بنت الاسلام
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
والجهاد أربع مراتب:
أولها: جهاد النفس.
ثانيها: جهاد الشيطان.
وثالثها: جهاد الكفار.
ورابعها: جهاد المنافقين.
والأصل والأساس هو جهاد النفس. فإن العبد ما لم يجاهد نفسه أولاً فيبدأ بها
ويلزمها بفعل ما أمرت به وترك ما نهيت عنه لم يمكنه جهاد عدوه الخارجي مع
ترك العدو الداخلي، ولهذا قال : { المجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه }.
وكان يقول في خطبة الحاجة: { ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا }.
وقال للحصين بن عبيد: { أسلم حتى أعلمك كلمات ينفعك الله بها }، فأسلم، فقال: { قل اللهم ألهمني رشدي وقني شر نفسي
}، فمن لم يسلم من شر نفسه لم يصل إلى الله تعالى لأنها تحول بينه وبين
الوصول إليه، والناس قسمان: قسم ظفرت به نفسه فملكته وأهلكته وصار مطيعاً
لها. وقسم ظفر بنفسه فقهرها حتى صارت مطيعة له، وقد ذكر الله القِسمين في
قوله تعالى: فَأَمَّا مَن طَغَى (37)
وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى
(39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى
(40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:37-41].
فالنفس تدعوا إلى الطغيان وإيثار الحياة الدنيا، والرب يأمر عبده بخوفه
ونهي النفس عن الهوى، والعبد إما أن يجيب داعي النفس فيهلك، أو يجيب داعي
الرب فينجو، والنفس تأمر بالشح وعدم الإنفاق في سبيل الله، والرب يدعو إلى
الإنفاق في سبيله فيقول سبحانه: وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِّأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [التغابن:16].
فالنفس تسمح بالملايين في سبيل البذخ والإسراف، ولا تسمح بالقرش للفقير
والمحتاج، تكون تارة أمّارة بالسوء، وتارة لوّامة تلوم صاحبها بعد الوقوع
في السوء، وتارة مطمئنة وهي التي تسكن إلى طاعة الله ومحبته وذكره، فكونها
مطمئنة وصف مدح، وكونها أمّارة بالسوء وصف ذم لها، وكونها لوامة ينقسم إلى
المدح والذم.
وجهاد النفس يكون بمحاسبتها ومخالفتها. وفي الحديث: { الكيّس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني } ومعنى: { دان نفسه }: حاسبها..
وعن عمر بن الخطاب قال: ( حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل
أن توزنوا، فإنه أهون عليكم في الحساب غداً أن تحاسبوا أنفسكم اليوم.
وتزينوا للعرض الأكبر، يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة:18] ).
وقال ميمون بن مهران: ( لا يكون العبد تقياً حتى يكون لنفسه أشد محاسبةً من الشريك لشريكه ).
ولهذا قيل: ( النفس كالشريك الخوّان إن لم تحاسبه ذهب بمالك ).
وكتب عمر بن الخطاب إلى بعض عماله: ( حاسب نفسك في الرخاء قبل حساب الشدة،
فإن من حاسب نفسه في الرخاء قبل حساب الشدة عاد أمره إلى الرضا والغبطة،
ومن ألهته حياته، وشغلته أهواؤه عاد أمره إلى الندامة والحسرة ).
وقال الحسن: ( وإنما خف الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في
الدنيا، وإنما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير
محاسبة، ويعين الإنسان على محاسبة نفسه معرفته أنه كلما اجتهد فيها اليوم
استراح منها غداً إذا صار الحساب إلى غيره، وكلما أهملها اليوم اشتد عليه
الحساب غداً، وأنه إذا حاسبها اليوم ربح سكنى الفردوس غداً، وإذا أهملها
اليوم فخسارته بدخول النار غداً ).
فحق العاقل الحازم المؤمن بالله واليوم الآخر ألا يغفل عن محاسبة نفسه في حركاتها، وسكناتها، وخطواتها، وخطراتها..
ويظهر التغابن بين من حاسب نفسه اليوم ومن أهملها يوم القيامة:
يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا
عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا
بَعِيدًا [آل عمران:30].
فاتقوا الله عباد الله، وحاسبوا أنفسكم قبل يوم المعاد، وجاهدوا في الله حق الجهاد، يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: ( جهاد النفس أربع مراتب:
أحدها: أن تجاهدها على تعلم الهدى ودين الحق الذي لا فلاح لها ولا سعادة في معاشها ومعادها إلا به. ومتى فاتها علمه شقيت في الدارين.
الثانية: أن تجاهدها على العمل به بعد علمه، وإلا فمجرد العلم بلا عمل إن لم يضرها لم ينفعها.
الثالثة: أن تجاهدها إلى
الدعوة إليه وتعليمه من لا يعلمه. وإلا كان من الذين يكتمون ما أنزل الله
من الهدى والبينات، ولا ينفعه علمه، ولا ينجيه من عذاب الله.
الرابعة: أن يجاهدها على الصبر على مشاق الدعوة إلى الله وأذى الخلق، ويتحمل ذلك كله لله ) انتهى كلامه رحمه الله.
فإذا استكمل هذه المراتب الأربع صار من الربانيين، فإن السلف مجمعون على أن
العالم لا يستحق أن يسمى ربانياً حتى يعرف الحق، ويعمل به ويعلمه، فمن علم
وعمل وعلم فذلك يدعي عظيماً في ملكوت السموات. وفي وصية لقمان لإبنه قال: (
يا بني، إن الإيمان قائد والعمل سائق والنفس حزون، فإن فتر سائقها ضلت عن
الطريق، وإن فتر قائدها حزنت، فإذا اجتمعا استقامت ).
إن النفس إذا أطمعت طمعت، وإذا فوضت إليها أساءت، وإذا حملتها على أمر الله
صلحت، وإذا تركت الأمر إليها فسدت، فاحذر نفسك، واتهمها على دينك، وأنزلها
منزلة من لا حاجة له فيها، ولا بد له منها، وإن الحكيم يذل نفسه بالمكاره
حتى تعترف بالحق، وإن الأحمق يخير نفسه في الأخلاق فما أحبت منها أحب، وما
كرهت منها كره.
لا شك أن النفس تكره مشقة الطاعة، وإن كانت تعقب لذة دائمة. وتحب لذة
الراحة، وإن كانت تعقب حسرة وندامة. فهي تكره قيام الليل وصيام النهار،
وتكره التبكير في الذهاب إلى المسجد، فكم من شخص يجلس الساعات في المقاهي
والأسواق ويبخل بالدقائق القليلة يجلسها في المسجد، تكره إنفاق المال في
طاعة الله، تكره الجهاد في سبيل الله. كما قال تعالى: كُتِبَ
عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ
شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ
شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [البقرة:216].
تكره الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله، تكره القيام
بالإصلاح بين الناس، وهكذا ما من طاعة إلا وللنفس منها موقف الممانع
المعارض، فإن أنت أطعتها أهلكتك وخسرتها، كما قال تعالى: قُلْ
إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الزمر:15].
إن أنت أطعتها فقد ظلمتها، حيث عرضتها لسخط الله وعقابه، وأهنتها وأنت تظن
أنك قد أكرمتها حيث أعطيتها ما تشتهي وأرحتها من عناء العمل ومشقته فحرمتها
من الثواب.
والعدو الثاني بعد النفس هو الشيطان، عدو أبينا آدم وعدو البشرية كلها، وقد حذرنا الله منه فقال: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا [فاطر:5].
وقال تعالى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ [يس:60]
وقد أمرنا الله بالاستعاذة منه، ومعناها أن تستجير بالله من شره فإن
الشيطان لا يكفه عن الإنسان إلا الله. فإن الشيطان قد يكون من الجن وقد
يكون من الإنس، وقد يكون من الدواب، قال تعالى: وَكَذَلِكَ
جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي
بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا [الأنعام:112].
وهم يتعاونون على إهلاك بني آدم، شيطان الجن بالوسوسة والإغراء بالشر
والتخذيل عن الخير، وهو عدو خفي، لا يراه الإنسان، لأنه يجري منه مجرى
الدم.. كما قال تعالى: إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ [الأعراف:27]،
ولا يمنع منه جدران ولا أبواب. وإنما يمنع منه ذكر الله، وأما الشيطان
الإنسي فيراه الإنسان، ويجالسه ويكلمه، ويتلبس بلباس الدين والإنسانية، وما
أكثر شياطين الإنس اليوم وما أكثر دعايتهم للشر، فهم يدعون إليه بكل
وسيلة، يدعون إلى الإباحية والرذيلة باسم الحرية، يدعون الناس إلى الخروج
من البيوت وإلى العري والسفور باسم إخراجها من الكبت، ويدعون إلى سماع
الأغاني والمزامير وتعاطي المخدرات وشرب الخمر باسم الترفيه، ويدعون إلى
إضاعة الصلاة وإتباع الشهوات وترك الجمع والجماعات باسم التسامح، ويدعون
إلى تعطيل الشريعة وتحكيم القوانين باسم العدالة والمرونة، ويدعون إلى
الشرك والبدع ويحذرون من التوحيد والتمسك بالسنن باسم حرية الرأي وترك
الجمود، ويأمرون بالمنكر، وينهون عن المعروف، ويقفون في طريق الدعوة إلى
الله، ويصدون عن سبيل الله، ويشجعون العصاة، ويهينون أهل الطاعات من
المؤمنين والمؤمنات، ويحاولون تعطيل الحدود باسم مسايرة الأمم المتحضرة وإن
كانت كافرة، أولئك هم شياطين الإنس، وهذه أعمالهم وعلاماتهم، وهم من جنود
إبليس وأعوانه وإخوانه فاحذروهم، وجاهدوهم حتى توقفوا زحفهم إلى بيوتكم
ومجتمعاتكم.
ولكن اعلموا أن الشيطان الجني لا تمنع منه الحجب والأبواب، ولا يدفع إلا
بالاستعاذة بالله منه ومن شره، والشيطان الإنسي تمنع منه الحجب والأبواب،
ويدفع بالحذر منه والابتعاد عنه وهجره والرد على ما يدلي به من الشبه
والمقالات، والأخذ على يده ومنعه ومن تنفيذ مخططاته والتنبيه لكيده ومكره.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ( فإن الله سبحانه وتعالى خلق هذا الآدمي،
واختاره من بين سائر البرية، وجعل قلبه محل كنوزه من الإيمان والتوحيد
والإخلاص والمحبة والحياء والتعظيم والمراقبة، وجعل ثوابه إذا قدم عليه
أكمل الثواب وأفضله، وهو النظر إلى وجهه والفوز برضوانه ومجاورته في جنته،
وكان مع ذلك قد ابتلاه بالشهوة والغضب والغفلة، وابتلاه بعدوه إبليس لا
يفتر عنه، فهو يدخل عليه من الأبواب التي هي من نفسه وطبعه وهواه على
العبد: ثلاثة مسلطون آمرون فاقتضت رحمة ربه العزيز الرحيم أن أعانه بجند
آخر، يقاوم به هذا الجند الذي يريد هلاكه، فأرسل إليه رسوله، وأنزل عليه
كتابه، وأيده بملك كريم يقابل عدوه الشيطان، فإذا أمره الشيطان بأمر، أمره
الملك بأمر ربه، وبين له ما في طاعة العدو من الهلاك، فهذا يلم به مرة،
وهذه مرة، والمنصور من نصره الله عز وجل والمحفوظ من حفظه الله تعالى، وجعل
له مقابل نفسه الأمّارة بالسوء نفساً مطمئنة إذا أمرته النفس الأمّارة
بالسوء نهته عنه النفس المطمئنة. وإذا نهته عن الخير أمرته به النفس
المطمئنة، وجعل له مقابل الهوى الحامل على طاعة الشيطان والنفس الأمّارة
نوراً وبصيرة وعقلاً يرده عن الذهاب مع الهوى ).
فالحمد لله الذي رد كيد الشيطان باتباع السنة والقرآن، قال تعالى: وَنَفْسٍ
وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ
أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا [الشمس:7-10].
أولها: جهاد النفس.
ثانيها: جهاد الشيطان.
وثالثها: جهاد الكفار.
ورابعها: جهاد المنافقين.
والأصل والأساس هو جهاد النفس. فإن العبد ما لم يجاهد نفسه أولاً فيبدأ بها
ويلزمها بفعل ما أمرت به وترك ما نهيت عنه لم يمكنه جهاد عدوه الخارجي مع
ترك العدو الداخلي، ولهذا قال : { المجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه }.
وكان يقول في خطبة الحاجة: { ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا }.
وقال للحصين بن عبيد: { أسلم حتى أعلمك كلمات ينفعك الله بها }، فأسلم، فقال: { قل اللهم ألهمني رشدي وقني شر نفسي
}، فمن لم يسلم من شر نفسه لم يصل إلى الله تعالى لأنها تحول بينه وبين
الوصول إليه، والناس قسمان: قسم ظفرت به نفسه فملكته وأهلكته وصار مطيعاً
لها. وقسم ظفر بنفسه فقهرها حتى صارت مطيعة له، وقد ذكر الله القِسمين في
قوله تعالى: فَأَمَّا مَن طَغَى (37)
وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى
(39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى
(40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:37-41].
فالنفس تدعوا إلى الطغيان وإيثار الحياة الدنيا، والرب يأمر عبده بخوفه
ونهي النفس عن الهوى، والعبد إما أن يجيب داعي النفس فيهلك، أو يجيب داعي
الرب فينجو، والنفس تأمر بالشح وعدم الإنفاق في سبيل الله، والرب يدعو إلى
الإنفاق في سبيله فيقول سبحانه: وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِّأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [التغابن:16].
فالنفس تسمح بالملايين في سبيل البذخ والإسراف، ولا تسمح بالقرش للفقير
والمحتاج، تكون تارة أمّارة بالسوء، وتارة لوّامة تلوم صاحبها بعد الوقوع
في السوء، وتارة مطمئنة وهي التي تسكن إلى طاعة الله ومحبته وذكره، فكونها
مطمئنة وصف مدح، وكونها أمّارة بالسوء وصف ذم لها، وكونها لوامة ينقسم إلى
المدح والذم.
وجهاد النفس يكون بمحاسبتها ومخالفتها. وفي الحديث: { الكيّس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني } ومعنى: { دان نفسه }: حاسبها..
وعن عمر بن الخطاب قال: ( حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل
أن توزنوا، فإنه أهون عليكم في الحساب غداً أن تحاسبوا أنفسكم اليوم.
وتزينوا للعرض الأكبر، يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة:18] ).
وقال ميمون بن مهران: ( لا يكون العبد تقياً حتى يكون لنفسه أشد محاسبةً من الشريك لشريكه ).
ولهذا قيل: ( النفس كالشريك الخوّان إن لم تحاسبه ذهب بمالك ).
وكتب عمر بن الخطاب إلى بعض عماله: ( حاسب نفسك في الرخاء قبل حساب الشدة،
فإن من حاسب نفسه في الرخاء قبل حساب الشدة عاد أمره إلى الرضا والغبطة،
ومن ألهته حياته، وشغلته أهواؤه عاد أمره إلى الندامة والحسرة ).
وقال الحسن: ( وإنما خف الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في
الدنيا، وإنما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير
محاسبة، ويعين الإنسان على محاسبة نفسه معرفته أنه كلما اجتهد فيها اليوم
استراح منها غداً إذا صار الحساب إلى غيره، وكلما أهملها اليوم اشتد عليه
الحساب غداً، وأنه إذا حاسبها اليوم ربح سكنى الفردوس غداً، وإذا أهملها
اليوم فخسارته بدخول النار غداً ).
فحق العاقل الحازم المؤمن بالله واليوم الآخر ألا يغفل عن محاسبة نفسه في حركاتها، وسكناتها، وخطواتها، وخطراتها..
ويظهر التغابن بين من حاسب نفسه اليوم ومن أهملها يوم القيامة:
يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا
عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا
بَعِيدًا [آل عمران:30].
فاتقوا الله عباد الله، وحاسبوا أنفسكم قبل يوم المعاد، وجاهدوا في الله حق الجهاد، يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: ( جهاد النفس أربع مراتب:
أحدها: أن تجاهدها على تعلم الهدى ودين الحق الذي لا فلاح لها ولا سعادة في معاشها ومعادها إلا به. ومتى فاتها علمه شقيت في الدارين.
الثانية: أن تجاهدها على العمل به بعد علمه، وإلا فمجرد العلم بلا عمل إن لم يضرها لم ينفعها.
الثالثة: أن تجاهدها إلى
الدعوة إليه وتعليمه من لا يعلمه. وإلا كان من الذين يكتمون ما أنزل الله
من الهدى والبينات، ولا ينفعه علمه، ولا ينجيه من عذاب الله.
الرابعة: أن يجاهدها على الصبر على مشاق الدعوة إلى الله وأذى الخلق، ويتحمل ذلك كله لله ) انتهى كلامه رحمه الله.
فإذا استكمل هذه المراتب الأربع صار من الربانيين، فإن السلف مجمعون على أن
العالم لا يستحق أن يسمى ربانياً حتى يعرف الحق، ويعمل به ويعلمه، فمن علم
وعمل وعلم فذلك يدعي عظيماً في ملكوت السموات. وفي وصية لقمان لإبنه قال: (
يا بني، إن الإيمان قائد والعمل سائق والنفس حزون، فإن فتر سائقها ضلت عن
الطريق، وإن فتر قائدها حزنت، فإذا اجتمعا استقامت ).
إن النفس إذا أطمعت طمعت، وإذا فوضت إليها أساءت، وإذا حملتها على أمر الله
صلحت، وإذا تركت الأمر إليها فسدت، فاحذر نفسك، واتهمها على دينك، وأنزلها
منزلة من لا حاجة له فيها، ولا بد له منها، وإن الحكيم يذل نفسه بالمكاره
حتى تعترف بالحق، وإن الأحمق يخير نفسه في الأخلاق فما أحبت منها أحب، وما
كرهت منها كره.
لا شك أن النفس تكره مشقة الطاعة، وإن كانت تعقب لذة دائمة. وتحب لذة
الراحة، وإن كانت تعقب حسرة وندامة. فهي تكره قيام الليل وصيام النهار،
وتكره التبكير في الذهاب إلى المسجد، فكم من شخص يجلس الساعات في المقاهي
والأسواق ويبخل بالدقائق القليلة يجلسها في المسجد، تكره إنفاق المال في
طاعة الله، تكره الجهاد في سبيل الله. كما قال تعالى: كُتِبَ
عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ
شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ
شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [البقرة:216].
تكره الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله، تكره القيام
بالإصلاح بين الناس، وهكذا ما من طاعة إلا وللنفس منها موقف الممانع
المعارض، فإن أنت أطعتها أهلكتك وخسرتها، كما قال تعالى: قُلْ
إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الزمر:15].
إن أنت أطعتها فقد ظلمتها، حيث عرضتها لسخط الله وعقابه، وأهنتها وأنت تظن
أنك قد أكرمتها حيث أعطيتها ما تشتهي وأرحتها من عناء العمل ومشقته فحرمتها
من الثواب.
والعدو الثاني بعد النفس هو الشيطان، عدو أبينا آدم وعدو البشرية كلها، وقد حذرنا الله منه فقال: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا [فاطر:5].
وقال تعالى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ [يس:60]
وقد أمرنا الله بالاستعاذة منه، ومعناها أن تستجير بالله من شره فإن
الشيطان لا يكفه عن الإنسان إلا الله. فإن الشيطان قد يكون من الجن وقد
يكون من الإنس، وقد يكون من الدواب، قال تعالى: وَكَذَلِكَ
جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي
بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا [الأنعام:112].
وهم يتعاونون على إهلاك بني آدم، شيطان الجن بالوسوسة والإغراء بالشر
والتخذيل عن الخير، وهو عدو خفي، لا يراه الإنسان، لأنه يجري منه مجرى
الدم.. كما قال تعالى: إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ [الأعراف:27]،
ولا يمنع منه جدران ولا أبواب. وإنما يمنع منه ذكر الله، وأما الشيطان
الإنسي فيراه الإنسان، ويجالسه ويكلمه، ويتلبس بلباس الدين والإنسانية، وما
أكثر شياطين الإنس اليوم وما أكثر دعايتهم للشر، فهم يدعون إليه بكل
وسيلة، يدعون إلى الإباحية والرذيلة باسم الحرية، يدعون الناس إلى الخروج
من البيوت وإلى العري والسفور باسم إخراجها من الكبت، ويدعون إلى سماع
الأغاني والمزامير وتعاطي المخدرات وشرب الخمر باسم الترفيه، ويدعون إلى
إضاعة الصلاة وإتباع الشهوات وترك الجمع والجماعات باسم التسامح، ويدعون
إلى تعطيل الشريعة وتحكيم القوانين باسم العدالة والمرونة، ويدعون إلى
الشرك والبدع ويحذرون من التوحيد والتمسك بالسنن باسم حرية الرأي وترك
الجمود، ويأمرون بالمنكر، وينهون عن المعروف، ويقفون في طريق الدعوة إلى
الله، ويصدون عن سبيل الله، ويشجعون العصاة، ويهينون أهل الطاعات من
المؤمنين والمؤمنات، ويحاولون تعطيل الحدود باسم مسايرة الأمم المتحضرة وإن
كانت كافرة، أولئك هم شياطين الإنس، وهذه أعمالهم وعلاماتهم، وهم من جنود
إبليس وأعوانه وإخوانه فاحذروهم، وجاهدوهم حتى توقفوا زحفهم إلى بيوتكم
ومجتمعاتكم.
ولكن اعلموا أن الشيطان الجني لا تمنع منه الحجب والأبواب، ولا يدفع إلا
بالاستعاذة بالله منه ومن شره، والشيطان الإنسي تمنع منه الحجب والأبواب،
ويدفع بالحذر منه والابتعاد عنه وهجره والرد على ما يدلي به من الشبه
والمقالات، والأخذ على يده ومنعه ومن تنفيذ مخططاته والتنبيه لكيده ومكره.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ( فإن الله سبحانه وتعالى خلق هذا الآدمي،
واختاره من بين سائر البرية، وجعل قلبه محل كنوزه من الإيمان والتوحيد
والإخلاص والمحبة والحياء والتعظيم والمراقبة، وجعل ثوابه إذا قدم عليه
أكمل الثواب وأفضله، وهو النظر إلى وجهه والفوز برضوانه ومجاورته في جنته،
وكان مع ذلك قد ابتلاه بالشهوة والغضب والغفلة، وابتلاه بعدوه إبليس لا
يفتر عنه، فهو يدخل عليه من الأبواب التي هي من نفسه وطبعه وهواه على
العبد: ثلاثة مسلطون آمرون فاقتضت رحمة ربه العزيز الرحيم أن أعانه بجند
آخر، يقاوم به هذا الجند الذي يريد هلاكه، فأرسل إليه رسوله، وأنزل عليه
كتابه، وأيده بملك كريم يقابل عدوه الشيطان، فإذا أمره الشيطان بأمر، أمره
الملك بأمر ربه، وبين له ما في طاعة العدو من الهلاك، فهذا يلم به مرة،
وهذه مرة، والمنصور من نصره الله عز وجل والمحفوظ من حفظه الله تعالى، وجعل
له مقابل نفسه الأمّارة بالسوء نفساً مطمئنة إذا أمرته النفس الأمّارة
بالسوء نهته عنه النفس المطمئنة. وإذا نهته عن الخير أمرته به النفس
المطمئنة، وجعل له مقابل الهوى الحامل على طاعة الشيطان والنفس الأمّارة
نوراً وبصيرة وعقلاً يرده عن الذهاب مع الهوى ).
فالحمد لله الذي رد كيد الشيطان باتباع السنة والقرآن، قال تعالى: وَنَفْسٍ
وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ
أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا [الشمس:7-10].
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى