ يَعلَمُ مَا في السَّمَاوَاتِ وَمَا في الأَرضِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ . يَمُنُّونَ عَلَيكَ أَن أَسلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسلامَكُم بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيكُم أَنْ هَدَاكُم لِلإِيمَانِ إِن كُنتُم صَادِقِينَ]
إِنَّهَا الحَقِيقَةُ الَّتي يَنسَاهَا كَثِيرُونَ أَو يَتَنَاسَونَهَا ، بَل قَد تَغِيبُ عَن قُلُوبِ المُؤمِنِينَ وَيَغفَلُ عَنهَا بَعضُ الصَّالِحِينَ وَالمُحسِنِينَ ، إِذْ يِنسِبُونَ إِلى أَنفُسِهِمُ الفَضلَ وَيَفتَخِرُونَ بما حَقَّقُوهُ مِن نَجَاحٍ ، في حِينِ أَنَّ المِنَّةَ للهِ ـ تَعَالى ـ جَمِيعًا وَالفَضلَ كُلَّهُ بِيَدِهِ ، حَيثُ هَدَى مَن شَاءَ مِن عِبَادِهِ لِلإِيمَانِ ، وَوَفَّقَ أَهلَ الإِحسَانِ لِلإِحسَانِ ، وَأَعَانَ أَهلَ الطَّاعَةِ عَلَى طَاعَتِهِم ، وَرَزَقَ أَهلَ المُجَاهَدَةِ الصَّبرَ وَسَدَّدَهُم ، وَلَو وَكَلَهُم إِلى أَنفُسِهِم وَتَخَلَّى عَنهُم ، لَمَا حَرَّكُوا سَاكِنًا وَلا سَكَّنُوا مُتَحَرِّكًا . وَتَمضِي الأَيَّامُ وَتَتَصَرَّمُ الأَعمَارُ ، وَالمَوتُ آتٍ لا مَحَالَةَ ، يُصَدِّقُ بِهِ المُؤمِنُ وَلا يَجحَدُهُ الكَافِرُ ، غَيرَ أَنَّ المُؤمِنَ يَعلَمُ أَنَّ بَعدَ المَوتِ وَالفَنَاءِ بَعثًا وَنُشُورًا ، وَأَنَّ بَعدَ البَعثِ وَالنُّشُورِ حِسَابًا وَجَزَاءً ، وَمِن ثَمَّ فَهُوَ يَعلَمُ أَنَّهُ مُلاقٍ رَبَّهُ طَالَ بِهِ الزَّمَانُ أَو قَصُرَ ، وَيُوقِنُ أَنَّهُ مَجزِيٌّ بمَا عَمِلَ قَلَّ أَو كَثُرَ ، يَقُولُ ـ سُبحَانَهُ ـ : [مَن كَانَ يَرجُو لِقَاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ . وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنيٌّ عَنِ العَالمِينَ] نَعَم ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ المِنَّةُ للهِ وَحدَهُ وَالفَضلُ لَهُ دُونَ سِوَاهُ ، وَمَا يَكُنْ لِلمَرءِ في حَيَاتِهِ مِن صَلاحٍ وَنَجَاحٍ أَو سَدَادٍ وَرَشَادٍ فَهُوَ بِتَوفِيقِ اللهِ ، وَمَا يَكُنْ غَيرَ ذَلِكَ مِن إِخفَاقٍ وَتَعَثُّرٍ أَو فَشَلٍ وَسُقُوطٍ ، فَهُوَ بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ ، وَمَن جَاهَدَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَأَعطَى وَاتَّقَى ، فَإِنَّمَا يُقَدِّمُ لِنَفسِهِ مَا يَجِدُهُ في جَنَّةِ المَأوَى ، وَمَن تَوَانى أَو أَسَاءَ أَو بَخِلَ وَاستَغنَى ، فَإِنَّمَا ذَلِكَ حِملٌ يُثقِلُ بِهِ كَاهِلَهُ ، وَوِزرٌ يَقصِمُ بِهِ ظَهرَهُ ، وَنَارٌ تَتَلَظَّى عَلَيهِ يَومَ يَلقَى رَبَّهُ ، إِلاَّ أَن يَتُوبَ عَلَيهِ ـ تَعَالى ـ وَيَتَغَمَّدَهُ بِوَاسِعِ فَضلِهِ . وَإِذَا كَانَ الأَمرُ كَذَلِكَ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ فَكَيفَ يُتَصَوَّرُ أَن يُجَاهِدَ مُؤمِنٌ نَفسَهُ حَتَّى يَقَطَعَ أَشوَاطًا في طَاعَةِ رَبِّهِ ، ثم يَستَسلِمَ لِلشَّيطَانِ وَيَتَوَقَّفَ في وَسَطِ الطَّرِيقِ أَو قُربَ نِهَايَتِهِ ، مُستَبطِئًا ثَمَنَ مُجَاهَدَتِهِ ، أَو مُستَقِلاًّ مُكَافَأَةَ البَشَرِ لَهُ عَلَى مَا قَدَّمَهُ ، أَتُرَاهُ بِذَلِكَ يَمُنُّ عَلَى رَبِّهِ وَيَستَكثِرُ عَلَيهِ مَا أَسلَفَهُ ؟! أَوَمَا عَلِمَ أَنَّ اللهَ لا يَنَالُهُ مِن جِهَادِ النَّاسِ شَيءٌ وَلَيسَ في حَاجَةٍ إِلى جُهدِ بَشَرٍ ضَعِيفٍ [إِنَّ اللهَ لَغَنيٌّ عَنِ العَالمِينَ] فَالفَضلُ لَهُ ـ تَعَالى ـ أَوَّلاً وَآخِرًا ، وَالمِنَّةُ لَهُ بَاطِنًا وَظَاهِرًا ، فَهُوَ الَّذِي أَعَانَ مَن جَاهَدَ في جِهَادِهِ وَوَفَّقَهُ ، وَهُوَ الَّذِي استَخلَفَهُ مِن قَبلُ في الأَرضِ وَرَزَقَهُ ، وَهُوَ الَّذِي بَعدَ ذَلِكَ يَقبَلُ عَمَلَهُ وَيَأجُرُهُ عَلَيهِ في الآخِرَةِ وَيُضَاعِفُ ثَوَابَهُ [وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنهُم سَيِّئَاتِهِم وَلَنَجزِيَنَّهُم أَحسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعمَلُونَ] وَلَقَد تَوَافَرَتِ الآيَاتُ في كِتَابِ اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ مُقَرِّرَةً هَذَا المَعنى في النُّفُوسِ ، حَتَّى لا يَأتيَ عَامِلٌ فَيَمُنَّ بِعَمَلِهِ لأَنَّ النَّاسَ لم يُثَمِّنُوا جُهدَهُ ، أَو يَتَرَاجَعَ لأَنَّهُم قَصَّرُوا في حَقِّهِ ، أَو يُخَذِّلَ عَنِ الخَيرِ لأَنَّ أَهلَهُ وَالقَائِمِينَ عَلَيهِ لم يَأخُذُوا بِرَأيِهِ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : [فَمَن يَعمَلْ مِثقَالَ ذَرَّةٍ خَيرًا يَرَهُ . وَمَن يَعمَلْ مِثقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ] نَعَم ، مَن يُقَدِّمْ خَيرًا يَجِدْهُ هُوَ بِنَفسِهِ ، وَمَن يَعمَلْ شَرًّا يَكُنْ عَلَيهِ حِملُهُ وَكِفلُهُ ، يَجِدُ كُلَّ ذَلِكَ في كِتَابٍ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحصَاهَا [يَومَ تَجِدُ كُلُّ نَفسٍ مَا عَمِلَت مِن خَيرٍ مُحضَرًا وَمَا عَمِلَت مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَو أَنَّ بَينَهَا وَبَينَهُ أَمَدًا بَعِيدًا] فَمَا أَضَلَّ مَن جَعَلَ هَمَّهُ النَّاسَ فَطَلَبَ مَدَحَهُم وَخَافَ مِن ذَمِّهِم ! وَمَا أَشقَى مَن قَصَرَ نَظَرَهُ عَلَى رَدَّةِ فِعلِهِم نَحوَهُ فَتَصَرَّفَ بِنَاءً عَلَيهَا !
وَحِينَ يَرَى بَعضُ النَّاسِ لِنَفسِهِ فَضلاً لِعَمَلٍ صَالِحٍ فَعَلَهُ ، أَو يَغتَرُّ بِإِحسَانٍ قَدَّمَهُ وَبَذلَهُ ، يَأتي الرَّدُّ العَادِلُ مِنَ اللهِ ـ سُبحَانَهُ ـ حَيثُ قَالَ : [مَن عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفسِهِ وَمَن أَسَاءَ فَعَلَيهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلعَبِيدِ] وَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : [مَن عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفسِهِ وَمَن أَسَاءَ فَعَلَيهَا ثُمَّ إِلى رَبِّكُم تُرجَعُونَ] وَقَالَ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ : [مَن كَفَرَ فَعَلَيهِ كُفرُهُ وَمَن عَمِلَ صَالِحًا فَلأَنفُسِهِم يَمهَدُونَ . لِيَجزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِن فَضلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الكَافِرِينَ] وَقَالَ ـ تَعَالى ـ : [إِنْ أَحسَنتُم أَحسَنتُم لأَنفُسِكُم وَإِنْ أَسَأتُم فَلَهَا] وَقَالَ ـ جَلَّ وَعَلا ـ : [مَنِ اهتَدَى فَإِنَّمَا يَهتَدِي لِنَفسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيهَا] وَالمَعنى أَنَّ هِدَايَتَكُم لأَنفُسِكُم ، وَنَفعَ إِحسَانِكُم عَائِدٌ عَلَيكُم ، وَبَرَكَةَ طَاعَاتِكُم حَالَّةٌ عَلَيكُم قَبلَ غَيرِكُم ، حَيثُ يَفتَحُ اللهُ لَكُم بها أَبوَابَ الخَيرَاتِ ، وَيُضَاعِفُ لَكُم بها الأُجُورَ وَالحَسَنَاتِ، ثُمَّ يُدخِلُكُم بِسَبَبِهَا الجَنَّاتِ وَيَرفَعُ لَكُمُ الدَّرَجَاتِ ، حِينَ يَقُولُ المُؤمِنُونَ هُنَاكَ مُعتَرِفِينَ بِفَضلِ رَبِّهِم : [الحَمدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهتَدِيَ لَولا أَنْ هَدَانَا اللهُ لَقَد جَاءَت رُسُلُ رَبِّنَا بِالحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلكُمُ الجَنَّةُ أُورِثتُمُوهَا بما كُنتُم تَعمَلُونَ] وَأَمَّا المُقَصِّرُ وَالمُسِيءُ وَالضَّالُّ ، فَإِنَّمَا ضَلالُهُ عَلَى نَفسِهِ ، وَضُرُّ إِسَاءَتِهِ رَاجِعٌ عَلَيهِ ، حَيثُ تُسَدُّ في وَجهِهِ أَبوَابُ الخَيرِ وَيُحرَمُ التَّوفِيقَ ، وَتُقفَلُ دُونَهُ سُبُلُ الرَّشَادِ وَالسَّدَادِ ، وَتُمحَقُ بَرَكَةُ مَالِهِ وَعُمرِهِ ، وَيَحبَطُ عَمَلُهُ وَلا يُجزَى إِلاَّ بِسَيِّئَاتِهِ . إِنَّهَا قَاعِدَةٌ تَجعَلُ الإِنسَانَ مَسؤُولاً عَن عَمَلِهِ ، وَتَزِيدُ العَاقِلَ حِرصًا عَلَى إِتقَانِهِ ، لأَنَّهُ يَعلَمُ أَنَّ الجَزَاءَ ثَمَرَةٌ طَبِيعِيَّةٌ لِذَلِكَ العَمَلِ ، وَأَنَّهُ وَحدَهُ المُتَحَمِّلُ نَتَائِجَ أَيِّ تَفرِيطٍ وَتَقصِيرٍ ، فَإِنْ شَاءَ أَحسَنَ فَحَمِدَ العَاقِبَةَ ، وَإِنْ شَاءَ أَسَاءَ فَتَوَجَّهَ اللَّومُ إِلَيهِ .
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، وَتَستَمِرُّ الآيَاتُ المُقَرِّرَةُ لِهَذِهِ القَاعِدَةِ العَظِيمَةِ ، لِيَتَأَصَّلَ في النُّفُوسِ التَّوَاضُعُ لِرَبِّهَا ، وَلِتُقِرَّ بِفَضلِهِ عَلَيهَا ، قَالَ ـ تَعَالى ـ : [وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشكُرُ لِنَفسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنيٌّ كَرِيمٌ] وَقَالَ ـ تَعَالى ـ : [وَمَنْ يَشكُرْ فَإِنَّمَا يَشكُرُ لِنَفسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنيٌّ حَمِيدٌ] وَقَالَ ـ تَعَالى ـ : [وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفسِهِ وَإِلى اللهِ المَصِيرُ] نَعَم ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ لا يَحِقُّ لأَحَدٍ أَن يَرَى نَفسَهُ وَيَتَكَبَّرَ وَيَعتَدَّ بما قَدَّمَ مِن عَمَلٍ ، أَو يَمُنَّ بما أَسلَفَ مِن إِحسَانٍ ، فَالحَمدُ وَالمِنَّةُ للهِ وَحدَهُ ، وَالشُّكرُ لَهُ دُونَ سِوَاهُ ، وَمَا يَكُنْ مِن فَضلٍ فَمِنهُ وَإِلَيهِ ، وَمَن شَكَرَ نِعمَهُ ـ تَعَالى ـ عَلَيهِ وَأَقَرَّ بِفَضلِهِ ، فَإِنَّمَا يَنفَعُ بِذَلِكَ نَفسَهُ لا غَيرَ ، وَمَن كَفَرَ وَجَحَدَ فَإِنَّهُ لا يَضُرُّ رَبَّهُ ، وَكُلُّ عَمَلٍ صَالِحٍ فَإِنما هُوَ تَطهِيرٌ لِقَلبِ صَاحِبِهِ وَتَزكِيَةٌ لِنَفسِهِ ، وَتَخلِيصٌ لَهُ مِن دَنَسِ الكُفرِ وَالذُّنُوبِ . أَلا فَاتَّقُوا اللهَ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ وَأَحسِنُوا القَصدَ وَأَخلِصُوا للهِ النِّيَّةَ ، فَرُبَّ عَمَلٍ صَغِيرٍ تُكَبِّرُهُ النِّيَّةُ ، وَرُبَّ عَمَلٍ كَبِيرٍ تُصَغِّرُهُ النِّيَّةُ ، وَإِنَّ المُتَأَمِّلَ في كَثِيرٍ مِنَ الأَعمَالِ الصَّغِيرَةِ الَّتي عَدَّهَا الإِسلامُ أَعمَالاً صَالِحَةً وَرَتَّبَ عَلَيهَا الأُجُورَ المُضَاعَفَةَ ، لَيَعلَمُ أَنَّهُ مُطَالَبٌ بِحُسنِ النِّيَّةِ وَصَلاحِ القَصدِ ، وَالتَّوَجُّهِ إِلى اللهِ وَالتَّخَلُّصِ مِنَ الخَطَرَاتِ الفَاسِدَةِ ، لِيَنَالَ الأُجُورَ العَظِيمَةَ بِأَعمَالٍ قَلِيلَةٍ ، فَقَد غَفَرَ اللهُ لِبَغِيٍّ مِن بَني إِسرَائِيلَ سَقَت كَلبًا شَربَةَ مَاءٍ ، وَشَكَرَ ـ سُبحَانَهُ ـ لِرَجُلٍ سَقَى كَلبًا وَغَفَرَ لَهُ ، وَرَأَى النَّبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ رَجُلاً يَتَقَلَّبُ في الجَنَّةِ في شَجَرَةٍ قَطَعَهَا مِن ظَهرِ الطَّرِيقِ كَانَت تُؤذِي المُسلِمِينَ ، وَعَدَّ إِمَاطَةَ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ وَالتَّبَسُّمَ في وُجُوهِ النَّاسِ مِن جُملَةِ الصَّدَقَاتِ ، فَكَيفَ بِمَن يَمسَحُ بِصَدَقَتِهِ دَمعَةَ مَحزُونٍ ، أَو يُخَفِّفُ بِعَطَائِهِ كُربَةَ مَكرُوبٍ ، أَو يَشدُّ أَزرَ مَظلُومٍ أَو يُقِيلُ عَثرَةَ مَغلُوبٍ ، أَو يَقضِي دَينَ غَارِمٍ أَو يُيَسِّرُ عَلَى مُعسِرٍ ، أَو يَدُلُّ حَائِرًا أَو يُعَلِّمُ جَاهِلاً ، أَو يَدعُو إِلى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَو يَأمُرُ بِمَعرُوفٍ ، أَو يُرشِدُ ضَالاًّ أَو يَنهَى عَن مُنكَرٍ ، أَو يَدعُمُ حَلَقَةَ تَحفِيظٍ أَو يَبني دَارًا لِتَعلِيمِ كِتَابِ اللهِ ، أَو يَعمُرُ مَسجِدًا أَو يُوقِفُ لِلخَيرِ أَرضًا أَو مِرفَقًا ؟ أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ [الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَموَالَهُم في سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لا يُتبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى لَهُم أَجرُهُم عِندَ رَبِّهِم وَلا خَوفٌ عَلَيهِم وَلا هُم يَحزَنُونَ . قَولٌ مَعرُوفٌ وَمَغفِرَةٌ خَيرٌ مِن صَدَقَةٍ يَتبَعُهَا أَذًى وَاللهُ غَنيٌّ حَلِيمٌ . يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤمِنُ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفوَانٍ عَلَيهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لا يَقدِرُونَ عَلَى شَيءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ لا يَهدِي القَومَ الكَافِرِينَ]
الخطبة الثانية
أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ حَقَّ تُقَاتِهِ ، وَسَارِعُوا إِلى مَغفِرَتِهِ وَمَرضَاتِهِ ، وَاحذَرُوا المَنَّ عَلَيهِ بما تَعمَلُونَ أَوِ استِكثَارَ ما تُقَدِّمُونَ ، فَإِنَّهُ ـ تَعَالى ـ غَنيٌّ عَنكُم وَأَنتُم إِلَيهِ مُحتَاجُونَ [يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الفُقَرَاءُ إِلى اللهِ وَاللهُ هُوَ الغَنيُّ الحَمِيدُ . إِن يَشَأْ يُذهِبْكُم وَيَأتِ بِخَلقٍ جَدِيدٍ . وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ . وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزرَ أُخرَى وَإِنْ تَدعُ مُثقَلَةٌ إِلى حِملِهَا لا يُحمَلْ مِنهُ شَيءٌ وَلَو كَانَ ذَا قُربى إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخشَونَ رَبَّهُم بِالغَيبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفسِهِ وَإِلى اللهِ المَصِيرُ]
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، قَد تَضعُفُ نَفسُ مَن كَانَ يُقَدِّمُ عَملاً صَالحًا ، أَو يَتَرَاجَعُ مَن كَانَ يَدعَمُ مَشرُوعًا خَيريًّا أَو يُسَاهِمُ في عَمَلِ بِرٍّ ، لِحُصُولِ مَوقِفٍ بَينَهُ وَبَينَ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ ، أَو لِعَدَمِ رِضَاهُ عَن عَمَلِ مُؤَسَّسَةٍ خَيرِيَّةٍ مَا ، فَيَمُنُّ بِصَدَقَةٍ كَانَ قَد بَذَلَهَا ، أَو يَقطَعُ دَعمًا كَانَ قَد أَجرَاهُ ، أَو يُوقِفُ استِقطَاعًا أَوِ اشتَرَاكًا كَانَ قَد جَادَ بِهِ ، بَلْ يَبلُغُ الغَضَبُ وَالانتِصَارُ لِلنَّفسِ بِبَعضِهِم دَرَجَةً تَجعَلُهُ يَظلِمُ نَفسَهُ ، وَيَحِيكُ المُؤَامَرَاتِ ضِدَّ بَعضِ الجَمعِيَّاتِ وَالمُؤَسَّسَاتِ الخَيرِيَّةِ ، وَيُحَاوِلُ صَدَّ النَّاسِ عَن دَعمِهَا بِنَسجِ حِكَايَاتٍ أَو اختِرَاعِ شَائِعَاتٍ ، ظَانًّا أَنَّهُ بِذَلِكَ سَيَنتَصِرُ أَو يَقضِي حَاجَةً في نَفسِهِ ، وَمَا عَلِمَ أَنَّهُ يَفقَأُ عَينَهُ بِيَدِهِ ، وَيُقفِلُ عَن نَفسِهِ بَابَ خَيرٍ فَتَحَهُ اللهُ لَهُ ، وَيُحَجِّرُ فَضلاً وَسَّعَهُ اللهُ ، مُتَنَاسِيًا أَنَّ عَمَلَ السُّوءِ لا يَضُرُّ إِلاَّ صَاحِبَهُ ، قَالَ ـ تَعَالى ـ : [وَلا يَحِيقُ المَكرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهلِهِ] وَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : [إِنَّمَا بَغيُكُم عَلَى أَنفُسِكُم] وَقَالَ ـ جَلَّ وَعَلا ـ : [فَمَن نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفسِهِ] وقَالَ ـ تَعَالى ـ : [وَمَن يَبخَلْ فَإِنَّمَا يَبخَلُ عَن نَفسِهِ] فَاحذَرُوا ـ رَحِمَكُمُ اللهُ ـ المَنَّ عَلَى اللهِ بِعَمَلٍ أَو صَدَقَةٍ أَو إِحسَانٍ أَو عَطَاءٍ ، أَوِ الإِعجَابَ بِالنُّفُوسِ وَتَزكِيَتِهَا ، فَقَد رَوَى مُسلِمٌ أَنَّهُ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ قَالَ : [ثَلاثَةٌ لا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَومَ القِيَامَةِ وَلا يَنظُرُ إِلَيهِم وَلا يُزَكِّيهِم وَلهم عَذَابٌ أَلِيمٌ : المُسبِلُ إِزَارَهُ ، وَالمَنَّانُ الَّذِي لا يُعطِي شَيئًا إِلاَّ مَنَّهُ ، وَالمُنَفِّقُ سِلعَتَهُ بِالحَلِفِ الكَاذِبِ] وَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : [ثَلاثٌ مُهلِكَاتٌ : هَوًى مُتَّبَعٌ ، وَشُحٌّ مُطَاعٌ ، وَإِعجَابُ المَرءِ بِنَفسِهِ] رَوَاهُ الطَّبرَانيُّ وَحَسَّنَهُ الأَلبَانيُّ . فَقَدِّمُوا لأَنفُسِكُم وَلَو قَلِيلاً خَالِصًا ، وَاجعَلُوا فِعلَكُم لِلخَيرِ دَائِمًا ، فَإِنَّ أَحَبَّ العَمَلِ إِلى اللهِ أَدوَمُهُ وَإِنْ قَلَّ ، وَإِيَّاكُم وَالنُّكُوصَ عَلَى الأَعقَابِ بَعدَئِذْ هَدَاكُمُ اللهُ لِلحَقِّ ، فَإِنَّهُ لا يُفَرِّطُ في حَلاوَةِ الإِيمَانِ وَالعَمَلِ الصَّالِحِ بَعدَ أَنْ ذَاقَهَا إِلاَّ شَقِيٌّ ، وَلا يَتَجَاهَلُ لَذَّةَ العَطَاءِ وَالبَذلِ بَعدَ أَن أُعطِيَهَا إِلاَّ مَحرُومٌ .
من عمل صالحًا فلنفسه ومن أساء فعليها
أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابتَغُوا إِلَيهِ الوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا في سَبِيلِهِ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ]
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، حِينَ تَعرِفُ النُّفُوسُ قِيمَتَهَا وَقَدرَهَا ، وَتُقِرُّ بِضَعفِهَا وَتَقصِيرِهَا ، إِذْ ذَاكَ تَتَوَاضَعُ لِرَبِّهَا ، وَتَتَطَامَنُ لِخَالِقِهَا وَرَازِقِهَا ، وتَعتَرِفُ بِنِعَمِهِ عَلَيهَا وَتَنسِبُ إِلَيهِ الفَضلَ وَحدَهُ ، وَهِيَ في هَذَا لا يُمكِنُ أَن تَغفَلَ عَن أَعظَمِ نِعمَةٍ أَنعَمَ بها عَلَيهَا ، وَلا أَن تَجحَدَ أَجَلَّ مِنحَةٍ وَهَبَهَا إِيَّاهَا ، إِنَّهَا نِعمَةُ الهِدَايَةِ لِلإِسلامِ ، وَمِنحَةُ عِمَارَةِ القُلُوبِ بِالإِيمَانِ ، وَمِنَّةُ التَّوفِيقِ لِلعَمَلِ الصَّالِحِ وَالعَطَاءِ وَالإِحسَانِ .
وَحِينَ حَاوَلَ قَومٌ أَن يُظهِرُوا لأَنفُسِهِمُ الفَضلَ بِتَصدِيقِهِم لِرَسُولِ اللهِ وَقَد كَذَّبَهُ غَيرُهُم ، وَمَنُّوا عَلَيهِ بِالإِسلامِ وَزَعَمُوا بُلُوغَ الغَايَةِ في الإِيمَانِ ، جَاءَهُمُ الرَّدُّ بِأَلاَّ يَمُنُّوا بِالإِسلامِ وَأَلاَّ يَدَّعُوا كَمَالَ الإِيمَانِ ، وَقَرَّرَ الرَّبُّ ـ تَبَارَكَ وَتَعَالى ـ أَنَّ المِنَّةَ لَهُ وَحدَهُ عَلَيهِم لَو صَدَقُوا في دَعوَاهُم [قَالَتِ الأَعرَابُ آمَنَّا قُلْ لم تُؤمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسلَمنَا وَلَمَّا يَدخُلِ الإِيمَانُ في قُلُوبِكُم وَإِن تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُم مِن أَعمَالِكُم شَيئًا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ . إِنَّمَا المُؤمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لم يَرتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَموَالِهِم وَأَنفُسِهِم في سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ . قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُم وَاللهُ يَعلَمُ مَا في السَّمَاوَاتِ وَمَا في الأَرضِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ . يَمُنُّونَ عَلَيكَ أَن أَسلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسلامَكُم بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيكُم أَنْ هَدَاكُم لِلإِيمَانِ إِن كُنتُم صَادِقِينَ]
إِنَّهَا الحَقِيقَةُ الَّتي يَنسَاهَا كَثِيرُونَ أَو يَتَنَاسَونَهَا ، بَل قَد تَغِيبُ عَن قُلُوبِ المُؤمِنِينَ وَيَغفَلُ عَنهَا بَعضُ الصَّالِحِينَ وَالمُحسِنِينَ ، إِذْ يِنسِبُونَ إِلى أَنفُسِهِمُ الفَضلَ وَيَفتَخِرُونَ بما حَقَّقُوهُ مِن نَجَاحٍ ، في حِينِ أَنَّ المِنَّةَ للهِ ـ تَعَالى ـ جَمِيعًا وَالفَضلَ كُلَّهُ بِيَدِهِ ، حَيثُ هَدَى مَن شَاءَ مِن عِبَادِهِ لِلإِيمَانِ ، وَوَفَّقَ أَهلَ الإِحسَانِ لِلإِحسَانِ ، وَأَعَانَ أَهلَ الطَّاعَةِ عَلَى طَاعَتِهِم ، وَرَزَقَ أَهلَ المُجَاهَدَةِ الصَّبرَ وَسَدَّدَهُم ، وَلَو وَكَلَهُم إِلى أَنفُسِهِم وَتَخَلَّى عَنهُم ، لَمَا حَرَّكُوا سَاكِنًا وَلا سَكَّنُوا مُتَحَرِّكًا . وَتَمضِي الأَيَّامُ وَتَتَصَرَّمُ الأَعمَارُ ، وَالمَوتُ آتٍ لا مَحَالَةَ ، يُصَدِّقُ بِهِ المُؤمِنُ وَلا يَجحَدُهُ الكَافِرُ ، غَيرَ أَنَّ المُؤمِنَ يَعلَمُ أَنَّ بَعدَ المَوتِ وَالفَنَاءِ بَعثًا وَنُشُورًا ، وَأَنَّ بَعدَ البَعثِ وَالنُّشُورِ حِسَابًا وَجَزَاءً ، وَمِن ثَمَّ فَهُوَ يَعلَمُ أَنَّهُ مُلاقٍ رَبَّهُ طَالَ بِهِ الزَّمَانُ أَو قَصُرَ ، وَيُوقِنُ أَنَّهُ مَجزِيٌّ بمَا عَمِلَ قَلَّ أَو كَثُرَ ، يَقُولُ ـ سُبحَانَهُ ـ : [مَن كَانَ يَرجُو لِقَاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ . وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنيٌّ عَنِ العَالمِينَ] نَعَم ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ المِنَّةُ للهِ وَحدَهُ وَالفَضلُ لَهُ دُونَ سِوَاهُ ، وَمَا يَكُنْ لِلمَرءِ في حَيَاتِهِ مِن صَلاحٍ وَنَجَاحٍ أَو سَدَادٍ وَرَشَادٍ فَهُوَ بِتَوفِيقِ اللهِ ، وَمَا يَكُنْ غَيرَ ذَلِكَ مِن إِخفَاقٍ وَتَعَثُّرٍ أَو فَشَلٍ وَسُقُوطٍ ، فَهُوَ بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ ، وَمَن جَاهَدَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَأَعطَى وَاتَّقَى ، فَإِنَّمَا يُقَدِّمُ لِنَفسِهِ مَا يَجِدُهُ في جَنَّةِ المَأوَى ، وَمَن تَوَانى أَو أَسَاءَ أَو بَخِلَ وَاستَغنَى ، فَإِنَّمَا ذَلِكَ حِملٌ يُثقِلُ بِهِ كَاهِلَهُ ، وَوِزرٌ يَقصِمُ بِهِ ظَهرَهُ ، وَنَارٌ تَتَلَظَّى عَلَيهِ يَومَ يَلقَى رَبَّهُ ، إِلاَّ أَن يَتُوبَ عَلَيهِ ـ تَعَالى ـ وَيَتَغَمَّدَهُ بِوَاسِعِ فَضلِهِ . وَإِذَا كَانَ الأَمرُ كَذَلِكَ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ فَكَيفَ يُتَصَوَّرُ أَن يُجَاهِدَ مُؤمِنٌ نَفسَهُ حَتَّى يَقَطَعَ أَشوَاطًا في طَاعَةِ رَبِّهِ ، ثم يَستَسلِمَ لِلشَّيطَانِ وَيَتَوَقَّفَ في وَسَطِ الطَّرِيقِ أَو قُربَ نِهَايَتِهِ ، مُستَبطِئًا ثَمَنَ مُجَاهَدَتِهِ ، أَو مُستَقِلاًّ مُكَافَأَةَ البَشَرِ لَهُ عَلَى مَا قَدَّمَهُ ، أَتُرَاهُ بِذَلِكَ يَمُنُّ عَلَى رَبِّهِ وَيَستَكثِرُ عَلَيهِ مَا أَسلَفَهُ ؟! أَوَمَا عَلِمَ أَنَّ اللهَ لا يَنَالُهُ مِن جِهَادِ النَّاسِ شَيءٌ وَلَيسَ في حَاجَةٍ إِلى جُهدِ بَشَرٍ ضَعِيفٍ [إِنَّ اللهَ لَغَنيٌّ عَنِ العَالمِينَ] فَالفَضلُ لَهُ ـ تَعَالى ـ أَوَّلاً وَآخِرًا ، وَالمِنَّةُ لَهُ بَاطِنًا وَظَاهِرًا ، فَهُوَ الَّذِي أَعَانَ مَن جَاهَدَ في جِهَادِهِ وَوَفَّقَهُ ، وَهُوَ الَّذِي استَخلَفَهُ مِن قَبلُ في الأَرضِ وَرَزَقَهُ ، وَهُوَ الَّذِي بَعدَ ذَلِكَ يَقبَلُ عَمَلَهُ وَيَأجُرُهُ عَلَيهِ في الآخِرَةِ وَيُضَاعِفُ ثَوَابَهُ [وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنهُم سَيِّئَاتِهِم وَلَنَجزِيَنَّهُم أَحسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعمَلُونَ] وَلَقَد تَوَافَرَتِ الآيَاتُ في كِتَابِ اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ مُقَرِّرَةً هَذَا المَعنى في النُّفُوسِ ، حَتَّى لا يَأتيَ عَامِلٌ فَيَمُنَّ بِعَمَلِهِ لأَنَّ النَّاسَ لم يُثَمِّنُوا جُهدَهُ ، أَو يَتَرَاجَعَ لأَنَّهُم قَصَّرُوا في حَقِّهِ ، أَو يُخَذِّلَ عَنِ الخَيرِ لأَنَّ أَهلَهُ وَالقَائِمِينَ عَلَيهِ لم يَأخُذُوا بِرَأيِهِ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : [فَمَن يَعمَلْ مِثقَالَ ذَرَّةٍ خَيرًا يَرَهُ . وَمَن يَعمَلْ مِثقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ] نَعَم ، مَن يُقَدِّمْ خَيرًا يَجِدْهُ هُوَ بِنَفسِهِ ، وَمَن يَعمَلْ شَرًّا يَكُنْ عَلَيهِ حِملُهُ وَكِفلُهُ ، يَجِدُ كُلَّ ذَلِكَ في كِتَابٍ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحصَاهَا [يَومَ تَجِدُ كُلُّ نَفسٍ مَا عَمِلَت مِن خَيرٍ مُحضَرًا وَمَا عَمِلَت مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَو أَنَّ بَينَهَا وَبَينَهُ أَمَدًا بَعِيدًا] فَمَا أَضَلَّ مَن جَعَلَ هَمَّهُ النَّاسَ فَطَلَبَ مَدَحَهُم وَخَافَ مِن ذَمِّهِم ! وَمَا أَشقَى مَن قَصَرَ نَظَرَهُ عَلَى رَدَّةِ فِعلِهِم نَحوَهُ فَتَصَرَّفَ بِنَاءً عَلَيهَا !
وَحِينَ يَرَى بَعضُ النَّاسِ لِنَفسِهِ فَضلاً لِعَمَلٍ صَالِحٍ فَعَلَهُ ، أَو يَغتَرُّ بِإِحسَانٍ قَدَّمَهُ وَبَذلَهُ ، يَأتي الرَّدُّ العَادِلُ مِنَ اللهِ ـ سُبحَانَهُ ـ حَيثُ قَالَ : [مَن عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفسِهِ وَمَن أَسَاءَ فَعَلَيهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلعَبِيدِ] وَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : [مَن عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفسِهِ وَمَن أَسَاءَ فَعَلَيهَا ثُمَّ إِلى رَبِّكُم تُرجَعُونَ] وَقَالَ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ : [مَن كَفَرَ فَعَلَيهِ كُفرُهُ وَمَن عَمِلَ صَالِحًا فَلأَنفُسِهِم يَمهَدُونَ . لِيَجزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِن فَضلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الكَافِرِينَ] وَقَالَ ـ تَعَالى ـ : [إِنْ أَحسَنتُم أَحسَنتُم لأَنفُسِكُم وَإِنْ أَسَأتُم فَلَهَا] وَقَالَ ـ جَلَّ وَعَلا ـ : [مَنِ اهتَدَى فَإِنَّمَا يَهتَدِي لِنَفسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيهَا] وَالمَعنى أَنَّ هِدَايَتَكُم لأَنفُسِكُم ، وَنَفعَ إِحسَانِكُم عَائِدٌ عَلَيكُم ، وَبَرَكَةَ طَاعَاتِكُم حَالَّةٌ عَلَيكُم قَبلَ غَيرِكُم ، حَيثُ يَفتَحُ اللهُ لَكُم بها أَبوَابَ الخَيرَاتِ ، وَيُضَاعِفُ لَكُم بها الأُجُورَ وَالحَسَنَاتِ، ثُمَّ يُدخِلُكُم بِسَبَبِهَا الجَنَّاتِ وَيَرفَعُ لَكُمُ الدَّرَجَاتِ ، حِينَ يَقُولُ المُؤمِنُونَ هُنَاكَ مُعتَرِفِينَ بِفَضلِ رَبِّهِم : [الحَمدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهتَدِيَ لَولا أَنْ هَدَانَا اللهُ لَقَد جَاءَت رُسُلُ رَبِّنَا بِالحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلكُمُ الجَنَّةُ أُورِثتُمُوهَا بما كُنتُم تَعمَلُونَ] وَأَمَّا المُقَصِّرُ وَالمُسِيءُ وَالضَّالُّ ، فَإِنَّمَا ضَلالُهُ عَلَى نَفسِهِ ، وَضُرُّ إِسَاءَتِهِ رَاجِعٌ عَلَيهِ ، حَيثُ تُسَدُّ في وَجهِهِ أَبوَابُ الخَيرِ وَيُحرَمُ التَّوفِيقَ ، وَتُقفَلُ دُونَهُ سُبُلُ الرَّشَادِ وَالسَّدَادِ ، وَتُمحَقُ بَرَكَةُ مَالِهِ وَعُمرِهِ ، وَيَحبَطُ عَمَلُهُ وَلا يُجزَى إِلاَّ بِسَيِّئَاتِهِ . إِنَّهَا قَاعِدَةٌ تَجعَلُ الإِنسَانَ مَسؤُولاً عَن عَمَلِهِ ، وَتَزِيدُ العَاقِلَ حِرصًا عَلَى إِتقَانِهِ ، لأَنَّهُ يَعلَمُ أَنَّ الجَزَاءَ ثَمَرَةٌ طَبِيعِيَّةٌ لِذَلِكَ العَمَلِ ، وَأَنَّهُ وَحدَهُ المُتَحَمِّلُ نَتَائِجَ أَيِّ تَفرِيطٍ وَتَقصِيرٍ ، فَإِنْ شَاءَ أَحسَنَ فَحَمِدَ العَاقِبَةَ ، وَإِنْ شَاءَ أَسَاءَ فَتَوَجَّهَ اللَّومُ إِلَيهِ .
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، وَتَستَمِرُّ الآيَاتُ المُقَرِّرَةُ لِهَذِهِ القَاعِدَةِ العَظِيمَةِ ، لِيَتَأَصَّلَ في النُّفُوسِ التَّوَاضُعُ لِرَبِّهَا ، وَلِتُقِرَّ بِفَضلِهِ عَلَيهَا ، قَالَ ـ تَعَالى ـ : [وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشكُرُ لِنَفسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنيٌّ كَرِيمٌ] وَقَالَ ـ تَعَالى ـ : [وَمَنْ يَشكُرْ فَإِنَّمَا يَشكُرُ لِنَفسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنيٌّ حَمِيدٌ] وَقَالَ ـ تَعَالى ـ : [وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفسِهِ وَإِلى اللهِ المَصِيرُ] نَعَم ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ لا يَحِقُّ لأَحَدٍ أَن يَرَى نَفسَهُ وَيَتَكَبَّرَ وَيَعتَدَّ بما قَدَّمَ مِن عَمَلٍ ، أَو يَمُنَّ بما أَسلَفَ مِن إِحسَانٍ ، فَالحَمدُ وَالمِنَّةُ للهِ وَحدَهُ ، وَالشُّكرُ لَهُ دُونَ سِوَاهُ ، وَمَا يَكُنْ مِن فَضلٍ فَمِنهُ وَإِلَيهِ ، وَمَن شَكَرَ نِعمَهُ ـ تَعَالى ـ عَلَيهِ وَأَقَرَّ بِفَضلِهِ ، فَإِنَّمَا يَنفَعُ بِذَلِكَ نَفسَهُ لا غَيرَ ، وَمَن كَفَرَ وَجَحَدَ فَإِنَّهُ لا يَضُرُّ رَبَّهُ ، وَكُلُّ عَمَلٍ صَالِحٍ فَإِنما هُوَ تَطهِيرٌ لِقَلبِ صَاحِبِهِ وَتَزكِيَةٌ لِنَفسِهِ ، وَتَخلِيصٌ لَهُ مِن دَنَسِ الكُفرِ وَالذُّنُوبِ . أَلا فَاتَّقُوا اللهَ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ وَأَحسِنُوا القَصدَ وَأَخلِصُوا للهِ النِّيَّةَ ، فَرُبَّ عَمَلٍ صَغِيرٍ تُكَبِّرُهُ النِّيَّةُ ، وَرُبَّ عَمَلٍ كَبِيرٍ تُصَغِّرُهُ النِّيَّةُ ، وَإِنَّ المُتَأَمِّلَ في كَثِيرٍ مِنَ الأَعمَالِ الصَّغِيرَةِ الَّتي عَدَّهَا الإِسلامُ أَعمَالاً صَالِحَةً وَرَتَّبَ عَلَيهَا الأُجُورَ المُضَاعَفَةَ ، لَيَعلَمُ أَنَّهُ مُطَالَبٌ بِحُسنِ النِّيَّةِ وَصَلاحِ القَصدِ ، وَالتَّوَجُّهِ إِلى اللهِ وَالتَّخَلُّصِ مِنَ الخَطَرَاتِ الفَاسِدَةِ ، لِيَنَالَ الأُجُورَ العَظِيمَةَ بِأَعمَالٍ قَلِيلَةٍ ، فَقَد غَفَرَ اللهُ لِبَغِيٍّ مِن بَني إِسرَائِيلَ سَقَت كَلبًا شَربَةَ مَاءٍ ، وَشَكَرَ ـ سُبحَانَهُ ـ لِرَجُلٍ سَقَى كَلبًا وَغَفَرَ لَهُ ، وَرَأَى النَّبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ رَجُلاً يَتَقَلَّبُ في الجَنَّةِ في شَجَرَةٍ قَطَعَهَا مِن ظَهرِ الطَّرِيقِ كَانَت تُؤذِي المُسلِمِينَ ، وَعَدَّ إِمَاطَةَ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ وَالتَّبَسُّمَ في وُجُوهِ النَّاسِ مِن جُملَةِ الصَّدَقَاتِ ، فَكَيفَ بِمَن يَمسَحُ بِصَدَقَتِهِ دَمعَةَ مَحزُونٍ ، أَو يُخَفِّفُ بِعَطَائِهِ كُربَةَ مَكرُوبٍ ، أَو يَشدُّ أَزرَ مَظلُومٍ أَو يُقِيلُ عَثرَةَ مَغلُوبٍ ، أَو يَقضِي دَينَ غَارِمٍ أَو يُيَسِّرُ عَلَى مُعسِرٍ ، أَو يَدُلُّ حَائِرًا أَو يُعَلِّمُ جَاهِلاً ، أَو يَدعُو إِلى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَو يَأمُرُ بِمَعرُوفٍ ، أَو يُرشِدُ ضَالاًّ أَو يَنهَى عَن مُنكَرٍ ، أَو يَدعُمُ حَلَقَةَ تَحفِيظٍ أَو يَبني دَارًا لِتَعلِيمِ كِتَابِ اللهِ ، أَو يَعمُرُ مَسجِدًا أَو يُوقِفُ لِلخَيرِ أَرضًا أَو مِرفَقًا ؟ أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ [الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَموَالَهُم في سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لا يُتبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى لَهُم أَجرُهُم عِندَ رَبِّهِم وَلا خَوفٌ عَلَيهِم وَلا هُم يَحزَنُونَ . قَولٌ مَعرُوفٌ وَمَغفِرَةٌ خَيرٌ مِن صَدَقَةٍ يَتبَعُهَا أَذًى وَاللهُ غَنيٌّ حَلِيمٌ . يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤمِنُ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفوَانٍ عَلَيهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لا يَقدِرُونَ عَلَى شَيءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ لا يَهدِي القَومَ الكَافِرِينَ]
الخطبة الثانية
أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ حَقَّ تُقَاتِهِ ، وَسَارِعُوا إِلى مَغفِرَتِهِ وَمَرضَاتِهِ ، وَاحذَرُوا المَنَّ عَلَيهِ بما تَعمَلُونَ أَوِ استِكثَارَ ما تُقَدِّمُونَ ، فَإِنَّهُ ـ تَعَالى ـ غَنيٌّ عَنكُم وَأَنتُم إِلَيهِ مُحتَاجُونَ [يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الفُقَرَاءُ إِلى اللهِ وَاللهُ هُوَ الغَنيُّ الحَمِيدُ . إِن يَشَأْ يُذهِبْكُم وَيَأتِ بِخَلقٍ جَدِيدٍ . وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ . وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزرَ أُخرَى وَإِنْ تَدعُ مُثقَلَةٌ إِلى حِملِهَا لا يُحمَلْ مِنهُ شَيءٌ وَلَو كَانَ ذَا قُربى إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخشَونَ رَبَّهُم بِالغَيبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفسِهِ وَإِلى اللهِ المَصِيرُ]
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، قَد تَضعُفُ نَفسُ مَن كَانَ يُقَدِّمُ عَملاً صَالحًا ، أَو يَتَرَاجَعُ مَن كَانَ يَدعَمُ مَشرُوعًا خَيريًّا أَو يُسَاهِمُ في عَمَلِ بِرٍّ ، لِحُصُولِ مَوقِفٍ بَينَهُ وَبَينَ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ ، أَو لِعَدَمِ رِضَاهُ عَن عَمَلِ مُؤَسَّسَةٍ خَيرِيَّةٍ مَا ، فَيَمُنُّ بِصَدَقَةٍ كَانَ قَد بَذَلَهَا ، أَو يَقطَعُ دَعمًا كَانَ قَد أَجرَاهُ ، أَو يُوقِفُ استِقطَاعًا أَوِ اشتَرَاكًا كَانَ قَد جَادَ بِهِ ، بَلْ يَبلُغُ الغَضَبُ وَالانتِصَارُ لِلنَّفسِ بِبَعضِهِم دَرَجَةً تَجعَلُهُ يَظلِمُ نَفسَهُ ، وَيَحِيكُ المُؤَامَرَاتِ ضِدَّ بَعضِ الجَمعِيَّاتِ وَالمُؤَسَّسَاتِ الخَيرِيَّةِ ، وَيُحَاوِلُ صَدَّ النَّاسِ عَن دَعمِهَا بِنَسجِ حِكَايَاتٍ أَو اختِرَاعِ شَائِعَاتٍ ، ظَانًّا أَنَّهُ بِذَلِكَ سَيَنتَصِرُ أَو يَقضِي حَاجَةً في نَفسِهِ ، وَمَا عَلِمَ أَنَّهُ يَفقَأُ عَينَهُ بِيَدِهِ ، وَيُقفِلُ عَن نَفسِهِ بَابَ خَيرٍ فَتَحَهُ اللهُ لَهُ ، وَيُحَجِّرُ فَضلاً وَسَّعَهُ اللهُ ، مُتَنَاسِيًا أَنَّ عَمَلَ السُّوءِ لا يَضُرُّ إِلاَّ صَاحِبَهُ ، قَالَ ـ تَعَالى ـ : [وَلا يَحِيقُ المَكرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهلِهِ] وَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : [إِنَّمَا بَغيُكُم عَلَى أَنفُسِكُم] وَقَالَ ـ جَلَّ وَعَلا ـ : [فَمَن نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفسِهِ] وقَالَ ـ تَعَالى ـ : [وَمَن يَبخَلْ فَإِنَّمَا يَبخَلُ عَن نَفسِهِ] فَاحذَرُوا ـ رَحِمَكُمُ اللهُ ـ المَنَّ عَلَى اللهِ بِعَمَلٍ أَو صَدَقَةٍ أَو إِحسَانٍ أَو عَطَاءٍ ، أَوِ الإِعجَابَ بِالنُّفُوسِ وَتَزكِيَتِهَا ، فَقَد رَوَى مُسلِمٌ أَنَّهُ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ قَالَ : [ثَلاثَةٌ لا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَومَ القِيَامَةِ وَلا يَنظُرُ إِلَيهِم وَلا يُزَكِّيهِم وَلهم عَذَابٌ أَلِيمٌ : المُسبِلُ إِزَارَهُ ، وَالمَنَّانُ الَّذِي لا يُعطِي شَيئًا إِلاَّ مَنَّهُ ، وَالمُنَفِّقُ سِلعَتَهُ بِالحَلِفِ الكَاذِبِ] وَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : [ثَلاثٌ مُهلِكَاتٌ : هَوًى مُتَّبَعٌ ، وَشُحٌّ مُطَاعٌ ، وَإِعجَابُ المَرءِ بِنَفسِهِ] رَوَاهُ الطَّبرَانيُّ وَحَسَّنَهُ الأَلبَانيُّ . فَقَدِّمُوا لأَنفُسِكُم وَلَو قَلِيلاً خَالِصًا ، وَاجعَلُوا فِعلَكُم لِلخَيرِ دَائِمًا ، فَإِنَّ أَحَبَّ العَمَلِ إِلى اللهِ أَدوَمُهُ وَإِنْ قَلَّ ، وَإِيَّاكُم وَالنُّكُوصَ عَلَى الأَعقَابِ بَعدَئِذْ هَدَاكُمُ اللهُ لِلحَقِّ ، فَإِنَّهُ لا يُفَرِّطُ في حَلاوَةِ الإِيمَانِ وَالعَمَلِ الصَّالِحِ بَعدَ أَنْ ذَاقَهَا إِلاَّ شَقِيٌّ ، وَلا يَتَجَاهَلُ لَذَّةَ العَطَاءِ وَالبَذلِ بَعدَ أَن أُعطِيَهَا إِلاَّ مَحرُومٌ .
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى