رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
الشيخ/ إبراهيم بن صالح العجلان
وقد خاب من حمل ظلما
إخوة الإيمان:
ذكرتْ كتب التاريخ أنَّ أحد وزراء بني العباس اغتصَب مزرعةً لامرأة عجوز، فرفعتْ إليه المرأة تشكو وتترجَّى، ثم شفَّعتْ إليه مَن يردُّ عليها مزرعتها، فأبَى الوزير.
فقالت العجوز: واللهِ لأدعونَّ عليك، فقال لها الوزير ساخرًا: عليكِ بالثُّلُث الأخير مِن الليل!
فلزمتِ المرأةُ المكلومةُ أسحارَ الليل شهرًا، تدعو على مَن ظلمها، فإذا سهامُ الليل تبلغ آجالَها، فحلَّت به العقوبةُ الإلهيَّة في الظُّلمة، فنكبَه الله على يدِ الخليفة، فقطَع يدَه، ثم بعدَ أسبوع قطَع رأسه، فمرَّتْ به المرأة العجوز وأنشدت متشفية:
إِذَا جَارَ الوَزِيرُ وَكَاتِبَاهُ = وَقَاضِي الأَرْضِ أَجْحَفَ فِي الْقَضَاءِ
فَوَيْلٌ ثُمَّ وَيْلٌ ثُمَّ وَيْلٌ = لِقَاضِي الْأَرْضِ مِنْ قَاضِي السَّمَاءِ
إنَّه الظلم - أعاذنا الله وإيَّاكم منه - ما أشدَّ لوعتَه، وما أقسى مرارتَه! هو مرتعٌ وخيم، وخُلُق ذميمٌ، يأكُل الحسنات، ويمحَق البركات، ويجلب الويلات، ويُورث العَداوات.
حروبٌ شبَّت، وشعوبٌ ثارت، وخطوبٌ حلَّت، شرارتُها الأُولى فتيلُ الظلم.
الظُّلم مَهْلكة للدِّيار، مَفْسدة للأمصار، مَسْخطة للجبار؛ {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا} [الكهف: 59].
بالظُّلم والتظالُم يتقاطَع الأقرباء، ويتنافَر الأصدقاء، ما فشَا في أمَّة إلا مزَّق وَحدَتها، وفرَّق كلمتَها، وشقَّ صفَّها، ودمَّر مكتسباتِها، هو أساسُ كلِّ بليَّة، وأصل كلِّ رزيَّة.
كم أزاح الظلمُ من سلطانٍ عن عرْشه، وساق ذا صولةٍ إلى نعْشه! كم أنْزل الظلمُ أهلَه من قِمم الرِّفعة، إلى قُمْقُم المهانة والذلَّة! كم أفقرَ بعدَ غنًى، وأذلَّ بعد عزَّة! كم أضْعف بعدَ قوَّة، وأسْقم بعدَ صحَّة! كم فرَّق بعدَ اجتماع، وشتَّت بعدَ شمْل! كم وكم من الويلات حصلت ورُئِيت بسببِ البَغي والجَوْر! وهذه بعضُ آثاره في الدنيا، ولَعذابُ الآخرة أشدُّ وأبقى.
ويَكفي الظلمَ شناعةً وجرمًا وذمًّا، أنَّ الله - تعالى - نزَّه نفسه عنه؛ {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46]، {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء: 40]، «يا عبادي، إنِّي حرمتُ الظلم على نفْسي وجعلتُه بينكم محرَّمًا، فلا تَظالَموا».
الظالمون مَبْغُوضون في الأرض والسماء، ولا غرْوَ في ذلك؛ فالله لا يحبُّ الظالمين، ومَن أبغضه ربُّه، كتَب بُغضَه بين خلْقه.
الظالمون بعيدون عن ولايةِ الله وحِفْظه؛ قال - سبحانه -: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124].
التوفيق والفلاح، والهداية والنجاح، أبواب مُغلَقة في وجهِ كلِّ ظالِم وظالمة؛ قال - تعالى -: {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام: 21]، {وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 258]، هذا في دُنياهم، وأمَّا في أُخراهم فتنتظرهم قوارعُ ربِّهم ووعيده القائلة: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء: 227]، {فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [المؤمنون: 41]، {أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18]، {وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} [طه: 111].
يَستبشِر المؤمنون يومَ الدِّين بنور يسعَى بين أيديهم وبأيمانهم، وأمَّا الظالمون فيَسوءهم ظلمات يَتيهون فيها قبلَ معرفةِ مصيرهم؛ قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «اتَّقوا الظُّلم، فإنَّ الظلمَ ظلماتٌ يومَ القيامة».
لا يَقَع الظالم في ظُلمه، إلا بعدَ أن يظلم قلبُه وتَعْمَى بصائره، فلا يرى نورَ الحق، ولا يستشعر عواقبَ فعْله، فيغتر المسكينُ بإمهال ربِّه، فيتمادَى في غيِّه، ويُمعِن في بغيِه، وما عَلِم أنَّ هذا استدراجٌ من ربِّه؛ ليزداد إثمًا وسوءًا، وفي الحديث: «إنَّ الله لَيُملي للظالِم، حتى إذا أخذَه لم يُفلتْه».
عباد الله:
وللظُّلم صورٌ وأشكال، وأنماطٌ وأمثال، فمِن أشدِّ صور الظلم وأشنعِها:
- الاعتداءُ على الأنفُس البريئة، بالقتْل أو الضَّرْب أو الإيذاء، أو التضييق في الرِّزق؛ قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «يُؤْتَى بالمَقْتولِ يومَ القِيامَةِ مُتَعَلِّقًا بالقاتلِ تَشْخُبُ أوداجُه دَمًا - أي: تسيل - حتَّى يُنْتَهَى به إلى العَرْشِ، فيقولُ: رَبِّ، سَلْ هذا فِيمَ قَتَلَني؟»؛ رواه الحُميدي وأحمد والنَّسائي، وصحَّحه الألباني.
وقال -صلَّى الله عليه وسلَّم-: «مَن ضرَب بسوطٍ ظلمًا، اقتصَّ منه يومَ القيامة»؛ رواه البيهقيُّ وغيرُه، وصحَّحه الألباني.
- ومِن الظلم الكبيرِ، والجَوْر المستطير:
أكْل أموال الناس بالباطِل؛ بالقِمار والمحايلة، أو بالخِداع والمساهمات المزيَّفة؛ قال -عليه الصلاة والسلام-: «مَنِ اقْتطعَ أرْضًا ظالِمًا لقِيَ اللَّهَ - عزَّ وجلَّ - يومَ القيامةِ وهو عليه غَضْبانُ»، وقال -عليه الصلاة والسلام-: «مَنِ اقْتَطعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسلِمٍ بِيَمينِه، فقدْ أوْجَبَ اللَّهُ له بِها النَّارَ، وَحَرَّمَ عليه الجَنَّةَ»، فقالَ له رَجُلٌ: وإِنْ كانَ شَيْئًا يَسِيرًا يا رَسولَ اللَّه؟ قَالَ: «وإنْ قَضِيبًا من أَرَاكٍ».
عباد الله:
- وأمَرُّ أشكال الظلم وأشدُّها لوعةً ظلمُ الأقارب والأرحام، كما قال الشاعر الجاهليُّ طَرَفةُ بن العَبْد:
وَظُلْمُ ذَوِي القُرْبَى أَشَدُّ مَضَاضَةً = عَلَى النَّفْسِ مِنْ وَقْعِ الحُسَامِ المُهَنَّدِ
ظُلم بيِّن، ومنظر يَعتصِر له القلبُ كمدًا وألمًا أنْ ترى الأبَ أو الأمَّ تَتكَفْكَف منهما الدموع، وتتغصَّص مِن داخلهما المسرَّات، ظَلَم وما بَرَّ، مَن أغْضب والديه بفعله أو قوله؛ {فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء: 23].
التفرِقة بيْن الأولاد في العطية أو في النفقة، جَوْر وحَيْف، نهَى الشَّرَع عنه؛ قال -عليه الصلاة والسلام-: «اتَّقوا الله واعْدِلوا بين أولادكم».
عضْلُ البنات والمتاجَرة بمهرهنَّ ظلمٌ فاحِش، نهى عنه المولَى -سبحانه- بقوله: {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} [النساء: 19]، الاعتداء على الزَّوجة بالضَّرْب، أو إسماعها بذيءَ القَول، دناءةٌ وسُفول، لا تقرُّها المروءةُ والرُّجولة، ولا الدِّين والشهامة؛ قال -عليه الصلاة والسلام-: «إنِّي أُحَرِّجُ حقَّ الضَّعيفَيْن: اليَتِيم، والمرْأَة».
- ومِن صُور الظلم ودَرَكاته:
ظُلمُ الخَدَم والعمَّال بتكليفهم ما لا يُطيقون، أو ببخْسِهم حقوقَهم، وحرمانهم أجورَهم، أو تأخير رواتبهم؛ قال -عليه الصلاة والسلام-: «ثلاثةٌ أنا خَصْمُهم يومَ القِيامَة -وذكَر منهم-: ورَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أجيرًا فَاسْتَوْفَى مِنه ولَمْ يعطه أجْرَه))؛ رواه البخاري.
- ومِن الظلم والاعتداء الخفي: التهوينُ مِن شأن الفواحِش والمنكَرات، وإشاعة الفُجور، كقذف المُحْصَنات، أو الترويج للمُنكرات، التي تُؤجِّج الغرائزَ والشهوات؛ لتسهلَ مِن فعل الآثام، والاعتداء على الأعراض والمحرَّمات.
ومن الظلم المحرم:
- الاعتداءُ على الممتلكات العامَّة؛ عينيَّةً كانت أم ماليَّة، فهذه حقٌّ وملْك للجميع، والاعتداء عليها أو أكْلها اعتداءٌ على الجميع؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: «مَنِ اسْتَعْمَلْناه منكم على عَمَلٍ فكَتَمَنا مِخْيَطًا فما فوقَه، كان غلولاً يأتي به يومَ القِيَامَة»؛ رواه مسلم.
عباد الله:
ومن تأمَّل في سِير الظلمة، وعاقبة الظُّلم، رأى في مصرعهم أعظمَ العِظات، وفي نهايتهم أسوأَ الخاتمات ، كانتْ عقوبتهم معجَّلة؛ للعِبرة والادِّكار ، قال - عليه الصلاة والسلام -: «ما مِن ذنبٍ أجدر أن يُعجِّل الله - تعالى - لصاحبه العقوبةَ في الدنيا مع ما يَدخِّره له في الآخرة مِثل البَغْي وقطيعة الرَّحِم»؛ رواه أبو داود، وصحَّحه ابن حبان.
ولذا كان مِن الواجبِ الشرعي مواجهةُ الظَّلَمة، ومقارعتُهم بالنصيحة، والقول لهم في أنفُسهم قولاً بليغًا؛ إنذارًا وإعذارًا، وحِفظًا لسفينة المجتمع، بهذا أمَرَنا نبيُّنا - صلَّى الله عليه وسلَّم - بقوله: «إنَّ النَّاسَ إذا رَأَوا الظَّالِمَ فلم يأخُذوا على يدَيْه، أوْشَكَ اللَّهُ أنْ يَعُمَّهم بعِقابٍ منه».
وقال عليه الصلاة والسلام أيضًا: «إذا رَأَيْت أُمَّتِي تَهابُ الظَّالِمَ أن تَقولَ له: إِنَّكَ أَنْتَ ظالِمٌ، فقدْ تُوُدِّعَ مِنْهم»؛ رواه الإمام أحمد.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية
أما بعد:
فيا إخوةَ الإيمان، فهذه رسالتان: رسالة عتاب، ورسالة مواساة.
أمَّا الرسالة الأولى، فهي لمَن وقَع في الظلم، وسلَك مساربه، فيا كلَّ ظلوم، لا تغترَّ بحِلم الله عليك، وإمهالِه لك؛ فربُّك يُمهل ولا يُهمل، تيقَّن يا كل ظلوم أنَّ ظُلمك مُستنَسخٌ في كتاب، لا يَضِلُّ ربي ولا ينسى؛ {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47].
يا مَن عدَى ثم اعتدَى، اعلم أنَّ ظلمك مَمحَقة للصالحات، مَذْهَبة للحَسَنات، يأتي الظالم يومَ القِيامة بحسنات عظيمة، وأُجورٍ وفيرة، ولكن يأتي مُعلَّقًا بمظالِمه، يأتي وقد شتَم هذا، وقذَف هذا، وأكَل مال هذا، وسفَك دمَ هذا، فيُعطَى هذا مِن حسناته، وهذا مِن حسناته، فإنْ فنَيِت حسناته قبل أن يُقضَى ما عليه، أُخِذ مِن خَطاياهم فطُرِحت عليه، ثم طُرِح في النار.
أيها الظالم:
تيقَّن أن صوتَ المظلوم يسمعه الملِك الجبَّار، وأنَّ ضعْفَه مسنودٌ بعدْل الملِك القهَّار:
لاَ تَظْلِمَنَّ إِذَا مَا كُنْتَ مُقْتَدِرًا = فَالظُّلْمُ مَرْتَعُهُ يُفْضِي إِلَى النَّدَمِ
تَنَامُ عَيْنُكَ وَالْمَظْلُومُ مُنْتَبِهٌ = يَدْعُو عَلَيْكَ وَعَيْنُ اللَّهِ لَمْ تَنَمِ
أيها الظالم:
لو كانتِ الدنيا تَعدِل عندَ ربك جَناح بعوضة، ما سقَى كافرًا منها شربةَ ماء، فلماذا تخطُب وُدَّها، وتَبغي مِن أجْلها؟
أمامَك يا ظلوم، مصيرك المحتوم، وأجلك المختوم، تذكَّر صرعةَ الموت بشدَّته وآلامه، تذكَّر أنَّك ستُلفُّ في خِرَقٍ بيضاء، وستجندل بعدَها في حُفرة ظلماء، وستَعْلم حينَها ووقتَها أنَّك ما كنتَ إلا في غرور:
إِلَى دَيَّانِ يَوْمِ الدِّينِ نَمْضِي = وَعِنْدَ اللَّهِ تَجْتَمِعُ الخُصُومُ
سَتَعْلَمُ فِي الحِسَابِ إِذَا الْتَقَيْنَا = غَدًا عِنْدَ الْإِلَهِ مَنِ الْمَلُومُ
هناك أيُّها الظالِم لا تأسُّف ولا اعتذار؛ {يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر: 52].
هناك أيُّها الظالم لا ينفعك خليلٌ ولا شفيع؛ {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر: 18].
ليس بعدَ آيات القرآن وعيد، وليس بعدَ كلام الرحمن وعظ وتذكير، فاخترْ لنفسك إمَّا التوبةَ والأوبة، وإمَّا ظلماتٍ موحِشةً منتظرة:
فُتُبْ مِمَّا جَنَيْتَ وَأَنْتَ حَيٌّ = وَكُنْ مُتَيَقِّظًا قَبْلَ الرُّقَادِ
أدِّ الحقوق إلى أهلها، وعامِلِ الناس بمثل ما تحبُّ أن يعاملوك، وأتْبِع السيئةَ الحسنةَ تمحُها، {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه: 82].
وأما الرسالة الأخرى، فهي رسالة مواساة، لمن تجرَّع الظلم وذاق أَساه.
أخي المظلوم، تمسَّك بحبل ربِّك، وتجلَّد على ابتلائه لك، وأبشِرْ بعدها بالأجْر والعِزِّ والرِّفعة.
واسمعْ إلى قول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم منتصرًا للمظلومين بقوله: «ثلاثٌ أقْسِم عليهنَّ - وذكَر منهنَّ -: وما ظُلِم عبدٌ مظلمةً فصَبر عليها، إلا زادَه الله بها عزًّا».
يا مَن كبَّلتْه الغموم، وضاقتْ به الهموم، مِن هول الظلوم، يَمِّم وجهك شطرَ السماء، وبثَّ شكايتك لربِّ البشَر، فلك عندَ ربك دعوةٌ لا ترد؛ قال - صلَّى الله عليه وسلَّم - لمعاذ بن جبل - وقد أرْسله إلى قوم كفَّار -: «واتَّقِ دعوةَ المظلوم، فإنَّه ليس بينها وبين الله حِجاب».
أخي المظلوم المكلوم:
لا تَرُدَّ الظلم بظلم، فهذا ممَّا نهى عنه ربُّك بقوله: «إنِّي حرمتُ الظلمَ على نفسي، وجعلتُه بينكم محرَّمًا، فلا تَظَالَموا».
لا تثريب عليك يا مَن ظُلِم، أن تتحدَّث بمظلمتك، وأن تذكُر مَن ظلمك وتُحذِّر منه، فهذا ليس مِن الغِيبة المحرَّمة؛ قال - سبحانه -: {لاَ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ} [النساء: 148].
أخي المظلوم، حقُّك محفوظ ، وكرامتُك مردودة ، كتَب ذلك أعدلُ العادلين ، فلا تقلقْ ولا تَيْئَس:
أَيُّهَا الْمَظْلُومُ صَبْرًا لاَ تَهُنْ = إِنَّ عَيْنَ اللَّهِ يَقْظَى لاَ تَنَامْ
نَمْ قَرِيرَ العَيْنِ وَاهْنَأْ خَاطِرًا = فَعَدْلُ اللَّهِ دَائِمٌ بَيْنَ الأَنَامْ
وَإِنْ أَمْهَلَ اللَّهُ يَوْمًا ظَالِمًا = فَإِنَّ أَخْذَهُ شَدِيدٌ ذُو انْتِقَامْ
أخي المظلوم، أما إنْ عفوتَ وسامحت، ورددتَ بالحَسنةِ السيئةَ، فهذه محلَّةٌ عظيمة، وجزاء موفور، عندَ الملك الشَّكور؛ {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 35]، {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى: 43].
اللهم جنِّبْنا الظلم ودَركاته، ووفقْنا للعدل وحسناته.
عباد الله: صلُّوا بعدَ ذلك على الرحمة المُهْداة.
وقد خاب من حمل ظلما
إخوة الإيمان:
ذكرتْ كتب التاريخ أنَّ أحد وزراء بني العباس اغتصَب مزرعةً لامرأة عجوز، فرفعتْ إليه المرأة تشكو وتترجَّى، ثم شفَّعتْ إليه مَن يردُّ عليها مزرعتها، فأبَى الوزير.
فقالت العجوز: واللهِ لأدعونَّ عليك، فقال لها الوزير ساخرًا: عليكِ بالثُّلُث الأخير مِن الليل!
فلزمتِ المرأةُ المكلومةُ أسحارَ الليل شهرًا، تدعو على مَن ظلمها، فإذا سهامُ الليل تبلغ آجالَها، فحلَّت به العقوبةُ الإلهيَّة في الظُّلمة، فنكبَه الله على يدِ الخليفة، فقطَع يدَه، ثم بعدَ أسبوع قطَع رأسه، فمرَّتْ به المرأة العجوز وأنشدت متشفية:
إِذَا جَارَ الوَزِيرُ وَكَاتِبَاهُ = وَقَاضِي الأَرْضِ أَجْحَفَ فِي الْقَضَاءِ
فَوَيْلٌ ثُمَّ وَيْلٌ ثُمَّ وَيْلٌ = لِقَاضِي الْأَرْضِ مِنْ قَاضِي السَّمَاءِ
إنَّه الظلم - أعاذنا الله وإيَّاكم منه - ما أشدَّ لوعتَه، وما أقسى مرارتَه! هو مرتعٌ وخيم، وخُلُق ذميمٌ، يأكُل الحسنات، ويمحَق البركات، ويجلب الويلات، ويُورث العَداوات.
حروبٌ شبَّت، وشعوبٌ ثارت، وخطوبٌ حلَّت، شرارتُها الأُولى فتيلُ الظلم.
الظُّلم مَهْلكة للدِّيار، مَفْسدة للأمصار، مَسْخطة للجبار؛ {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا} [الكهف: 59].
بالظُّلم والتظالُم يتقاطَع الأقرباء، ويتنافَر الأصدقاء، ما فشَا في أمَّة إلا مزَّق وَحدَتها، وفرَّق كلمتَها، وشقَّ صفَّها، ودمَّر مكتسباتِها، هو أساسُ كلِّ بليَّة، وأصل كلِّ رزيَّة.
كم أزاح الظلمُ من سلطانٍ عن عرْشه، وساق ذا صولةٍ إلى نعْشه! كم أنْزل الظلمُ أهلَه من قِمم الرِّفعة، إلى قُمْقُم المهانة والذلَّة! كم أفقرَ بعدَ غنًى، وأذلَّ بعد عزَّة! كم أضْعف بعدَ قوَّة، وأسْقم بعدَ صحَّة! كم فرَّق بعدَ اجتماع، وشتَّت بعدَ شمْل! كم وكم من الويلات حصلت ورُئِيت بسببِ البَغي والجَوْر! وهذه بعضُ آثاره في الدنيا، ولَعذابُ الآخرة أشدُّ وأبقى.
ويَكفي الظلمَ شناعةً وجرمًا وذمًّا، أنَّ الله - تعالى - نزَّه نفسه عنه؛ {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46]، {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء: 40]، «يا عبادي، إنِّي حرمتُ الظلم على نفْسي وجعلتُه بينكم محرَّمًا، فلا تَظالَموا».
الظالمون مَبْغُوضون في الأرض والسماء، ولا غرْوَ في ذلك؛ فالله لا يحبُّ الظالمين، ومَن أبغضه ربُّه، كتَب بُغضَه بين خلْقه.
الظالمون بعيدون عن ولايةِ الله وحِفْظه؛ قال - سبحانه -: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124].
التوفيق والفلاح، والهداية والنجاح، أبواب مُغلَقة في وجهِ كلِّ ظالِم وظالمة؛ قال - تعالى -: {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام: 21]، {وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 258]، هذا في دُنياهم، وأمَّا في أُخراهم فتنتظرهم قوارعُ ربِّهم ووعيده القائلة: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء: 227]، {فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [المؤمنون: 41]، {أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18]، {وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} [طه: 111].
يَستبشِر المؤمنون يومَ الدِّين بنور يسعَى بين أيديهم وبأيمانهم، وأمَّا الظالمون فيَسوءهم ظلمات يَتيهون فيها قبلَ معرفةِ مصيرهم؛ قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «اتَّقوا الظُّلم، فإنَّ الظلمَ ظلماتٌ يومَ القيامة».
لا يَقَع الظالم في ظُلمه، إلا بعدَ أن يظلم قلبُه وتَعْمَى بصائره، فلا يرى نورَ الحق، ولا يستشعر عواقبَ فعْله، فيغتر المسكينُ بإمهال ربِّه، فيتمادَى في غيِّه، ويُمعِن في بغيِه، وما عَلِم أنَّ هذا استدراجٌ من ربِّه؛ ليزداد إثمًا وسوءًا، وفي الحديث: «إنَّ الله لَيُملي للظالِم، حتى إذا أخذَه لم يُفلتْه».
عباد الله:
وللظُّلم صورٌ وأشكال، وأنماطٌ وأمثال، فمِن أشدِّ صور الظلم وأشنعِها:
- الاعتداءُ على الأنفُس البريئة، بالقتْل أو الضَّرْب أو الإيذاء، أو التضييق في الرِّزق؛ قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «يُؤْتَى بالمَقْتولِ يومَ القِيامَةِ مُتَعَلِّقًا بالقاتلِ تَشْخُبُ أوداجُه دَمًا - أي: تسيل - حتَّى يُنْتَهَى به إلى العَرْشِ، فيقولُ: رَبِّ، سَلْ هذا فِيمَ قَتَلَني؟»؛ رواه الحُميدي وأحمد والنَّسائي، وصحَّحه الألباني.
وقال -صلَّى الله عليه وسلَّم-: «مَن ضرَب بسوطٍ ظلمًا، اقتصَّ منه يومَ القيامة»؛ رواه البيهقيُّ وغيرُه، وصحَّحه الألباني.
- ومِن الظلم الكبيرِ، والجَوْر المستطير:
أكْل أموال الناس بالباطِل؛ بالقِمار والمحايلة، أو بالخِداع والمساهمات المزيَّفة؛ قال -عليه الصلاة والسلام-: «مَنِ اقْتطعَ أرْضًا ظالِمًا لقِيَ اللَّهَ - عزَّ وجلَّ - يومَ القيامةِ وهو عليه غَضْبانُ»، وقال -عليه الصلاة والسلام-: «مَنِ اقْتَطعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسلِمٍ بِيَمينِه، فقدْ أوْجَبَ اللَّهُ له بِها النَّارَ، وَحَرَّمَ عليه الجَنَّةَ»، فقالَ له رَجُلٌ: وإِنْ كانَ شَيْئًا يَسِيرًا يا رَسولَ اللَّه؟ قَالَ: «وإنْ قَضِيبًا من أَرَاكٍ».
عباد الله:
- وأمَرُّ أشكال الظلم وأشدُّها لوعةً ظلمُ الأقارب والأرحام، كما قال الشاعر الجاهليُّ طَرَفةُ بن العَبْد:
وَظُلْمُ ذَوِي القُرْبَى أَشَدُّ مَضَاضَةً = عَلَى النَّفْسِ مِنْ وَقْعِ الحُسَامِ المُهَنَّدِ
ظُلم بيِّن، ومنظر يَعتصِر له القلبُ كمدًا وألمًا أنْ ترى الأبَ أو الأمَّ تَتكَفْكَف منهما الدموع، وتتغصَّص مِن داخلهما المسرَّات، ظَلَم وما بَرَّ، مَن أغْضب والديه بفعله أو قوله؛ {فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء: 23].
التفرِقة بيْن الأولاد في العطية أو في النفقة، جَوْر وحَيْف، نهَى الشَّرَع عنه؛ قال -عليه الصلاة والسلام-: «اتَّقوا الله واعْدِلوا بين أولادكم».
عضْلُ البنات والمتاجَرة بمهرهنَّ ظلمٌ فاحِش، نهى عنه المولَى -سبحانه- بقوله: {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} [النساء: 19]، الاعتداء على الزَّوجة بالضَّرْب، أو إسماعها بذيءَ القَول، دناءةٌ وسُفول، لا تقرُّها المروءةُ والرُّجولة، ولا الدِّين والشهامة؛ قال -عليه الصلاة والسلام-: «إنِّي أُحَرِّجُ حقَّ الضَّعيفَيْن: اليَتِيم، والمرْأَة».
- ومِن صُور الظلم ودَرَكاته:
ظُلمُ الخَدَم والعمَّال بتكليفهم ما لا يُطيقون، أو ببخْسِهم حقوقَهم، وحرمانهم أجورَهم، أو تأخير رواتبهم؛ قال -عليه الصلاة والسلام-: «ثلاثةٌ أنا خَصْمُهم يومَ القِيامَة -وذكَر منهم-: ورَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أجيرًا فَاسْتَوْفَى مِنه ولَمْ يعطه أجْرَه))؛ رواه البخاري.
- ومِن الظلم والاعتداء الخفي: التهوينُ مِن شأن الفواحِش والمنكَرات، وإشاعة الفُجور، كقذف المُحْصَنات، أو الترويج للمُنكرات، التي تُؤجِّج الغرائزَ والشهوات؛ لتسهلَ مِن فعل الآثام، والاعتداء على الأعراض والمحرَّمات.
ومن الظلم المحرم:
- الاعتداءُ على الممتلكات العامَّة؛ عينيَّةً كانت أم ماليَّة، فهذه حقٌّ وملْك للجميع، والاعتداء عليها أو أكْلها اعتداءٌ على الجميع؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: «مَنِ اسْتَعْمَلْناه منكم على عَمَلٍ فكَتَمَنا مِخْيَطًا فما فوقَه، كان غلولاً يأتي به يومَ القِيَامَة»؛ رواه مسلم.
عباد الله:
ومن تأمَّل في سِير الظلمة، وعاقبة الظُّلم، رأى في مصرعهم أعظمَ العِظات، وفي نهايتهم أسوأَ الخاتمات ، كانتْ عقوبتهم معجَّلة؛ للعِبرة والادِّكار ، قال - عليه الصلاة والسلام -: «ما مِن ذنبٍ أجدر أن يُعجِّل الله - تعالى - لصاحبه العقوبةَ في الدنيا مع ما يَدخِّره له في الآخرة مِثل البَغْي وقطيعة الرَّحِم»؛ رواه أبو داود، وصحَّحه ابن حبان.
ولذا كان مِن الواجبِ الشرعي مواجهةُ الظَّلَمة، ومقارعتُهم بالنصيحة، والقول لهم في أنفُسهم قولاً بليغًا؛ إنذارًا وإعذارًا، وحِفظًا لسفينة المجتمع، بهذا أمَرَنا نبيُّنا - صلَّى الله عليه وسلَّم - بقوله: «إنَّ النَّاسَ إذا رَأَوا الظَّالِمَ فلم يأخُذوا على يدَيْه، أوْشَكَ اللَّهُ أنْ يَعُمَّهم بعِقابٍ منه».
وقال عليه الصلاة والسلام أيضًا: «إذا رَأَيْت أُمَّتِي تَهابُ الظَّالِمَ أن تَقولَ له: إِنَّكَ أَنْتَ ظالِمٌ، فقدْ تُوُدِّعَ مِنْهم»؛ رواه الإمام أحمد.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية
أما بعد:
فيا إخوةَ الإيمان، فهذه رسالتان: رسالة عتاب، ورسالة مواساة.
أمَّا الرسالة الأولى، فهي لمَن وقَع في الظلم، وسلَك مساربه، فيا كلَّ ظلوم، لا تغترَّ بحِلم الله عليك، وإمهالِه لك؛ فربُّك يُمهل ولا يُهمل، تيقَّن يا كل ظلوم أنَّ ظُلمك مُستنَسخٌ في كتاب، لا يَضِلُّ ربي ولا ينسى؛ {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47].
يا مَن عدَى ثم اعتدَى، اعلم أنَّ ظلمك مَمحَقة للصالحات، مَذْهَبة للحَسَنات، يأتي الظالم يومَ القِيامة بحسنات عظيمة، وأُجورٍ وفيرة، ولكن يأتي مُعلَّقًا بمظالِمه، يأتي وقد شتَم هذا، وقذَف هذا، وأكَل مال هذا، وسفَك دمَ هذا، فيُعطَى هذا مِن حسناته، وهذا مِن حسناته، فإنْ فنَيِت حسناته قبل أن يُقضَى ما عليه، أُخِذ مِن خَطاياهم فطُرِحت عليه، ثم طُرِح في النار.
أيها الظالم:
تيقَّن أن صوتَ المظلوم يسمعه الملِك الجبَّار، وأنَّ ضعْفَه مسنودٌ بعدْل الملِك القهَّار:
لاَ تَظْلِمَنَّ إِذَا مَا كُنْتَ مُقْتَدِرًا = فَالظُّلْمُ مَرْتَعُهُ يُفْضِي إِلَى النَّدَمِ
تَنَامُ عَيْنُكَ وَالْمَظْلُومُ مُنْتَبِهٌ = يَدْعُو عَلَيْكَ وَعَيْنُ اللَّهِ لَمْ تَنَمِ
أيها الظالم:
لو كانتِ الدنيا تَعدِل عندَ ربك جَناح بعوضة، ما سقَى كافرًا منها شربةَ ماء، فلماذا تخطُب وُدَّها، وتَبغي مِن أجْلها؟
أمامَك يا ظلوم، مصيرك المحتوم، وأجلك المختوم، تذكَّر صرعةَ الموت بشدَّته وآلامه، تذكَّر أنَّك ستُلفُّ في خِرَقٍ بيضاء، وستجندل بعدَها في حُفرة ظلماء، وستَعْلم حينَها ووقتَها أنَّك ما كنتَ إلا في غرور:
إِلَى دَيَّانِ يَوْمِ الدِّينِ نَمْضِي = وَعِنْدَ اللَّهِ تَجْتَمِعُ الخُصُومُ
سَتَعْلَمُ فِي الحِسَابِ إِذَا الْتَقَيْنَا = غَدًا عِنْدَ الْإِلَهِ مَنِ الْمَلُومُ
هناك أيُّها الظالِم لا تأسُّف ولا اعتذار؛ {يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر: 52].
هناك أيُّها الظالم لا ينفعك خليلٌ ولا شفيع؛ {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر: 18].
ليس بعدَ آيات القرآن وعيد، وليس بعدَ كلام الرحمن وعظ وتذكير، فاخترْ لنفسك إمَّا التوبةَ والأوبة، وإمَّا ظلماتٍ موحِشةً منتظرة:
فُتُبْ مِمَّا جَنَيْتَ وَأَنْتَ حَيٌّ = وَكُنْ مُتَيَقِّظًا قَبْلَ الرُّقَادِ
أدِّ الحقوق إلى أهلها، وعامِلِ الناس بمثل ما تحبُّ أن يعاملوك، وأتْبِع السيئةَ الحسنةَ تمحُها، {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه: 82].
وأما الرسالة الأخرى، فهي رسالة مواساة، لمن تجرَّع الظلم وذاق أَساه.
أخي المظلوم، تمسَّك بحبل ربِّك، وتجلَّد على ابتلائه لك، وأبشِرْ بعدها بالأجْر والعِزِّ والرِّفعة.
واسمعْ إلى قول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم منتصرًا للمظلومين بقوله: «ثلاثٌ أقْسِم عليهنَّ - وذكَر منهنَّ -: وما ظُلِم عبدٌ مظلمةً فصَبر عليها، إلا زادَه الله بها عزًّا».
يا مَن كبَّلتْه الغموم، وضاقتْ به الهموم، مِن هول الظلوم، يَمِّم وجهك شطرَ السماء، وبثَّ شكايتك لربِّ البشَر، فلك عندَ ربك دعوةٌ لا ترد؛ قال - صلَّى الله عليه وسلَّم - لمعاذ بن جبل - وقد أرْسله إلى قوم كفَّار -: «واتَّقِ دعوةَ المظلوم، فإنَّه ليس بينها وبين الله حِجاب».
أخي المظلوم المكلوم:
لا تَرُدَّ الظلم بظلم، فهذا ممَّا نهى عنه ربُّك بقوله: «إنِّي حرمتُ الظلمَ على نفسي، وجعلتُه بينكم محرَّمًا، فلا تَظَالَموا».
لا تثريب عليك يا مَن ظُلِم، أن تتحدَّث بمظلمتك، وأن تذكُر مَن ظلمك وتُحذِّر منه، فهذا ليس مِن الغِيبة المحرَّمة؛ قال - سبحانه -: {لاَ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ} [النساء: 148].
أخي المظلوم، حقُّك محفوظ ، وكرامتُك مردودة ، كتَب ذلك أعدلُ العادلين ، فلا تقلقْ ولا تَيْئَس:
أَيُّهَا الْمَظْلُومُ صَبْرًا لاَ تَهُنْ = إِنَّ عَيْنَ اللَّهِ يَقْظَى لاَ تَنَامْ
نَمْ قَرِيرَ العَيْنِ وَاهْنَأْ خَاطِرًا = فَعَدْلُ اللَّهِ دَائِمٌ بَيْنَ الأَنَامْ
وَإِنْ أَمْهَلَ اللَّهُ يَوْمًا ظَالِمًا = فَإِنَّ أَخْذَهُ شَدِيدٌ ذُو انْتِقَامْ
أخي المظلوم، أما إنْ عفوتَ وسامحت، ورددتَ بالحَسنةِ السيئةَ، فهذه محلَّةٌ عظيمة، وجزاء موفور، عندَ الملك الشَّكور؛ {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 35]، {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى: 43].
اللهم جنِّبْنا الظلم ودَركاته، ووفقْنا للعدل وحسناته.
عباد الله: صلُّوا بعدَ ذلك على الرحمة المُهْداة.
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى