رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
الشيخ / عبد الله بن محمد البصري
ذكرك أخاك بما يكره
أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ [إِنَّ أَكرَمَكُم عِندَ اللهِ أَتقَاكُم إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ]
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّ لَنَا دِينًا عَظِيمًا وَمَنهَجًا كَرِيمًا ، حُرِصَ فِيهِ عَلَى أَن تَبقَى العلاقَاتُ بَينَنَا قَوِيَّةً لا تُضعِفُهَا أَدنى هَزَّةٌ ، وَأَن تَظَلَّ الأَوَاصِرُ مُحكَمَةَ البِنَاءِ لا يَنقُضُهَا أَيُّ عَاصِفٍ . وَ«المُسلِمُ أَخُو المُسلِمِ ، لا يَخذُلُهُ وَلا يَحقِرُهُ» وَلأَنَّ الكَلِمَةَ السَّيِّئَةَ مِن أَخطَرِ الآفَاتِ الَّتي تَفتِكُ بِالمُجتَمَعَاتِ وَتُدَمِّرُ مَا بَينَ أَفرَادِهَا مِن علاقَاتٍ ، فَقَد جَاءَ الأَمرُ لِعِبَادِ اللهِ أَن يَقُولُوا الَّتي هِيَ أَحسَنُ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : [وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتي هِيَ أَحسَنُ إِنَّ الشَّيطَانَ يَنزَغُ بَينَهُم] فَالَكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ الحَسَنَةِ لا يَجِدُ مَعَهَا الشَّيطَانُ مَجَالاً لِلإِفسَادِ بَينَ النَّاسِ أَو إِيغَارِ صُدُورِ بَعضِهِم عَلَى بَعضٍ ، وَمَا ظَفِرَ عَدُوُّ اللهِ مِنِ اثنَينِ بِثَغرَةٍ يَنفُذُ مِنهَا عَلَيهِمَا وَيَنزِغُ بَينَهُم فِيهَا بِمِثلِ الكَلِمَةِ الخَبِيثَةِ السَّيِّئَةِ ، مِن لِسَانِ قَاصِدٍ لِلشَّرِّ مُتَعَمِّدٍ لِلإِفسَادِ ، أَو آخَرَ غَافِلٍ عَنِ الخَيرِ وَالإِصلاحِ . وَمِن ثَمَّ فَلا عَجَبَ أَن يَكُونَ مِنَ الإِيمَانِ أَن يَقُولَ المَرءُ حَسَنًا أَو يَسكُتَ عَن سَيِّئٍ ، في الحَدِيثِ المُتَّفَقِ عَلَيهِ قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : «وَمَن كَانَ يُؤمِنُ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيرًا أَو لِيَسكُتْ» أَلا وَإِنَّ الغِيبَةَ مِن أَخطَرِ آفَاتِ اللِّسَانِ الَّتي تَفعَلُ الكَلِمَةُ فِيهَا في القُلُوبِ الأَفَاعِيلَ ، وَقَد تَكُونُ كَالقَذِيفَةِ المُسَدَّدَةِ لِلأَفئِدَةِ ، فَتُفسِدُ وُدًّا قَدِيمًا أَو تَمحُو حُبًّا مُتَمَكِّنًا ، أَو تَقتُلُ ثِقَةً مُتَبَادَلَةً أَو تَقطَعُ علاقَةً مُحكَمَةً ، إِنَّهَا الآفَةُ المُستَشرِيَةُ وَالمَرَضُ الفَتَّاكُ ، الَّذِي مَا انتَشَرَ في مُجتَمَعٍ إِلاَّ قَامَت فِيهِ سُوقُ الظُّنُونِ السَّيِّئَةِ ، وَنَبَتَ فِيهِ التَّحَسُّسُ وَالتَّجَسُّسُ ، وَظَهَرَ فِيهِ الحِقدُ وَالحَسَدُ وَالتَّشَفِّي ، وَرُبَّمَا بَلَغَ أَثَرُهَا في إِفسَادِ المُجتَمَعِ مَا لم تَفعَلْهُ بَعضُ الغَارَاتِ وَالحُرُوبِ ، وَلَقَد بَالَغَ القُرآنُ الكَرِيمُ وَالسُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ في عِلاجِ هَذَا المَرَضِ الخَطِيرِ ، وَبَلَغَ التَّحذِيرُ مِنهُ وَتَبشِيعُهُ وَتَقبِيحُ صُورَتِهِ حَدًّا لا تَقدِرُ النُّفُوسُ وَالقُلُوبُ بَعدَهُ عَلَى تَحَمُّلِهِ وَلا أَن تَنطَوِيَ عَلَيهِ ، إِلاَّ أَن تَكُونَ نُفُوسًا خَبِيثَةً وَقُلُوبًا قَاسِيَةً ، فَفِي سُورَةِ الحُجُرَاتِ ، الَّتي احتَوَت مِن آدَتابِ التَّعَامُلِ بَينَ النَّاسِ عَلَى أَعظَمِهَا وَأَكمَلِهَا ، نَجِدُ تَسمِيَةَ مَن يَحمِلُ الأَنبَاءَ غَيرَ المُؤَكَّدَةِ وَيَنقُلُهَا بِالفَاسِقِ ، وَنُلفِي التَّحذِيرَ مِن قَبُولِ خَبَرِهِ إِلاَّ بَعدَ التَّأَكُّدِ مِنهُ ؛ لِئَلاَّ نَبنيَ عَلَيهِ مِن الأَحكَامِ وَالتَّصَرُّفَاتِ مَا نَندَمُ عَلَيهِ في نِهَايَةِ الأَمرِ ، ثُمَّ بَعدَ عِدَّةِ أَوَامِرَ وَتَوجِيهَاتٍ كَرِيمَةٍ تَدعُو إِلى إِصلاحِ ذَاتِ البَينِ ، وَتُنَظِّمُ أَقوَالَ المُسلِمِينَ وَتَضبِطُ أَلسِنَتَهُم ، نَجِدُ النَّهيَ عَنِ الغِيبَةِ الَّتي هِيَ سَبَبٌ مِن أَسبَابِ فَسَادِ العلاقَاتِ وَاختِلافِ الوُدِّ ، وَنَلحَظُ أَنَّهَا صُوِّرَت لِبَشَاعتِهَا بِأَقبَحِ صُورَةٍ ، إِنَّهَا الصُّورَةُ الَّتي لا تَقبَلُهَا نَفسٌ سَوِيَّةٌ زَكِيَّةٌ ، صُورَةُ الرَّجُلِ الآكِلِ مِن لَحمِ أَخِيهِ المَيِّتِ ، وَهِيَ البَهِيمِيَّةِ الَّتي لم يَقبَلْهَا الإِنسَانُ عَلَى مَرِّ العُصُورِ لا في جَاهِلِيَّةٍ وَلا في إِسلامٍ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : [وَلا يَغتَبْ بَعضُكُم بَعضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُم أَن يَأكُلَ لَحمَ أَخِيهِ مَيتًا فَكَرِهتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ] وَأَمَّا الأَحَادِيثُ النَّبَوِيَّةُ الكَرِيمَةُ ، وَالَّتي حَذَّرَت مِنَ الغِيبَةِ وَنَهَت عَنهَا وَبَيَّنَت خَطَرَهَا وَشَدِيدَ ضَرَرِهَا فَكَثِيرَةٌ وَمُتَنَوِّعَةٌ ، رَوَى مُسلِمٌ عَن أَبي هُرَيرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ : «أَتَدرُونَ مَا الغِيبَةُ ؟» قَالُوا : اللهُ وَرَسُولُهُ أَعلَمُ . قَالَ : «ذِكرُكَ أَخَاكَ بما يَكرَهُ» قِيلَ : أَفَرَأَيتَ إِن كَانَ في أَخِي مَا أَقُولُ ؟ قَالَ : «إِن كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغتَبتَهُ ، وَإِن لم يَكُنْ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَد بَهَتَّهُ» وَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : «يَا مَعشَرَ مَن آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلم يَدخُلِ الإِيمَانُ قَلبَهُ ، لا تَغتَابُوا المُسلِمِينَ وَلا تَتَّبِعُوا عَورَاتِهِم ، فَإِنَّهُ مَن تَتَبَّعَ عَورَةَ أَخِيهِ المُسلِمِ تَتَبَّعَ اللهُ عَورَتَهُ ، وَمَن تَتَبَّعَ اللهُ عَورَتَهُ يَفضَحْهُ وَلَو في جَوفِ بَيتِهِ» رَوَاهُ أَحمَدُ وَغَيرُهُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ . وَقَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : «لَمَّا عُرِجَ بي مَرَرتُ بِقَومٍ لَهُم أَظفَارٌ مِن نُحَاسٍ ، يَخمِشُونَ وُجُوهَهُم وَصُدُورَهُم ، فَقُلتُ : مَن هَؤُلاءِ يَا جِبرِيلُ ؟ قَالَ : هَؤُلاءِ الَّذِينَ يَأكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ وَيَقَعُونَ في أَعرَاضِهِم» وَعَن عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهَا ـ قَالَت : قُلتُ لِلنَّبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : «حَسبُكَ مِن صَفِيَّةَ كَذَا وَكَذَا ـ تَعنِي قَصِيرَةً ـ فَقَالَ : «لَقَد قُلتِ كَلِمَةً لَو مُزِجَت بِمَاءِ البَحرِ لَمَزَجَتْهُ» قَالَت : وَحَكَيتُ لَهُ إِنسَانًا . فَقَالَ : مَا أُحِبُّ أَنِّي حَكَيتُ إِنسَانًا وَأَنَّ لي كَذَا وَكَذَا» رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ . وَعَن أَبي بَكرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : " بَينَا أَنَا أُمَاشِي رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِي وَرَجُلٌ عَلَى يَسَارِهِ ، فَإِذَا نَحنُ بِقَبرَينِ أَمَامَنَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : «إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ في كَبِيرٍ ، وَبَلَى ، فَأَيُّكُم يَأتِيني بِجَرِيدَةٍ ؟» فَاستَبَقنَا فَسَبَقتُهُ فَأَتَيتُهُ بِجَرِيدَةٍ فَكَسَرَهَا نِصفَينِ ، فَأَلقَى عَلَى ذَا القَبرِ قِطعَةً وَعَلَى ذَا القَبرِ قِطعَةً ، قَالَ : «إِنَّهُ يُهَوَّنُ عَلَيهِمَا مَا كَانَتَا رَطبَتَينِ ، وَمَا يُعَذَّبَانِ إِلاَّ في الغِيبَةِ وَالبَولِ» رَوَاهُ أَحمَدُ وَغَيرُهُ ، وَقَالَ الأَلبَانيُّ : حَسَنٌ صَحِيحٌ . وَعَلَى فَدَاحَةِ الرِّبَا وَعِظَمِ خَطَرِهِ وَسُوءِ أَثَرِهِ ، وَكَونِهِ مُحَارَبَةً للهِ وَرَسُولِهِ وَأَكلاً لِلمَالِ بِغَيرِ حَقٍّ ، فَقَد جَاءَ ذَمُّ الغِيبَةِ بِجَعلِهَا مِن أَعظَمِ الرِّبَا ، فَعَن أَنَسِ بنِ مَالِكٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ فَذَكَرَ أَمرَ الرِّبَا وَعَظَّمَ شَأنَهُ ، وَقَالَ : «إِنَّ الدِّرهَمَ يُصِيبُهُ الرَّجُلُ مِنَ الرِّبَا أَعظَمُ عِندَ اللهِ في الخَطِيئَةِ مِن سِتٍّ وَثَلاثِينَ زَنيَةً يَزنِيهَا الرَّجُلُ ، وَإِنَّ أَربى الرِّبَا عِرضُ الرَّجُلِ المُسلِمِ» رَوَاهُ ابنُ أَبي الدُّنيَا وَقَالَ الأَلبَانيُّ : صَحِيحٌ لِغَيرِهِ . وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ أَنَّهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ : «إِنَّ مِن أَربى الرِّبَا الاستِطَالَةَ في عِرضِ المُسلِمِ بِغَيرِ حَقٍّ» صَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، لَقَد حَرَصَ الإِسلامُ عَلَى إِضفَاءِ السِّترِ وَحِمَايَةِ الأَعرَاضِ بما لا مَزِيدَ عَلَيهِ ، وَحَذَّرَ مِنِ انتِهَاكِ الأَعرَاضِ بِالبَاطِلِ , وَنَهَى عَنِ الخَوضِ فِيهَا بِغَيرِ حَقٍّ , حَتَّى لَقَد سَوَّى النَّبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ عِرضَ المُسلِمِ في الحُرمَةِ بِدَمِهِ وَمَالِهِ ، حَيثُ قَالَ في حَجَّةِ الوَدَاعِ : «إِنَّ دِمَاءَكُم وَأَموَالَكُم وَأَعرَاضَكُم عَلَيكُم حَرَامٌ , كَحُرمَةِ يَومِكُم هَذَا في شَهرِكُم هَذَا في بَلَدِكُم هَذَا» مُتَّفَقٌ عَلَيهِ ، وَقَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : «لا تَحَاسَدُوا ، وَلا تَنَاجَشُوا ، وَلا تَبَاغَضُوا ، وَلا تَدَابَرُوا ، وَلا يَبِعْ بَعضُكُم عَلَى بَيعِ بَعضٍ ، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخوَانًا , المُسلِمُ أَخُو المُسلِمِ ، لا يَخذُلُهُ وَلا يَحقِرُهُ ، التَّقوَى هَاهُنَا ـ وَأَشَارَ إِلى صَدرِهِ ـ بِحَسبِ امرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَن يَحقِرَ أَخَاهُ المُسلِمَ ، كُلُّ المُسلِمِ عَلَى المُسلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرضُهُ» رَوَاهُ مُسلِمٌ ، فَهَل ثَمَّةَ بَيَانٌ لِعِظَمِ حُرمَةِ عِرضِ المُسلِمِ أَعظَمُ مِن هَذَا البَيَانِ وَأَوضَحُ مِنهُ ؟! وَحِينَ يَرَى بَعضُ النَّاسِ الإِسلامَ مُجَرَّدَ أَعمَالٍ ظَاهِرَةٍ يَخُصُّ بها نَفسَهُ ، ثُمَّ يَنسَى حُقُوقَ الآخَرِينَ وَيَخُوضُ في أَعرَاضِهِم ، وَلا يَدرِي عَظِيمَ أَجرِهِ لَو أَصلَحَ وَكَبِيرَ ذَنبِهِ كُلَّمَا أَفسَدَ ، فَقَد بَيَّنَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ صِفَةَ المُسلِمِ الحَقِيقِيِّ بِقَولِهِ : «المُسلِمُ مَن سَلِمَ المُسلِمُونَ مِن لِسَانِهِ وَيَدِهِ» رَوَاهُ مُسلِمٌ ، وَبَيَّنَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ عُلُوَّ دَرَجَةِ المُصلِحِ بَينَ النَّاسِ ، فَقَالَ: «أَلا أُخبِرُكُم بِأَفضَلَ مِن دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلاةِ وَالصَّدَقَةِ ؟» قَالُوا : بَلَى . قَالَ : «إِصلاحُ ذَاتِ البَينِ ؛ فَإِنَّ فَسَادَ ذَاتِ البَينِ هِيَ الحَالِقَةُ» وَحَذَّرَ في المُقَابِلِ مَن تَعَرَّضَ لِلمُسلِمِينَ بِالأَذَى بِالنَّارِ وَالبَوَارِ وَإِنْ صَلَّى وَصَامَ وَفَعَلَ مَا فَعلَ ، فَعَن أَبي هُرَيرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : قِيلَ لِلنَّبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنَّ فُلانَةَ تَقُومُ اللَّيلَ وَتَصُومُ النَّهَارَ ، وَتَفعَلُ وَتَصَّدَّقُ ، وَتُؤذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا . فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : «لا خَيرَ فِيهَا ، هِيَ مِن أَهلِ النَّارِ» قَالَ : وَفُلانَةُ تُصَلِّي المَكتُوبَةَ وَتَصَّدَّقُ بِأَثوَارٍ مِنَ الأَقِطِ وَلا تُؤذِي أَحَدًا . فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : «هِيَ مِن أَهلِ الجَنَّةِ» وَقَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : «أَتَدرُونَ مَنِ المُفلِسُ» قَالُوا : المُفلِسُ فِينَا مَن لا دِرهَمَ لَهُ وَلا مَتَاعَ . فَقَالَ : «المُفلِسُ مِن أُمَّتي مَن يَأتي يَومَ القِيَامَةِ بِصَلاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ ، وَيَأتي قَد شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا ، فَيُعطَى هَذَا مِن حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِن حَسَنَاتِهِ ، فَإِنْ فَنِيَت حَسَنَاتُهُ قَبلَ أَن يُقضَى مَا عَلَيهِ أُخِذَ مِن خَطَايَاهُم فَطُرِحَت عَلَيهِ ثُمَّ طُرِحَ في النَّارِ» رَوَاهُ مُسلِمٌ وَغَيرُهُ .
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، وَإِذَا كَانَتِ الغِيبَةُ تَحمِلُ كُلَّ هَذَا السُّوءِ ، فَإِنَّ ثَمَّةَ نَوعًا مِنهَا أَعظَمَ ذَنبًا وَأَكبَرَ جُرمًا ، إِنَّهُ البُهتَانُ ، حِينَ يَظلِمُ المَرءُ أَخَاهُ بِذِكرِهِ مَا لَيسَ فِيهِ ، وَهِيَ الكَبِيرَةُ الَّتي حَذَّرَ المَولى ـ جَلَّ وَعَلا ـ عِبَادَهُ مِنهَا حَيثُ قَالَ : [وَالَّذِينَ يُؤذُونَ المُؤمِنِينَ وَالمُؤمِنَاتِ بِغَيرِ مَا اكتَسَبُوا فَقَدِ احتَمَلُوا بُهتَانًا وَإِثمًا مُبِينًا] وَقَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : «خَمسٌ لَيسَ لَهُنَّ كَفَّارَةٌ : الَشِّركُ بِاللهِ , وَقَتلُ النَّفسِ بِغَيرِ حَقٍّ , وَبَهتُ المُؤمِنِ , وَالفِرَارُ مِنَ الزَّحفِ , وَيَمِينٌ صَابِرَةٌ يَقتَطِعُ بها مَالاً بِغَيرِ حَقٍّ» رَوَاهُ أَحمَدُ وَحَسَّنَهُ الأَلبَانيُّ . وَقَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : «وَمَن قَالَ في مُؤمِنٍ مَا لَيسَ فِيهِ أَسكَنَهُ اللهُ رَدغَةَ الخَبَالِ حَتَّى يَخرُجَ مِمَّا قَالَ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيرُهُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ ، وَرَدغَةُ الخَبَالِ هِيَ : عُصَارَةُ أَهلِ النَّارِ . أَلا فَاتَّقُوا اللهَ ـ عِبَادَ اللهِ ـ وَلْيَبْكِ امرُؤٌ عَلَى نَفسِهِ وَلْيَحذَرْ خَطِيئَتَهُ ، فَإِنَّ اللهَ لم يَبعَثْهُ عَلَى الخَلقِ رَقِيبًا ، وَإِذَا لم يَكُنْ مِنَ المَرءِ لأَخِيهِ خَيرٌ وَبِرٌّ ، فَلا يَكُنْ مِنهُ شَرٌّ عَلَيهِ وَلا ضُرٌّ ، وَرَحِمَ اللهُ امرَأً قَالَ خَيرًا فَغَنِمَ , أَو سَكَتَ عَن شَرٍّ فَسَلِمَ ، وَنِعمَ الأَخُ مَن ذَبَّ عَن عِرضِ أَخِيهِ ، قَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : «مَن ذَبَّ عَن عِرضِ أَخِيهِ بِالغِيبَةِ كَانَ حَقًّا عَلَى اللهِ أَن يُعتِقَهُ مِنَ النَّارِ» وَقَالَ : «مَن سَتَرَ مُسلِمًا سَتَرَهُ اللهُ في الدُّنيَا وَالآخِرَةِ»
الخطبة الثانية
أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ .
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، الكَمَالُ المُطلَقُ في الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ ، إِنَّمَا هُوَ للهِ ـ تَبَارَكَ وَتَعَالى ـ وَأَمَّا بَنُو آدَمَ فَكُلُّهُم خَطَّاؤُونَ ضُعَفَاءُ [وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا] وَإِنَّهُ لَو تَفَكَّرَ كُلُّ امرِئٍ فِيمَا في خَلقِهِ وَخُلُقِهِ مِن نَقصٍ ، وَتَأَمَّلَ ضَعفَهُ وَتَذَكَّرَ تَقصِيرَهُ ، وَعَدَّ عُيُوبَهُ وَأَحصَى مَا لَدَيهِ مِن أَخطَاءٍ وَتَجَاوُزَاتٍ وَهَفَوَاتٍ ، لَوَجَدَ فِيهَا مَا يُغنِيهِ عَن ذَمِّ الآخَرِينَ وَالاشتِغَالِ بِهَمزِهِم وَلَمزِهِم ، وَرَحِمَ اللهُ مَن قَالَ :
لِنَفسِيَ أَبكِي لَستُ أَبكِي لِغَيرِهَا ** لِنَفسِيَ مِن نَفسِي عَنِ النَّاسِ شَاغِلُ
لَكِنَّهَا تَزكِيَةُ المَرءِ نَفسَهُ ، تَجعَلُهُ يَعمَى عَن عُيُوبِهِ مَهمَا كَبُرَت ، وَيَتَغَافَلُ عَن مَثَالِبِهِ مَهمَا عَظُمَت ، ثُمَّ يُبلَى مِن حَيثُ لا يَشعُرُ بِغِيبَةِ الآخَرِينَ وَيَستَعظِمُ صِغَارَهُم ، وَصَدَقَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ حَيثُ قَالَ : [يُبصِرُ أَحَدُكُمُ القَذَاةَ في عَينِ أَخِيهِ وَيَنسَى الجِذعَ في عَينِهِ] رَوَاهُ ابنُ حِبَّانَ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .
عِبَادَ اللهِ ، إِنَّ لِحُسنِ الظَّنِّ بِالآخَرِينَ وَتَركِ تَتَبُّعِ أَخطَائِهِم وَعُيُوبِهِم ، إِنَّ لَهُ في النُّفُوسِ مِنَ الأَثَرِ الحَسَنِ الشَّيءَ الكَبِيرَ ، إِذْ إِنَّ مَنِ اشتَغَلَ بِعُيُوبِ النَّاسِ وَاغتَابَهُم وَهَزِئَ بِهِم مُحتَقِرًا لهم ، بَادَلُوهُ الشُّعُورَ نَفَسَهُ ، وَرَمُوهُ بِالاتِّهَامِ ذَاتِهِ ، وَبَحَثُوا عَن عُيُوبِهِ وَعَمِلُوا عَلَى الانتِقَامِ مِنهُ ، وَمِن ثَمَّ يُصبِحُ شَأنُ المُجتَمَعِ تَبَادُلَ الشَّرِّ وَتَعَاوُرَ العَدَاوَاتِ . وَمَن تَرَكَ النَّاسَ وَشَأنَهُم وَلم يُسمِعْهُم إِلاَّ طَيِّبَ الكَلامِ ، اكتَسَبَ مَوَدَّتَهُم وَمَحَبَّتَهُم ، وَأَعَزُّوهُ وَأَكرَمُوهُ ، فَبَادَلَهُمُ الشُّعُورَ نَفسَهُ ، فَطَابَت حَيَاةُ الجَمِيعِ وَقَوِيَت علاقَاتُهُم . أَلا فَاتَّقُوا اللهَ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ وَتُوبُوا إِلَيهِ مِن جَمِيعِ الخَطَايَا وَالذَّنُوبِ ، وَاعلَمُوا أَنَّ الغِيبَةَ كَبِيرَةٌ مِن كَبَائِرِ الذُّنُوبِ ، لا بُدَّ لها مِن كَفَّارَةٍ خَاصَّةٍ فَأتُوا بها ؛ لِتُحَلِّلُوا أَنفُسَكُم مِنَ الذَّنبِ وَتَتَخَلَّصُوا مِن حَقِّ الآخَرِينَ الخَاصِّ ، مِن قَبلِ أَن يَأتيَ يَومٌ لا بَيعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ ، قَالَ الإِمَامُ ابنُ القَيِّمِ في كلامٍ لَهُ عَن كَفَّارَةِ الغِيبَةِ : وَهَذِهِ المَسأَلَةُ فِيهَا قَولانِ لِلعُلَمَاءِ ـ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنِ الإِمَامِ أَحمَدَ ـ وَهُمَا : هَل يَكفِي في التَّوبَةِ مِنَ الغِيبَةِ الاستِغفَارُ لِلمُغتَابِ ؟ أَم لا بُدَّ مِن إِعلامِهِ وَتَحلِيلِهِ ؟ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لا يَحتَاجُ إِلى إِعلامِهِ ، بَل يَكفِيهِ الاستِغفَارُ وَذِكرُهُ بمَحَاسِنِ مَا فِيهِ في المَوَاطِنِ الَّتي اغتَابَهُ فِيهَا . وَهَذَا اختِيَارُ شَيخِ الإِسلامِ ابنِ تَيمِيَّةَ وَغَيرِهِ . وَالَّذِينَ قَالُوا لا بُدَّ مِن إِعلامِهِ جَعَلُوا الغِيبَةَ كَالحُقُوقِ المَالِيَّةِ ، وَالفَرقُ بَينَهُمَا ظَاهِرٌ ، فَإِنَّ الحُقُوقَ المَالِيَّةِ يَنتَفِعُ المَظلُومُ بِعَودِ نَظِيرِ مَظلَمَتِهِ إِلَيهِ ، فَإِنْ شَاءَ أَخَذَهَا وَإِنْ شَاءَ تَصَدَّقَ بها ، وَأَمَّا في الغَيبَةِ فَلا يُمكِنُ ذَلِكَ ، وَلا يَحصُلُ لَهُ بِإِعلامِهِ إِلاَّ عَكسُ مَقصُودِ الشَّارِعِ ، فَإِنَّهُ يُوغِرُ صَدرَهُ وَيُؤذِيهِ إِذَا سَمِعَ مَا رَمَى بِهِ ، وَلَعَلَّهُ يُهَيِّجُ عَدَاوَتَهُ وَلا يَصفُو لَهُ أَبَدًا ، وَمَا كَانَ هَذَا سَبِيلَهُ فَإِنَّ الشَّارِعَ الحَكِيمَ لا يُبِيحُهُ وَلا يُجَوِّزُهُ فَضلاً عَن أَن يُوجِبَهُ وَيَأمُرَ بِهِ ، وَمَدَارُ الشَرِيعَةِ عَلَى تَعطِيلِ المَفَاسِدِ وَتَقلِيلِهَا ، لا عَلَى تَحصِيلِهَا وَتَكمِيلِهَا . انتَهَى كَلامُهُ .
ذكرك أخاك بما يكره
أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ [إِنَّ أَكرَمَكُم عِندَ اللهِ أَتقَاكُم إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ]
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّ لَنَا دِينًا عَظِيمًا وَمَنهَجًا كَرِيمًا ، حُرِصَ فِيهِ عَلَى أَن تَبقَى العلاقَاتُ بَينَنَا قَوِيَّةً لا تُضعِفُهَا أَدنى هَزَّةٌ ، وَأَن تَظَلَّ الأَوَاصِرُ مُحكَمَةَ البِنَاءِ لا يَنقُضُهَا أَيُّ عَاصِفٍ . وَ«المُسلِمُ أَخُو المُسلِمِ ، لا يَخذُلُهُ وَلا يَحقِرُهُ» وَلأَنَّ الكَلِمَةَ السَّيِّئَةَ مِن أَخطَرِ الآفَاتِ الَّتي تَفتِكُ بِالمُجتَمَعَاتِ وَتُدَمِّرُ مَا بَينَ أَفرَادِهَا مِن علاقَاتٍ ، فَقَد جَاءَ الأَمرُ لِعِبَادِ اللهِ أَن يَقُولُوا الَّتي هِيَ أَحسَنُ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : [وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتي هِيَ أَحسَنُ إِنَّ الشَّيطَانَ يَنزَغُ بَينَهُم] فَالَكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ الحَسَنَةِ لا يَجِدُ مَعَهَا الشَّيطَانُ مَجَالاً لِلإِفسَادِ بَينَ النَّاسِ أَو إِيغَارِ صُدُورِ بَعضِهِم عَلَى بَعضٍ ، وَمَا ظَفِرَ عَدُوُّ اللهِ مِنِ اثنَينِ بِثَغرَةٍ يَنفُذُ مِنهَا عَلَيهِمَا وَيَنزِغُ بَينَهُم فِيهَا بِمِثلِ الكَلِمَةِ الخَبِيثَةِ السَّيِّئَةِ ، مِن لِسَانِ قَاصِدٍ لِلشَّرِّ مُتَعَمِّدٍ لِلإِفسَادِ ، أَو آخَرَ غَافِلٍ عَنِ الخَيرِ وَالإِصلاحِ . وَمِن ثَمَّ فَلا عَجَبَ أَن يَكُونَ مِنَ الإِيمَانِ أَن يَقُولَ المَرءُ حَسَنًا أَو يَسكُتَ عَن سَيِّئٍ ، في الحَدِيثِ المُتَّفَقِ عَلَيهِ قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : «وَمَن كَانَ يُؤمِنُ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيرًا أَو لِيَسكُتْ» أَلا وَإِنَّ الغِيبَةَ مِن أَخطَرِ آفَاتِ اللِّسَانِ الَّتي تَفعَلُ الكَلِمَةُ فِيهَا في القُلُوبِ الأَفَاعِيلَ ، وَقَد تَكُونُ كَالقَذِيفَةِ المُسَدَّدَةِ لِلأَفئِدَةِ ، فَتُفسِدُ وُدًّا قَدِيمًا أَو تَمحُو حُبًّا مُتَمَكِّنًا ، أَو تَقتُلُ ثِقَةً مُتَبَادَلَةً أَو تَقطَعُ علاقَةً مُحكَمَةً ، إِنَّهَا الآفَةُ المُستَشرِيَةُ وَالمَرَضُ الفَتَّاكُ ، الَّذِي مَا انتَشَرَ في مُجتَمَعٍ إِلاَّ قَامَت فِيهِ سُوقُ الظُّنُونِ السَّيِّئَةِ ، وَنَبَتَ فِيهِ التَّحَسُّسُ وَالتَّجَسُّسُ ، وَظَهَرَ فِيهِ الحِقدُ وَالحَسَدُ وَالتَّشَفِّي ، وَرُبَّمَا بَلَغَ أَثَرُهَا في إِفسَادِ المُجتَمَعِ مَا لم تَفعَلْهُ بَعضُ الغَارَاتِ وَالحُرُوبِ ، وَلَقَد بَالَغَ القُرآنُ الكَرِيمُ وَالسُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ في عِلاجِ هَذَا المَرَضِ الخَطِيرِ ، وَبَلَغَ التَّحذِيرُ مِنهُ وَتَبشِيعُهُ وَتَقبِيحُ صُورَتِهِ حَدًّا لا تَقدِرُ النُّفُوسُ وَالقُلُوبُ بَعدَهُ عَلَى تَحَمُّلِهِ وَلا أَن تَنطَوِيَ عَلَيهِ ، إِلاَّ أَن تَكُونَ نُفُوسًا خَبِيثَةً وَقُلُوبًا قَاسِيَةً ، فَفِي سُورَةِ الحُجُرَاتِ ، الَّتي احتَوَت مِن آدَتابِ التَّعَامُلِ بَينَ النَّاسِ عَلَى أَعظَمِهَا وَأَكمَلِهَا ، نَجِدُ تَسمِيَةَ مَن يَحمِلُ الأَنبَاءَ غَيرَ المُؤَكَّدَةِ وَيَنقُلُهَا بِالفَاسِقِ ، وَنُلفِي التَّحذِيرَ مِن قَبُولِ خَبَرِهِ إِلاَّ بَعدَ التَّأَكُّدِ مِنهُ ؛ لِئَلاَّ نَبنيَ عَلَيهِ مِن الأَحكَامِ وَالتَّصَرُّفَاتِ مَا نَندَمُ عَلَيهِ في نِهَايَةِ الأَمرِ ، ثُمَّ بَعدَ عِدَّةِ أَوَامِرَ وَتَوجِيهَاتٍ كَرِيمَةٍ تَدعُو إِلى إِصلاحِ ذَاتِ البَينِ ، وَتُنَظِّمُ أَقوَالَ المُسلِمِينَ وَتَضبِطُ أَلسِنَتَهُم ، نَجِدُ النَّهيَ عَنِ الغِيبَةِ الَّتي هِيَ سَبَبٌ مِن أَسبَابِ فَسَادِ العلاقَاتِ وَاختِلافِ الوُدِّ ، وَنَلحَظُ أَنَّهَا صُوِّرَت لِبَشَاعتِهَا بِأَقبَحِ صُورَةٍ ، إِنَّهَا الصُّورَةُ الَّتي لا تَقبَلُهَا نَفسٌ سَوِيَّةٌ زَكِيَّةٌ ، صُورَةُ الرَّجُلِ الآكِلِ مِن لَحمِ أَخِيهِ المَيِّتِ ، وَهِيَ البَهِيمِيَّةِ الَّتي لم يَقبَلْهَا الإِنسَانُ عَلَى مَرِّ العُصُورِ لا في جَاهِلِيَّةٍ وَلا في إِسلامٍ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : [وَلا يَغتَبْ بَعضُكُم بَعضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُم أَن يَأكُلَ لَحمَ أَخِيهِ مَيتًا فَكَرِهتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ] وَأَمَّا الأَحَادِيثُ النَّبَوِيَّةُ الكَرِيمَةُ ، وَالَّتي حَذَّرَت مِنَ الغِيبَةِ وَنَهَت عَنهَا وَبَيَّنَت خَطَرَهَا وَشَدِيدَ ضَرَرِهَا فَكَثِيرَةٌ وَمُتَنَوِّعَةٌ ، رَوَى مُسلِمٌ عَن أَبي هُرَيرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ : «أَتَدرُونَ مَا الغِيبَةُ ؟» قَالُوا : اللهُ وَرَسُولُهُ أَعلَمُ . قَالَ : «ذِكرُكَ أَخَاكَ بما يَكرَهُ» قِيلَ : أَفَرَأَيتَ إِن كَانَ في أَخِي مَا أَقُولُ ؟ قَالَ : «إِن كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغتَبتَهُ ، وَإِن لم يَكُنْ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَد بَهَتَّهُ» وَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : «يَا مَعشَرَ مَن آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلم يَدخُلِ الإِيمَانُ قَلبَهُ ، لا تَغتَابُوا المُسلِمِينَ وَلا تَتَّبِعُوا عَورَاتِهِم ، فَإِنَّهُ مَن تَتَبَّعَ عَورَةَ أَخِيهِ المُسلِمِ تَتَبَّعَ اللهُ عَورَتَهُ ، وَمَن تَتَبَّعَ اللهُ عَورَتَهُ يَفضَحْهُ وَلَو في جَوفِ بَيتِهِ» رَوَاهُ أَحمَدُ وَغَيرُهُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ . وَقَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : «لَمَّا عُرِجَ بي مَرَرتُ بِقَومٍ لَهُم أَظفَارٌ مِن نُحَاسٍ ، يَخمِشُونَ وُجُوهَهُم وَصُدُورَهُم ، فَقُلتُ : مَن هَؤُلاءِ يَا جِبرِيلُ ؟ قَالَ : هَؤُلاءِ الَّذِينَ يَأكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ وَيَقَعُونَ في أَعرَاضِهِم» وَعَن عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهَا ـ قَالَت : قُلتُ لِلنَّبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : «حَسبُكَ مِن صَفِيَّةَ كَذَا وَكَذَا ـ تَعنِي قَصِيرَةً ـ فَقَالَ : «لَقَد قُلتِ كَلِمَةً لَو مُزِجَت بِمَاءِ البَحرِ لَمَزَجَتْهُ» قَالَت : وَحَكَيتُ لَهُ إِنسَانًا . فَقَالَ : مَا أُحِبُّ أَنِّي حَكَيتُ إِنسَانًا وَأَنَّ لي كَذَا وَكَذَا» رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ . وَعَن أَبي بَكرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : " بَينَا أَنَا أُمَاشِي رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِي وَرَجُلٌ عَلَى يَسَارِهِ ، فَإِذَا نَحنُ بِقَبرَينِ أَمَامَنَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : «إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ في كَبِيرٍ ، وَبَلَى ، فَأَيُّكُم يَأتِيني بِجَرِيدَةٍ ؟» فَاستَبَقنَا فَسَبَقتُهُ فَأَتَيتُهُ بِجَرِيدَةٍ فَكَسَرَهَا نِصفَينِ ، فَأَلقَى عَلَى ذَا القَبرِ قِطعَةً وَعَلَى ذَا القَبرِ قِطعَةً ، قَالَ : «إِنَّهُ يُهَوَّنُ عَلَيهِمَا مَا كَانَتَا رَطبَتَينِ ، وَمَا يُعَذَّبَانِ إِلاَّ في الغِيبَةِ وَالبَولِ» رَوَاهُ أَحمَدُ وَغَيرُهُ ، وَقَالَ الأَلبَانيُّ : حَسَنٌ صَحِيحٌ . وَعَلَى فَدَاحَةِ الرِّبَا وَعِظَمِ خَطَرِهِ وَسُوءِ أَثَرِهِ ، وَكَونِهِ مُحَارَبَةً للهِ وَرَسُولِهِ وَأَكلاً لِلمَالِ بِغَيرِ حَقٍّ ، فَقَد جَاءَ ذَمُّ الغِيبَةِ بِجَعلِهَا مِن أَعظَمِ الرِّبَا ، فَعَن أَنَسِ بنِ مَالِكٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ فَذَكَرَ أَمرَ الرِّبَا وَعَظَّمَ شَأنَهُ ، وَقَالَ : «إِنَّ الدِّرهَمَ يُصِيبُهُ الرَّجُلُ مِنَ الرِّبَا أَعظَمُ عِندَ اللهِ في الخَطِيئَةِ مِن سِتٍّ وَثَلاثِينَ زَنيَةً يَزنِيهَا الرَّجُلُ ، وَإِنَّ أَربى الرِّبَا عِرضُ الرَّجُلِ المُسلِمِ» رَوَاهُ ابنُ أَبي الدُّنيَا وَقَالَ الأَلبَانيُّ : صَحِيحٌ لِغَيرِهِ . وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ أَنَّهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ : «إِنَّ مِن أَربى الرِّبَا الاستِطَالَةَ في عِرضِ المُسلِمِ بِغَيرِ حَقٍّ» صَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، لَقَد حَرَصَ الإِسلامُ عَلَى إِضفَاءِ السِّترِ وَحِمَايَةِ الأَعرَاضِ بما لا مَزِيدَ عَلَيهِ ، وَحَذَّرَ مِنِ انتِهَاكِ الأَعرَاضِ بِالبَاطِلِ , وَنَهَى عَنِ الخَوضِ فِيهَا بِغَيرِ حَقٍّ , حَتَّى لَقَد سَوَّى النَّبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ عِرضَ المُسلِمِ في الحُرمَةِ بِدَمِهِ وَمَالِهِ ، حَيثُ قَالَ في حَجَّةِ الوَدَاعِ : «إِنَّ دِمَاءَكُم وَأَموَالَكُم وَأَعرَاضَكُم عَلَيكُم حَرَامٌ , كَحُرمَةِ يَومِكُم هَذَا في شَهرِكُم هَذَا في بَلَدِكُم هَذَا» مُتَّفَقٌ عَلَيهِ ، وَقَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : «لا تَحَاسَدُوا ، وَلا تَنَاجَشُوا ، وَلا تَبَاغَضُوا ، وَلا تَدَابَرُوا ، وَلا يَبِعْ بَعضُكُم عَلَى بَيعِ بَعضٍ ، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخوَانًا , المُسلِمُ أَخُو المُسلِمِ ، لا يَخذُلُهُ وَلا يَحقِرُهُ ، التَّقوَى هَاهُنَا ـ وَأَشَارَ إِلى صَدرِهِ ـ بِحَسبِ امرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَن يَحقِرَ أَخَاهُ المُسلِمَ ، كُلُّ المُسلِمِ عَلَى المُسلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرضُهُ» رَوَاهُ مُسلِمٌ ، فَهَل ثَمَّةَ بَيَانٌ لِعِظَمِ حُرمَةِ عِرضِ المُسلِمِ أَعظَمُ مِن هَذَا البَيَانِ وَأَوضَحُ مِنهُ ؟! وَحِينَ يَرَى بَعضُ النَّاسِ الإِسلامَ مُجَرَّدَ أَعمَالٍ ظَاهِرَةٍ يَخُصُّ بها نَفسَهُ ، ثُمَّ يَنسَى حُقُوقَ الآخَرِينَ وَيَخُوضُ في أَعرَاضِهِم ، وَلا يَدرِي عَظِيمَ أَجرِهِ لَو أَصلَحَ وَكَبِيرَ ذَنبِهِ كُلَّمَا أَفسَدَ ، فَقَد بَيَّنَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ صِفَةَ المُسلِمِ الحَقِيقِيِّ بِقَولِهِ : «المُسلِمُ مَن سَلِمَ المُسلِمُونَ مِن لِسَانِهِ وَيَدِهِ» رَوَاهُ مُسلِمٌ ، وَبَيَّنَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ عُلُوَّ دَرَجَةِ المُصلِحِ بَينَ النَّاسِ ، فَقَالَ: «أَلا أُخبِرُكُم بِأَفضَلَ مِن دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلاةِ وَالصَّدَقَةِ ؟» قَالُوا : بَلَى . قَالَ : «إِصلاحُ ذَاتِ البَينِ ؛ فَإِنَّ فَسَادَ ذَاتِ البَينِ هِيَ الحَالِقَةُ» وَحَذَّرَ في المُقَابِلِ مَن تَعَرَّضَ لِلمُسلِمِينَ بِالأَذَى بِالنَّارِ وَالبَوَارِ وَإِنْ صَلَّى وَصَامَ وَفَعَلَ مَا فَعلَ ، فَعَن أَبي هُرَيرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : قِيلَ لِلنَّبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنَّ فُلانَةَ تَقُومُ اللَّيلَ وَتَصُومُ النَّهَارَ ، وَتَفعَلُ وَتَصَّدَّقُ ، وَتُؤذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا . فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : «لا خَيرَ فِيهَا ، هِيَ مِن أَهلِ النَّارِ» قَالَ : وَفُلانَةُ تُصَلِّي المَكتُوبَةَ وَتَصَّدَّقُ بِأَثوَارٍ مِنَ الأَقِطِ وَلا تُؤذِي أَحَدًا . فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : «هِيَ مِن أَهلِ الجَنَّةِ» وَقَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : «أَتَدرُونَ مَنِ المُفلِسُ» قَالُوا : المُفلِسُ فِينَا مَن لا دِرهَمَ لَهُ وَلا مَتَاعَ . فَقَالَ : «المُفلِسُ مِن أُمَّتي مَن يَأتي يَومَ القِيَامَةِ بِصَلاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ ، وَيَأتي قَد شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا ، فَيُعطَى هَذَا مِن حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِن حَسَنَاتِهِ ، فَإِنْ فَنِيَت حَسَنَاتُهُ قَبلَ أَن يُقضَى مَا عَلَيهِ أُخِذَ مِن خَطَايَاهُم فَطُرِحَت عَلَيهِ ثُمَّ طُرِحَ في النَّارِ» رَوَاهُ مُسلِمٌ وَغَيرُهُ .
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، وَإِذَا كَانَتِ الغِيبَةُ تَحمِلُ كُلَّ هَذَا السُّوءِ ، فَإِنَّ ثَمَّةَ نَوعًا مِنهَا أَعظَمَ ذَنبًا وَأَكبَرَ جُرمًا ، إِنَّهُ البُهتَانُ ، حِينَ يَظلِمُ المَرءُ أَخَاهُ بِذِكرِهِ مَا لَيسَ فِيهِ ، وَهِيَ الكَبِيرَةُ الَّتي حَذَّرَ المَولى ـ جَلَّ وَعَلا ـ عِبَادَهُ مِنهَا حَيثُ قَالَ : [وَالَّذِينَ يُؤذُونَ المُؤمِنِينَ وَالمُؤمِنَاتِ بِغَيرِ مَا اكتَسَبُوا فَقَدِ احتَمَلُوا بُهتَانًا وَإِثمًا مُبِينًا] وَقَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : «خَمسٌ لَيسَ لَهُنَّ كَفَّارَةٌ : الَشِّركُ بِاللهِ , وَقَتلُ النَّفسِ بِغَيرِ حَقٍّ , وَبَهتُ المُؤمِنِ , وَالفِرَارُ مِنَ الزَّحفِ , وَيَمِينٌ صَابِرَةٌ يَقتَطِعُ بها مَالاً بِغَيرِ حَقٍّ» رَوَاهُ أَحمَدُ وَحَسَّنَهُ الأَلبَانيُّ . وَقَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : «وَمَن قَالَ في مُؤمِنٍ مَا لَيسَ فِيهِ أَسكَنَهُ اللهُ رَدغَةَ الخَبَالِ حَتَّى يَخرُجَ مِمَّا قَالَ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيرُهُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ ، وَرَدغَةُ الخَبَالِ هِيَ : عُصَارَةُ أَهلِ النَّارِ . أَلا فَاتَّقُوا اللهَ ـ عِبَادَ اللهِ ـ وَلْيَبْكِ امرُؤٌ عَلَى نَفسِهِ وَلْيَحذَرْ خَطِيئَتَهُ ، فَإِنَّ اللهَ لم يَبعَثْهُ عَلَى الخَلقِ رَقِيبًا ، وَإِذَا لم يَكُنْ مِنَ المَرءِ لأَخِيهِ خَيرٌ وَبِرٌّ ، فَلا يَكُنْ مِنهُ شَرٌّ عَلَيهِ وَلا ضُرٌّ ، وَرَحِمَ اللهُ امرَأً قَالَ خَيرًا فَغَنِمَ , أَو سَكَتَ عَن شَرٍّ فَسَلِمَ ، وَنِعمَ الأَخُ مَن ذَبَّ عَن عِرضِ أَخِيهِ ، قَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : «مَن ذَبَّ عَن عِرضِ أَخِيهِ بِالغِيبَةِ كَانَ حَقًّا عَلَى اللهِ أَن يُعتِقَهُ مِنَ النَّارِ» وَقَالَ : «مَن سَتَرَ مُسلِمًا سَتَرَهُ اللهُ في الدُّنيَا وَالآخِرَةِ»
الخطبة الثانية
أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ .
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، الكَمَالُ المُطلَقُ في الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ ، إِنَّمَا هُوَ للهِ ـ تَبَارَكَ وَتَعَالى ـ وَأَمَّا بَنُو آدَمَ فَكُلُّهُم خَطَّاؤُونَ ضُعَفَاءُ [وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا] وَإِنَّهُ لَو تَفَكَّرَ كُلُّ امرِئٍ فِيمَا في خَلقِهِ وَخُلُقِهِ مِن نَقصٍ ، وَتَأَمَّلَ ضَعفَهُ وَتَذَكَّرَ تَقصِيرَهُ ، وَعَدَّ عُيُوبَهُ وَأَحصَى مَا لَدَيهِ مِن أَخطَاءٍ وَتَجَاوُزَاتٍ وَهَفَوَاتٍ ، لَوَجَدَ فِيهَا مَا يُغنِيهِ عَن ذَمِّ الآخَرِينَ وَالاشتِغَالِ بِهَمزِهِم وَلَمزِهِم ، وَرَحِمَ اللهُ مَن قَالَ :
لِنَفسِيَ أَبكِي لَستُ أَبكِي لِغَيرِهَا ** لِنَفسِيَ مِن نَفسِي عَنِ النَّاسِ شَاغِلُ
لَكِنَّهَا تَزكِيَةُ المَرءِ نَفسَهُ ، تَجعَلُهُ يَعمَى عَن عُيُوبِهِ مَهمَا كَبُرَت ، وَيَتَغَافَلُ عَن مَثَالِبِهِ مَهمَا عَظُمَت ، ثُمَّ يُبلَى مِن حَيثُ لا يَشعُرُ بِغِيبَةِ الآخَرِينَ وَيَستَعظِمُ صِغَارَهُم ، وَصَدَقَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ حَيثُ قَالَ : [يُبصِرُ أَحَدُكُمُ القَذَاةَ في عَينِ أَخِيهِ وَيَنسَى الجِذعَ في عَينِهِ] رَوَاهُ ابنُ حِبَّانَ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .
عِبَادَ اللهِ ، إِنَّ لِحُسنِ الظَّنِّ بِالآخَرِينَ وَتَركِ تَتَبُّعِ أَخطَائِهِم وَعُيُوبِهِم ، إِنَّ لَهُ في النُّفُوسِ مِنَ الأَثَرِ الحَسَنِ الشَّيءَ الكَبِيرَ ، إِذْ إِنَّ مَنِ اشتَغَلَ بِعُيُوبِ النَّاسِ وَاغتَابَهُم وَهَزِئَ بِهِم مُحتَقِرًا لهم ، بَادَلُوهُ الشُّعُورَ نَفَسَهُ ، وَرَمُوهُ بِالاتِّهَامِ ذَاتِهِ ، وَبَحَثُوا عَن عُيُوبِهِ وَعَمِلُوا عَلَى الانتِقَامِ مِنهُ ، وَمِن ثَمَّ يُصبِحُ شَأنُ المُجتَمَعِ تَبَادُلَ الشَّرِّ وَتَعَاوُرَ العَدَاوَاتِ . وَمَن تَرَكَ النَّاسَ وَشَأنَهُم وَلم يُسمِعْهُم إِلاَّ طَيِّبَ الكَلامِ ، اكتَسَبَ مَوَدَّتَهُم وَمَحَبَّتَهُم ، وَأَعَزُّوهُ وَأَكرَمُوهُ ، فَبَادَلَهُمُ الشُّعُورَ نَفسَهُ ، فَطَابَت حَيَاةُ الجَمِيعِ وَقَوِيَت علاقَاتُهُم . أَلا فَاتَّقُوا اللهَ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ وَتُوبُوا إِلَيهِ مِن جَمِيعِ الخَطَايَا وَالذَّنُوبِ ، وَاعلَمُوا أَنَّ الغِيبَةَ كَبِيرَةٌ مِن كَبَائِرِ الذُّنُوبِ ، لا بُدَّ لها مِن كَفَّارَةٍ خَاصَّةٍ فَأتُوا بها ؛ لِتُحَلِّلُوا أَنفُسَكُم مِنَ الذَّنبِ وَتَتَخَلَّصُوا مِن حَقِّ الآخَرِينَ الخَاصِّ ، مِن قَبلِ أَن يَأتيَ يَومٌ لا بَيعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ ، قَالَ الإِمَامُ ابنُ القَيِّمِ في كلامٍ لَهُ عَن كَفَّارَةِ الغِيبَةِ : وَهَذِهِ المَسأَلَةُ فِيهَا قَولانِ لِلعُلَمَاءِ ـ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنِ الإِمَامِ أَحمَدَ ـ وَهُمَا : هَل يَكفِي في التَّوبَةِ مِنَ الغِيبَةِ الاستِغفَارُ لِلمُغتَابِ ؟ أَم لا بُدَّ مِن إِعلامِهِ وَتَحلِيلِهِ ؟ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لا يَحتَاجُ إِلى إِعلامِهِ ، بَل يَكفِيهِ الاستِغفَارُ وَذِكرُهُ بمَحَاسِنِ مَا فِيهِ في المَوَاطِنِ الَّتي اغتَابَهُ فِيهَا . وَهَذَا اختِيَارُ شَيخِ الإِسلامِ ابنِ تَيمِيَّةَ وَغَيرِهِ . وَالَّذِينَ قَالُوا لا بُدَّ مِن إِعلامِهِ جَعَلُوا الغِيبَةَ كَالحُقُوقِ المَالِيَّةِ ، وَالفَرقُ بَينَهُمَا ظَاهِرٌ ، فَإِنَّ الحُقُوقَ المَالِيَّةِ يَنتَفِعُ المَظلُومُ بِعَودِ نَظِيرِ مَظلَمَتِهِ إِلَيهِ ، فَإِنْ شَاءَ أَخَذَهَا وَإِنْ شَاءَ تَصَدَّقَ بها ، وَأَمَّا في الغَيبَةِ فَلا يُمكِنُ ذَلِكَ ، وَلا يَحصُلُ لَهُ بِإِعلامِهِ إِلاَّ عَكسُ مَقصُودِ الشَّارِعِ ، فَإِنَّهُ يُوغِرُ صَدرَهُ وَيُؤذِيهِ إِذَا سَمِعَ مَا رَمَى بِهِ ، وَلَعَلَّهُ يُهَيِّجُ عَدَاوَتَهُ وَلا يَصفُو لَهُ أَبَدًا ، وَمَا كَانَ هَذَا سَبِيلَهُ فَإِنَّ الشَّارِعَ الحَكِيمَ لا يُبِيحُهُ وَلا يُجَوِّزُهُ فَضلاً عَن أَن يُوجِبَهُ وَيَأمُرَ بِهِ ، وَمَدَارُ الشَرِيعَةِ عَلَى تَعطِيلِ المَفَاسِدِ وَتَقلِيلِهَا ، لا عَلَى تَحصِيلِهَا وَتَكمِيلِهَا . انتَهَى كَلامُهُ .
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى