رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
الشيخ / إبراهيم بن محمد الحقيل
الْإِمْدَادُ فِي الطُّغْيَانِ..الْقَذَّافِي أُنْمُوْذَجَاً
22/3/1432
الْحَمْدُ لله الْعَلِيْمِ الْحَكِيْمِ؛ لَهُ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ عَلَى خَلْقِهِ، وَلَهُ الْحِكْمَةُ الْبَاهِرَةُ فِيْ أَمْرِهِ، لَا يَقْضِي قَضَاءً لِعِبَادِهِ المُؤْمِنِيْنَ إِلَّا كَانَ خَيْرَاً لَهُمْ؛ فَإِنْ أَصَابَتْهُمْ سَرَّاءُ شَكَرُوا فَكَانَ خَيْرَاً لَهُمْ، وَإِنْ أَصَابَتْهُمْ ضَرَّاءُ صَبَرُوا فَكَانَ خَيْرَاً لَهُمْ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَحَدٍ غَيْرِهِمْ؛ نَحْمَدُهُ عَلَى مَا هَدَى وَأَعْطَى، وَنَشْكُرُهُ عَلَى مَا كَفَى وَأَوْلَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ «كَانَ سُبْحَانَهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ ثُمَّ خَلَقَ الْسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَكَتَبَ فِيْ الْذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ» [وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيْرَاً] {الْفُرْقَانَ:2} وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ؛ كَانَ خَاضِعَاً لله تَعَالَى، مُتَوَاضِعَاً لِخَلْقِهِ، رَغْمَ مَا آتَاهُ اللهُ تَعَالَى مِنْ نُبُوَّةٍ، وَبَوَّأَهُ مِنْ مَنْزِلَةٍ «يَجْلِسُ بَيْنَ ظَهْرَيْ أَصْحَابِهِ فَيَجِيءُ الْغَرِيْبُ فَلَا يَدْرِي أَيُّهُمْ هُوَ حَتَّى يَسْأَلَ»صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الْدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيْعُوْهُ، وَاحْذَرُوا طُغْيَانَ الْنُّفُوْسِ وَظُلْمَهَا وَجَهْلَهَا، وَتَعَاهَدُوْهَا بِالإِيْمَانِ وَالْتَّقْوَى، وَرَوِّضُوْهَا بِالْبَذَاذَةِ وَالَتَّوَاضُعِ؛ فَإِنَّ الْبَذَاذَةَ مِنَ الإِيْمَانِ، وَإِنَّ الطُّغْيَانَ مِنَ الْشَّيْطَانِ، وَلِلْنَّفْسِ جُنُوْحٌ إِلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَقْهَرَهَا صَاحِبُهَا فَيَرُدَّهَا عَنْ طُغْيَانِهَا [وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوْمَاً جَهُوْلَاً] {الْأَحْزَابُ:72}.
أَيُّهَا الْنَّاسُ: أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى الْقُرْآنَ هُدىً لِلْنَّاسِ، يَهْتَدُوْنَ بِهِ فِيْ أُمُوْرِ دِيْنِهِمْ، وَيَهْدُوْنَ بِهِ غَيْرَهُمْ.. يَهْتَدُوْنَ بِهِ فِيْ حَالِ الْأَمْنِ وَالْخَوْفِ، وَفِيْ حَالِ الِاسْتِقْرَارِ وَالاضْطِرَابِ، وَفِيْ حَالِ الْرَّخَاءِ وَالْشِّدَةِ؛ لِأَنَّهُ يَهْدِي لِلَّتِيْ هِيَ أَقْوَمُ فِيْ كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ وَحَالٍ.. وَفِي أَحْوَالِ الْفِتَنِ وَالاضْطِرَابِ تَتَأَكَّدُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ وَتَدَبُّرُهُ وَفَهْمُ مَعَانِيْهِ لِلِاهْتِدَاءِ بِهِ، وَالتَمَسُّكِ بِحَبْلِهِ؛ فَفِيْهِ الْنَّجَاةُ وَالْسَّدَادُ فِيْ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ.
إِنَّنَا نَجِدُ فِي الْقُرْآنِ أَنَّ الْمِنَحَ تَنْقَلِبُ إِلَى مِحَنٍ، وَأَنَّ الْنِّعَمَ تَتَحَوَّلُ إِلَى نِقَمٍ إِذَا لَمْ يُحْسِنْ مَنْ رُزِقَهَا الْتَّعَامُلَ مَعَهَا، وَلَمْ يَشْكُرِ اللهَ تَعَالَى عَلَيْهَا، وَلَمْ يُسَخِّرْهَا فِيْمَا يَنْفَعُهُ وَيَنْفَعُ الْنَّاسَ.
وَالْنَّفْسُ الْبَشَرِيَّةُ فِيْهَا مِنَ الطُّغْيَانِ مَا فِيْهَا، لَكِنَّ طُغْيَانَهَا لَا يَظْهَرُ عَلَيْهَا إِلَّا إِذَا رُزِقَ صَاحِبُهَا وَاحِدَةً مِنْ نِعَمٍ ثَلَاثٍ؛ إِذْ بِهَا يَعْلُو المَرْءُ عَلَى أَقْرَانِهِ، وَلَا يَكْبَحُهُ شَيْءٌ عَنْ طُغْيَانِهِ إِلَّا إِيْمَانُهُ..
نِعَمٌ ثَلَاثٌ قَدْ تَكُوْنُ الْوَاحِدَةُ مِنْهَا فِتْنَةً لِصَاحِبِهَا فَتَنْقَلِبُ إِلَى نِقْمَةٍ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ لَا يَدْرِي.. هَذِهِ الْنِّعَمُ الثَّلَاثُ سَبَبٌ لِلْجَاهِ، وَالْجَاهُ نِعْمَةٌ إِنْ سَخَّرَهُ صَاحِبُهُ فِيْ نَفْعِ غَيْرِهِ، وَنِقْمَةٌ إِنْ اسْتَغَلَّهُ فِي الطُّغْيَانِ وَالْعُلُوِّ عَلَى الْنَّاسِ..
هَذِهِ الْنِّعَمُ الثَّلَاثُ هِيَ المَالُ وَالْعِلْمُ وَالْرِّيَاسَةُ، وَكُلُّهَا قَدْ عُوَلِجَتْ بِقَصَصٍ مُعَبِّرَةٍ فِي سُوْرَةِ الْكَهْفِ الَّتِيْ كَانَ مِنَ الْسُّنَّةِ أَنْ نَقْرَأَهَا كُلَّ جُمُعَةٍ حَتَّى نَعْتَبِرَ بِمَا فِيْهَا؛ فَنِعْمَةُ المَالِ عَالَجَتْهَا قِصَّةُ صَاحِبِ الْجَنَّتَيْنِ، وَنِعْمَةُ الْعِلْمِ عَالَجَتْهَا قِصَّةُ مُوْسَى مَعَ الْخَضِرِ عَلَيْهِمَا الْسَّلامُ، وَنِعْمَةُ الْرِّيَاسَةِ عَالَجَتْهَا قِصَّةُ ذِيْ الْقَرْنَيْنِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.
هَذِهِ الْنِّعَمُ الثَّلَاثُ مَنْ رَزَقَهُ اللهُ تَعَالَى وَاحِدَةً مِنْهَا أَظْهَرَتْ نَفْسُهُ طُغْيَانَهَا إِلَّا أَنْ يَكْبَحَهَا بِالإِيْمَانِ، وَيُرَوِّضَهَا بِالْأَخْلاقِ..
فَفِي المَالِ قَالَ اللهُ تَعَالَى [كَلَّا إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَّآهُ اسْتَغْنَى] {الْعَلَقَ:6-7} وَقَالَ سُبْحَانَهُ [جَمَعَ مَالَاً وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ] {الْهَمْزَةِ2-:3} وَفِيْ الْحَدِيْثِ:«بَادِرُوْا بِالْأَعْمَالِ سَبْعَاً هَلْ تَنْتَظِرُوْنَ إِلَّا فَقْرَاً مُنْسِيَاً أَوْ غِنَىً مُطْغِيَاً... الْحَدِيْثِ».
وَأَمَّا الْعِلْمُ فَقَدْ يُطْغِى صَاحِبَهُ فَيَرُدُّ الْحَقَّ اسْتِغْنَاءً بِمَا عِنْدَهُ مِنْهُ [فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوْا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ] {غَافِرِ:83} وَقَدْ يُسَخِّرُهُ فِي خِدْمَةِ دُنْيَاهُ بِبَيْعِ دِينِهِ كَمَا فَعَلَ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيْلَ [فَنَبَذُوْهُ وَرَاءَ ظُهُوْرِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنَاً قَلِيلَاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُوْنَ] {آَلِ عِمْرَانَ:187} قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:« إِنَّ لِلْعِلْمِ طُغْيَانَاً كَطُغْيَانِ المَالِ» أَيْ: أَنَّهُ يَحْمِلُ صَاحِبَهُ عَلَى الْتَّرَخُّصِ بِمَا اشْتَبَهَ مِنْهُ إِلَى مَا لَا يَحِلُّ لَهُ، وَيَتَرَفَّعُ بِهِ عَلَى مَنْ دُوْنَهُ، وَلَا يُعْطِي حَقَّهُ بِالْعَمَلِ بِهِ كَمَا يَفْعَلُ رَبُّ المَالِ.
وَأَمَّا الْرِّيَاسَةُ فَأَدَّى الطُّغْيَانُ بِهَا إِلَى إِنْكَارِ الرُّبُوْبِيَّةِ كَمَا وَقَعَ مِنَ المَلِكِ الَّذِيْ حَاجَّ إِبْرَاهِيْمَ فِيْ رَبِّهِ، وَبِسَبَبِهَا ادَّعَى فِرْعَوْنُ الرُّبُوْبِيَّةَ فَقَالَ [يَا أَيُّهَا المَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي] {الْقَصَصَ:38} وَقَالَ لِمُوْسَى عَلَيْهِ الْسَّلَامُ [لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المَسْجُوْنِيْنَ] {الْشُّعَرَاءُ:29} وَقَدْ وَصَفَهُ اللهُ تَعَالَى بِالطُّغْيَانِ فِيْ خِطَابِهِ لِمُوْسَى عَلَيْهِ الْسَّلَامُ فَقَالَ تَعَالَىْ [اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى] {طَهَ:24} وَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ طُغْيَانَهُ وَمَنْ مَعَهُ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ [وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِيْنَ طَغَوْا فِيْ الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوْا فِيْهَا الْفَسَادَ] {الْفَجْرِ:10-12}.
وَإِذَا كَانَ الْكِبْرُ كَبِيْرَةً مِنَ الْكَبَائِرِ، وَمَنْ نَازَعَ اللهَ تَعَالَى فِيْهِ قَذَفَهُ فِي الْنَّارِ، وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِيْ قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ...إِذَا كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ فِيْ الْكِبْرِ؛ فَإِنَّ الطُّغْيَانَ أَشَدُّ الْكِبْرِ وَأَفْحَشُهُ وَأَغْلَظُهُ وَأَقْبَحُهُ..
وَمِنْ سُنَّةِ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّهُ يُمْهِلُ الْطَّاغِيَةَ رَغْمَ طُغْيَانِهِ، وَلَا يُكَدِّرُ عَلَيْهِ صَفْوَ عَيْشِهِ، وَلَا يُرِيهِ أَثَرَ طُغْيَانِهِ؛ فَيَسْتَدِلُّ الطَّاغِيَةُ عَلَى ذَلِكَ بِصَوَابِ فِعْلِهِ، فَيَنْقَلِبُ فُؤَادُهُ، وَيُنَكَّسُ عَقْلُهُ، فَيَرَى الْصَّوَابَ فِيْ قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ، وَالْخَطَأَ فِيْمَا عَارَضَهُ.. وَهَذَا هُوَ تَزْيِيْنُ سُوَءِ الْعَمَلِ المَذْكُوْرِ فِيْ قَوْلِ الله تَعَالَىْ [أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوَءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنَاً فَإِنَّ اللهُ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ] {فَاطِرِ:8} وَهُوَ الِانْقِلابُ المَذْكَورُ فِيْ قَوْلِهِ تَعَالَى [وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوْا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِيْ طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُوْنَ] {الْأَنْعَامِ:110}.
إِنَّهُ إِمْهَالٌ رَبَّانِيٌّ لِلْطُّغَاةِ فِي طُغْيَانِهِمْ، وَلَيْسَ تَرْكَ نِسْيَانٍ وَلَا إِهْمَالٍ.. إِنَّهُ إِمْهَالٌ مَقْصُودٌ لِحِكَمٍ كَثِيْرَةٍ يُرِيْدُهَا الْحَكِيْمُ الْعَلِيْمُ [وَنَذَرُهُمْ فِيْ طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُوْنَ] {الْأَنْعَامِ:110} وَفِي آيَةٍ أُخْرَى [وَيَذَرُهُمْ فِيْ طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُوْنَ] {الْأَعْرَافِ:186} وَفِيْ ثَالِثَةٍ [فَنَذَرُ الَّذِيْنَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِيْ طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُوْنَ] {يُوْنُسَ:11} أَيْ: نَتْرُكُ قُلُوْبَهُمْ مَمْلُوْءَةً طُغْيَانَاً وَصُدُودَاً، وَمُكَابَرَةً لِلْحَقِّ، وَعُلُوَّاً عَلَى الْخَلْقِ.
وَأَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ حِكْمَةً أَنَّ اللهَ تَعَالَىْ قَدْ يَزِيْدُ الْطَّاغِيَةَ مِنْ نِعَمِهِ، وَيَمُدُّ لَهُ فِيْ عُمُرِهِ، وَيُمَكِّنُ لَهُ فِيْ مُلْكِهِ، وَيَجْعَلُهُ فِتْنَةً لِلْضُّعَفَاءِ مِنْ خَلْقِهِ [وَيَمُدُّهُمْ فِيْ طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُوْنَ] {الْبَقَرَةِ:15} فَيَتَأَلَّهُ عَلَى النَّاسِ، وَيَظُنُّ أَنَّهُم مَا خُلِقُوا إلَّا لِيَسْتَعْبِدَهُمْ..
وَقَدْ ذَكَرَ المُفَسِّرُوْنَ أَنَّ المَلِكَ الَّذِي حَاجَّ الْخَلِيلَ عَلَيْهِ الْسَّلَامُ فِيْ الرُّبُوْبِيَّةِ تَقَلَّبَ فِي المُلْكِ أَرْبَعَةَ قُرُوْنٍ، وَفِرْعَوْنُ لِمَا غَرِقَ مَا صَدَّقَ أُنَاسٌ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ ظَنُّوْا أَنَّهُ لَا يَمُوْتُ أَبَدَاً حَتَّى أَرَاهُمُ اللهُ تَعَالَى بَدَنَهُ آيَةً، وَقَدْ رَأَيْنَا طُغَاةً اسْتَقَرَّ لَهُمْ سُلْطَانُهُمْ مَعَ شِدَّةِ طُغْيَانِهِمْ عَقْدَيْنِ وَثَلَاثَةً وَأَرْبَعَةً وَأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَكُلَّمَا مُدَّ لِلطَاغِيَةِ كَانَ أَشَدَّ لطُغْيَانِهِ؛ لِأَنَّ الطُّغْيَانَ إِذَا دَاخَلَ الْقُلُوْبَ لَا يُبَارِحُهَا، وَيَزِيْدُ فِيْ فَسَادِهَا وَعُلُوِّهَا، فَيَتَرَاكُمُ الطُّغْيَانُ فِيْهَا مَعَ الْزَّمَنِ..
وَحِيْنَئِذٍ فَلَا عَجَبَ إِنْ رَأَيْنَا طَاغِيَةً كَالنَمْرُودِ يُجَادِلُ فِيْ رُبُوْبِيَّةِ الله تَعَالَى، أَوْ طَاغِيَةً كَفِرْعَوْنَ يَدَّعِي أَنَّهُ الْرَّبُّ الْأَعْلَى وَلَا يُرِي قَوْمَهُ إِلَّا مَا يَرَى، أَوْ طَاغِيَةً مُعَاصِرَاً كَالقَذَّافِي يَجْعَلُ نَفْسَهُ الْأُمَّةَ وَالمَجْدَ وَالْشَّعْبَ وَكُلَّ شَيْءٍ، وَيَصْرُخُ بِأَنَّهُ قَائِدُ الثَّوْرَةِ إِلَى الْأَبَدِ كَأَنَّهُ مُخَلَّدٌ فِيْ الْدُّنْيَا، وَأَمَّا مَا سِوَاهُ مِنَ الْنَّاسِ فَهُمْ عِنْدَهُ حَشَرَاتٌ وَجِرْذَانٌ لَا يَسْتَحِقُّوْنَ الْحَيَاةَ، وَيَجِبُ سَحْقُهُمْ لِيَبْقَى الْطَّاغِيَةُ، وَلَوْ بَقِيَ فِيْ دَوْلَةٍ لَيْسَ فِيْهَا سِوَاهُ، فَهُوَ رُكْنُ الْحَيَاةِ وَسَبَبُهَا وَأُسُّهَا، وَيَجِبُ أَنْ يُحْرَقَ كُلُّ شَيْءٍ بَعْدَهُ، فَهُوَ وَحْدَهُ الَوجُوْدُ وَلَا يَصْلُحُ الْكَوْنُ إِلَّا بِهِ.. هَكَذَا يَظُنُّ..وَهَذَا مَعْنَى مَا يَقُوْلُهُ رَغْمَ أَنَّهُ يَرَى انْفِضَاضَ مَنْ حَوْلَهُ، وَانْقِلَابَ المُقَرَّبِيْنَ مِنْهُ عَلَيْهِ.. لَكِنَّ الطُّغْيَانَ الَّذِي مَلَأَ قَلْبَهُ طِيَلَةَ عُقُوْدٍ أَرْبَعَةٍ مَضَتْ أَصَابَهُ بِالعَمَهِ وَهُوَ انْطِمَاسُ الْبَصِيْرَةِ، وَتَحَيّرُ الْرَّأْيِّ، وَالعَمَهُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِيْ الْآَيَاتِ الَّتِيْ عَالَجَتْ مَرَضَ الطُّغْيَانِ [وَنَذَرُهُمْ فِيْ طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُوْنَ] وَالتَّخَبُّطُ الَّذِي وَقَعَ فِيْهِ طُغَاةُ هَذَا الْعَصْرِ لمَا أُحِيْطَ بِهِمْ هُوَ مِنْ آثَارِ هَذَا الْعَمَهِ الَّذِيْ جَلَبَهُ الطُّغْيَانُ لَهُمْ، وَلَوْ أَنَّ اللهَ تَعَالَى كَشَفَ عَنْهُمْ ضُرَّهُمْ، وَنَجَّاهُمْ مِنْ مِحَنِهِم؛ لمَا أَخَذُوْا دُرُوسَاً مِمَّا مَرَّ بِهِمْ -كَمَا لمْ يَتَعِظْ بِهمْ أَمْثَالُهُم ممنْ يَنْتَظِرُونَ دَورَهُم- وَلَمَا غَيَّرُوْا شَيْئَاً مِنْ أَحْوَالِهِمْ، وَلَمَا تَخَلَّوْا عَنْ طُغْيَانِهِمْ. بَلْ إِنَّهُمْ يَتَمَادَوْنَ فِيْهِ؛ لِأَنَّ الطُّغْيَانَ قَدْ تَمَكَّنَ مِنْ قُلُوْبِهِمْ وَأَطْبَقَ عَلَيْهَا؛ وَلِذَا قَالَ اللهُ تَعَالَى [وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوْا فِيْ طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُوْنَ] {المُؤْمِنُوْنَ:75} أَيْ: لتَمَادَوا فِيْ طُغْيَانِهِمْ، فَقَضَى اللهُ تَعَالَى أَنْ تَكُونَ نِهَايَتُهُمْ فِيْ أَسْوَإِ حَالٍ وَأَذَلِّهِ، فَمَا أَعْظَمَ الْقُرْآنَ الْكَرِيْمَ وَهُوَ يُعَالِجُ الْنُّفُوْسَ الْبَشَرِيَّةَ، وَيَكْشِفُ عَنْ دَوَاخِلِهَا وَأَسْرَارِهَا..
وَلَا تَظُنُّوْا -يَا عِبَادَ الله- أَنَّ الْطُّغَاةَ حِيْنَ وَصَفُوْا أَنْفُسَهُمْ بِمَا يُضْحِكُ الْنَّاسَ عَلَيْهِمْ، أَوْ فَعَلُوْا مِنَ الْأَفْعَالِ مَا يَنْبُو عَنْهَا الْعُقَلَاءُ..لَا تَظُنُّوْا أَنَّهُمْ يَتَصْنَّعُونَ ذَلِكَ، أَوْ لَا يَعْتَقِدُوْنَهُ فِيْ مَكْنُوْنِ قُلُوْبِهِمْ، أَوْ يَظُنُّوْنَ أَنَّ الْنَّاسَ لَا يُصَدِّقُوْنَهُمْ فِيْمَا يَقُوْلُوْنَ.. كَلَّا وَالله.. بَلْ هُمْ يَعْتَقِدُوْنَ مَا يَقُوْلُوْنَ، وَيَظُنُّونَ أَنَّ الْنَّاسَ لَا شَيْءَ بِدُوْنِهِمْ؛ لِأَنَّ تَرَاكُمَ الطُّغْيَانِ عَبْرَ سَنَوَاتٍ وَعُقُوْدٍ قَدْ قَلَبَ قُلُوْبَهُمْ، وَنَكَسَ فِطَرَهُمْ، وَجَعَلَ نُفُوْسَهُمْ الأَمَّارَةَ بِالْسُّوْءِ، وَبِطَانَتَهُمْ المُطَبِّلَةَ لَهُمْ تُزَيِّنُ لَهُمْ ذَلِكَ، وتُؤَلِّهُهُمْ مِنْ دُوْنِ الله تَعَالَى..
نَعُوْذُ بِالله تَعَالَى مِنْ شَرِّ نُفُوْسِنَا وَطُغْيَانِهَا، وَمِنْ شَرِّ كُلِّ طَاغِيَةٍ، وَنَسْأَلُهُ تَعَالَى أَنْ يَحْفَظَ المُسْلِمِيْنَ مِنْ كُلِّ سُوَءٍ وَمَكْرُوْهٍ.
وَأَقُوْلُ مَا تَسْمَعُوْنَ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ...
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ لله حَمْدَاً طَيِّبَاً كَثِيْرَاً مُبَارَكَاً فِيْهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُوُلُهُ صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الْدِّينِ..
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيْعُوْهُ، وَاسْتَقِيْمُوا عَلَى أَمْرِهِ، وَتَمَسَّكُوا بِحَبْلِهِ، وَأَقِيْمُوْا دِيْنَهُ [فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُوْنَ بَصِيْرٌ] {هُوْدٍ:112}.
أَيُّهَا الْنَّاسُ: نَرَى جَمِيعَاً مَا يَعْصِفُ بِأُمَّةِ الإِسْلَامِ مِنْ أَحَدَاثٍ عَظِيْمَةٍ تَسْقُطُ فِيْهَا الْدُّوَلُ، وَتُزْهَقُ فِيْهَا الْأَرْوَاحُ، وَيَخْتَلُّ فِيْهَا الْأَمْنُ.. وَدُوَلُ الإِسْلَامِ عَلَى خَطَرٍ مِنْ حُلُوْلِ الاضْطِرَابِ، وَانْعِدَامِ الِاسْتِقْرَارِ.. وَذَلِكَ يَسْتَوْجِبُ الَرْجُوَعَ إِلَى الله تَعَالَى، وَالْإِنَابَةَ إِلَيْهِ، وَالتَّوَكُّلَ عَلَيْهِ، وَكَثْرَةَ دُعَائِهِ وَالْتَّضَرُّعِ إِلَيْهِ بِأَنْ يَحْفَظَ عَلَى المُسْلِمِيْنَ أَمْنَهُمْ وَاسْتِقْرَارَهُمْ..
إِنَّ هَذِهِ الْأَحْدَاثَ العَظِيمَةَ الَتِيْ تَمُرُّ بِأُمَّةِ الْإِسْلَامِ -وَقَدِ اسْتَبْشَرَ بِهَا كَثِيْرٌ مِنَ الْنَّاسِ- لَا يُدْرَى أَهِيَ خَيْرٌ مَحْضٌ، أَمْ خَيْرٌ مَشُوْبٌ بِشَرٍّ، وَلَا يَعْلَمُ أَحَدٌ إلَّا اللهُ تَعَالَى أَشَرُّهَا أَكْثَرُ أَمْ خَيْرُهَا، لَكِنَّ المُؤَكَّدَ أَنَهَا أَحْدَاثٌ لَهَا مَا بَعْدَهَا، وَتَأْثِيْرُهَا عَلَى أَمْنِ المُسْلِمِيْنَ وَاسْتِقْرَارِهِمْ سَيَكُوْنُ كَبِيْرَاً.
إِنَّهُ لَا هَنَاءَ بِعَيْشٍ، وَلَا فَرَحَ بِحَيَاةٍ، وَلَا لَذَّةَ فِيْ مَطْعُوْمٍ وَمَشْرُوْبٍ، وَلَا ضَمَانَ لِأَدَاءِ عِبَادَةٍ فِي سَكِيْنَةٍ إِلَّا بِتَوَافُرِ الْأَمْنِ وَالاسْتِقْرَارِ، وَإِذَا اضْطَرَبَتْ الْأَحْوَالُ، وَحَلَّ الْخَوْفُ فِي الْنَّاسِ فَلَا طَعْمَ لِلْحَيَاةِ، وَلَا لَذَّةَ لِشَيْءٍ مَهْمَا كَانَ حُلْوَاً.. وَاللهُ تَعَالَى هُوَ مَانِحُ الْأَمْنِ وَرَافِعُهُ [فَلْيَعْبُدُوَا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِيْ أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوْعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ] {قُرَيْشٍ:3-4} وَهُوَ سُبْحَانَهُ مِنْ يُنْزِلُ الطُّمَأْنِيْنَةَ فِي الْقُلُوْبِ، وَيُدِيْمُ اسْتِقْرَارَ الْنَّاسِ وَاجْتِمَاعَ كَلِمَتِهِمْ، وَهُوَ الْقَادِرُ عَلَى حِرْمَانِهِم مِنْ ذَلِكَ [قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابَاً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعَاً وَيُذِيْقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ] {الْأَنْعَامِ:65}.
نَعُوْذُ بِالله تَعَالَى أَنْ يَلْبِسَنَا شِيَعَاً وَنَعُوْذُ بِهِ سُبْحَانَهُ أَنْ يَجْعَلَ بَعْضَنَا يَذُوقُ بَأْسَ بَعْضٍ، فَلَا لُجُوْءَ فِي الْفِتَنِ إِلَّا إِلَى الله تَعَالَى، وَلَا مَفَرَّ مِنْهُ إِلَّا إِلَيْهِ، وَلَا اعْتِصَامَ إِلَّا بِحَبْلِهِ، وَلَا نَجَاةَ إِلَّا بِدِيْنِهِ..[وَاعْتَصِمُوْا بِحَبْلِ الله جَمِيْعَاً وَلَا تَفَرَّقُوا] {آَلِ عِمْرَانَ:103}.
إِنَّ تَفْرِقَةَ الْقُلُوْبِ سَبَبُ كُلِّ شَرٍّ، كَمَا أَنَّ اجْتِمَاعَهَا سَبَبُ كُلِّ خَيْرٍ، وَمَا نَالَ أَعْدَاءُ الْإِسْلَامِ قَدِيْمَاً وَحَدِيثَاً مِنَ الْأُمَّةِ المُسْلِمَةِ إِلَّا لمّا تَبَاعَدَتْ قُلُوْبُهُمْ، وَاخْتَلَفَتْ كَلِمَتُهُمْ، وَتَفَرَّقُوا شِيَعَاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُوْنَ.. فَاللهَ اللهَ-عِبَادَ الله- فِيْ دِيْنِنَا وَفِي أَنْفُسِنَا وَأَهْلِنَا وَأَوْلَادِنَا وَفِيْ بِلَادِنَا وَفِيْ أُمَّةِ المُسْلِمِيْنَ جَمْعَاءَ.. لِنَحْذَرْ مِنَ التَفْرِيطِ في دِينِنَا، وتَفْرِقَةِ قُلُوْبِنَا، وَاخْتِلَافِ كَلِمَتِنَا، وَلْنُكْثِرْ مِنَ الْدُّعَاءِ وَالْتَّضَرُّعِ بِأَنْ يَحْفَظَ اللهُ تَعَالَى عَلَى بِلَادِنَا وَعَلَى بِلَادِ المُسْلِمِيْنَ كَافَّةً أَمْنَهَا وَاسْتِقْرَارَهَا وَعَافِيَتَهَا، وَأَنْ يُزِيْلَ عَنَّا وَعَنِ المُسْلِمِيْنَ مَنْ يَكِيْدُ لَنَا فِي دِيْنِنَا أَوْ دُنْيَانَا، وَأَنْ يَكْبِتْ مَنْ يُرِيْدُ الْشَّرَّ بِنَا، وَنَشْرَ الْفَوَاحِشِ بَيْنَنَا، وَإِشْعَالَ الْفِتَنِ فِيْنَا، فَرُبَّ دَعْوَةٍ صَادِقَةٍ مُخلِصَةٍ دُفِعَ بِهَا الْشَّرُّ، وَحَلَّ بِهَا الْخَيرُ.. إِنَّ رَبِّي سَمِيْعُ الْدُّعَاءِ..
وَصَلُّوْا وَسَلِّمُوْا عَلَى نَبِيِّكُمْ...
الْإِمْدَادُ فِي الطُّغْيَانِ..الْقَذَّافِي أُنْمُوْذَجَاً
22/3/1432
الْحَمْدُ لله الْعَلِيْمِ الْحَكِيْمِ؛ لَهُ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ عَلَى خَلْقِهِ، وَلَهُ الْحِكْمَةُ الْبَاهِرَةُ فِيْ أَمْرِهِ، لَا يَقْضِي قَضَاءً لِعِبَادِهِ المُؤْمِنِيْنَ إِلَّا كَانَ خَيْرَاً لَهُمْ؛ فَإِنْ أَصَابَتْهُمْ سَرَّاءُ شَكَرُوا فَكَانَ خَيْرَاً لَهُمْ، وَإِنْ أَصَابَتْهُمْ ضَرَّاءُ صَبَرُوا فَكَانَ خَيْرَاً لَهُمْ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَحَدٍ غَيْرِهِمْ؛ نَحْمَدُهُ عَلَى مَا هَدَى وَأَعْطَى، وَنَشْكُرُهُ عَلَى مَا كَفَى وَأَوْلَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ «كَانَ سُبْحَانَهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ ثُمَّ خَلَقَ الْسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَكَتَبَ فِيْ الْذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ» [وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيْرَاً] {الْفُرْقَانَ:2} وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ؛ كَانَ خَاضِعَاً لله تَعَالَى، مُتَوَاضِعَاً لِخَلْقِهِ، رَغْمَ مَا آتَاهُ اللهُ تَعَالَى مِنْ نُبُوَّةٍ، وَبَوَّأَهُ مِنْ مَنْزِلَةٍ «يَجْلِسُ بَيْنَ ظَهْرَيْ أَصْحَابِهِ فَيَجِيءُ الْغَرِيْبُ فَلَا يَدْرِي أَيُّهُمْ هُوَ حَتَّى يَسْأَلَ»صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الْدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيْعُوْهُ، وَاحْذَرُوا طُغْيَانَ الْنُّفُوْسِ وَظُلْمَهَا وَجَهْلَهَا، وَتَعَاهَدُوْهَا بِالإِيْمَانِ وَالْتَّقْوَى، وَرَوِّضُوْهَا بِالْبَذَاذَةِ وَالَتَّوَاضُعِ؛ فَإِنَّ الْبَذَاذَةَ مِنَ الإِيْمَانِ، وَإِنَّ الطُّغْيَانَ مِنَ الْشَّيْطَانِ، وَلِلْنَّفْسِ جُنُوْحٌ إِلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَقْهَرَهَا صَاحِبُهَا فَيَرُدَّهَا عَنْ طُغْيَانِهَا [وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوْمَاً جَهُوْلَاً] {الْأَحْزَابُ:72}.
أَيُّهَا الْنَّاسُ: أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى الْقُرْآنَ هُدىً لِلْنَّاسِ، يَهْتَدُوْنَ بِهِ فِيْ أُمُوْرِ دِيْنِهِمْ، وَيَهْدُوْنَ بِهِ غَيْرَهُمْ.. يَهْتَدُوْنَ بِهِ فِيْ حَالِ الْأَمْنِ وَالْخَوْفِ، وَفِيْ حَالِ الِاسْتِقْرَارِ وَالاضْطِرَابِ، وَفِيْ حَالِ الْرَّخَاءِ وَالْشِّدَةِ؛ لِأَنَّهُ يَهْدِي لِلَّتِيْ هِيَ أَقْوَمُ فِيْ كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ وَحَالٍ.. وَفِي أَحْوَالِ الْفِتَنِ وَالاضْطِرَابِ تَتَأَكَّدُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ وَتَدَبُّرُهُ وَفَهْمُ مَعَانِيْهِ لِلِاهْتِدَاءِ بِهِ، وَالتَمَسُّكِ بِحَبْلِهِ؛ فَفِيْهِ الْنَّجَاةُ وَالْسَّدَادُ فِيْ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ.
إِنَّنَا نَجِدُ فِي الْقُرْآنِ أَنَّ الْمِنَحَ تَنْقَلِبُ إِلَى مِحَنٍ، وَأَنَّ الْنِّعَمَ تَتَحَوَّلُ إِلَى نِقَمٍ إِذَا لَمْ يُحْسِنْ مَنْ رُزِقَهَا الْتَّعَامُلَ مَعَهَا، وَلَمْ يَشْكُرِ اللهَ تَعَالَى عَلَيْهَا، وَلَمْ يُسَخِّرْهَا فِيْمَا يَنْفَعُهُ وَيَنْفَعُ الْنَّاسَ.
وَالْنَّفْسُ الْبَشَرِيَّةُ فِيْهَا مِنَ الطُّغْيَانِ مَا فِيْهَا، لَكِنَّ طُغْيَانَهَا لَا يَظْهَرُ عَلَيْهَا إِلَّا إِذَا رُزِقَ صَاحِبُهَا وَاحِدَةً مِنْ نِعَمٍ ثَلَاثٍ؛ إِذْ بِهَا يَعْلُو المَرْءُ عَلَى أَقْرَانِهِ، وَلَا يَكْبَحُهُ شَيْءٌ عَنْ طُغْيَانِهِ إِلَّا إِيْمَانُهُ..
نِعَمٌ ثَلَاثٌ قَدْ تَكُوْنُ الْوَاحِدَةُ مِنْهَا فِتْنَةً لِصَاحِبِهَا فَتَنْقَلِبُ إِلَى نِقْمَةٍ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ لَا يَدْرِي.. هَذِهِ الْنِّعَمُ الثَّلَاثُ سَبَبٌ لِلْجَاهِ، وَالْجَاهُ نِعْمَةٌ إِنْ سَخَّرَهُ صَاحِبُهُ فِيْ نَفْعِ غَيْرِهِ، وَنِقْمَةٌ إِنْ اسْتَغَلَّهُ فِي الطُّغْيَانِ وَالْعُلُوِّ عَلَى الْنَّاسِ..
هَذِهِ الْنِّعَمُ الثَّلَاثُ هِيَ المَالُ وَالْعِلْمُ وَالْرِّيَاسَةُ، وَكُلُّهَا قَدْ عُوَلِجَتْ بِقَصَصٍ مُعَبِّرَةٍ فِي سُوْرَةِ الْكَهْفِ الَّتِيْ كَانَ مِنَ الْسُّنَّةِ أَنْ نَقْرَأَهَا كُلَّ جُمُعَةٍ حَتَّى نَعْتَبِرَ بِمَا فِيْهَا؛ فَنِعْمَةُ المَالِ عَالَجَتْهَا قِصَّةُ صَاحِبِ الْجَنَّتَيْنِ، وَنِعْمَةُ الْعِلْمِ عَالَجَتْهَا قِصَّةُ مُوْسَى مَعَ الْخَضِرِ عَلَيْهِمَا الْسَّلامُ، وَنِعْمَةُ الْرِّيَاسَةِ عَالَجَتْهَا قِصَّةُ ذِيْ الْقَرْنَيْنِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.
هَذِهِ الْنِّعَمُ الثَّلَاثُ مَنْ رَزَقَهُ اللهُ تَعَالَى وَاحِدَةً مِنْهَا أَظْهَرَتْ نَفْسُهُ طُغْيَانَهَا إِلَّا أَنْ يَكْبَحَهَا بِالإِيْمَانِ، وَيُرَوِّضَهَا بِالْأَخْلاقِ..
فَفِي المَالِ قَالَ اللهُ تَعَالَى [كَلَّا إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَّآهُ اسْتَغْنَى] {الْعَلَقَ:6-7} وَقَالَ سُبْحَانَهُ [جَمَعَ مَالَاً وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ] {الْهَمْزَةِ2-:3} وَفِيْ الْحَدِيْثِ:«بَادِرُوْا بِالْأَعْمَالِ سَبْعَاً هَلْ تَنْتَظِرُوْنَ إِلَّا فَقْرَاً مُنْسِيَاً أَوْ غِنَىً مُطْغِيَاً... الْحَدِيْثِ».
وَأَمَّا الْعِلْمُ فَقَدْ يُطْغِى صَاحِبَهُ فَيَرُدُّ الْحَقَّ اسْتِغْنَاءً بِمَا عِنْدَهُ مِنْهُ [فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوْا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ] {غَافِرِ:83} وَقَدْ يُسَخِّرُهُ فِي خِدْمَةِ دُنْيَاهُ بِبَيْعِ دِينِهِ كَمَا فَعَلَ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيْلَ [فَنَبَذُوْهُ وَرَاءَ ظُهُوْرِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنَاً قَلِيلَاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُوْنَ] {آَلِ عِمْرَانَ:187} قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:« إِنَّ لِلْعِلْمِ طُغْيَانَاً كَطُغْيَانِ المَالِ» أَيْ: أَنَّهُ يَحْمِلُ صَاحِبَهُ عَلَى الْتَّرَخُّصِ بِمَا اشْتَبَهَ مِنْهُ إِلَى مَا لَا يَحِلُّ لَهُ، وَيَتَرَفَّعُ بِهِ عَلَى مَنْ دُوْنَهُ، وَلَا يُعْطِي حَقَّهُ بِالْعَمَلِ بِهِ كَمَا يَفْعَلُ رَبُّ المَالِ.
وَأَمَّا الْرِّيَاسَةُ فَأَدَّى الطُّغْيَانُ بِهَا إِلَى إِنْكَارِ الرُّبُوْبِيَّةِ كَمَا وَقَعَ مِنَ المَلِكِ الَّذِيْ حَاجَّ إِبْرَاهِيْمَ فِيْ رَبِّهِ، وَبِسَبَبِهَا ادَّعَى فِرْعَوْنُ الرُّبُوْبِيَّةَ فَقَالَ [يَا أَيُّهَا المَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي] {الْقَصَصَ:38} وَقَالَ لِمُوْسَى عَلَيْهِ الْسَّلَامُ [لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المَسْجُوْنِيْنَ] {الْشُّعَرَاءُ:29} وَقَدْ وَصَفَهُ اللهُ تَعَالَى بِالطُّغْيَانِ فِيْ خِطَابِهِ لِمُوْسَى عَلَيْهِ الْسَّلَامُ فَقَالَ تَعَالَىْ [اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى] {طَهَ:24} وَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ طُغْيَانَهُ وَمَنْ مَعَهُ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ [وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِيْنَ طَغَوْا فِيْ الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوْا فِيْهَا الْفَسَادَ] {الْفَجْرِ:10-12}.
وَإِذَا كَانَ الْكِبْرُ كَبِيْرَةً مِنَ الْكَبَائِرِ، وَمَنْ نَازَعَ اللهَ تَعَالَى فِيْهِ قَذَفَهُ فِي الْنَّارِ، وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِيْ قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ...إِذَا كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ فِيْ الْكِبْرِ؛ فَإِنَّ الطُّغْيَانَ أَشَدُّ الْكِبْرِ وَأَفْحَشُهُ وَأَغْلَظُهُ وَأَقْبَحُهُ..
وَمِنْ سُنَّةِ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّهُ يُمْهِلُ الْطَّاغِيَةَ رَغْمَ طُغْيَانِهِ، وَلَا يُكَدِّرُ عَلَيْهِ صَفْوَ عَيْشِهِ، وَلَا يُرِيهِ أَثَرَ طُغْيَانِهِ؛ فَيَسْتَدِلُّ الطَّاغِيَةُ عَلَى ذَلِكَ بِصَوَابِ فِعْلِهِ، فَيَنْقَلِبُ فُؤَادُهُ، وَيُنَكَّسُ عَقْلُهُ، فَيَرَى الْصَّوَابَ فِيْ قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ، وَالْخَطَأَ فِيْمَا عَارَضَهُ.. وَهَذَا هُوَ تَزْيِيْنُ سُوَءِ الْعَمَلِ المَذْكُوْرِ فِيْ قَوْلِ الله تَعَالَىْ [أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوَءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنَاً فَإِنَّ اللهُ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ] {فَاطِرِ:8} وَهُوَ الِانْقِلابُ المَذْكَورُ فِيْ قَوْلِهِ تَعَالَى [وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوْا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِيْ طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُوْنَ] {الْأَنْعَامِ:110}.
إِنَّهُ إِمْهَالٌ رَبَّانِيٌّ لِلْطُّغَاةِ فِي طُغْيَانِهِمْ، وَلَيْسَ تَرْكَ نِسْيَانٍ وَلَا إِهْمَالٍ.. إِنَّهُ إِمْهَالٌ مَقْصُودٌ لِحِكَمٍ كَثِيْرَةٍ يُرِيْدُهَا الْحَكِيْمُ الْعَلِيْمُ [وَنَذَرُهُمْ فِيْ طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُوْنَ] {الْأَنْعَامِ:110} وَفِي آيَةٍ أُخْرَى [وَيَذَرُهُمْ فِيْ طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُوْنَ] {الْأَعْرَافِ:186} وَفِيْ ثَالِثَةٍ [فَنَذَرُ الَّذِيْنَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِيْ طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُوْنَ] {يُوْنُسَ:11} أَيْ: نَتْرُكُ قُلُوْبَهُمْ مَمْلُوْءَةً طُغْيَانَاً وَصُدُودَاً، وَمُكَابَرَةً لِلْحَقِّ، وَعُلُوَّاً عَلَى الْخَلْقِ.
وَأَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ حِكْمَةً أَنَّ اللهَ تَعَالَىْ قَدْ يَزِيْدُ الْطَّاغِيَةَ مِنْ نِعَمِهِ، وَيَمُدُّ لَهُ فِيْ عُمُرِهِ، وَيُمَكِّنُ لَهُ فِيْ مُلْكِهِ، وَيَجْعَلُهُ فِتْنَةً لِلْضُّعَفَاءِ مِنْ خَلْقِهِ [وَيَمُدُّهُمْ فِيْ طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُوْنَ] {الْبَقَرَةِ:15} فَيَتَأَلَّهُ عَلَى النَّاسِ، وَيَظُنُّ أَنَّهُم مَا خُلِقُوا إلَّا لِيَسْتَعْبِدَهُمْ..
وَقَدْ ذَكَرَ المُفَسِّرُوْنَ أَنَّ المَلِكَ الَّذِي حَاجَّ الْخَلِيلَ عَلَيْهِ الْسَّلَامُ فِيْ الرُّبُوْبِيَّةِ تَقَلَّبَ فِي المُلْكِ أَرْبَعَةَ قُرُوْنٍ، وَفِرْعَوْنُ لِمَا غَرِقَ مَا صَدَّقَ أُنَاسٌ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ ظَنُّوْا أَنَّهُ لَا يَمُوْتُ أَبَدَاً حَتَّى أَرَاهُمُ اللهُ تَعَالَى بَدَنَهُ آيَةً، وَقَدْ رَأَيْنَا طُغَاةً اسْتَقَرَّ لَهُمْ سُلْطَانُهُمْ مَعَ شِدَّةِ طُغْيَانِهِمْ عَقْدَيْنِ وَثَلَاثَةً وَأَرْبَعَةً وَأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَكُلَّمَا مُدَّ لِلطَاغِيَةِ كَانَ أَشَدَّ لطُغْيَانِهِ؛ لِأَنَّ الطُّغْيَانَ إِذَا دَاخَلَ الْقُلُوْبَ لَا يُبَارِحُهَا، وَيَزِيْدُ فِيْ فَسَادِهَا وَعُلُوِّهَا، فَيَتَرَاكُمُ الطُّغْيَانُ فِيْهَا مَعَ الْزَّمَنِ..
وَحِيْنَئِذٍ فَلَا عَجَبَ إِنْ رَأَيْنَا طَاغِيَةً كَالنَمْرُودِ يُجَادِلُ فِيْ رُبُوْبِيَّةِ الله تَعَالَى، أَوْ طَاغِيَةً كَفِرْعَوْنَ يَدَّعِي أَنَّهُ الْرَّبُّ الْأَعْلَى وَلَا يُرِي قَوْمَهُ إِلَّا مَا يَرَى، أَوْ طَاغِيَةً مُعَاصِرَاً كَالقَذَّافِي يَجْعَلُ نَفْسَهُ الْأُمَّةَ وَالمَجْدَ وَالْشَّعْبَ وَكُلَّ شَيْءٍ، وَيَصْرُخُ بِأَنَّهُ قَائِدُ الثَّوْرَةِ إِلَى الْأَبَدِ كَأَنَّهُ مُخَلَّدٌ فِيْ الْدُّنْيَا، وَأَمَّا مَا سِوَاهُ مِنَ الْنَّاسِ فَهُمْ عِنْدَهُ حَشَرَاتٌ وَجِرْذَانٌ لَا يَسْتَحِقُّوْنَ الْحَيَاةَ، وَيَجِبُ سَحْقُهُمْ لِيَبْقَى الْطَّاغِيَةُ، وَلَوْ بَقِيَ فِيْ دَوْلَةٍ لَيْسَ فِيْهَا سِوَاهُ، فَهُوَ رُكْنُ الْحَيَاةِ وَسَبَبُهَا وَأُسُّهَا، وَيَجِبُ أَنْ يُحْرَقَ كُلُّ شَيْءٍ بَعْدَهُ، فَهُوَ وَحْدَهُ الَوجُوْدُ وَلَا يَصْلُحُ الْكَوْنُ إِلَّا بِهِ.. هَكَذَا يَظُنُّ..وَهَذَا مَعْنَى مَا يَقُوْلُهُ رَغْمَ أَنَّهُ يَرَى انْفِضَاضَ مَنْ حَوْلَهُ، وَانْقِلَابَ المُقَرَّبِيْنَ مِنْهُ عَلَيْهِ.. لَكِنَّ الطُّغْيَانَ الَّذِي مَلَأَ قَلْبَهُ طِيَلَةَ عُقُوْدٍ أَرْبَعَةٍ مَضَتْ أَصَابَهُ بِالعَمَهِ وَهُوَ انْطِمَاسُ الْبَصِيْرَةِ، وَتَحَيّرُ الْرَّأْيِّ، وَالعَمَهُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِيْ الْآَيَاتِ الَّتِيْ عَالَجَتْ مَرَضَ الطُّغْيَانِ [وَنَذَرُهُمْ فِيْ طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُوْنَ] وَالتَّخَبُّطُ الَّذِي وَقَعَ فِيْهِ طُغَاةُ هَذَا الْعَصْرِ لمَا أُحِيْطَ بِهِمْ هُوَ مِنْ آثَارِ هَذَا الْعَمَهِ الَّذِيْ جَلَبَهُ الطُّغْيَانُ لَهُمْ، وَلَوْ أَنَّ اللهَ تَعَالَى كَشَفَ عَنْهُمْ ضُرَّهُمْ، وَنَجَّاهُمْ مِنْ مِحَنِهِم؛ لمَا أَخَذُوْا دُرُوسَاً مِمَّا مَرَّ بِهِمْ -كَمَا لمْ يَتَعِظْ بِهمْ أَمْثَالُهُم ممنْ يَنْتَظِرُونَ دَورَهُم- وَلَمَا غَيَّرُوْا شَيْئَاً مِنْ أَحْوَالِهِمْ، وَلَمَا تَخَلَّوْا عَنْ طُغْيَانِهِمْ. بَلْ إِنَّهُمْ يَتَمَادَوْنَ فِيْهِ؛ لِأَنَّ الطُّغْيَانَ قَدْ تَمَكَّنَ مِنْ قُلُوْبِهِمْ وَأَطْبَقَ عَلَيْهَا؛ وَلِذَا قَالَ اللهُ تَعَالَى [وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوْا فِيْ طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُوْنَ] {المُؤْمِنُوْنَ:75} أَيْ: لتَمَادَوا فِيْ طُغْيَانِهِمْ، فَقَضَى اللهُ تَعَالَى أَنْ تَكُونَ نِهَايَتُهُمْ فِيْ أَسْوَإِ حَالٍ وَأَذَلِّهِ، فَمَا أَعْظَمَ الْقُرْآنَ الْكَرِيْمَ وَهُوَ يُعَالِجُ الْنُّفُوْسَ الْبَشَرِيَّةَ، وَيَكْشِفُ عَنْ دَوَاخِلِهَا وَأَسْرَارِهَا..
وَلَا تَظُنُّوْا -يَا عِبَادَ الله- أَنَّ الْطُّغَاةَ حِيْنَ وَصَفُوْا أَنْفُسَهُمْ بِمَا يُضْحِكُ الْنَّاسَ عَلَيْهِمْ، أَوْ فَعَلُوْا مِنَ الْأَفْعَالِ مَا يَنْبُو عَنْهَا الْعُقَلَاءُ..لَا تَظُنُّوْا أَنَّهُمْ يَتَصْنَّعُونَ ذَلِكَ، أَوْ لَا يَعْتَقِدُوْنَهُ فِيْ مَكْنُوْنِ قُلُوْبِهِمْ، أَوْ يَظُنُّوْنَ أَنَّ الْنَّاسَ لَا يُصَدِّقُوْنَهُمْ فِيْمَا يَقُوْلُوْنَ.. كَلَّا وَالله.. بَلْ هُمْ يَعْتَقِدُوْنَ مَا يَقُوْلُوْنَ، وَيَظُنُّونَ أَنَّ الْنَّاسَ لَا شَيْءَ بِدُوْنِهِمْ؛ لِأَنَّ تَرَاكُمَ الطُّغْيَانِ عَبْرَ سَنَوَاتٍ وَعُقُوْدٍ قَدْ قَلَبَ قُلُوْبَهُمْ، وَنَكَسَ فِطَرَهُمْ، وَجَعَلَ نُفُوْسَهُمْ الأَمَّارَةَ بِالْسُّوْءِ، وَبِطَانَتَهُمْ المُطَبِّلَةَ لَهُمْ تُزَيِّنُ لَهُمْ ذَلِكَ، وتُؤَلِّهُهُمْ مِنْ دُوْنِ الله تَعَالَى..
نَعُوْذُ بِالله تَعَالَى مِنْ شَرِّ نُفُوْسِنَا وَطُغْيَانِهَا، وَمِنْ شَرِّ كُلِّ طَاغِيَةٍ، وَنَسْأَلُهُ تَعَالَى أَنْ يَحْفَظَ المُسْلِمِيْنَ مِنْ كُلِّ سُوَءٍ وَمَكْرُوْهٍ.
وَأَقُوْلُ مَا تَسْمَعُوْنَ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ...
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ لله حَمْدَاً طَيِّبَاً كَثِيْرَاً مُبَارَكَاً فِيْهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُوُلُهُ صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الْدِّينِ..
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيْعُوْهُ، وَاسْتَقِيْمُوا عَلَى أَمْرِهِ، وَتَمَسَّكُوا بِحَبْلِهِ، وَأَقِيْمُوْا دِيْنَهُ [فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُوْنَ بَصِيْرٌ] {هُوْدٍ:112}.
أَيُّهَا الْنَّاسُ: نَرَى جَمِيعَاً مَا يَعْصِفُ بِأُمَّةِ الإِسْلَامِ مِنْ أَحَدَاثٍ عَظِيْمَةٍ تَسْقُطُ فِيْهَا الْدُّوَلُ، وَتُزْهَقُ فِيْهَا الْأَرْوَاحُ، وَيَخْتَلُّ فِيْهَا الْأَمْنُ.. وَدُوَلُ الإِسْلَامِ عَلَى خَطَرٍ مِنْ حُلُوْلِ الاضْطِرَابِ، وَانْعِدَامِ الِاسْتِقْرَارِ.. وَذَلِكَ يَسْتَوْجِبُ الَرْجُوَعَ إِلَى الله تَعَالَى، وَالْإِنَابَةَ إِلَيْهِ، وَالتَّوَكُّلَ عَلَيْهِ، وَكَثْرَةَ دُعَائِهِ وَالْتَّضَرُّعِ إِلَيْهِ بِأَنْ يَحْفَظَ عَلَى المُسْلِمِيْنَ أَمْنَهُمْ وَاسْتِقْرَارَهُمْ..
إِنَّ هَذِهِ الْأَحْدَاثَ العَظِيمَةَ الَتِيْ تَمُرُّ بِأُمَّةِ الْإِسْلَامِ -وَقَدِ اسْتَبْشَرَ بِهَا كَثِيْرٌ مِنَ الْنَّاسِ- لَا يُدْرَى أَهِيَ خَيْرٌ مَحْضٌ، أَمْ خَيْرٌ مَشُوْبٌ بِشَرٍّ، وَلَا يَعْلَمُ أَحَدٌ إلَّا اللهُ تَعَالَى أَشَرُّهَا أَكْثَرُ أَمْ خَيْرُهَا، لَكِنَّ المُؤَكَّدَ أَنَهَا أَحْدَاثٌ لَهَا مَا بَعْدَهَا، وَتَأْثِيْرُهَا عَلَى أَمْنِ المُسْلِمِيْنَ وَاسْتِقْرَارِهِمْ سَيَكُوْنُ كَبِيْرَاً.
إِنَّهُ لَا هَنَاءَ بِعَيْشٍ، وَلَا فَرَحَ بِحَيَاةٍ، وَلَا لَذَّةَ فِيْ مَطْعُوْمٍ وَمَشْرُوْبٍ، وَلَا ضَمَانَ لِأَدَاءِ عِبَادَةٍ فِي سَكِيْنَةٍ إِلَّا بِتَوَافُرِ الْأَمْنِ وَالاسْتِقْرَارِ، وَإِذَا اضْطَرَبَتْ الْأَحْوَالُ، وَحَلَّ الْخَوْفُ فِي الْنَّاسِ فَلَا طَعْمَ لِلْحَيَاةِ، وَلَا لَذَّةَ لِشَيْءٍ مَهْمَا كَانَ حُلْوَاً.. وَاللهُ تَعَالَى هُوَ مَانِحُ الْأَمْنِ وَرَافِعُهُ [فَلْيَعْبُدُوَا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِيْ أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوْعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ] {قُرَيْشٍ:3-4} وَهُوَ سُبْحَانَهُ مِنْ يُنْزِلُ الطُّمَأْنِيْنَةَ فِي الْقُلُوْبِ، وَيُدِيْمُ اسْتِقْرَارَ الْنَّاسِ وَاجْتِمَاعَ كَلِمَتِهِمْ، وَهُوَ الْقَادِرُ عَلَى حِرْمَانِهِم مِنْ ذَلِكَ [قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابَاً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعَاً وَيُذِيْقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ] {الْأَنْعَامِ:65}.
نَعُوْذُ بِالله تَعَالَى أَنْ يَلْبِسَنَا شِيَعَاً وَنَعُوْذُ بِهِ سُبْحَانَهُ أَنْ يَجْعَلَ بَعْضَنَا يَذُوقُ بَأْسَ بَعْضٍ، فَلَا لُجُوْءَ فِي الْفِتَنِ إِلَّا إِلَى الله تَعَالَى، وَلَا مَفَرَّ مِنْهُ إِلَّا إِلَيْهِ، وَلَا اعْتِصَامَ إِلَّا بِحَبْلِهِ، وَلَا نَجَاةَ إِلَّا بِدِيْنِهِ..[وَاعْتَصِمُوْا بِحَبْلِ الله جَمِيْعَاً وَلَا تَفَرَّقُوا] {آَلِ عِمْرَانَ:103}.
إِنَّ تَفْرِقَةَ الْقُلُوْبِ سَبَبُ كُلِّ شَرٍّ، كَمَا أَنَّ اجْتِمَاعَهَا سَبَبُ كُلِّ خَيْرٍ، وَمَا نَالَ أَعْدَاءُ الْإِسْلَامِ قَدِيْمَاً وَحَدِيثَاً مِنَ الْأُمَّةِ المُسْلِمَةِ إِلَّا لمّا تَبَاعَدَتْ قُلُوْبُهُمْ، وَاخْتَلَفَتْ كَلِمَتُهُمْ، وَتَفَرَّقُوا شِيَعَاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُوْنَ.. فَاللهَ اللهَ-عِبَادَ الله- فِيْ دِيْنِنَا وَفِي أَنْفُسِنَا وَأَهْلِنَا وَأَوْلَادِنَا وَفِيْ بِلَادِنَا وَفِيْ أُمَّةِ المُسْلِمِيْنَ جَمْعَاءَ.. لِنَحْذَرْ مِنَ التَفْرِيطِ في دِينِنَا، وتَفْرِقَةِ قُلُوْبِنَا، وَاخْتِلَافِ كَلِمَتِنَا، وَلْنُكْثِرْ مِنَ الْدُّعَاءِ وَالْتَّضَرُّعِ بِأَنْ يَحْفَظَ اللهُ تَعَالَى عَلَى بِلَادِنَا وَعَلَى بِلَادِ المُسْلِمِيْنَ كَافَّةً أَمْنَهَا وَاسْتِقْرَارَهَا وَعَافِيَتَهَا، وَأَنْ يُزِيْلَ عَنَّا وَعَنِ المُسْلِمِيْنَ مَنْ يَكِيْدُ لَنَا فِي دِيْنِنَا أَوْ دُنْيَانَا، وَأَنْ يَكْبِتْ مَنْ يُرِيْدُ الْشَّرَّ بِنَا، وَنَشْرَ الْفَوَاحِشِ بَيْنَنَا، وَإِشْعَالَ الْفِتَنِ فِيْنَا، فَرُبَّ دَعْوَةٍ صَادِقَةٍ مُخلِصَةٍ دُفِعَ بِهَا الْشَّرُّ، وَحَلَّ بِهَا الْخَيرُ.. إِنَّ رَبِّي سَمِيْعُ الْدُّعَاءِ..
وَصَلُّوْا وَسَلِّمُوْا عَلَى نَبِيِّكُمْ...
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى