حبيبه الرحمن
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
إنه موقف عصيب، ودرس رهيب للمؤمنين والمؤمنات في كل زمان ومكان،
فالاتهامات والإشاعات ماضية باقية، والمنافقون والمتقولون سوقهم رائجة
شائعة، ومثل هذه القصص في القرآن والسنة منهج وتجارب يُحتذى بها، ويستفاد
منها.
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على
الظالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله
وصحبه الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، ومن تبعهم بإحسان
إلى يوم الدين.
أما بعد: عباد الله! فقد بدأنا بالحديث عن سيرة أمنا أم المؤمنين عائشة
-رضي الله عنها- في الخطب الماضية، وأشرنا فيها إلى منشأ قصة الإفك، وسببها
الرئيس، وأن قصة الإفك من أعظم الابتلاءات التي عرفها التاريخ الإسلامي،
وفيها ابتلاء للنخب بدءاً من هرم الدولة، ومروراً برجالاتها ثم العامة على
حد سواء.
ثم عرضنا قصة الإفك بأكملها، ومباشرة من فم صاحبتها، وذلك نظرًا لأهميتها،
ولما تحتوي من إشارات ودلالات، ومن دروس وعبر، ومن فوائد وفرائد.
وتحدثنا في الخطبة الماضية عن أولى وأهم فوائد هذه القصة، بأن آيات قصة
الإفك قدمت علاجًا قرآنيًّا، ووصفة ربانيةً للإشاعة، أخطر داء تبتلى به
المجتمعات، وأفتك مرض اجتماعي تكتوي بناره الأسر والأفراد، وذلك عبر أربع
وصفات علاجية مستنبطة من القصة، ملخصها هو أن الوصفة الأولى هي حسن الظن
أولاً، وهو المقدم دائمًا، وأما الثانية فهي التثبت والتمحيص لأي إشاعة
يسمعها، وأما الثالثة فإمساك اللسان، ثم التفكير قبل الكلام؛ وأما الوصفة
الرابعة لعلاج هذا الداء الاجتماعي (الإشاعة) فهي أن يُرد الأمر لأهله إن
كان خاصاً، وإلى أولي الأمر إن كان عاماً.
عباد الله! إننا نستبط الدروس والعبر للعمل، فتعالوا نكمل الوقفات مع
الفوائد والعبر المستنبطة من قصة عائشة -رضي الله عنها- في حادثة الإفك،
فمن الفوائد المهمة رباطة جأش عائشة -رضي الله عنها- وفرط ذكائها، وفطنتها،
وحنكتها، وتقديرها للأمور.
فضلاً عن عظيم حيائها، واهتمامها بحجابها وحشمتها وعفتها، فعقب استيقاظها
باسترجاع صفوان ورؤيتها له خمَّرت وجهها وغطته مباشرة، ثم التزمت الصمت طول
طريقها، كما قالت -رضي الله عنها-: "وَكَانَ
صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطَّلِ السُّلَمِيُّ ثُمَّ الذَّكْوَانِيُّ قَدْ
عَرَّسَ وَرَاءَ الْجَيْشِ، فَأَدْلَجَ فَأَصْبَحَ عِنْدَ مَنْزِلِي،
فَرَأَى سَوَادَ إِنْسَانٍ نَائِمٍ، فَأَتَانِي فَعَرَفَنِي حِينَ رَآنِي،
وَقَدْ كَانَ يَرَانِي قَبْلَ أَنْ يُضْرَبَ عَلَيَّ الْحِجَابُ،
فَاسْتَيْقَظْتُ بِاسْتِرْجَاعِهِ حِينَ عَرَفَنِي، فَخَمَّرْتُ وَجْهِي
بِجِلْبَابِي، وَوَاللَّهِ مَا تَكَلَّمْنَا بِكَلِمَةٍ، وَلَا سَمِعْتُ
مِنْهُ كَلِمَةً غَيْرَ اسْتِرْجَاعِهِ.
وتأملوا هنا، ففي سترها لوجهها دليل على تغطية الوجه، وفي قولها: "وَقَدْ كَانَ يَرَانِي قَبْلَ أَنْ يُضْرَبَ عَلَيَّ الْحِجَابُ"، ثم قولها: " فَخَمَّرْتُ وَجْهِي بِجِلْبَابِي"،
دليل على أنها كانت تستر وجهها بعد فرض الحجاب باستمرار، وهذا صريح في أن
تغطية الوجه مأمور به، ولم تكن واجبة في بداية الإسلام، إنما كان الوجوب
بعد نزول آيات الحجاب.
تقول عائشة -رضي الله عنها-: "كَانَ
الرُّكْبَانُ يَمُرُّونَ بِنَا وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله
عليه وسلم- مُحْرِمَاتٌ، فَإِذَا حَاذَوْا بِنَا سَدَلَتْ إِحْدَانَا
جِلْبَابَهَا مِنْ رَأْسِهَا عَلَى وَجْهِهَا، فَإِذَا جَاوَزُونَا
كَشَفْنَاه"، أليس هذا نصًّا صريحًا وواضحًا في تغطية الوجه؟ يقول المحقق ابن الهمام الحنفي في فتح القدير: "دلت المسألة على أن المرأة منهية عن إبداء وجهها للأجانب بلا ضرورة، وكذا دل الحديث عليه".
ثم في التزام عائشة للصمت أعظم دليل على عظيم حيائها، ورعايتها للحشمة
والوقار، فوالله ما تجملت المرأة بأروع من الستر والحجاب والحياء!:
فلا واللهِ مَا فِي العَيْشِ خَيْرٌ *** وَلَا الدُّنْيَا إِذَا ذَهَبَ الحَيَاءُ
هكذا هو الأدب والخلق إذا أردنا حقاً الحفاظ على النقاء والحشمة والعفاف في
مجتمعاتنا الإسلامية، تفاهم وانسجام فطري في الأدوار بين الذكر والأنثى،
وتعاون على البر والتقوى، فالمرأة غيورة على حجابها، متحلية باحتشامها
وحيائها، والرجل عفيف حييٌ أمين صبور، ففي صمت صفوان واكتفائه بالاسترجاع
لإيقاظ عائشة دليل على أدبه الجم، وخلقه الرفيع، فلم يناد عليها باسمها،
وما تكلم معها بكلمة واحدة.
بل لم تقف روعة أدب صفوان عند هذا الحد، فزاد روعة حيث لم يمش خلف البعير
وعائشة أمامه، بل مشى أمام البعير والمرأة خلفه، هكذا كان الصحابي الجليل
صفوان -رضي الله عنه- ولا غرو في هذا! إنه تلميذ المدرسة المحمدية، مدرسة
النبوة التي خرجت رجالاً يحاكون بأفعالهم توجيهات القرآن، وأفعال الأنبياء
وأولي العزم الكرام.
ويُذكرنا هذا الأدب الرفيع، والخلق السامي، بأدب موسى -عليه السلام- حينما
استجاب لدعوة الفتاة التي سقى لها للقاء والدها، فمن حيائه ونبل أخلاقه لم
يشأ أن تمشي الفتاة أمامه، رغم أنها المرشد والدليل؛ لئلا يقع نظره عليها،
بل جعلها خلفه وقال لها: إن ضللت الطريق أعلميني برمي حجر. فما أعظم أخلاق
الأنبياء والصحابة الكرام! وما أعظم منهج العفة وغض البصر والحياء!
وَرُبَّ قَبِيحَةٍ مَا حَالَ بَيْنِي *** وبَيْنَ رُكُوبِهَا إلَّا الحَـَياءُ
فكانَ هُوَ الدواءَ لهَا ولكنْ *** إذا ذهَبَ الحياءُ فلا دَوَاءُ
فما أروع -أيها الشباب من الجنسين- تربية النفس، وإغلاق مداخل الضعف
والشيطان عليها! فأين من يريد تربية النفس وتزكيتها وصلاحها خاصة في زمن
الشهوة والفضائيات ومواقع النت؟ (وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ) [النور:21].
فعلاً إنها خطوات، وقبلها نظرات وخطرات، نظرة فخطرة فخطوة فخطيئة، فكيف
ونحن بزمن التواصل والاتصال والتقنيات؟ فحذار حذار! فالنظرة سهم من سهام
إبليس فتاك، فكم من قلب فسد بسببها، وكم من نفس تعيش في قلق وهَمٍّ من
جرائها، وكم من عابد وصالح وقع فريسة لها، وكم من شاب انتكس لمَّا تعلق
قلبه بها، وكم من فرد وقع في جريمة الزنا والخنا لما أصابه سهمها.
كلُّ الْحَوَادِثِ مَبْدَاهَا مِنَ النَّظَرِ *** وَمُعْظَمُ النَّارِ مِنْ مُسْتَصْغَرِ الشَّرَرِ
كَمْ نَظْرَةٍ فَتَكَتْ فِيْ قَلْبِ صَاحِبِهَا *** فَتْكَ السِّهَامِ بِلا قَوْسٍ وَلا وَتَرِ
سبحان الله! ومع هذا التاريخ الناصع، والصفحات البيضاء، ومع هذه العفة
وروعة الأخلاق، اتهم المنافقون عائشة وصفوان! لأمر وخير قدّره وكتبه الله،
وما أشد وقع هذه التهم على النفوس الطاهرة والبريئة! فصفوان الصادق البار
يحلف فيقول: "وَاللَّهِ مَا أَصَبْت اِمْرَأَة قَطُّ حَلَالًا وَلَا
حَرَامًا"، أي مَا قَبْلَ هَذِهِ الْقِصَّة، ولكن كما قال الحق عز وجل: (لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ)
[النور:11]، فهذه حال الدنيا، ابتلاء وتمحيص، فسلط الله عليه -رغم عفته
وأدبه الجم- سلط الله عليه لسان الكاذب والمنافق ممن ينطلق لسانه يفري في
الأعراض، وفي القيل والقال.
إنه موقف عصيب، ودرس رهيب للمؤمنين والمؤمنات في كل زمان ومكان، فالاتهامات
والإشاعات ماضية باقية، والمنافقون والمتقولون سوقهم رائجة شائعة، ومثل
هذه القصص في القرآن والسنة منهج وتجارب يُحتذى بها، ويستفاد منها، فاقرؤوا
القرآن يا قومي، لم لا تقرؤونه؟ نعوذ بالله من كيد المنافقين، وحسد
الحاسدين، ومن تسلط أعداء الدين.
ومن فوائد قصة الإفك أيضاً جواز القرعة، وأنها مشروعة بالكتاب والسنة، فالله تعالى يقول: (وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) [آل عمران:44]، أي: أيهم يحضنها، فاقتَرَعوا عليها. وقال تعالى: (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ) [الصافات:139-141]، فساهم: أي أقرع. وأما مشروعيتها من السنة المطهرة -إضافة إلى ما جاء في قصة الإفك- فحديث أَبِي هُرَيْرَةَ:
"أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- عَرَضَ عَلَى قَوْمٍ الْيَمِينَ
فَأَسْرَعُوا، فَأَمَرَ أَنْ يُسْهَمَ بَيْنَهُمْ فِي الْيَمِينِ أَيُّهُمْ
يَحْلِفُ".
وفي اقتراعه -صلى الله عليه وسلم- بين نسائه في أسفاره بيان لعظيم خُلقه،
وجميل عشرته، وحسن معاملته مع نسائه، وروعة إدارته لمؤسسة الأسرة، فأراد
المصطفى -صلى الله عليه وسلم- بفعله هذا أن يزرع هذه القيمة الاجتماعية في
الأمة، ويشرع هذا الحكم الشرعي الْمُرضي للأطراف كلها في مثل هذه الحالات،
وأن يبين للأزواج والزوجات أن الحياة الزوجية شراكة واتفاق، وحب ووئام، لا
مجال للانصياع وراء العواطف والميول والحظوظ النفسية، ولا مجال للاستبداد
والدكتاتورية، يفعل الزوج ما يحلو له، أو يتصرف كأنما الأمر لا يعني غيره،
بل الأمر شراكة أسرية بين شريكين، عدل وإنصاف، ومراعاة للمشاعر، واحترام
للعواطف، وتطييب للخواطر، وهذه فائدة ثمينة وغالية خاصة للمعددين، ولمن
لديه أكثر من زوجة، فهي تحل الكثير من المشاكل التي يشتكي منها زوجات
المعددين.
ولا تكون القرعة إلا في حالات تساوي الحقوق وعدم تحديد جهة الحق؛ فعندها
يُلجأ إلى الاقتراع كحل مرضي للأطراف، كسبًا للود، وتوثيقًا لعرى المحبة،
وإبقاء لحبل المودة والرحمة، وعملاً بسنة من بُعث بالحنيفية السمحة -صلى
الله عليه وسلم- كما قالت عائشة -رضي الله عنها-: "كَانَ
رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ
بَيْنَ أَزْوَاجِهِ، فَأَيُّهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَهُ". ولفظ (كان) يدل على الاستمرار والمداومة.
ولا بد أن نتنبه أن هناك حالات لا تجوز فيها القرعة بالاتفاق، لأن القرعة
مثل غيرها تعتريها الأحكام الخمسة التكليفية المشهورة، فقد تكون القرعة
مباحة، أو مندوبة، أو واجبة، أو مكروهة، أو محرمة. وقد نص الفقهاء على أنه
متى تعينت المصلحة أو الحق في جهة، فلا يجوز الإقراع بينه وبين غيره؛ لأن
في القرعة ضياعَ ذلك الحق المعين والمصلحة المعينة. ولكن متى تساوت الحقوق
والمصالح، واشتُبه في المستحق، فهذا هو موضع القرعة عند التنازع؛ منعًا
للضغائن، ودفعًا للأحقاد والإحن، وانقيادًا ورضا بما تجري به الأقدار.
وفائدة أخرى مستنبطة من هذه القصة، هي أن سفر المرأة حالة الاختيار لا يكون
إلا مع زوج أو محرم. ففي الصحيحين عنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ
-صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ"، فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! امْرَأَتِي خَرَجَتْ حَاجَّةً، وَاكْتُتِبْتُ فِي غَزْوَةِ كَذَا وَكَذَا؟! قَالَ: "ارْجِعْ فَحُجَّ مَعَ امْرَأَتِكَ".
مع أن الجهاد ذروة سنام الإسلام، إلا أنه كان فرضًا كفائيًّا في حقه، وأما
خروج امرأته دون محرم فهو محرم، فيتعين عليه أن يصحبها في حال خروجها إلى
الحج، عملاً بقوله -صلى الله عليه وسلم-: "فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَىْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَىْءٍ فَدَعُوهُ". وقد أخرج الشيخان -أيضًا- عَنْ أَبِي هُرَيْرة –رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-:
"لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ
تُسَافِرَ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لَيْسَ مَعَهَا حُرْمَةٌ".
ألا لا يتساهلن مسلم في هذه القضية في زمن تُحارب فيه الفضيلة والحجاب،
بحجة أن العصر قد تغير وتطور، وأن العالم أصبح قرية كونية، ووسائل الاتصال
والتقنيات قربت البعيد، وذللت الصعاب، فلا مجال للتضييق والرضوخ للريبة
والشك، ففي توجيهات الشرع نجاة وأي نجاة! ومن تأمل في الكثير من المشاكل
على مستوى الفرد أو الجماعة وجدها في البعد عن توجيه الشرع، فكونوا علي
قناعة ويقين أن التقيد بأحكام الشريعة في كل الأحوال سلامة وطهارة، وأنه
دليل خير واستقامة، فجددوا يقينكم بأن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم
ومصالح العباد، في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها.
ثم اعلموا أن مراعاة الفضيلة وحجاب المرأة لا يعني التعنت والتزمُّت، وحبس
المرأة في البيت دائمًا وأبدًا، وأنها لا تخرج من بيتها إلا إلى بيت زوجها
أو إلى قبرها كما يُردد المرجفون. نعم، بيت المرأة هو مملكتها، ومحل
سلطانها وإبداعها، ومجال عملها وإنتاجها.
ومع هذا فهناك مجالات خاصة تعمل فيها المرأة بكل جدارة، فهذه أمنا وأم
المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- قد خرجت إلى الغزو بصحبة زوجها، فعمل
المرأة ما دام يراعى فيه أحكام الشرع والمصلحة فلا بأس به، كما أن خروج
المرأة بدون إذن زوجها في الأمور التي جرى العرف بها جائز، فعائشة -رضي
الله عنها- لم تستأذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عند خروجها
للمُتَبَرَّز لقضاء الحاجة مع أم مسطح، كما استأذنت منه للخروج لأبويها،
وفي هذا تنبيه على بعض الأزواج ممن يشددون في مثل هذه الأمور المعتادة،
ويحاسبون أهلهم في كل صغير وكبير، وفي قط وقطمير.
عباد الله! كثيرة هي الدروس والعبر من حادثة الإفك، لكن الأهم في عرض
القضية هو أخذ هذه العبر والعظات، وترجمة هذه الآداب والأخلاق في واقع
الحياة، لتكون لنا منهج عمل نستقي منه، وبيت خبرة وتجارب، وقصص وحياة
الأنبياء والصحابة والصالحين وتجاربهم مدرسة من أعظم المدارس، والعاقل من
استفاد من مواقف وتجارب الآخرين.
نسأل الله أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علَّمنا، أقول قولي هذا،
وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور
الرحيم .
فالاتهامات والإشاعات ماضية باقية، والمنافقون والمتقولون سوقهم رائجة
شائعة، ومثل هذه القصص في القرآن والسنة منهج وتجارب يُحتذى بها، ويستفاد
منها.
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على
الظالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله
وصحبه الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، ومن تبعهم بإحسان
إلى يوم الدين.
أما بعد: عباد الله! فقد بدأنا بالحديث عن سيرة أمنا أم المؤمنين عائشة
-رضي الله عنها- في الخطب الماضية، وأشرنا فيها إلى منشأ قصة الإفك، وسببها
الرئيس، وأن قصة الإفك من أعظم الابتلاءات التي عرفها التاريخ الإسلامي،
وفيها ابتلاء للنخب بدءاً من هرم الدولة، ومروراً برجالاتها ثم العامة على
حد سواء.
ثم عرضنا قصة الإفك بأكملها، ومباشرة من فم صاحبتها، وذلك نظرًا لأهميتها،
ولما تحتوي من إشارات ودلالات، ومن دروس وعبر، ومن فوائد وفرائد.
وتحدثنا في الخطبة الماضية عن أولى وأهم فوائد هذه القصة، بأن آيات قصة
الإفك قدمت علاجًا قرآنيًّا، ووصفة ربانيةً للإشاعة، أخطر داء تبتلى به
المجتمعات، وأفتك مرض اجتماعي تكتوي بناره الأسر والأفراد، وذلك عبر أربع
وصفات علاجية مستنبطة من القصة، ملخصها هو أن الوصفة الأولى هي حسن الظن
أولاً، وهو المقدم دائمًا، وأما الثانية فهي التثبت والتمحيص لأي إشاعة
يسمعها، وأما الثالثة فإمساك اللسان، ثم التفكير قبل الكلام؛ وأما الوصفة
الرابعة لعلاج هذا الداء الاجتماعي (الإشاعة) فهي أن يُرد الأمر لأهله إن
كان خاصاً، وإلى أولي الأمر إن كان عاماً.
عباد الله! إننا نستبط الدروس والعبر للعمل، فتعالوا نكمل الوقفات مع
الفوائد والعبر المستنبطة من قصة عائشة -رضي الله عنها- في حادثة الإفك،
فمن الفوائد المهمة رباطة جأش عائشة -رضي الله عنها- وفرط ذكائها، وفطنتها،
وحنكتها، وتقديرها للأمور.
فضلاً عن عظيم حيائها، واهتمامها بحجابها وحشمتها وعفتها، فعقب استيقاظها
باسترجاع صفوان ورؤيتها له خمَّرت وجهها وغطته مباشرة، ثم التزمت الصمت طول
طريقها، كما قالت -رضي الله عنها-: "وَكَانَ
صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطَّلِ السُّلَمِيُّ ثُمَّ الذَّكْوَانِيُّ قَدْ
عَرَّسَ وَرَاءَ الْجَيْشِ، فَأَدْلَجَ فَأَصْبَحَ عِنْدَ مَنْزِلِي،
فَرَأَى سَوَادَ إِنْسَانٍ نَائِمٍ، فَأَتَانِي فَعَرَفَنِي حِينَ رَآنِي،
وَقَدْ كَانَ يَرَانِي قَبْلَ أَنْ يُضْرَبَ عَلَيَّ الْحِجَابُ،
فَاسْتَيْقَظْتُ بِاسْتِرْجَاعِهِ حِينَ عَرَفَنِي، فَخَمَّرْتُ وَجْهِي
بِجِلْبَابِي، وَوَاللَّهِ مَا تَكَلَّمْنَا بِكَلِمَةٍ، وَلَا سَمِعْتُ
مِنْهُ كَلِمَةً غَيْرَ اسْتِرْجَاعِهِ.
وتأملوا هنا، ففي سترها لوجهها دليل على تغطية الوجه، وفي قولها: "وَقَدْ كَانَ يَرَانِي قَبْلَ أَنْ يُضْرَبَ عَلَيَّ الْحِجَابُ"، ثم قولها: " فَخَمَّرْتُ وَجْهِي بِجِلْبَابِي"،
دليل على أنها كانت تستر وجهها بعد فرض الحجاب باستمرار، وهذا صريح في أن
تغطية الوجه مأمور به، ولم تكن واجبة في بداية الإسلام، إنما كان الوجوب
بعد نزول آيات الحجاب.
تقول عائشة -رضي الله عنها-: "كَانَ
الرُّكْبَانُ يَمُرُّونَ بِنَا وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله
عليه وسلم- مُحْرِمَاتٌ، فَإِذَا حَاذَوْا بِنَا سَدَلَتْ إِحْدَانَا
جِلْبَابَهَا مِنْ رَأْسِهَا عَلَى وَجْهِهَا، فَإِذَا جَاوَزُونَا
كَشَفْنَاه"، أليس هذا نصًّا صريحًا وواضحًا في تغطية الوجه؟ يقول المحقق ابن الهمام الحنفي في فتح القدير: "دلت المسألة على أن المرأة منهية عن إبداء وجهها للأجانب بلا ضرورة، وكذا دل الحديث عليه".
ثم في التزام عائشة للصمت أعظم دليل على عظيم حيائها، ورعايتها للحشمة
والوقار، فوالله ما تجملت المرأة بأروع من الستر والحجاب والحياء!:
فلا واللهِ مَا فِي العَيْشِ خَيْرٌ *** وَلَا الدُّنْيَا إِذَا ذَهَبَ الحَيَاءُ
هكذا هو الأدب والخلق إذا أردنا حقاً الحفاظ على النقاء والحشمة والعفاف في
مجتمعاتنا الإسلامية، تفاهم وانسجام فطري في الأدوار بين الذكر والأنثى،
وتعاون على البر والتقوى، فالمرأة غيورة على حجابها، متحلية باحتشامها
وحيائها، والرجل عفيف حييٌ أمين صبور، ففي صمت صفوان واكتفائه بالاسترجاع
لإيقاظ عائشة دليل على أدبه الجم، وخلقه الرفيع، فلم يناد عليها باسمها،
وما تكلم معها بكلمة واحدة.
بل لم تقف روعة أدب صفوان عند هذا الحد، فزاد روعة حيث لم يمش خلف البعير
وعائشة أمامه، بل مشى أمام البعير والمرأة خلفه، هكذا كان الصحابي الجليل
صفوان -رضي الله عنه- ولا غرو في هذا! إنه تلميذ المدرسة المحمدية، مدرسة
النبوة التي خرجت رجالاً يحاكون بأفعالهم توجيهات القرآن، وأفعال الأنبياء
وأولي العزم الكرام.
ويُذكرنا هذا الأدب الرفيع، والخلق السامي، بأدب موسى -عليه السلام- حينما
استجاب لدعوة الفتاة التي سقى لها للقاء والدها، فمن حيائه ونبل أخلاقه لم
يشأ أن تمشي الفتاة أمامه، رغم أنها المرشد والدليل؛ لئلا يقع نظره عليها،
بل جعلها خلفه وقال لها: إن ضللت الطريق أعلميني برمي حجر. فما أعظم أخلاق
الأنبياء والصحابة الكرام! وما أعظم منهج العفة وغض البصر والحياء!
وَرُبَّ قَبِيحَةٍ مَا حَالَ بَيْنِي *** وبَيْنَ رُكُوبِهَا إلَّا الحَـَياءُ
فكانَ هُوَ الدواءَ لهَا ولكنْ *** إذا ذهَبَ الحياءُ فلا دَوَاءُ
فما أروع -أيها الشباب من الجنسين- تربية النفس، وإغلاق مداخل الضعف
والشيطان عليها! فأين من يريد تربية النفس وتزكيتها وصلاحها خاصة في زمن
الشهوة والفضائيات ومواقع النت؟ (وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ) [النور:21].
فعلاً إنها خطوات، وقبلها نظرات وخطرات، نظرة فخطرة فخطوة فخطيئة، فكيف
ونحن بزمن التواصل والاتصال والتقنيات؟ فحذار حذار! فالنظرة سهم من سهام
إبليس فتاك، فكم من قلب فسد بسببها، وكم من نفس تعيش في قلق وهَمٍّ من
جرائها، وكم من عابد وصالح وقع فريسة لها، وكم من شاب انتكس لمَّا تعلق
قلبه بها، وكم من فرد وقع في جريمة الزنا والخنا لما أصابه سهمها.
كلُّ الْحَوَادِثِ مَبْدَاهَا مِنَ النَّظَرِ *** وَمُعْظَمُ النَّارِ مِنْ مُسْتَصْغَرِ الشَّرَرِ
كَمْ نَظْرَةٍ فَتَكَتْ فِيْ قَلْبِ صَاحِبِهَا *** فَتْكَ السِّهَامِ بِلا قَوْسٍ وَلا وَتَرِ
سبحان الله! ومع هذا التاريخ الناصع، والصفحات البيضاء، ومع هذه العفة
وروعة الأخلاق، اتهم المنافقون عائشة وصفوان! لأمر وخير قدّره وكتبه الله،
وما أشد وقع هذه التهم على النفوس الطاهرة والبريئة! فصفوان الصادق البار
يحلف فيقول: "وَاللَّهِ مَا أَصَبْت اِمْرَأَة قَطُّ حَلَالًا وَلَا
حَرَامًا"، أي مَا قَبْلَ هَذِهِ الْقِصَّة، ولكن كما قال الحق عز وجل: (لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ)
[النور:11]، فهذه حال الدنيا، ابتلاء وتمحيص، فسلط الله عليه -رغم عفته
وأدبه الجم- سلط الله عليه لسان الكاذب والمنافق ممن ينطلق لسانه يفري في
الأعراض، وفي القيل والقال.
إنه موقف عصيب، ودرس رهيب للمؤمنين والمؤمنات في كل زمان ومكان، فالاتهامات
والإشاعات ماضية باقية، والمنافقون والمتقولون سوقهم رائجة شائعة، ومثل
هذه القصص في القرآن والسنة منهج وتجارب يُحتذى بها، ويستفاد منها، فاقرؤوا
القرآن يا قومي، لم لا تقرؤونه؟ نعوذ بالله من كيد المنافقين، وحسد
الحاسدين، ومن تسلط أعداء الدين.
ومن فوائد قصة الإفك أيضاً جواز القرعة، وأنها مشروعة بالكتاب والسنة، فالله تعالى يقول: (وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) [آل عمران:44]، أي: أيهم يحضنها، فاقتَرَعوا عليها. وقال تعالى: (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ) [الصافات:139-141]، فساهم: أي أقرع. وأما مشروعيتها من السنة المطهرة -إضافة إلى ما جاء في قصة الإفك- فحديث أَبِي هُرَيْرَةَ:
"أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- عَرَضَ عَلَى قَوْمٍ الْيَمِينَ
فَأَسْرَعُوا، فَأَمَرَ أَنْ يُسْهَمَ بَيْنَهُمْ فِي الْيَمِينِ أَيُّهُمْ
يَحْلِفُ".
وفي اقتراعه -صلى الله عليه وسلم- بين نسائه في أسفاره بيان لعظيم خُلقه،
وجميل عشرته، وحسن معاملته مع نسائه، وروعة إدارته لمؤسسة الأسرة، فأراد
المصطفى -صلى الله عليه وسلم- بفعله هذا أن يزرع هذه القيمة الاجتماعية في
الأمة، ويشرع هذا الحكم الشرعي الْمُرضي للأطراف كلها في مثل هذه الحالات،
وأن يبين للأزواج والزوجات أن الحياة الزوجية شراكة واتفاق، وحب ووئام، لا
مجال للانصياع وراء العواطف والميول والحظوظ النفسية، ولا مجال للاستبداد
والدكتاتورية، يفعل الزوج ما يحلو له، أو يتصرف كأنما الأمر لا يعني غيره،
بل الأمر شراكة أسرية بين شريكين، عدل وإنصاف، ومراعاة للمشاعر، واحترام
للعواطف، وتطييب للخواطر، وهذه فائدة ثمينة وغالية خاصة للمعددين، ولمن
لديه أكثر من زوجة، فهي تحل الكثير من المشاكل التي يشتكي منها زوجات
المعددين.
ولا تكون القرعة إلا في حالات تساوي الحقوق وعدم تحديد جهة الحق؛ فعندها
يُلجأ إلى الاقتراع كحل مرضي للأطراف، كسبًا للود، وتوثيقًا لعرى المحبة،
وإبقاء لحبل المودة والرحمة، وعملاً بسنة من بُعث بالحنيفية السمحة -صلى
الله عليه وسلم- كما قالت عائشة -رضي الله عنها-: "كَانَ
رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ
بَيْنَ أَزْوَاجِهِ، فَأَيُّهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَهُ". ولفظ (كان) يدل على الاستمرار والمداومة.
ولا بد أن نتنبه أن هناك حالات لا تجوز فيها القرعة بالاتفاق، لأن القرعة
مثل غيرها تعتريها الأحكام الخمسة التكليفية المشهورة، فقد تكون القرعة
مباحة، أو مندوبة، أو واجبة، أو مكروهة، أو محرمة. وقد نص الفقهاء على أنه
متى تعينت المصلحة أو الحق في جهة، فلا يجوز الإقراع بينه وبين غيره؛ لأن
في القرعة ضياعَ ذلك الحق المعين والمصلحة المعينة. ولكن متى تساوت الحقوق
والمصالح، واشتُبه في المستحق، فهذا هو موضع القرعة عند التنازع؛ منعًا
للضغائن، ودفعًا للأحقاد والإحن، وانقيادًا ورضا بما تجري به الأقدار.
وفائدة أخرى مستنبطة من هذه القصة، هي أن سفر المرأة حالة الاختيار لا يكون
إلا مع زوج أو محرم. ففي الصحيحين عنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ
-صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ"، فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! امْرَأَتِي خَرَجَتْ حَاجَّةً، وَاكْتُتِبْتُ فِي غَزْوَةِ كَذَا وَكَذَا؟! قَالَ: "ارْجِعْ فَحُجَّ مَعَ امْرَأَتِكَ".
مع أن الجهاد ذروة سنام الإسلام، إلا أنه كان فرضًا كفائيًّا في حقه، وأما
خروج امرأته دون محرم فهو محرم، فيتعين عليه أن يصحبها في حال خروجها إلى
الحج، عملاً بقوله -صلى الله عليه وسلم-: "فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَىْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَىْءٍ فَدَعُوهُ". وقد أخرج الشيخان -أيضًا- عَنْ أَبِي هُرَيْرة –رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-:
"لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ
تُسَافِرَ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لَيْسَ مَعَهَا حُرْمَةٌ".
ألا لا يتساهلن مسلم في هذه القضية في زمن تُحارب فيه الفضيلة والحجاب،
بحجة أن العصر قد تغير وتطور، وأن العالم أصبح قرية كونية، ووسائل الاتصال
والتقنيات قربت البعيد، وذللت الصعاب، فلا مجال للتضييق والرضوخ للريبة
والشك، ففي توجيهات الشرع نجاة وأي نجاة! ومن تأمل في الكثير من المشاكل
على مستوى الفرد أو الجماعة وجدها في البعد عن توجيه الشرع، فكونوا علي
قناعة ويقين أن التقيد بأحكام الشريعة في كل الأحوال سلامة وطهارة، وأنه
دليل خير واستقامة، فجددوا يقينكم بأن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم
ومصالح العباد، في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها.
ثم اعلموا أن مراعاة الفضيلة وحجاب المرأة لا يعني التعنت والتزمُّت، وحبس
المرأة في البيت دائمًا وأبدًا، وأنها لا تخرج من بيتها إلا إلى بيت زوجها
أو إلى قبرها كما يُردد المرجفون. نعم، بيت المرأة هو مملكتها، ومحل
سلطانها وإبداعها، ومجال عملها وإنتاجها.
ومع هذا فهناك مجالات خاصة تعمل فيها المرأة بكل جدارة، فهذه أمنا وأم
المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- قد خرجت إلى الغزو بصحبة زوجها، فعمل
المرأة ما دام يراعى فيه أحكام الشرع والمصلحة فلا بأس به، كما أن خروج
المرأة بدون إذن زوجها في الأمور التي جرى العرف بها جائز، فعائشة -رضي
الله عنها- لم تستأذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عند خروجها
للمُتَبَرَّز لقضاء الحاجة مع أم مسطح، كما استأذنت منه للخروج لأبويها،
وفي هذا تنبيه على بعض الأزواج ممن يشددون في مثل هذه الأمور المعتادة،
ويحاسبون أهلهم في كل صغير وكبير، وفي قط وقطمير.
عباد الله! كثيرة هي الدروس والعبر من حادثة الإفك، لكن الأهم في عرض
القضية هو أخذ هذه العبر والعظات، وترجمة هذه الآداب والأخلاق في واقع
الحياة، لتكون لنا منهج عمل نستقي منه، وبيت خبرة وتجارب، وقصص وحياة
الأنبياء والصحابة والصالحين وتجاربهم مدرسة من أعظم المدارس، والعاقل من
استفاد من مواقف وتجارب الآخرين.
نسأل الله أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علَّمنا، أقول قولي هذا،
وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور
الرحيم .
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى