رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
الشيخ / عبد الله بن محمد البصري
بين تواضع الأتقياء وكبر الأشقياء
أَمَّا بَعدُ فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ [تِلكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا في الأَرضِ وَلا فَسَادًا وَالعَاقِبَةُ لِلمُتَّقِينَ]
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، مِفتَاحُ سَعَادَةِ العَبدِ وَبَابُ مَحَبَّةِ النَّاسِ لَهُ ، التَّيَقُّظُ وَالفِطنَةُ ، وَمَعرِفَةُ قَدرِ النَّفسَ وَوَالوُقُوفُ عَلَى حَقِيقَتِهَا ، وَمَنبَعُ الشَّقَاءِ وَسَبَبُ بُغضِ النَّاسِ لِلمَرءِ وَنُفُورِ القُلُوبِ مِنهُ ، كِبرُهُ وَغُرُورُهُ ، وَتَعَالِيهِ عَلَى مَن دُونَهُ وَغَفلَتُهُ عَن مَآلِهِ وَمَصِيرِهِ . وَإِنَّ مِن أَخلاقِ الأَنبِيَاءِ وَشِيَمِ النُّبَلاءِ ، وَالَّتي نَالُوا بها مَحَبَّةَ اللهِ وَكَسِبُوا بها قُلُوبَ خَلقِهِ ، التَّوَاضُعَ وَالرِّفقَ وَالَلِّينَ . وَقَد مَنَحَ ـ تَعَالى ـ أَحَبَّ عِبَادِهِ إِلَيهِ التَّوَاضُعَ وَرَزَقَهُم خَفضَ الجَنَاحِ ، وَجَعَلَ الكِبرَ وَالتَّعَاظُمَ صِفَةَ أَعدَائِهِ وَأَعدَاءِ أَولِيَائِهِ ، فَهَذَا مُوسَى نَبيُّ اللهِ وَكَلِيمُهُ ـ عَلَيهِ السَّلامُ ـ يَسقِي لامرَأَتَينِ أَبُوهُمَا شَيخٌ كَبِيرٌ ، وَذَاكَ دَاوُدُ ـ عَلَيهِ السَّلامُ ـ كَانَ يَأكُلُ مِن كَسبِ يَدِهِ ، وَكَانَ زَكَرِيَّا ـ عَلَيهِ السَّلامُ ـ نَجَّارًا ، وَعِيسَى ـ عَلَيهِ السَّلامُ ـ [قَالَ إِنِّي عَبدُ اللهِ آتَانيَ الكِتَابَ وَجَعَلَني نَبِيًّا . وَجَعَلَني مُبَارَكًا أَينَ مَا كُنتُ وَأَوصَاني بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمتُ حَيًّا . وَبَرًّا بِوَالِدَتي وَلم يَجعَلْني جَبَّارًا شَقِيًّا] وَمَا مِن نَبيٍّ إِلاَّ رَعَى الغَنَمَ ، رَوَى البُخَارِيُّ وَغَيرُهُ عَن أَبي هُرَيرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ عَنِ النَّبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ : «مَا بَعَثَ اللهُ نَبِيًّا إِلاَّ رَعَى الغَنَمَ» فَقَالَ أَصحَابُهُ : وَأَنتَ ؟ فَقَالَ : «نَعَمْ ، كُنتُ أَرعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ لأَهلِ مَكَّةَ» وَقَد قَالَ ـ جَلَّ وَعَلا ـ مُخَاطِبًا نَبِيَّهُ الكَرِيمَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : [وَاخفِضْ جَنَاحَكَ لِلمُؤمِنِينَ] فَمَا كَانَ مِنهُ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ إِلاَّ أَنِ امتَثَلَ تَوجِيهَ رَبِّهِ ـ جَلَّ وَعَلا ـ وَجَعَلَ التَّوَاضُعَ وَخَفضَ الجَنَاحِ مَنهَجًا لِحَيَاتِهِ ، فَكَانَ رَقِيقَ القَلبِ رَحِيمًا ، خَافِضَ الجَنَاحِ لِلمُؤمِنِينَ ، لَيِّنَ الجَانِبِ لأَصحَابِهِ ، سَهلاً لِمَن يُعَامِلُهُ ، يَحمِلُ الكَلَّ وَيَكسِبُ المَعدُومَ ، وَيُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الدَّهرِ ، رَكِبَ الحِمَارَ وَأَردَفَ عَلَيهِ ، وَبَدَأَ مَن لَقِيَهُ بِالسَّلامِ ، وَسَلَّمَ عَلَى الصِّبيَانِ وَلاعَبَهُم ، وَأَجَابَ دَعوَةَ مَن دَعَاهُ ، وَأَكَلَ الإِهَالَةَ السَّنِخَةَ ، عَن أَنَسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ أَنَّ النَّبيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ كَانَ يَزُورُ الأَنصَارَ وَيُسَلِّمُ عَلَى صِبيَانِهِم وَيَمسَحُ رُؤُوسَهُم . رَوَاهُ ابنُ حِبَّانَ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ . وَمَعَ هَذَا فَمَا كَانُوا يَقُومُونَ لَهُ قِيَامَ تَعظِيمٍ ؛ لِعِلمِهِم بِكَرَاهِيَتِهِ لِذَلِكَ ، قَالَ أَنَسٌ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ : لم يَكُنْ شَخصٌ أَحَبَّ إِلَيهِم مِن رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ وَكَانُوا إِذَا رَأَوهُ لم يَقُومُوا ، لِمَا يَعلَمُونَ مِن كَرَاهِيَتِهِ لِذَلِكَ . رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ وَغَيرُهُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ . وَلَمَّا سُئِلَت عَائِشَةُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهَا ـ : مَا كَانَ النَّبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ يَصنَعُ في بَيتِهِ ؟ قَالَت : يَكُونُ في مِهنَةِ أَهلِهِ ـ أَي خِدمَتُهُم ـ فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلاةُ خَرَجَ إِلى الصَّلاةِ . رَوَاهُ البُخَارِيُّ . وَعَن هِشَامِ بنِ عُروَةَ عَن أَبِيهِ قَالَ : سَأَلَ رَجُلٌ عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهَا ـ : هَل كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ يَعمَلُ في بَيتِهِ شَيئًا ؟ قَالَت : نَعَمْ ، كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ يَخصِفُ نَعلَهُ ، وَيَخِيطُ ثَوبَهُ ، وَيَعمَلُ في بَيتِهِ كَمَا يَعمَلُ أَحَدُكُم في بَيتِهِ . رَوَاهُ ابنُ حِبَّانَ وَغَيرُهُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ . وَعَنِ البَرَاءِ بنِ عَازِبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا ـ قَالَ : كَانَ النَّبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ يَنقُلُ التُّرَابَ يَومَ الخَندَقِ حَتَّى اغبَرَّ بَطنُهُ يَقُولُ : وَاللهُ لَولا اللهُ مَا اهتَدَينَا ، وَلا تَصَدَّقنَا وَلا صَلَّينَا ، فَأَنزِلَنْ سَكِينَةً عَلَينَا ، وَثَبِّتِ الأَقدَامَ إِنْ لاقَينَا ، إِنَّ الأُلى قَد بَغَوا عَلَينَا ، إِذَا أَرَادُوا فِتنَةً أَبَينَا ، يَرفَعُ بها صَوتَهُ : أَبِينَا ، أَبِينَا . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ . وَأَخرَجَ الحَاكِمُ وَغَيرُهُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ عَن أَبي مَسعُودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ أَنَّ رَجُلاً كَلَّمَ النَّبيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ يَومَ الفَتحِ فَأَخَذتُهُ الرِّعدَةُ ، فَقَالَ النَّبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : «هَوِّنْ عَلَيكَ ؛ فَإِنَّمَا أَنَا ابنُ امرَأَةٍ مِن قُرَيشٍ كَانَت تَأكُلُ القَدِيدَ» وَقَد كَانَ تَوَاضُعُهُ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ ـ لا يُفَارِقُهُ حَضَرًا وَلا سَفَرًا ، يَعرِفُهُ مِنهُ الغَرِيبُ كَمَا يَعرِفُهُ القَرِيبُ ، وَيَنَالُهُ الضَّعِيفُ كَمَا يَنَالُهُ القَوِيُّ ، فَفِي البُخَارِيِّ عَن أَنَسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : إِنْ كَانَتِ الأَمَةُ لَتُوقِفُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ في الطَّرِيقِ فَتَخلُو بِهِ عَنِ النَّاسِ حَتَّى تَذهَبَ بِهِ حَيثُ شَاءَت مِنَ المَدِينَةِ في حَاجَتِهَا لِيَقضِيَهَا . وَعِندَ مُسلِمٍ عن أَبي رِفَاعَةَ قال : انتَهَيتُ إِلى النَّبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ وَهُوَ يَخطُبُ ، قَالَ : فَقُلتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، رَجُلٌ غَرِيبٌ جَاءَ يَسأَلُ عَن دِينِهِ لا يَدرِي مَا دِينُهُ . قَالَ : فَأَقبَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ وَتَرَكَ خُطبَتَهُ حَتَّى انتَهَى إِليَّ فَأُتِيَ بِكُرسِيٍّ حَسِبتُ قَوَائِمَهُ حَدِيدًا ، قَالَ : فَقَعَدَ عَلَيهِ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ وَجَعَلَ يُعَلِّمُني مِمَّا عَلَّمَهُ اللهُ ، ثُمَّ أَتَى خُطبَتَهُ فَأَتَمَّ آخِرَهَا . وَعَن جَابِرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ يَتَخَلَّفُ في المَسِيرِ ـ أَي يَكُونُ في أَوَاخِرِهِم في السَّفَرِ ـ فَيُزجِي الضَّعِيفَ وَيُردِفُ وَيَدعُو لَهُم . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيرُهُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ . هَكَذَا كَانَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ رَقِيقًا رَفِيقًا رَحِيمًا ، اختَارَ لِنَفسِهِ أَن يَكُونَ عَبدًا مُتَوَاضِعًا ، وَعَاشَ قَرِيبًا مِن أَصحَابِهِ ، حَيَاةً لا عُلَوَّ فِيهَا ولا تَكَبُّرَ ، وَلا فَخرَ بِرِئَاسَةٍ ولا تَمَيُّزَ بِجَبَرُوتٍ ، وَلا اختِصَاصَ لأَشخَاصٍ ولا استِئثَارَ بِمَالٍ ، وَهَكَذَا كَانَ خُلَفَاؤُهُ مِن بَعدِهِ وَالأُمَرَاءُ مِن أَصحَابِهِ ، فَكَانَ أَبُو بَكرٍ يَخدِمُ المُسلِمِينَ وَهُوَ خَلِيفَةٌ ، حَتَّى كَانَ يَحلِبُ لِبَعضِ العَجَائِزِ شِيَاهَهَا ، وَيَقضِي لَهَا حَوَائِجَهَا ، بَلْ وَيَكنِسُ بَيتَهَا ، وَمِثلَهُ كَانَ عُمَرُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ وَالَّذِي كَانَ مِن خَبَرِهِ لَمَّا خَرَجَ إِلى الشَّامِ وَمَعَهُ أَبُو عُبَيدَةَ ، فَأَتَوا عَلَى مَخَاضَةٍ وَعُمَرُ عَلى نَاقَةٍ لَهُ ، فَنَزَلَ وَخَلَعَ خُفَّيهِ فَوَضَعَهُمَا عَلَى عَاتِقِهِ وَأَخَذَ بِزِمَامِ نَاقَتِهِ فَخَاضَ ، فَقَالَ أَبُو عُبَيدَةَ : يَا أَمِيرَ المُؤمِنِينَ ، أَنتَ تَفعَلُ هَذَا ؟ مَا يَسُرُّني أَنَّ أَهلَ البَلَدِ استَشرَفُوكَ ـ يَعني استَقبَلُوكَ ـ . فَقَالَ : أَوَّهْ ، وَلَو يَقُلْ ذَا غَيرُكَ أَبَا عُبَيدَةَ جَعَلتُهُ نَكَالاً لأُمَّةِ مُحَمَّدٍ ، إِنَّا كُنَّا أَذَلَّ قَومٍ فَأَعَزَّنَا اللهُ بِالإِسلامِ ، فَمَهمَا نَطلُبِ العِزَّ بِغَيرِ مَا أَعَزَّنَا اللهُ بِهِ أَذَلَّنَا اللهِ . وَأَمَّا عُثمَانُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ فَقَد كَانَ رَحِيمًا بِأَهلِهِ وَخَدَمِهِ ، حَتَّى إِنَّهُ كَانَ إِذَا استَيقَظَ مِنَ اللَّيلِ لا يُوقِظُ أَحَدًا مِنهُم لِيُعِينَهُ عَلَى الوُضُوءِ إِلاَّ أَن يَجِدَهُ يَقظَانَ ، وَكَانَ يُعَاتَبُ في ذَلِكَ فَيُقَالُ لَهُ : لَو أَيقَظتَ بَعضَ الخَدَمِ ؟ فَيَقُولُ : لا ، اللَّيلُ لَهُم يَستَرِيحُونَ فِيهِ . وَكَانَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ يَنَامُ في المَسجِدِ مُتَوَسِّدًا رِدَاءَهُ وَهُوَ خَلِيفَةُ المُسلِمِينَ .
وَأَمَّا عَلِيُّ بنُ أَبي طَالِبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ فَقَد رُوِيَ عَنهُ أَنَّهُ اشتَرَى تَمرًا بِدِرهَمٍ فَحَمَلَهُ في مِلحَفَةٍ ، فَقَالُوا : نَحمِلُ عَنكَ يَا أَمِيرَ المُؤمِنِينَ ، قَالَ : لا ، أَبُو العِيَالِ أَحَقُّ أَن يَحمِلَ . وَهَذَا أَبُو هُرَيرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ لَمَّا وَلاَّهُ مَروَانُ بنُ الحَكَمِ المَدِينَةَ مَرَّةً ، فَكَانَ يَحمِلُ الحَطَبَ بِنَفسِهِ وَيَقُولُ : أَفسِحُوا لِلأَمِيرِ ، أَفسِحُوا لِلأَمِيرِ . وَأَمَّا عُتبَةُ بنُ غَزوَانَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ فَقَد صَعِدَ المِنبَرَ خَطِيبًا وَهُوَ أَمِيرٌ فَقَالَ : وَلَقَد رَأَيتُني سَابِعَ سَبعَةٍ مَعَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ مَا لَنَا طَعَامٌ إِلاَّ وَرَقُ الشَّجَرِ ، حَتَّى قَرِحَت أَشدَاقُنَا ، فَالتَقَطتُ بُردَةً فَشَقَقتُهَا بَيني وَبَينَ سَعدِ بنِ مَالِكٍ ، فَاتَّزَرَتُ بِنِصفِهَا وَاتَّزَرَ سَعدٌ بِنِصفِهَا ، فَمَا أَصبَحَ اليَومَ مِنَّا أَحَدٌ إِلاَّ أَصبَحَ أَمِيرًا عَلى مِصرٍ مِنَ الأَمصَارِ ، وَإِنِّي أَعُوذُ بِاللهِ أَن أَكُونَ في نَفسِي عَظِيمًا وَعِندَ اللهِ صَغِيرًا . رَوَاهُ مُسلِمٌ وَغَيرُهُ . هَكَذَا كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ وَهَكَذَا كَانَ أَصحَابُهُ وَأُمَرَاؤُهُ ، وَهُمُ الَّذِينَ مَلَكَ أَحَدُهُم مِنَ الدُّنيَا مَا لا يَملِكُهُ اليَومَ عَشَرَةٌ مِنَ المُلُوكِ وَالرُّؤَسَاءِ مُجتَمِعِينَ ، وَمَعَ هَذَا فَقَد كَانُوا مُتَوَاضِعِينَ لِرَعَايَاهُم ، مُطَامِنِينَ لِنُفُوسِهِم ، عَارِفِينَ بِقَدرِ ذَوَاتِهِم ، وَمِن ثَمَّ صَدَقَ فِيهِم قَولُ إِمَامِ المُتَوَاضِعِينَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : «مَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ للهِ إِلاَّ رَفَعَهُ» رَوَاهُ مُسلِمٌ . وَبِذَاكَ التَّوَاضُعِ وَالرِّفقِ أَحَبَّتهُم رَعَايَاهُم ، فَأَطَاعُوهُم وَوَالَوهُم ، وَلم يُخَالِفُوهُم أَو يَخرُجُوا عَلَيهِم ، وَأَمَّا كَثِيرٌ مِن رُؤَسَاءِ العَالَمِ اليَومَ ، فَقَد جَعَلُوا بَينَهُم وَبَينَ شُعُوبِهِم حَوَاجِزَ مِنَ الكِبرِ وَحِيطَانًا مِنَ التَّعَالي ، وَاصطَنَعُوا بَينَهُم وَبَينَ مَن تَحتَهُم فَجَوَاتٍ كَبِيرَةً بِتَعَاظُمِهِم عَلَيهِم وَتَفَاخُرِهِم ، في ظِلِّ وَهمٍ بِعَظَمَةٍ مُخَالِفَةٍ لِلوَاقِعِ ، عَمِلَ عَلَى تَزيِينِهَا لأُولَئِكَ الحُكَّامِ بِطَانَةُ سُوءٍ غَشَّاشُونَ ، وَنَفَخَ فِيهَا إِعلامِيُّونَ مُنَافِقُونَ ، فَلا عَجَبَ أَن يُفجَأَ أُولَئِكَ الطُّغَاةُ المُتَجَبِّرُونَ بِمُظَاهَرَاتٍ تَعصِفُ بِهِم ، وَلا عَجَبَ أَن تُسَلَّطُ عَلَيهِم شُعُوبَهُم فَتَغضَبَ غَضبَاتٍ يَطُولُ أَمَدُهَا وَيَحتَدِمُ أَمرُهَا ، حَتى يُفَادُوا بِأَنفُسِهِم لإِسقَاطِهِم وَيُصِرُّوا عَلَى إِخرَاجِهِم مِن دِيَارِهِم أَذِلَّةً صَاغِرِينَ ، وَصَدَقَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ حَيثُ قَالَ : «إِذَا مَشَت أُمَّتي المُطَيطَاءَ ، وَخَدَمَتهُم فَارِسُ وَالرُّومُ ، سُلِّطَ بَعضُهُم عَلى بَعضٍ» أَخرَجَهُ ابنُ حِبَّانَ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ . فَاللَّهُمَّ وَلِّ عَلَينَا خَيَارَنَا ، وَاكفِنَا شَرَّ الأَشرَارِ وَكَيدَ الفُجَّارِ .
الخطبة الثانية
أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ .
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، وَإِذَا كَانَت عَاقِبَةُ الكِبرِ في الدُّنيَا الذُّلَّ حَتَّى لِلرُّؤَسَاءِ وَالحُكَّامِ المُمتَنِعِينَ بِجُيُوشِهِم وَعَسكَرِهِم ، فَإِنَّ الذُّلَّ الحَقِيقِيَّ لِلمُتَكَبِّرِينَ إِنَّمَا يَكُونُ حِينَ يَطوِي اللهُ السَّمَاوَاتِ يَومَ القِيَامَةِ ثُمَّ يَأخُذُهُنَّ بِيَدِهِ اليُمنى ثُمَّ يَقُولُ : أَنَا المَلِكُ ، أَينَ الجَبَّارُونَ ؟ أَينَ المُتَكَبِّرُونَ ؟ ثُمَّ يَطوِي الأَرَضِينَ ثُمَّ يَأخُذُهُنَّ بِشِمَالِهِ ثُمَّ يَقُولُ : أَنَا المَلِكُ ، أَينَ الجَبَّارُونَ ؟ أَينَ المُتَكَبِّرُونَ ؟ رَوَاهُ مُسلِمٌ وَغَيرُهُ ، في ذَلِكَ المَوقِفِ الرَّهِيبِ وَاليَومِ المَهِيبِ يُحشَرُ أُولَئِكَ المُتَكَبِّرُونَ في أَذَلِّ صُورَةٍ وَأَحقَرِ هَيئَةٍ ، قَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : «يُحشَرُ المُتَكَبِّرُونَ يَومَ القِيَامَةِ أَمثَالَ الذَّرِّ في صُوَرِ الرِّجَالِ ، يَغشَاهُمُ الذُّلُّ مِن كُلِّ مَكَانٍ ، يُسَاقُونَ إِلى سِجنٍ في جَهَنَّمَ يُسَمَّى بُولَسَ ، تَعلُوهُم نَارُ الأَنيَارِ ، يُسقَونَ مِن عُصَارَةِ أَهلِ النَّارِ طِينَةِ الخَبَالِ» رَوَاهُ أَحمَدُ وَالتِّرمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ الأَلبَانيُّ . كَمَا أَنَّ مِن عَذَابِهِم في ذَلِكَ اليَومِ العَظِيمِ وَهَوَانِهِم أَنَّهُم يُبعَدُونَ عَنِ الحَبِيبِ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ جَزَاءَ مَا أَبعَدُوا الضُّعَفَاءَ عَن مَجَالِسِهِم في الدُّنيَا وَأَهَانُوهُم وَلم يُكرِمُوهُم ، قَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : «إِنَّ مِن أَحَبِّكُم إِليَّ وَأَقرَبِكُم مِنِّي مَجلِسًا يَومَ القِيَامَةِ أَحَاسِنَكُم أَخلاقًا ، وَإِنَّ أَبغَضَكُم إِليَّ وَأَبعَدَكُم مِنِّي يَومَ القِيَامَةِ الثَّرثَارُونَ وَالمُتَشَدِّقُونَ وَالمُتَفَيهِقُونَ» قَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ ، مَا المُتَفَيهِقُونَ ؟ قَالَ : «المُتَكَبِّرُونَ» فَيَا مَن ظُلِمُوا وَهُضِمُوا وَتُكُبِّرَ عَلَيهِم ، لا تَيأَسُوا ، فَقَد قَالَ حَبِيبُكُم ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ كَمَا في صَحِيحِ مُسلِمٍ : «احتَجَّتِ الجَنَّةُ وَالنَّارُ ، فَقَالَتِ النَّارُ : فِيَّ الجَبَّارُونَ وَالمُتَكَبِّرُونَ . وَقَالَتِ الجَنَّةُ : فِيَّ ضُعَفَاءُ المُسلِمِينَ وَمَسَاكِينُهُم . فَقَضَى اللهُ بَينَهُمَا : إِنَّكِ الجَنَّةُ رَحمَتي أَرحَمُ بِكِ مَن أَشَاءُ ، وَإِنَّكِ النَّارُ عَذَابي أُعَذِّبُ بِكِ مَن أَشَاءُ ، وَلِكِلَيكُمَا عَلَيَّ مِلؤُهَا» وَكَانَ مِن دُعَائِهِ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ كَمَا عِندَ التِّرمِذِيِّ وَغَيرِهِ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ : «اللَّهُمَّ أَحيِني مِسكِينًا وَأَمِتْني مِسكِينًا ، وَاحشُرْني في زُمرَةِ المَسَاكِينِ»
بين تواضع الأتقياء وكبر الأشقياء
أَمَّا بَعدُ فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ [تِلكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا في الأَرضِ وَلا فَسَادًا وَالعَاقِبَةُ لِلمُتَّقِينَ]
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، مِفتَاحُ سَعَادَةِ العَبدِ وَبَابُ مَحَبَّةِ النَّاسِ لَهُ ، التَّيَقُّظُ وَالفِطنَةُ ، وَمَعرِفَةُ قَدرِ النَّفسَ وَوَالوُقُوفُ عَلَى حَقِيقَتِهَا ، وَمَنبَعُ الشَّقَاءِ وَسَبَبُ بُغضِ النَّاسِ لِلمَرءِ وَنُفُورِ القُلُوبِ مِنهُ ، كِبرُهُ وَغُرُورُهُ ، وَتَعَالِيهِ عَلَى مَن دُونَهُ وَغَفلَتُهُ عَن مَآلِهِ وَمَصِيرِهِ . وَإِنَّ مِن أَخلاقِ الأَنبِيَاءِ وَشِيَمِ النُّبَلاءِ ، وَالَّتي نَالُوا بها مَحَبَّةَ اللهِ وَكَسِبُوا بها قُلُوبَ خَلقِهِ ، التَّوَاضُعَ وَالرِّفقَ وَالَلِّينَ . وَقَد مَنَحَ ـ تَعَالى ـ أَحَبَّ عِبَادِهِ إِلَيهِ التَّوَاضُعَ وَرَزَقَهُم خَفضَ الجَنَاحِ ، وَجَعَلَ الكِبرَ وَالتَّعَاظُمَ صِفَةَ أَعدَائِهِ وَأَعدَاءِ أَولِيَائِهِ ، فَهَذَا مُوسَى نَبيُّ اللهِ وَكَلِيمُهُ ـ عَلَيهِ السَّلامُ ـ يَسقِي لامرَأَتَينِ أَبُوهُمَا شَيخٌ كَبِيرٌ ، وَذَاكَ دَاوُدُ ـ عَلَيهِ السَّلامُ ـ كَانَ يَأكُلُ مِن كَسبِ يَدِهِ ، وَكَانَ زَكَرِيَّا ـ عَلَيهِ السَّلامُ ـ نَجَّارًا ، وَعِيسَى ـ عَلَيهِ السَّلامُ ـ [قَالَ إِنِّي عَبدُ اللهِ آتَانيَ الكِتَابَ وَجَعَلَني نَبِيًّا . وَجَعَلَني مُبَارَكًا أَينَ مَا كُنتُ وَأَوصَاني بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمتُ حَيًّا . وَبَرًّا بِوَالِدَتي وَلم يَجعَلْني جَبَّارًا شَقِيًّا] وَمَا مِن نَبيٍّ إِلاَّ رَعَى الغَنَمَ ، رَوَى البُخَارِيُّ وَغَيرُهُ عَن أَبي هُرَيرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ عَنِ النَّبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ : «مَا بَعَثَ اللهُ نَبِيًّا إِلاَّ رَعَى الغَنَمَ» فَقَالَ أَصحَابُهُ : وَأَنتَ ؟ فَقَالَ : «نَعَمْ ، كُنتُ أَرعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ لأَهلِ مَكَّةَ» وَقَد قَالَ ـ جَلَّ وَعَلا ـ مُخَاطِبًا نَبِيَّهُ الكَرِيمَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : [وَاخفِضْ جَنَاحَكَ لِلمُؤمِنِينَ] فَمَا كَانَ مِنهُ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ إِلاَّ أَنِ امتَثَلَ تَوجِيهَ رَبِّهِ ـ جَلَّ وَعَلا ـ وَجَعَلَ التَّوَاضُعَ وَخَفضَ الجَنَاحِ مَنهَجًا لِحَيَاتِهِ ، فَكَانَ رَقِيقَ القَلبِ رَحِيمًا ، خَافِضَ الجَنَاحِ لِلمُؤمِنِينَ ، لَيِّنَ الجَانِبِ لأَصحَابِهِ ، سَهلاً لِمَن يُعَامِلُهُ ، يَحمِلُ الكَلَّ وَيَكسِبُ المَعدُومَ ، وَيُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الدَّهرِ ، رَكِبَ الحِمَارَ وَأَردَفَ عَلَيهِ ، وَبَدَأَ مَن لَقِيَهُ بِالسَّلامِ ، وَسَلَّمَ عَلَى الصِّبيَانِ وَلاعَبَهُم ، وَأَجَابَ دَعوَةَ مَن دَعَاهُ ، وَأَكَلَ الإِهَالَةَ السَّنِخَةَ ، عَن أَنَسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ أَنَّ النَّبيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ كَانَ يَزُورُ الأَنصَارَ وَيُسَلِّمُ عَلَى صِبيَانِهِم وَيَمسَحُ رُؤُوسَهُم . رَوَاهُ ابنُ حِبَّانَ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ . وَمَعَ هَذَا فَمَا كَانُوا يَقُومُونَ لَهُ قِيَامَ تَعظِيمٍ ؛ لِعِلمِهِم بِكَرَاهِيَتِهِ لِذَلِكَ ، قَالَ أَنَسٌ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ : لم يَكُنْ شَخصٌ أَحَبَّ إِلَيهِم مِن رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ وَكَانُوا إِذَا رَأَوهُ لم يَقُومُوا ، لِمَا يَعلَمُونَ مِن كَرَاهِيَتِهِ لِذَلِكَ . رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ وَغَيرُهُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ . وَلَمَّا سُئِلَت عَائِشَةُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهَا ـ : مَا كَانَ النَّبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ يَصنَعُ في بَيتِهِ ؟ قَالَت : يَكُونُ في مِهنَةِ أَهلِهِ ـ أَي خِدمَتُهُم ـ فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلاةُ خَرَجَ إِلى الصَّلاةِ . رَوَاهُ البُخَارِيُّ . وَعَن هِشَامِ بنِ عُروَةَ عَن أَبِيهِ قَالَ : سَأَلَ رَجُلٌ عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهَا ـ : هَل كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ يَعمَلُ في بَيتِهِ شَيئًا ؟ قَالَت : نَعَمْ ، كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ يَخصِفُ نَعلَهُ ، وَيَخِيطُ ثَوبَهُ ، وَيَعمَلُ في بَيتِهِ كَمَا يَعمَلُ أَحَدُكُم في بَيتِهِ . رَوَاهُ ابنُ حِبَّانَ وَغَيرُهُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ . وَعَنِ البَرَاءِ بنِ عَازِبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا ـ قَالَ : كَانَ النَّبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ يَنقُلُ التُّرَابَ يَومَ الخَندَقِ حَتَّى اغبَرَّ بَطنُهُ يَقُولُ : وَاللهُ لَولا اللهُ مَا اهتَدَينَا ، وَلا تَصَدَّقنَا وَلا صَلَّينَا ، فَأَنزِلَنْ سَكِينَةً عَلَينَا ، وَثَبِّتِ الأَقدَامَ إِنْ لاقَينَا ، إِنَّ الأُلى قَد بَغَوا عَلَينَا ، إِذَا أَرَادُوا فِتنَةً أَبَينَا ، يَرفَعُ بها صَوتَهُ : أَبِينَا ، أَبِينَا . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ . وَأَخرَجَ الحَاكِمُ وَغَيرُهُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ عَن أَبي مَسعُودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ أَنَّ رَجُلاً كَلَّمَ النَّبيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ يَومَ الفَتحِ فَأَخَذتُهُ الرِّعدَةُ ، فَقَالَ النَّبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : «هَوِّنْ عَلَيكَ ؛ فَإِنَّمَا أَنَا ابنُ امرَأَةٍ مِن قُرَيشٍ كَانَت تَأكُلُ القَدِيدَ» وَقَد كَانَ تَوَاضُعُهُ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ ـ لا يُفَارِقُهُ حَضَرًا وَلا سَفَرًا ، يَعرِفُهُ مِنهُ الغَرِيبُ كَمَا يَعرِفُهُ القَرِيبُ ، وَيَنَالُهُ الضَّعِيفُ كَمَا يَنَالُهُ القَوِيُّ ، فَفِي البُخَارِيِّ عَن أَنَسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : إِنْ كَانَتِ الأَمَةُ لَتُوقِفُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ في الطَّرِيقِ فَتَخلُو بِهِ عَنِ النَّاسِ حَتَّى تَذهَبَ بِهِ حَيثُ شَاءَت مِنَ المَدِينَةِ في حَاجَتِهَا لِيَقضِيَهَا . وَعِندَ مُسلِمٍ عن أَبي رِفَاعَةَ قال : انتَهَيتُ إِلى النَّبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ وَهُوَ يَخطُبُ ، قَالَ : فَقُلتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، رَجُلٌ غَرِيبٌ جَاءَ يَسأَلُ عَن دِينِهِ لا يَدرِي مَا دِينُهُ . قَالَ : فَأَقبَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ وَتَرَكَ خُطبَتَهُ حَتَّى انتَهَى إِليَّ فَأُتِيَ بِكُرسِيٍّ حَسِبتُ قَوَائِمَهُ حَدِيدًا ، قَالَ : فَقَعَدَ عَلَيهِ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ وَجَعَلَ يُعَلِّمُني مِمَّا عَلَّمَهُ اللهُ ، ثُمَّ أَتَى خُطبَتَهُ فَأَتَمَّ آخِرَهَا . وَعَن جَابِرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ يَتَخَلَّفُ في المَسِيرِ ـ أَي يَكُونُ في أَوَاخِرِهِم في السَّفَرِ ـ فَيُزجِي الضَّعِيفَ وَيُردِفُ وَيَدعُو لَهُم . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيرُهُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ . هَكَذَا كَانَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ رَقِيقًا رَفِيقًا رَحِيمًا ، اختَارَ لِنَفسِهِ أَن يَكُونَ عَبدًا مُتَوَاضِعًا ، وَعَاشَ قَرِيبًا مِن أَصحَابِهِ ، حَيَاةً لا عُلَوَّ فِيهَا ولا تَكَبُّرَ ، وَلا فَخرَ بِرِئَاسَةٍ ولا تَمَيُّزَ بِجَبَرُوتٍ ، وَلا اختِصَاصَ لأَشخَاصٍ ولا استِئثَارَ بِمَالٍ ، وَهَكَذَا كَانَ خُلَفَاؤُهُ مِن بَعدِهِ وَالأُمَرَاءُ مِن أَصحَابِهِ ، فَكَانَ أَبُو بَكرٍ يَخدِمُ المُسلِمِينَ وَهُوَ خَلِيفَةٌ ، حَتَّى كَانَ يَحلِبُ لِبَعضِ العَجَائِزِ شِيَاهَهَا ، وَيَقضِي لَهَا حَوَائِجَهَا ، بَلْ وَيَكنِسُ بَيتَهَا ، وَمِثلَهُ كَانَ عُمَرُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ وَالَّذِي كَانَ مِن خَبَرِهِ لَمَّا خَرَجَ إِلى الشَّامِ وَمَعَهُ أَبُو عُبَيدَةَ ، فَأَتَوا عَلَى مَخَاضَةٍ وَعُمَرُ عَلى نَاقَةٍ لَهُ ، فَنَزَلَ وَخَلَعَ خُفَّيهِ فَوَضَعَهُمَا عَلَى عَاتِقِهِ وَأَخَذَ بِزِمَامِ نَاقَتِهِ فَخَاضَ ، فَقَالَ أَبُو عُبَيدَةَ : يَا أَمِيرَ المُؤمِنِينَ ، أَنتَ تَفعَلُ هَذَا ؟ مَا يَسُرُّني أَنَّ أَهلَ البَلَدِ استَشرَفُوكَ ـ يَعني استَقبَلُوكَ ـ . فَقَالَ : أَوَّهْ ، وَلَو يَقُلْ ذَا غَيرُكَ أَبَا عُبَيدَةَ جَعَلتُهُ نَكَالاً لأُمَّةِ مُحَمَّدٍ ، إِنَّا كُنَّا أَذَلَّ قَومٍ فَأَعَزَّنَا اللهُ بِالإِسلامِ ، فَمَهمَا نَطلُبِ العِزَّ بِغَيرِ مَا أَعَزَّنَا اللهُ بِهِ أَذَلَّنَا اللهِ . وَأَمَّا عُثمَانُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ فَقَد كَانَ رَحِيمًا بِأَهلِهِ وَخَدَمِهِ ، حَتَّى إِنَّهُ كَانَ إِذَا استَيقَظَ مِنَ اللَّيلِ لا يُوقِظُ أَحَدًا مِنهُم لِيُعِينَهُ عَلَى الوُضُوءِ إِلاَّ أَن يَجِدَهُ يَقظَانَ ، وَكَانَ يُعَاتَبُ في ذَلِكَ فَيُقَالُ لَهُ : لَو أَيقَظتَ بَعضَ الخَدَمِ ؟ فَيَقُولُ : لا ، اللَّيلُ لَهُم يَستَرِيحُونَ فِيهِ . وَكَانَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ يَنَامُ في المَسجِدِ مُتَوَسِّدًا رِدَاءَهُ وَهُوَ خَلِيفَةُ المُسلِمِينَ .
وَأَمَّا عَلِيُّ بنُ أَبي طَالِبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ فَقَد رُوِيَ عَنهُ أَنَّهُ اشتَرَى تَمرًا بِدِرهَمٍ فَحَمَلَهُ في مِلحَفَةٍ ، فَقَالُوا : نَحمِلُ عَنكَ يَا أَمِيرَ المُؤمِنِينَ ، قَالَ : لا ، أَبُو العِيَالِ أَحَقُّ أَن يَحمِلَ . وَهَذَا أَبُو هُرَيرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ لَمَّا وَلاَّهُ مَروَانُ بنُ الحَكَمِ المَدِينَةَ مَرَّةً ، فَكَانَ يَحمِلُ الحَطَبَ بِنَفسِهِ وَيَقُولُ : أَفسِحُوا لِلأَمِيرِ ، أَفسِحُوا لِلأَمِيرِ . وَأَمَّا عُتبَةُ بنُ غَزوَانَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ فَقَد صَعِدَ المِنبَرَ خَطِيبًا وَهُوَ أَمِيرٌ فَقَالَ : وَلَقَد رَأَيتُني سَابِعَ سَبعَةٍ مَعَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ مَا لَنَا طَعَامٌ إِلاَّ وَرَقُ الشَّجَرِ ، حَتَّى قَرِحَت أَشدَاقُنَا ، فَالتَقَطتُ بُردَةً فَشَقَقتُهَا بَيني وَبَينَ سَعدِ بنِ مَالِكٍ ، فَاتَّزَرَتُ بِنِصفِهَا وَاتَّزَرَ سَعدٌ بِنِصفِهَا ، فَمَا أَصبَحَ اليَومَ مِنَّا أَحَدٌ إِلاَّ أَصبَحَ أَمِيرًا عَلى مِصرٍ مِنَ الأَمصَارِ ، وَإِنِّي أَعُوذُ بِاللهِ أَن أَكُونَ في نَفسِي عَظِيمًا وَعِندَ اللهِ صَغِيرًا . رَوَاهُ مُسلِمٌ وَغَيرُهُ . هَكَذَا كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ وَهَكَذَا كَانَ أَصحَابُهُ وَأُمَرَاؤُهُ ، وَهُمُ الَّذِينَ مَلَكَ أَحَدُهُم مِنَ الدُّنيَا مَا لا يَملِكُهُ اليَومَ عَشَرَةٌ مِنَ المُلُوكِ وَالرُّؤَسَاءِ مُجتَمِعِينَ ، وَمَعَ هَذَا فَقَد كَانُوا مُتَوَاضِعِينَ لِرَعَايَاهُم ، مُطَامِنِينَ لِنُفُوسِهِم ، عَارِفِينَ بِقَدرِ ذَوَاتِهِم ، وَمِن ثَمَّ صَدَقَ فِيهِم قَولُ إِمَامِ المُتَوَاضِعِينَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : «مَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ للهِ إِلاَّ رَفَعَهُ» رَوَاهُ مُسلِمٌ . وَبِذَاكَ التَّوَاضُعِ وَالرِّفقِ أَحَبَّتهُم رَعَايَاهُم ، فَأَطَاعُوهُم وَوَالَوهُم ، وَلم يُخَالِفُوهُم أَو يَخرُجُوا عَلَيهِم ، وَأَمَّا كَثِيرٌ مِن رُؤَسَاءِ العَالَمِ اليَومَ ، فَقَد جَعَلُوا بَينَهُم وَبَينَ شُعُوبِهِم حَوَاجِزَ مِنَ الكِبرِ وَحِيطَانًا مِنَ التَّعَالي ، وَاصطَنَعُوا بَينَهُم وَبَينَ مَن تَحتَهُم فَجَوَاتٍ كَبِيرَةً بِتَعَاظُمِهِم عَلَيهِم وَتَفَاخُرِهِم ، في ظِلِّ وَهمٍ بِعَظَمَةٍ مُخَالِفَةٍ لِلوَاقِعِ ، عَمِلَ عَلَى تَزيِينِهَا لأُولَئِكَ الحُكَّامِ بِطَانَةُ سُوءٍ غَشَّاشُونَ ، وَنَفَخَ فِيهَا إِعلامِيُّونَ مُنَافِقُونَ ، فَلا عَجَبَ أَن يُفجَأَ أُولَئِكَ الطُّغَاةُ المُتَجَبِّرُونَ بِمُظَاهَرَاتٍ تَعصِفُ بِهِم ، وَلا عَجَبَ أَن تُسَلَّطُ عَلَيهِم شُعُوبَهُم فَتَغضَبَ غَضبَاتٍ يَطُولُ أَمَدُهَا وَيَحتَدِمُ أَمرُهَا ، حَتى يُفَادُوا بِأَنفُسِهِم لإِسقَاطِهِم وَيُصِرُّوا عَلَى إِخرَاجِهِم مِن دِيَارِهِم أَذِلَّةً صَاغِرِينَ ، وَصَدَقَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ حَيثُ قَالَ : «إِذَا مَشَت أُمَّتي المُطَيطَاءَ ، وَخَدَمَتهُم فَارِسُ وَالرُّومُ ، سُلِّطَ بَعضُهُم عَلى بَعضٍ» أَخرَجَهُ ابنُ حِبَّانَ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ . فَاللَّهُمَّ وَلِّ عَلَينَا خَيَارَنَا ، وَاكفِنَا شَرَّ الأَشرَارِ وَكَيدَ الفُجَّارِ .
الخطبة الثانية
أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ .
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، وَإِذَا كَانَت عَاقِبَةُ الكِبرِ في الدُّنيَا الذُّلَّ حَتَّى لِلرُّؤَسَاءِ وَالحُكَّامِ المُمتَنِعِينَ بِجُيُوشِهِم وَعَسكَرِهِم ، فَإِنَّ الذُّلَّ الحَقِيقِيَّ لِلمُتَكَبِّرِينَ إِنَّمَا يَكُونُ حِينَ يَطوِي اللهُ السَّمَاوَاتِ يَومَ القِيَامَةِ ثُمَّ يَأخُذُهُنَّ بِيَدِهِ اليُمنى ثُمَّ يَقُولُ : أَنَا المَلِكُ ، أَينَ الجَبَّارُونَ ؟ أَينَ المُتَكَبِّرُونَ ؟ ثُمَّ يَطوِي الأَرَضِينَ ثُمَّ يَأخُذُهُنَّ بِشِمَالِهِ ثُمَّ يَقُولُ : أَنَا المَلِكُ ، أَينَ الجَبَّارُونَ ؟ أَينَ المُتَكَبِّرُونَ ؟ رَوَاهُ مُسلِمٌ وَغَيرُهُ ، في ذَلِكَ المَوقِفِ الرَّهِيبِ وَاليَومِ المَهِيبِ يُحشَرُ أُولَئِكَ المُتَكَبِّرُونَ في أَذَلِّ صُورَةٍ وَأَحقَرِ هَيئَةٍ ، قَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : «يُحشَرُ المُتَكَبِّرُونَ يَومَ القِيَامَةِ أَمثَالَ الذَّرِّ في صُوَرِ الرِّجَالِ ، يَغشَاهُمُ الذُّلُّ مِن كُلِّ مَكَانٍ ، يُسَاقُونَ إِلى سِجنٍ في جَهَنَّمَ يُسَمَّى بُولَسَ ، تَعلُوهُم نَارُ الأَنيَارِ ، يُسقَونَ مِن عُصَارَةِ أَهلِ النَّارِ طِينَةِ الخَبَالِ» رَوَاهُ أَحمَدُ وَالتِّرمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ الأَلبَانيُّ . كَمَا أَنَّ مِن عَذَابِهِم في ذَلِكَ اليَومِ العَظِيمِ وَهَوَانِهِم أَنَّهُم يُبعَدُونَ عَنِ الحَبِيبِ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ جَزَاءَ مَا أَبعَدُوا الضُّعَفَاءَ عَن مَجَالِسِهِم في الدُّنيَا وَأَهَانُوهُم وَلم يُكرِمُوهُم ، قَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : «إِنَّ مِن أَحَبِّكُم إِليَّ وَأَقرَبِكُم مِنِّي مَجلِسًا يَومَ القِيَامَةِ أَحَاسِنَكُم أَخلاقًا ، وَإِنَّ أَبغَضَكُم إِليَّ وَأَبعَدَكُم مِنِّي يَومَ القِيَامَةِ الثَّرثَارُونَ وَالمُتَشَدِّقُونَ وَالمُتَفَيهِقُونَ» قَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ ، مَا المُتَفَيهِقُونَ ؟ قَالَ : «المُتَكَبِّرُونَ» فَيَا مَن ظُلِمُوا وَهُضِمُوا وَتُكُبِّرَ عَلَيهِم ، لا تَيأَسُوا ، فَقَد قَالَ حَبِيبُكُم ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ كَمَا في صَحِيحِ مُسلِمٍ : «احتَجَّتِ الجَنَّةُ وَالنَّارُ ، فَقَالَتِ النَّارُ : فِيَّ الجَبَّارُونَ وَالمُتَكَبِّرُونَ . وَقَالَتِ الجَنَّةُ : فِيَّ ضُعَفَاءُ المُسلِمِينَ وَمَسَاكِينُهُم . فَقَضَى اللهُ بَينَهُمَا : إِنَّكِ الجَنَّةُ رَحمَتي أَرحَمُ بِكِ مَن أَشَاءُ ، وَإِنَّكِ النَّارُ عَذَابي أُعَذِّبُ بِكِ مَن أَشَاءُ ، وَلِكِلَيكُمَا عَلَيَّ مِلؤُهَا» وَكَانَ مِن دُعَائِهِ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ كَمَا عِندَ التِّرمِذِيِّ وَغَيرِهِ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ : «اللَّهُمَّ أَحيِني مِسكِينًا وَأَمِتْني مِسكِينًا ، وَاحشُرْني في زُمرَةِ المَسَاكِينِ»
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى