حبيبه الرحمن
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
الشيخ / إبراهيم بن محمد الحقيل
العزة بالحق والعزة بالإثم
9/11/1432
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ وَلِيِّ الْمُؤْمِنِينَ وَنَاصِرِهِمْ، وَعَدُوِّ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَكَابِتِهِمْ، نَحْمَدُهُ عَلَى نِعَمِهِ وَآلَائِهِ، وَنَشْكُرُهُ عَلَى فَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ كَتَبَ الْعِزَّةَ لِأَوْلِيَائِهِ، وَالذِّلَّةَ عَلَى أَعْدَائِهِ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أَمَرَ النَّاسَ بِاتِّبَاعِهِ، وَطَاعَةِ أَمْرِهِ، وَتَصْدِيقِ خَبَرِهِ، وَالاسْتِسْلَامِ لِشَرِيعَتِهِ، [وَمَا كَانَ لِمُؤۡمِن وَلَا مُؤۡمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥٓ أَمرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلخِيَرَةُ مِنۡ أَمرِهِمۡۗ وَمَن يَعصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَقَدۡ ضَلَّ ضللا مُّبِينا] {الأحزاب:36}، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ؛ كَانُوا مُسْتَسْلِمِينَ لِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى، مُسْتَمْسِكِينَ بِدِينِهِ، خَاضِعِينَ لِشَرِيعَتِهِ، يَتَفَقَّدُونَ قُلُوبَهُمْ، وَيَسْعَوْنَ فِي زِيَادِةِ إِيمَانِهِمْ، وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: تَعَالَ بِنَا نُؤْمِن سَاعَةً؛ أَيْ: نَزِيدُ إِيمَانَنَا بِذِكْرِ اللهِ تَعَالَى، وَعَلَى التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَاسْتَسْلِمُوا لِأَمْرِهِ، وَاسْتَمْسِكُوا بِشَرِيعَتِهِ، وَحَاذِرُوا التَّمَرُّدَ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا، وَاخْشَوْا تَقَلُّبَ الْقُلُوبِ، وَبَاعِدُوا عَنْ أَوْصَافِ الْمُنَافِقِينَ؛ فَلَا يَسْلَمُ مِنَ النِّفَاقِ إِلَّا مَنْ خَافَهُ عَلَى نَفْسِهِ؛ [يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱستَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمۡ لِمَا يُحيِيكُمۡۖ وَٱعلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَحُولُ بَينَ ٱلمَرۡءِ وَقَلبِهِۦ وَأَنَّهُۥٓ إِلَيهِ
تُحشَرُونَ] {الأنفال:24}.
أَيُّهَا النَّاسُ: الْعِزَّةُ فِي الْحَقِّ جِهَادٌ، وَالْعِزَّةُ فِي الْبَاطِلِ نِفَاقٌ، وَالإِنْسَانُ -أَيُّ إِنْسَانٍ- يُحِبُّ الْعِزَّةَ لِنَفْسِهِ، وَيَكْرَهُ الذُّلَّ لَهَا، وَالنَّاسُ يَتَلَمَّسُونَ مَوَاطِنَ الْعِزَّةِ، وَيَطْلُبُونَهَا لَأَنْفُسِهِمْ؛ وَلِذَا يَسْعَوْنَ لِلْجَاهِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ عِزَّةٍ عَلَى مَنْ يَعْرِفُونَهُمْ، وَيَكْدَحُونَ فِي جَمْعِ الْمَالِ؛ لِنَيْلِ الْعِزَّةِ بِهِ، يَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ، وَالْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، إِلَّا أَنَّ الْمُؤْمِنَ قَوِيٌ بِإِيمَانِهِ، عَزِيزٌ بِدِينِهِ، قَدْ ذَلَّ للهِ تَعَالَى؛ فَأَعَزَّهُ اللهُ سُبْحَانَهُ، فَلَا يَذِلُّ لِسِوَاهُ، وَلَا يَخْشَى غَيْرَهُ.
إِنَّ الْعِزَّةَ قَدْ تَكُونُ فِي الْحَقِّ، فَيَكُونُ صَاحِبُهَا عَزِيزًا وَلَوْ كَانَ ضَعِيفًا مُسْتَضَامًا، لَا يَذِلُّ لِلْخَلْقِ، وَلَا يَتَنَازَلُ عَنْ شَيْءٍ مِنْ دِينِهِ، عَزِيزٌ بِعِزَّةِ اللهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ قَدْ شَرُفَ بِعُبُودِيَّتِهِ لَهُ، وَالانْتِسَابِ لِدِينِهِ، وَالْفَخْرِ بِإِسْلَامِهِ، وَتَطْبِيقِ شَرِيعَتِهِ، وَلَوْ سَخِرَ مِنْهُ السَّاخِرُونَ، وَاسْتَهْزَأَ بِهِ الْمُنَافِقُونَ؛ فَهَذِهِ هِيَ الْعِزَّةُ بِالْحَقِّ؛ لِأَنَّهَا اعْتِزَازٌ بِمَنْ يَمْلِكُ الْعِزَّةَ، وَانْتِسَابٌ لِدِينِهِ، وَتَطْبِيقٌ لِشَرِيعَتِهِ، وَاللهُ تَعَالَى مُتَّصِفٌ بِالْعِزَّةِ الْكَامِلَةِ الَّتِي لَا نَقْصَ فِيهَا، وَلَا أَحَدَ أَعَزُّ مِنْهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بَلْ لَا عِزَّةَ لِمَخْلُوقٍ إِلَّا بِهِ -عَزَّ وَجَلَّ-:[سُبحَٰنَ رَبِّكَ رَبِّ ٱلعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ] {الصَّفات:180}، [مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلعِزَّةَ فَلِلَّهِ ٱلعِزَّةُ جَمِيعًاۚ] {فاطر:10}.
وَمِنْ أَوْصَافِ أَهْلِ هَذِهِ الْعِزَّةِ أَنَّهُمْ:[أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَينَهُمۡۖ] {الفتح:29}، وَنَعَتَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ:[أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلمُؤۡمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلكَٰفِرِينَ] {المائدة:54}، فَلَا يَلِينُونَ فِي الْحَقِّ، وَلَا يُدَاهِنُونَ الْخَلْقَ، وَلَا يَسْتَكِينُونَ لِلْعَدُوِّ، وَلَا يَتَنَازَلُونَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ دِينِهِمْ مَهْمَا رُغِّبُوا أَوْ رُهِّبُوا، قَالَ اللهُ تَعَالى فِي وَصْفِهِمْ فِي الْأُمَمِ السَّابِقَةِ:[فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا ٱستَكَانُواْۗ] {آل عمران:146}، وَقاَلَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ:«لَمْ يَكُنْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُتَحَزِّقِينَ وَلَا مُتَمَاوِتِينَ، وَكَانُوا يَتَنَاشَدُونَ الشِّعْرَ فِي مَجَالِسِهِمْ، وَيَذْكُرُونَ أَمْرَ جَاهِلِيَّتِهِمْ، فَإِذَا أُرِيدَ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، دَارَتْ حَمَالِيقُ عَيْنَيْهِ كَأَنَّهُ مَجْنُونٌ»؛ أَيْ: غَيْرَةً للهِ تَعَالَى، وَنُصْرَةً لِدِينِهِ، وَاعْتِزَازًا بِالْحَقِّ!
وَعَلَى الْمُؤْمِنِ أَلاَّ يَيْئَسَ لِمَا يَرَى مِنْ عِزَّةِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَقُوَّتِهِمْ وَغَلَبَتِهِمْ؛ لِأَنَّهُ مُعْتَزٌّ بِاللهِ تَعَالَى، وَهُوَ سُبْحَانَهُ فَوْقَهُمْ؛ وَلِأَنَّ الْأَيَّامَ دُوَلٌ، وَالْعَاقِبَةَ لِلتَّقْوَى؛ [وَلَا يَحزُنكَ قَوۡلُهُمۡۘ إِنَّ ٱلعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًاۚ] {يونس:65}.
إِنَّ أَهْلَ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ تَغُرُّهُمْ قَوَّتُهُمْ، وَتُعْجِبُهُمْ كَثْرَتُهُمْ، فَيَعْتَزُّونَ بِهَا، وَمِنْ أَمْثَالِ الْعَرَبِ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُمْ:«وَإِنَّمَا الْعِزَّةُ لِلْكَاثِرِ»، وَقَوْلُهُمْ: «لَنْ نُغْلَبَ مِنْ قِلَّةٍ»؛ فَيَكُونُ إِعْجَابُهُمْ بِقُوَّتِهِمْ أَوْ كَثْرَتِهِمْ بَاعِثًا لَهُمْ عَلَى رَفْضِ الْحَقِّ، وَالْعُلُوِّ فِي الْأَرْضِ، وَالضَّعِيفُ مِنْهُمْ يَعْتَزُّ بِالْقَوِّيِّ، كَمَا اعْتَزَّ السَّحَرَةُ بِفِرْعَوْنَ؛ لِأَنَّهُ أَقْوَى مِنْهُمْ؛ [وَقَالُواْ بِعِزَّةِ فِرۡعَوۡنَ إِنَّا لَنَحنُ ٱلغَٰلِبُونَ] {الشعراء:44}.
وَأَمَّا أَهْلُ النِّفَاقِ فَهُمْ مُعْتَزُّونَ بِالْكُفَّارِ، يَذِلُّونَ لَهُمْ، وَيُسَارِعُونَ فِيهِمْ، وَيُطَبِّقُونَ مَنَاهِجَهُمْ، وَيَتَّبِعُونَهُمْ فِي ضَلَالِهِمْ؛ طَلِبًا لِلْعِزَّةِ مِنْهُمْ، كَمَا حَكَى اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فَقَالَ سُبْحَانَهُ: [بَشِّرِ ٱلمُنَٰفِقِينَ بِأَنَّ لَهُمۡ عَذَابًا أَلِيمًا ١٣٨ ٱلَّذِينَ يَتَّخِذُونَ ٱلكَٰفِرِينَ أَوۡلِيَآءَ مِن دُونِ ٱلمُؤۡمِنِينَۚ أَيَبتَغُونَ عِندَهُمُ ٱلعِزَّةَ فَإِنَّ ٱلعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعا] {النساء:138-139}.
وَمَنِ اعْتَزَّ بِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى، فَإِنَّ عَاقِبَتَهُ إِلَى ذُلٍّ، وَانْظُرُوا إِلَى حَالِ بَعْضِ طُغَاةِ الْعَصْرِ، كَيْفَ هَوَوْا مِنْ ذُرَى الْعَلْيَاءِ وَالْمَجْدِ إِلَى أَسْفَلِ دَرَكَاتِ الذُّلِ؛ لِأَنَّهُمُ اعْتَزُّوا بِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى؛ فَأَذَلَّهُمُ اللهُ تَعَالَى، وَتَخَلَّى عَنْهُمْ مَنِ اعْتَزُّوا بِهِمْ! وَجَمِيلٌ فِي هَذَا قَوْلُ عُبَيْدَةَ بْنِ أَبِي لُبَابَةَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: «مَنْ طَلَبَ عِزًّا بِبَاطِلٍ وَجَوْرٍ؛ أَوْرَثَهُ اللهُ ذُلًّا بِإِنْصَافٍ وَعَدْلٍ».
وَكَثِيرًا مَا تَمْنَعُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ أَصْحَابَهَا مِنْ قَبُولِ الْحَقِّ، سَوَاءٌ كَانُوا مِنَ الْكُفَّارِ، أَمْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، أَمْ مِنْ عُصَاةِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِذَا دُعِيَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى؛ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ، فَرَفَضَ الانْصِيَاعَ لِلْحَقِّ، وَاسْتَكْبَرَ عَنْ قَبُولِ النُّصْحِ، وَمَا مَنَعَهُمْ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا عِزَّتُهُمْ بِالْإِثْمِ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى:[وَإِذَا قِيلَ لَهُ ٱتَّقِ ٱللَّهَ أَخَذَتهُ ٱلعِزَّةُ بِٱلإِثمِۚ] {البقرة:206}، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى: [بَلِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي عِزَّة وَشِقَاق] {ص:2}؛ أَيْ: مَا يَحُسُّونَهُ مِنْ عِزَّةٍ بِالْبَاطِلِ، وَحَمِيَّةٍ لَهُ، يَمْنَعُهُمْ مِنَ الْخُضُوعِ لِلْحَقِّ.
وَعِزَّتُهُمْ بِالْإِثْمِ جَعَلَتْهُمْ يُكَذِّبُونَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَيُعَادُونَهُ، وَيَصُدُّونَهُ عَنِ الْبَيْتِ لَمَّا جَاءَ مُعْتَمِرًا، وَقَالُوا فِي تَعْلِيلِ ذَلِكَ:«قَدْ قَتَلُوا أَبْنَاءَنَا وَإِخْوَانَنَا، ثُمَّ يَدْخُلُونَ عَلَيْنَا، فَتَتَحَدَّثُ الْعَرَبُ أَنَّهُمْ دَخَلُوا عَلَيْنَا عَلَى رَغْمِ أُنُفِنَا»، وَفِي هَذَا يَقُولُ اللهُ تَعَالَى:[ إِذۡ جَعَلَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ ٱلجَٰهِلِيَّةِ] {الفتح:26}.
وَإِذَا ذُكِّرُوا بِالْقُرْآنِ، وَوُعِظُوا بِآيَاتِهِ، وَقَرَّعَهُمْ وَعْدُهُ وَوَعِيدُهُ؛ مَنَعَتْهُمْ عِزَّتُهُمْ بِالْإِثْمِ مِنَ التَّأَثُّرِ بِالْقُرْآنِ وَمَوَاعِظِهِ، وَأَصَرُّوا عَلَى ضَلَالِهِمْ أَنَفَةً وَعِزَّةً وَحَمِيَّةً وَكِبْرًا؛ [وَإِذَا تُتلَىٰ عَلَيهِمۡ ءَايَٰتُنَا بَيِّنَٰت تَعرِفُ فِي وُجُوهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلمُنكَرَۖ يَكَادُونَ يَسطُونَ بِٱلَّذِينَ يَتلُونَ عَلَيهِمۡ ءَايَٰتِنَاۗ] {الحج:72}.
وَيَجْرِي ذَلِكَ عَلَى بَعْضِ عُصَاةِ الْمُسْلِمِينَ، فَيَرْفُضُونَ الْحَقَّ؛ عَزَّةً وَكِبْرًا، وَيُخْشَى عَلَى مَنْ كَانَ كَذَلِكَ أَنْ يَهْوِي إِلَى دَرَكِ النِّفَاقِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمُؤْمِنِ خُضُوعُهُ لِلْحَقِّ، وَلِينُ قَلْبِهِ لِلذِّكْرِ، وَتَأَثُّرُهُ بِالْمَوْعِظَةِ، وَفِي قَوْلِ اللهِ تَعَالَى:[إِنَّمَا ٱلمُؤۡمِنُونَ ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتۡ قُلُوبُهُمۡ] {الأنفال:2} قَالَ السُّدِّيُّ: «إِذَا أَرَادَ أَنْ يَظْلِمَ مَظْلَمَةً قِيلَ لَهُ: اتَّقِ اللهَ، كَفَّ وَوَجِلَ قَلْبُهُ».
وَعَلَى الْعَكْسِ مِنْهُ أَهْلُ الاسْتِكْبَارِ، فَإِنَّ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ إِذَا قِيلَ لَهُ: [ٱتَّقِ ٱللَّهَ أَخَذَتهُ ٱلعِزَّةُ بِٱلإِثمِۚ] قَالَ قَتَادَةُ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: «الْمَعْنَى: إِذَا قِيلَ لَهُ: مَهْلًا، ازْدَادَ إِقْدَامًا عَلَى الْمَعْصِيَةِ».
وَإِذَا أُمِرَ الْمُؤْمِنُ بِالتَّقْوَى وَجَبَ عَلَيْهِ الْخُضُوعُ وَالْقَبُولُ، وَلَوْ كَانَ هُوَ مُحِقًّا، وَكَانَ آمِرُهُ مُبْطِلًا، فَإِنَّهُ مَا أَمَرَهُ إِلَّا بِحَقٍّ، وَأَتْقَى النَّاسِ وَأَعْبَدُهُمْ مُحْتَاجٌ إِلَى التَّذْكِيرِ بِالتَّقْوَى، وَلَا يَلْزَمُ لِقَبُولِ التَّذْكِرَةِ أَنْ يَكُونَ مَنْ يُذَكِّرُهُ تَقِيًّا، فَوَجَبَ أَنْ يَقْبَلَهَا مِنْهُ وَلَوْ كَانَ فَاسِقًا أَوْ كَافِرًا؛ لَعَظِيمِ مَا ذُكِّرَ بِهِ، وَفِي هَذَا يَقُولُ ابْنُ مُسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-:«كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا إِذَا قِيلَ لَهُ: اتَّقِ اللهَ، غَضِبَ»، وَفِي رِوَايَةٍ :«كَفَى بِالرَّجُلِ إِثْمًا أَنْ يَقُولَ لَهُ أَخُوهُ: اتَّقِ اللهَ، فَيَقُولُ: عَلَيْكَ نَفْسَكَ، أَأَنْتَ تَأْمُرُنِي؟!»، وَتَاللهِ مَا أَكْثَرَ مَنْ يَرُدُّ بِهَذَا الرَّدِّ إِنْ وُعِظَ أَوْ ذُكِّرَ بِالتَّقْوَى!!
بَلْ إِنَّ الْقَاضِي فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ بَيْنَ الْخَصْمَينِ إِذَا حَكَمَ عَلَى أَحَدِهِمَا، فَقَالَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ لِلْقَاضِي: اتَّقِ اللهَ، فَلَا يَغْضَبُ وَلَا يُعَاقِبُهُ، وَيَرُدُّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: رَزَقَنِي اللهُ التَّقْوَى، أَوَ مَا أَمَرْتَ إِلَّا بِخَيْرٍ، أَوْ نَحْو ذَلِكَ، وَيُبَيِّنُ لَهُ وَجْهَ الْحُكْمِ عَلَيْهِ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ.
نَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أَنْ يُصْلِحَ قُلُوبَنَا، وَأَنْ يُلِينَهَا لِلذِّكْرِ، وَأَنْ يُخْضِعَهَا لِلْحَقِّ، وَأَنْ يُزِيلَ عُلُوَّهَا وَاسْتِكْبَارَهَا، إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ، وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الحَمْدُ للهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ، كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ، فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ؛ [وَٱتَّقُواْ يَوۡما تُرۡجَعُونَ فِيهِ إِلَى
ٱللَّهِۖ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفس مَّا كَسَبَتۡ وَهُمۡ لا يُظلَمُونَ] {البقرة:281}
أَيُّهَا النَّاسُ: حَفلَ تَارِيخُ الْبَشَرِ بِقَوْمٍ ذُكِّرُوا بِاللهِ تَعَالَى فَتَذَكَّرُوا، وَدُعُوْا إِلَى تَقْوَاهُ فَاسْتَجَابُوا، وَخُوِّفُوا بِهِ فَخَافُوا؛ فَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ.
كَمَا وُجِدَ فِي تَارِيخِ الْبَشَرِ أَقْوَامٌ ذُكِّرُوا فَلَمْ يَتَذَكَّرُوا، وَدُعُوا إِلَى التَّقْوَى فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا، وَخُوِّفُوا بِاللهِ تَعَالَى فَلَمْ يَرْتَدِعُوا، بَلْ أَخَذَتْهُمُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ، وَأَصَرُّوا عَلَى الذَّنْبِ؛ فَكَانَ ذَلِكَ شُؤْمًا عَلَيْهِمْ.
وَمِمَّنْ تَذَكَّرُوا وَاسْتَجَابُوا: ذَلِكَ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ يُحِبُّ ابْنَةَ عَمِّهِ حُبًّا شَدِيدًا، وَرَاوَدَهَا فَأَبَتْ، حَتَّى إِذَا احْتَاجَتْ إِلَى الْمَالِ شَارَطَهَا عَلَى عِرْضِهَا؛ فَوَافَقَتْ مُضْطَرَّةً، فَلَمَّا تَمَكَّنَ مِنْهَا وَجَلَسَ بَيْنَ رِجْلَيْهَا وَعَظَتْهُ، فَقَالَتْ: اتَّقِ اللهَ، وَلَا تَفُضَّ الْخَاتَمَ إِلَّا بِحَقِّهِ، فَاسْتَجَابَ لِدَاعِي التَّقْوَى، وَأَسْعَفَهُ خَوْفُهُ مِنَ اللهِ تَعَالَى فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ، فَقَامَ عَنْهَا، وَهِيَ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيْهِ، وَلَمْ يَأْخُذْ مِمَّا أَعْطَاهَا شَيْئًا، فَلَمَّا حُصِرَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ فِي الْغَارِ؛ فَرَّجَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ بِهَذَا الْعَمَلِ الْجَلِيلِ، مَعَ مَا ادَّخَرَ لَهُ مِنْ ثَوْابِ الْآخِرَةِ وَجَزَائِهِا.
وَمِنْ مَشَاهِيرِ الْمُسْتَجِيبِينَ لِلتَّذْكِيرِ بِالتَّقْوَى فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ: عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مَعَ قُوَّتِهِ وَعَدْلِهِ وَجَاهِهِ، فَهُوَ خَلِيفَةُ الْمُسْلِمِينَ، رَوَى الْحَسَنُ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِعُمَرَ: «اتَّقِ اللهَ، قَالَ: وَمَا فِينَا خَيْرٌ إِنْ لَمْ يُقَلْ لَنَا، وَمَا فِيهِمْ خَيْرٌ إِنْ لَمْ يَقُولُوا لَنَا».
وَكَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَقْبَلُ التَّذْكِيرَ مِنْ أَيِّ أَحَدٍ؛ كَمَا رَوَى عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ:«خَرَجَ عُمَرُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- مِنَ الْمَسْجِدِ، وَمَعَهُ الْجَارُودُ الْعَبْدِيُّ، فَإِذَا بِامْرَأَةٍ بَرْزَةٍ عَلَى ظَهْرِ الطَّرِيقِ، فَسَلَّمَ عَلَيْهَا عُمَرُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فَرَدَّتْ عَلَيْهِ، أَوْ سَلَّمَتْ عَلَيْهِ، فَرَدَّ عَلَيْهَا، ثُمَّ قَالَتْ: هِيهْ يَا عُمَرُ، عَهِدْتُكَ وَأَنْتَ تُسَمَّى عُمَيْرًا فِي سُوقِ عُكَاظٍ، تُصَارِعُ الصِّبْيَانَ، فَلَمْ تَذْهَبِ الْأَيَّامُ وَاللَّيَالِي حَتَّى سُمِّيتَ: عُمَرَ، ثُمَّ لَمْ تَذْهَبِ الْأَيَّامُ حَتَّى سُمِّيتَ: أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَاتَّقِ اللَّهَ فِي الرَّعِيَّةِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ مَنْ خَافَ الْوَعِيدَ قَرُبَ مِنْهُ الْبَعِيدُ، وَمَنْ خَافَ الْمَوْتَ خَشِيَ الْفَوْتَ، فَبَكَى عُمَرُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فَقَالَ الْجَارُودُ: هِيهْ، فَقَدْ أَكْثَرْتِ وَأَبْكَيْتِ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَنْهَا: أَوَمَا تَعْرِفُ هَذِهِ؟ هَذِهِ خَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيمٍ، امْرَأَةُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، الَّتِي سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَهَا مِنْ سَمَائِهِ، فَعُمَرُ وَاللَّهِ أَجْدَرُ أَنْ يَسْمَعَ لَهَا».
وَغَضِبَ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ فِي دَوْلَةِ بَنِي العَبَّاسِ عَلَى رَجُلٍ؛ فَأَمَرَ أَنْ يُطْرَحَ مِنَ القَصْرِ، فَقَالَ الرَّجُلُ:«اتَّقِ اللهَ، فَقَالَ: خَلُّوا سَبِيلَهُ؛ فَإِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الَّذِينَ قَالَ اللهُ تَعَالَى فِيهِمْ: [وَإِذَا قِيلَ لَهُ ٱتَّقِ ٱللَّهَ أَخَذَتهُ ٱلعِزَّةُ بِٱلإِثمِۚ] {البقرة:206}».
وَفِي مُقَابِلِ ذَلِكَ فَإِنَّ قَوْمًا أَنِفُوا مِنَ المَوْعِظَةِ، وَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لِلتَّذْكِرَةِ، وَأَخَذَتْهُمُ العِزَّةُ بِالإِثْمِ فَبُؤْسًا لَهُمْ؛ مَرَّ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ عَلَى رَجُلٍ فَرَآهُ عَلَى بَعْضِ مَا يَكْرَهُ، فَقَالَ:«يَا هَذَا، اتَّقِ اللهَ، قَالَ: يَا مَالِكُ، دَعَنَا نَدُقُّ العَيْشَ دَقًّا، فَلَمَّا حَضَرَتِ الرَّجُلَ الوَفَاةُ، قِيلَ لَهُ: قُلْ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، قَالَ: إِنِّي أَجِدُ عَلَى رَأْسِي مَلَكًا يَقُولُ: وَاللهِ لَأَدُقَّنَّكَ دَقًّا»!
وَقَالَ رَجُلٌ لِأَحَدِ الكُبَرَاءِ: «اتَّقِ اللهَ، قَالَ: أَوَمِثْلُكَ يَأْمُرُ مِثْلِي بِتَقْوَى اللهِ؟! فَرَدَّ عَلَيْهِ قَائِلاً: لاَ أَحَدَ فَوْقَ أَنْ يُوصَى بِتَقْوَى اللهِ، وَلاَ دُونَ أَنْ يُوصِي بِتَقْوَى اللهِ».
أَيُّهَا الإِخْوَةُ: إِنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ إِذَا أُمِرَ بِمَعْرُوفٍ أَوْ نُهِيَ عَنْ مُنْكَرٍ؛ أَسْرَعَ إِلَيْهِ الغَضَبُ، وَعَظُمَ عَلَيْهِ الأَمْرُ، فَأَخَذَتْهُ الكِبْرِيَاءُ وَالأَنَفَةُ، وَتَخَطَّفَتْهُ العِزَّةُ وَالحَمِيَّةُ، وَسَيْطَرَ عَلَيْهِ طَيْشُ السَّفَهِ، فَيَكُونُ كَالمَأْخُوذِ بِالسِّحْرِ، لاَ يَسْتَقِيمُ لَهُ فِكْرٌ؛ لِأَنَّهُ يَتَخَيَّلُ النُّصْحَ وَالإِرْشَادَ ذِلَّةً تُنَافِي العِزَّةَ المَطْلُوبَةَ.
فَحَذَارِ حَذَارِ عِبَادَ اللهِ مِنْ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ صَاحِبَ العِزَّةِ بِالإِثْمِ مَوْعُودٌ بِالعَذَابِ؛ [فَحَسبُهُۥ جَهَنَّمُۖ وَلَبِئسَ ٱلمِهَادُ] {البقرة:206}.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...
العزة بالحق والعزة بالإثم
9/11/1432
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ وَلِيِّ الْمُؤْمِنِينَ وَنَاصِرِهِمْ، وَعَدُوِّ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَكَابِتِهِمْ، نَحْمَدُهُ عَلَى نِعَمِهِ وَآلَائِهِ، وَنَشْكُرُهُ عَلَى فَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ كَتَبَ الْعِزَّةَ لِأَوْلِيَائِهِ، وَالذِّلَّةَ عَلَى أَعْدَائِهِ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أَمَرَ النَّاسَ بِاتِّبَاعِهِ، وَطَاعَةِ أَمْرِهِ، وَتَصْدِيقِ خَبَرِهِ، وَالاسْتِسْلَامِ لِشَرِيعَتِهِ، [وَمَا كَانَ لِمُؤۡمِن وَلَا مُؤۡمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥٓ أَمرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلخِيَرَةُ مِنۡ أَمرِهِمۡۗ وَمَن يَعصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَقَدۡ ضَلَّ ضللا مُّبِينا] {الأحزاب:36}، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ؛ كَانُوا مُسْتَسْلِمِينَ لِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى، مُسْتَمْسِكِينَ بِدِينِهِ، خَاضِعِينَ لِشَرِيعَتِهِ، يَتَفَقَّدُونَ قُلُوبَهُمْ، وَيَسْعَوْنَ فِي زِيَادِةِ إِيمَانِهِمْ، وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: تَعَالَ بِنَا نُؤْمِن سَاعَةً؛ أَيْ: نَزِيدُ إِيمَانَنَا بِذِكْرِ اللهِ تَعَالَى، وَعَلَى التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَاسْتَسْلِمُوا لِأَمْرِهِ، وَاسْتَمْسِكُوا بِشَرِيعَتِهِ، وَحَاذِرُوا التَّمَرُّدَ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا، وَاخْشَوْا تَقَلُّبَ الْقُلُوبِ، وَبَاعِدُوا عَنْ أَوْصَافِ الْمُنَافِقِينَ؛ فَلَا يَسْلَمُ مِنَ النِّفَاقِ إِلَّا مَنْ خَافَهُ عَلَى نَفْسِهِ؛ [يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱستَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمۡ لِمَا يُحيِيكُمۡۖ وَٱعلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَحُولُ بَينَ ٱلمَرۡءِ وَقَلبِهِۦ وَأَنَّهُۥٓ إِلَيهِ
تُحشَرُونَ] {الأنفال:24}.
أَيُّهَا النَّاسُ: الْعِزَّةُ فِي الْحَقِّ جِهَادٌ، وَالْعِزَّةُ فِي الْبَاطِلِ نِفَاقٌ، وَالإِنْسَانُ -أَيُّ إِنْسَانٍ- يُحِبُّ الْعِزَّةَ لِنَفْسِهِ، وَيَكْرَهُ الذُّلَّ لَهَا، وَالنَّاسُ يَتَلَمَّسُونَ مَوَاطِنَ الْعِزَّةِ، وَيَطْلُبُونَهَا لَأَنْفُسِهِمْ؛ وَلِذَا يَسْعَوْنَ لِلْجَاهِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ عِزَّةٍ عَلَى مَنْ يَعْرِفُونَهُمْ، وَيَكْدَحُونَ فِي جَمْعِ الْمَالِ؛ لِنَيْلِ الْعِزَّةِ بِهِ، يَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ، وَالْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، إِلَّا أَنَّ الْمُؤْمِنَ قَوِيٌ بِإِيمَانِهِ، عَزِيزٌ بِدِينِهِ، قَدْ ذَلَّ للهِ تَعَالَى؛ فَأَعَزَّهُ اللهُ سُبْحَانَهُ، فَلَا يَذِلُّ لِسِوَاهُ، وَلَا يَخْشَى غَيْرَهُ.
إِنَّ الْعِزَّةَ قَدْ تَكُونُ فِي الْحَقِّ، فَيَكُونُ صَاحِبُهَا عَزِيزًا وَلَوْ كَانَ ضَعِيفًا مُسْتَضَامًا، لَا يَذِلُّ لِلْخَلْقِ، وَلَا يَتَنَازَلُ عَنْ شَيْءٍ مِنْ دِينِهِ، عَزِيزٌ بِعِزَّةِ اللهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ قَدْ شَرُفَ بِعُبُودِيَّتِهِ لَهُ، وَالانْتِسَابِ لِدِينِهِ، وَالْفَخْرِ بِإِسْلَامِهِ، وَتَطْبِيقِ شَرِيعَتِهِ، وَلَوْ سَخِرَ مِنْهُ السَّاخِرُونَ، وَاسْتَهْزَأَ بِهِ الْمُنَافِقُونَ؛ فَهَذِهِ هِيَ الْعِزَّةُ بِالْحَقِّ؛ لِأَنَّهَا اعْتِزَازٌ بِمَنْ يَمْلِكُ الْعِزَّةَ، وَانْتِسَابٌ لِدِينِهِ، وَتَطْبِيقٌ لِشَرِيعَتِهِ، وَاللهُ تَعَالَى مُتَّصِفٌ بِالْعِزَّةِ الْكَامِلَةِ الَّتِي لَا نَقْصَ فِيهَا، وَلَا أَحَدَ أَعَزُّ مِنْهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بَلْ لَا عِزَّةَ لِمَخْلُوقٍ إِلَّا بِهِ -عَزَّ وَجَلَّ-:[سُبحَٰنَ رَبِّكَ رَبِّ ٱلعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ] {الصَّفات:180}، [مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلعِزَّةَ فَلِلَّهِ ٱلعِزَّةُ جَمِيعًاۚ] {فاطر:10}.
وَمِنْ أَوْصَافِ أَهْلِ هَذِهِ الْعِزَّةِ أَنَّهُمْ:[أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَينَهُمۡۖ] {الفتح:29}، وَنَعَتَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ:[أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلمُؤۡمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلكَٰفِرِينَ] {المائدة:54}، فَلَا يَلِينُونَ فِي الْحَقِّ، وَلَا يُدَاهِنُونَ الْخَلْقَ، وَلَا يَسْتَكِينُونَ لِلْعَدُوِّ، وَلَا يَتَنَازَلُونَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ دِينِهِمْ مَهْمَا رُغِّبُوا أَوْ رُهِّبُوا، قَالَ اللهُ تَعَالى فِي وَصْفِهِمْ فِي الْأُمَمِ السَّابِقَةِ:[فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا ٱستَكَانُواْۗ] {آل عمران:146}، وَقاَلَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ:«لَمْ يَكُنْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُتَحَزِّقِينَ وَلَا مُتَمَاوِتِينَ، وَكَانُوا يَتَنَاشَدُونَ الشِّعْرَ فِي مَجَالِسِهِمْ، وَيَذْكُرُونَ أَمْرَ جَاهِلِيَّتِهِمْ، فَإِذَا أُرِيدَ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، دَارَتْ حَمَالِيقُ عَيْنَيْهِ كَأَنَّهُ مَجْنُونٌ»؛ أَيْ: غَيْرَةً للهِ تَعَالَى، وَنُصْرَةً لِدِينِهِ، وَاعْتِزَازًا بِالْحَقِّ!
وَعَلَى الْمُؤْمِنِ أَلاَّ يَيْئَسَ لِمَا يَرَى مِنْ عِزَّةِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَقُوَّتِهِمْ وَغَلَبَتِهِمْ؛ لِأَنَّهُ مُعْتَزٌّ بِاللهِ تَعَالَى، وَهُوَ سُبْحَانَهُ فَوْقَهُمْ؛ وَلِأَنَّ الْأَيَّامَ دُوَلٌ، وَالْعَاقِبَةَ لِلتَّقْوَى؛ [وَلَا يَحزُنكَ قَوۡلُهُمۡۘ إِنَّ ٱلعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًاۚ] {يونس:65}.
إِنَّ أَهْلَ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ تَغُرُّهُمْ قَوَّتُهُمْ، وَتُعْجِبُهُمْ كَثْرَتُهُمْ، فَيَعْتَزُّونَ بِهَا، وَمِنْ أَمْثَالِ الْعَرَبِ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُمْ:«وَإِنَّمَا الْعِزَّةُ لِلْكَاثِرِ»، وَقَوْلُهُمْ: «لَنْ نُغْلَبَ مِنْ قِلَّةٍ»؛ فَيَكُونُ إِعْجَابُهُمْ بِقُوَّتِهِمْ أَوْ كَثْرَتِهِمْ بَاعِثًا لَهُمْ عَلَى رَفْضِ الْحَقِّ، وَالْعُلُوِّ فِي الْأَرْضِ، وَالضَّعِيفُ مِنْهُمْ يَعْتَزُّ بِالْقَوِّيِّ، كَمَا اعْتَزَّ السَّحَرَةُ بِفِرْعَوْنَ؛ لِأَنَّهُ أَقْوَى مِنْهُمْ؛ [وَقَالُواْ بِعِزَّةِ فِرۡعَوۡنَ إِنَّا لَنَحنُ ٱلغَٰلِبُونَ] {الشعراء:44}.
وَأَمَّا أَهْلُ النِّفَاقِ فَهُمْ مُعْتَزُّونَ بِالْكُفَّارِ، يَذِلُّونَ لَهُمْ، وَيُسَارِعُونَ فِيهِمْ، وَيُطَبِّقُونَ مَنَاهِجَهُمْ، وَيَتَّبِعُونَهُمْ فِي ضَلَالِهِمْ؛ طَلِبًا لِلْعِزَّةِ مِنْهُمْ، كَمَا حَكَى اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فَقَالَ سُبْحَانَهُ: [بَشِّرِ ٱلمُنَٰفِقِينَ بِأَنَّ لَهُمۡ عَذَابًا أَلِيمًا ١٣٨ ٱلَّذِينَ يَتَّخِذُونَ ٱلكَٰفِرِينَ أَوۡلِيَآءَ مِن دُونِ ٱلمُؤۡمِنِينَۚ أَيَبتَغُونَ عِندَهُمُ ٱلعِزَّةَ فَإِنَّ ٱلعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعا] {النساء:138-139}.
وَمَنِ اعْتَزَّ بِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى، فَإِنَّ عَاقِبَتَهُ إِلَى ذُلٍّ، وَانْظُرُوا إِلَى حَالِ بَعْضِ طُغَاةِ الْعَصْرِ، كَيْفَ هَوَوْا مِنْ ذُرَى الْعَلْيَاءِ وَالْمَجْدِ إِلَى أَسْفَلِ دَرَكَاتِ الذُّلِ؛ لِأَنَّهُمُ اعْتَزُّوا بِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى؛ فَأَذَلَّهُمُ اللهُ تَعَالَى، وَتَخَلَّى عَنْهُمْ مَنِ اعْتَزُّوا بِهِمْ! وَجَمِيلٌ فِي هَذَا قَوْلُ عُبَيْدَةَ بْنِ أَبِي لُبَابَةَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: «مَنْ طَلَبَ عِزًّا بِبَاطِلٍ وَجَوْرٍ؛ أَوْرَثَهُ اللهُ ذُلًّا بِإِنْصَافٍ وَعَدْلٍ».
وَكَثِيرًا مَا تَمْنَعُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ أَصْحَابَهَا مِنْ قَبُولِ الْحَقِّ، سَوَاءٌ كَانُوا مِنَ الْكُفَّارِ، أَمْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، أَمْ مِنْ عُصَاةِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِذَا دُعِيَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى؛ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ، فَرَفَضَ الانْصِيَاعَ لِلْحَقِّ، وَاسْتَكْبَرَ عَنْ قَبُولِ النُّصْحِ، وَمَا مَنَعَهُمْ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا عِزَّتُهُمْ بِالْإِثْمِ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى:[وَإِذَا قِيلَ لَهُ ٱتَّقِ ٱللَّهَ أَخَذَتهُ ٱلعِزَّةُ بِٱلإِثمِۚ] {البقرة:206}، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى: [بَلِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي عِزَّة وَشِقَاق] {ص:2}؛ أَيْ: مَا يَحُسُّونَهُ مِنْ عِزَّةٍ بِالْبَاطِلِ، وَحَمِيَّةٍ لَهُ، يَمْنَعُهُمْ مِنَ الْخُضُوعِ لِلْحَقِّ.
وَعِزَّتُهُمْ بِالْإِثْمِ جَعَلَتْهُمْ يُكَذِّبُونَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَيُعَادُونَهُ، وَيَصُدُّونَهُ عَنِ الْبَيْتِ لَمَّا جَاءَ مُعْتَمِرًا، وَقَالُوا فِي تَعْلِيلِ ذَلِكَ:«قَدْ قَتَلُوا أَبْنَاءَنَا وَإِخْوَانَنَا، ثُمَّ يَدْخُلُونَ عَلَيْنَا، فَتَتَحَدَّثُ الْعَرَبُ أَنَّهُمْ دَخَلُوا عَلَيْنَا عَلَى رَغْمِ أُنُفِنَا»، وَفِي هَذَا يَقُولُ اللهُ تَعَالَى:[ إِذۡ جَعَلَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ ٱلجَٰهِلِيَّةِ] {الفتح:26}.
وَإِذَا ذُكِّرُوا بِالْقُرْآنِ، وَوُعِظُوا بِآيَاتِهِ، وَقَرَّعَهُمْ وَعْدُهُ وَوَعِيدُهُ؛ مَنَعَتْهُمْ عِزَّتُهُمْ بِالْإِثْمِ مِنَ التَّأَثُّرِ بِالْقُرْآنِ وَمَوَاعِظِهِ، وَأَصَرُّوا عَلَى ضَلَالِهِمْ أَنَفَةً وَعِزَّةً وَحَمِيَّةً وَكِبْرًا؛ [وَإِذَا تُتلَىٰ عَلَيهِمۡ ءَايَٰتُنَا بَيِّنَٰت تَعرِفُ فِي وُجُوهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلمُنكَرَۖ يَكَادُونَ يَسطُونَ بِٱلَّذِينَ يَتلُونَ عَلَيهِمۡ ءَايَٰتِنَاۗ] {الحج:72}.
وَيَجْرِي ذَلِكَ عَلَى بَعْضِ عُصَاةِ الْمُسْلِمِينَ، فَيَرْفُضُونَ الْحَقَّ؛ عَزَّةً وَكِبْرًا، وَيُخْشَى عَلَى مَنْ كَانَ كَذَلِكَ أَنْ يَهْوِي إِلَى دَرَكِ النِّفَاقِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمُؤْمِنِ خُضُوعُهُ لِلْحَقِّ، وَلِينُ قَلْبِهِ لِلذِّكْرِ، وَتَأَثُّرُهُ بِالْمَوْعِظَةِ، وَفِي قَوْلِ اللهِ تَعَالَى:[إِنَّمَا ٱلمُؤۡمِنُونَ ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتۡ قُلُوبُهُمۡ] {الأنفال:2} قَالَ السُّدِّيُّ: «إِذَا أَرَادَ أَنْ يَظْلِمَ مَظْلَمَةً قِيلَ لَهُ: اتَّقِ اللهَ، كَفَّ وَوَجِلَ قَلْبُهُ».
وَعَلَى الْعَكْسِ مِنْهُ أَهْلُ الاسْتِكْبَارِ، فَإِنَّ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ إِذَا قِيلَ لَهُ: [ٱتَّقِ ٱللَّهَ أَخَذَتهُ ٱلعِزَّةُ بِٱلإِثمِۚ] قَالَ قَتَادَةُ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: «الْمَعْنَى: إِذَا قِيلَ لَهُ: مَهْلًا، ازْدَادَ إِقْدَامًا عَلَى الْمَعْصِيَةِ».
وَإِذَا أُمِرَ الْمُؤْمِنُ بِالتَّقْوَى وَجَبَ عَلَيْهِ الْخُضُوعُ وَالْقَبُولُ، وَلَوْ كَانَ هُوَ مُحِقًّا، وَكَانَ آمِرُهُ مُبْطِلًا، فَإِنَّهُ مَا أَمَرَهُ إِلَّا بِحَقٍّ، وَأَتْقَى النَّاسِ وَأَعْبَدُهُمْ مُحْتَاجٌ إِلَى التَّذْكِيرِ بِالتَّقْوَى، وَلَا يَلْزَمُ لِقَبُولِ التَّذْكِرَةِ أَنْ يَكُونَ مَنْ يُذَكِّرُهُ تَقِيًّا، فَوَجَبَ أَنْ يَقْبَلَهَا مِنْهُ وَلَوْ كَانَ فَاسِقًا أَوْ كَافِرًا؛ لَعَظِيمِ مَا ذُكِّرَ بِهِ، وَفِي هَذَا يَقُولُ ابْنُ مُسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-:«كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا إِذَا قِيلَ لَهُ: اتَّقِ اللهَ، غَضِبَ»، وَفِي رِوَايَةٍ :«كَفَى بِالرَّجُلِ إِثْمًا أَنْ يَقُولَ لَهُ أَخُوهُ: اتَّقِ اللهَ، فَيَقُولُ: عَلَيْكَ نَفْسَكَ، أَأَنْتَ تَأْمُرُنِي؟!»، وَتَاللهِ مَا أَكْثَرَ مَنْ يَرُدُّ بِهَذَا الرَّدِّ إِنْ وُعِظَ أَوْ ذُكِّرَ بِالتَّقْوَى!!
بَلْ إِنَّ الْقَاضِي فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ بَيْنَ الْخَصْمَينِ إِذَا حَكَمَ عَلَى أَحَدِهِمَا، فَقَالَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ لِلْقَاضِي: اتَّقِ اللهَ، فَلَا يَغْضَبُ وَلَا يُعَاقِبُهُ، وَيَرُدُّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: رَزَقَنِي اللهُ التَّقْوَى، أَوَ مَا أَمَرْتَ إِلَّا بِخَيْرٍ، أَوْ نَحْو ذَلِكَ، وَيُبَيِّنُ لَهُ وَجْهَ الْحُكْمِ عَلَيْهِ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ.
نَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أَنْ يُصْلِحَ قُلُوبَنَا، وَأَنْ يُلِينَهَا لِلذِّكْرِ، وَأَنْ يُخْضِعَهَا لِلْحَقِّ، وَأَنْ يُزِيلَ عُلُوَّهَا وَاسْتِكْبَارَهَا، إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ، وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الحَمْدُ للهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ، كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ، فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ؛ [وَٱتَّقُواْ يَوۡما تُرۡجَعُونَ فِيهِ إِلَى
ٱللَّهِۖ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفس مَّا كَسَبَتۡ وَهُمۡ لا يُظلَمُونَ] {البقرة:281}
أَيُّهَا النَّاسُ: حَفلَ تَارِيخُ الْبَشَرِ بِقَوْمٍ ذُكِّرُوا بِاللهِ تَعَالَى فَتَذَكَّرُوا، وَدُعُوْا إِلَى تَقْوَاهُ فَاسْتَجَابُوا، وَخُوِّفُوا بِهِ فَخَافُوا؛ فَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ.
كَمَا وُجِدَ فِي تَارِيخِ الْبَشَرِ أَقْوَامٌ ذُكِّرُوا فَلَمْ يَتَذَكَّرُوا، وَدُعُوا إِلَى التَّقْوَى فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا، وَخُوِّفُوا بِاللهِ تَعَالَى فَلَمْ يَرْتَدِعُوا، بَلْ أَخَذَتْهُمُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ، وَأَصَرُّوا عَلَى الذَّنْبِ؛ فَكَانَ ذَلِكَ شُؤْمًا عَلَيْهِمْ.
وَمِمَّنْ تَذَكَّرُوا وَاسْتَجَابُوا: ذَلِكَ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ يُحِبُّ ابْنَةَ عَمِّهِ حُبًّا شَدِيدًا، وَرَاوَدَهَا فَأَبَتْ، حَتَّى إِذَا احْتَاجَتْ إِلَى الْمَالِ شَارَطَهَا عَلَى عِرْضِهَا؛ فَوَافَقَتْ مُضْطَرَّةً، فَلَمَّا تَمَكَّنَ مِنْهَا وَجَلَسَ بَيْنَ رِجْلَيْهَا وَعَظَتْهُ، فَقَالَتْ: اتَّقِ اللهَ، وَلَا تَفُضَّ الْخَاتَمَ إِلَّا بِحَقِّهِ، فَاسْتَجَابَ لِدَاعِي التَّقْوَى، وَأَسْعَفَهُ خَوْفُهُ مِنَ اللهِ تَعَالَى فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ، فَقَامَ عَنْهَا، وَهِيَ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيْهِ، وَلَمْ يَأْخُذْ مِمَّا أَعْطَاهَا شَيْئًا، فَلَمَّا حُصِرَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ فِي الْغَارِ؛ فَرَّجَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ بِهَذَا الْعَمَلِ الْجَلِيلِ، مَعَ مَا ادَّخَرَ لَهُ مِنْ ثَوْابِ الْآخِرَةِ وَجَزَائِهِا.
وَمِنْ مَشَاهِيرِ الْمُسْتَجِيبِينَ لِلتَّذْكِيرِ بِالتَّقْوَى فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ: عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مَعَ قُوَّتِهِ وَعَدْلِهِ وَجَاهِهِ، فَهُوَ خَلِيفَةُ الْمُسْلِمِينَ، رَوَى الْحَسَنُ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِعُمَرَ: «اتَّقِ اللهَ، قَالَ: وَمَا فِينَا خَيْرٌ إِنْ لَمْ يُقَلْ لَنَا، وَمَا فِيهِمْ خَيْرٌ إِنْ لَمْ يَقُولُوا لَنَا».
وَكَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَقْبَلُ التَّذْكِيرَ مِنْ أَيِّ أَحَدٍ؛ كَمَا رَوَى عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ:«خَرَجَ عُمَرُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- مِنَ الْمَسْجِدِ، وَمَعَهُ الْجَارُودُ الْعَبْدِيُّ، فَإِذَا بِامْرَأَةٍ بَرْزَةٍ عَلَى ظَهْرِ الطَّرِيقِ، فَسَلَّمَ عَلَيْهَا عُمَرُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فَرَدَّتْ عَلَيْهِ، أَوْ سَلَّمَتْ عَلَيْهِ، فَرَدَّ عَلَيْهَا، ثُمَّ قَالَتْ: هِيهْ يَا عُمَرُ، عَهِدْتُكَ وَأَنْتَ تُسَمَّى عُمَيْرًا فِي سُوقِ عُكَاظٍ، تُصَارِعُ الصِّبْيَانَ، فَلَمْ تَذْهَبِ الْأَيَّامُ وَاللَّيَالِي حَتَّى سُمِّيتَ: عُمَرَ، ثُمَّ لَمْ تَذْهَبِ الْأَيَّامُ حَتَّى سُمِّيتَ: أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَاتَّقِ اللَّهَ فِي الرَّعِيَّةِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ مَنْ خَافَ الْوَعِيدَ قَرُبَ مِنْهُ الْبَعِيدُ، وَمَنْ خَافَ الْمَوْتَ خَشِيَ الْفَوْتَ، فَبَكَى عُمَرُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فَقَالَ الْجَارُودُ: هِيهْ، فَقَدْ أَكْثَرْتِ وَأَبْكَيْتِ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَنْهَا: أَوَمَا تَعْرِفُ هَذِهِ؟ هَذِهِ خَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيمٍ، امْرَأَةُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، الَّتِي سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَهَا مِنْ سَمَائِهِ، فَعُمَرُ وَاللَّهِ أَجْدَرُ أَنْ يَسْمَعَ لَهَا».
وَغَضِبَ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ فِي دَوْلَةِ بَنِي العَبَّاسِ عَلَى رَجُلٍ؛ فَأَمَرَ أَنْ يُطْرَحَ مِنَ القَصْرِ، فَقَالَ الرَّجُلُ:«اتَّقِ اللهَ، فَقَالَ: خَلُّوا سَبِيلَهُ؛ فَإِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الَّذِينَ قَالَ اللهُ تَعَالَى فِيهِمْ: [وَإِذَا قِيلَ لَهُ ٱتَّقِ ٱللَّهَ أَخَذَتهُ ٱلعِزَّةُ بِٱلإِثمِۚ] {البقرة:206}».
وَفِي مُقَابِلِ ذَلِكَ فَإِنَّ قَوْمًا أَنِفُوا مِنَ المَوْعِظَةِ، وَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لِلتَّذْكِرَةِ، وَأَخَذَتْهُمُ العِزَّةُ بِالإِثْمِ فَبُؤْسًا لَهُمْ؛ مَرَّ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ عَلَى رَجُلٍ فَرَآهُ عَلَى بَعْضِ مَا يَكْرَهُ، فَقَالَ:«يَا هَذَا، اتَّقِ اللهَ، قَالَ: يَا مَالِكُ، دَعَنَا نَدُقُّ العَيْشَ دَقًّا، فَلَمَّا حَضَرَتِ الرَّجُلَ الوَفَاةُ، قِيلَ لَهُ: قُلْ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، قَالَ: إِنِّي أَجِدُ عَلَى رَأْسِي مَلَكًا يَقُولُ: وَاللهِ لَأَدُقَّنَّكَ دَقًّا»!
وَقَالَ رَجُلٌ لِأَحَدِ الكُبَرَاءِ: «اتَّقِ اللهَ، قَالَ: أَوَمِثْلُكَ يَأْمُرُ مِثْلِي بِتَقْوَى اللهِ؟! فَرَدَّ عَلَيْهِ قَائِلاً: لاَ أَحَدَ فَوْقَ أَنْ يُوصَى بِتَقْوَى اللهِ، وَلاَ دُونَ أَنْ يُوصِي بِتَقْوَى اللهِ».
أَيُّهَا الإِخْوَةُ: إِنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ إِذَا أُمِرَ بِمَعْرُوفٍ أَوْ نُهِيَ عَنْ مُنْكَرٍ؛ أَسْرَعَ إِلَيْهِ الغَضَبُ، وَعَظُمَ عَلَيْهِ الأَمْرُ، فَأَخَذَتْهُ الكِبْرِيَاءُ وَالأَنَفَةُ، وَتَخَطَّفَتْهُ العِزَّةُ وَالحَمِيَّةُ، وَسَيْطَرَ عَلَيْهِ طَيْشُ السَّفَهِ، فَيَكُونُ كَالمَأْخُوذِ بِالسِّحْرِ، لاَ يَسْتَقِيمُ لَهُ فِكْرٌ؛ لِأَنَّهُ يَتَخَيَّلُ النُّصْحَ وَالإِرْشَادَ ذِلَّةً تُنَافِي العِزَّةَ المَطْلُوبَةَ.
فَحَذَارِ حَذَارِ عِبَادَ اللهِ مِنْ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ صَاحِبَ العِزَّةِ بِالإِثْمِ مَوْعُودٌ بِالعَذَابِ؛ [فَحَسبُهُۥ جَهَنَّمُۖ وَلَبِئسَ ٱلمِهَادُ] {البقرة:206}.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى