حبيبه الرحمن
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
فتأملوا، أيها الآباء! وابدؤوا بأنفسكم إن أردتُّم صلاح أولادكم، فعائشة
نَبْتَةٌ طيِّبَةٌ مباركة، بدأت تترعرع في هذا المنبت الطيب، والمعدن
الأصيل؛ ولذا فهي ليست كأي فتاة، بل نشأت وشبت وعقلت بوتيرة سريعة؛ لما
كانت تلقى من رعاية، وعناية، وحسن تربية.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام
على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأزواجه أمهات
المؤمنين، وعلى صحابته الكرام الذين اهتدوا بهديه، واقتدوا بسنته، ومن
تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فقد بدأنا الحديث عن سلسلة لسيرة أمنا أم المؤمنين عائشة -رضي
الله عنها-، فتحدثنا عن منشأ قصة الإفك، وسببها الرئيس، ثم عرضنا القصة
بأكملها، ومباشرة من فم صاحبتها، ثم أشرنا إلى شيء مما احتوته من دروس
وعبر، ومن فوائد وفرائد.
وكانت البداية بقصة الإفك نظرا لما يقتضيه الحال في هذه الأيام، من إثارة
وحكاية لقصة الإفك؛ لندلل على أن هذه الاتهامات الباطلة، والأقاويل النكدة،
في حق أم المؤمنين عائشة، إنما هي امتداد لإفك قديم له جذور في عمق
التاريخ؛ وأنها مهما تكررت وأُحبكت فهي مؤامرة على السنة المطهرة، وصاحبها
-عليه أفضل الصلاة والتسليم-، ونقَلَتِها ورواتها رضوان الله عليهم أجمعين،
خاصة عائشة -رضي الله عنها- التي نقلت للمسلمين الكثير مما كان يجري في
بيت النبوة؛ امتثالاً لأمر الله، (وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ)
[الأحزاب:34]، فكانت -رضي الله عنها- بحق معلمة الرجال والأجيال، رغم صغر
سنها، فتعالوا -أيها المؤمنون- نرجع خطوات إلى الوراء؛ لنمسك بالخيوط
الأولى في سيرة حبيبة حبيب الله، والمبرأة بكتاب الله.
كُتب السير والتاريخ تفيد أن عائشة ولدت في بيت عامر بالعلم والأدب، ومعروف
بالحسب والنسب، نشأت الفتاة والطفلة في بيت يُضرب به المثل في العفة
والطهارة، في بيت قائم على المواساة، والجود والكرم، وحسن الضيافة، كما شهد
بذلك المشركون أنفسهم، ففي صحيح البخاري قول ابْن الدَّغِنَةِ لأبي بكر: "إِنَّ
مِثْلَكَ لَا يَخْرُجُ وَلَا يُخْرَجُ، فَإِنَّكَ تَكْسِبُ الْمَعْدُومَ،
وَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ
عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ".
وهكذا البيت له أثر كبير في نشأة الأولاد وتربيتهم، فبيت عُرف بكثرة
المكارم لا شك ستكتحل عيون الصغار فيه بدوام النظر لهذه المكرمات، وستشنف
الآذان ليل نهار، ألم يقل الأول:
وَيَنْشَأُ نَاشِئُ الفتيانِ فِينَا *** علَى مَا كَان عَوَّدَهُ أبُوهُ
فقولا لي، أيها الوالدان: ما الذي يجري في بيتكما من مكرمات أو سيئات، أقُلْ لكما كيف هم الأولاد والبنات.
نشأت عائشة وترعرعت في بيت أبي بكر صاحب النجدة والنخوة، الصادق الذي لا
يعرف الكذب، ولا يدري ما الكذب، فهي بنت الإمام الصديق، خليفة رسول الله
أبي بكر، القرشية التميمية المكية النبوية، أم المؤمنين -رضي الله عنها-
وأرضاها، وَكَانَتِ فتاةً بَيْضَاءَ جَمِيْلَةً، وَلذا يُقَال لَهَا
"الحُمَيْرَاءُ"، ولدت بعدَ المبعث بأربع سنين أو خمس، ونشأت في هذا البيت
المبارك، وفي بيئة إيمانية في ظل الإسلام، والتربية على تعاليمه العظام،
فقد حازت الفضل من كل جوانبه، ونالت الشرف من سائر أوجهه، قالت -رضي الله
عنها-: " لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَيَّ إِلَّا وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ".
كان لإيمان أبي بكر وأم رومان الصادق أثر على أولادهما جميعاً، فصلاح
الآباء ينعكس على الأولاد، بركة وأثراً وتوفيقاً، أليس الله بارك ووفق
الغلامين في سورة الكهف بصلاح أبيهما: (وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا) [الكهف:82]،
فتأملوا -أيها الآباء!- وابدؤوا بأنفسكم إن أردتم صلاح أولادكم، فعائشة
نبتة طيبة مباركة بدأت تترعرع في هذا المنبت الطيب، والمعدن الأصيل، ولذا
فهي ليست كأي فتاة، بل نشأت وشبت وعقلت بوتيرة سريعة؛ لما كانت تلقى من
رعاية، وعناية، وحسن تربية؛ وقد ورد أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان
يوصي أم رومان بابنتها عائشة، ويقول لها: "يا أم رومان! استوصي بعائشة
خيرا، واحفظيني فيها"، وذلك لما لاحظ عليها من مخايل النجابة، وملامح
الفطنة والذكاء، وهي -بعدُ- في طور طفولتها البريئة، فقد كانت تتمتع بحيوية
عجيبة، وحركة دائبة، رغم أنها -كغيرها- تلعب باستمرار على أرجوحة لها، لكن
قضى الله وقدر في علمه السابق أن تكون عائشة فتاة نشيطة مفعمة بالحيوية،
وأن تنشأ ليست كأي فتاة في عصرها، فسيكون لها شأن عظيم في المستقبل.
كيف لا؟ وهي ستكون أمًّا لأمَّة هي أفضل الأمم على الإطلاق، بل وستكون زوجة
لأفضل الأنبياء والمرسلين، يا له من حظ وتوفيق! يا لها من سعادة! فستكون
قرينة بيت النبوة، ستعيش مع خير الناس وأفضل الخلق على الإطلاق، ستنال شرفي
الدنيا والآخرة، ستنهل من معين النبوة مباشرة، ستتربى في حضن الحبيب -صلى
الله عليه وسلم-، ستحفظ من السنن والحكم والآداب النبوية ما لم تحفظه أي
امرأة، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، ولا شك أنه نتاج سبق الإيمان، وسبق
التصديق والصحبة لخير الأنام، ذلك الفضل لأبي بكر وابنته وبيته نتاج
الصلاح، ومكارم الأخلاق، وصنائع المعروف التي كان أبو بكر يُسابق عليها
ويُنافس، هذا في الجاهلية وقبل الإسلام.
واستمر على ذلك وزاد بعد الإسلام، وليس لوحده، بل البيت كله، فأهل بيت أبي
بكر كلهم ناصروا النبي -صلى الله عليه وسلم- بدءاً بالأب والأم والأولاد
والبنات، وهَبوا أنفسهم وما يملكون لله ولدين الله، فكانت الثمرة العظيمة
والبركة عاجلة وافرة، وما عند الله خيرٌ وأبقى، فأين من يتعظ؟! أين من
يعتبر؟ هاهو الميدان مفتوح، والمجال مفسوح، ودين الله مازال، بل هو الآن
بأمس الحاجة للرجال والمال، فأين المتنافسون والمتسابقون؟ أين الموفقون
والعارفون؟ أين البيت المسلم الذي وهب نفسه بكل أفراده وهمهم ومالهم لله
ولدين الله؟ فالوعد من الله مازال قائمًا (إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) [محمد:7].
إنها الدروس العملية، والعبر الحية، فإنه لما بلغت الفتاة الصغيرة الطاهرة
الجميلة من العمر ست سنين، كانت مكة في حينها غارقة في فاجعة موت أبي طالب
عم النبي -صلى الله عليه وسلم-، والقائم في خط الدفاع الأول عن الرسول -صلى
الله عليه وسلم- ودعوته، وبعده ابتلي بموت زوجته الوفية خديجة -رضي الله
عنها- والتي كانت عوناً وسنداً له بعد الله، فقد كانت تخفف عنه -صلى الله
عليه وسلم- ما يلقاه من عناء وهموم، وتشاركه في تحمل أعباء الدعوة، وتبليغ
الرسالة، ولذا فقد ترك موت خديجة فراغا هائلاً في حياته الزوجية، وحزن -صلى
الله عليه وسلم- عليها حزنا شديدا، حتى سمي ذلك العام بعام الحزن، ووسط
هذا الجو المشحون بالحزن والرعب وعدم الاستقرار جاءت العناية الإلهية لرسول
الأمة؛ بيانًا لمكانته، وإفصاحا عن منزلته عند الله، فقد اختار الله
سبحانه لنبيه زوجة المستقبل من فوق سبع سماوات؛ جاء الخبر بأن مَنْ ستَخلفُ
خديجة في بيت النبوة ستكون بنت أحب الناس إلى قلب رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- على الإطلاق.
عباد الله! إن زواج النبي -صلى الله عليه وسلم- بعائشة لم يكن بمبادرة
شخصية منه -صلى الله عليه وسلم- فحسب، بل كان في البداية اختيارا ربانيًّا،
ووحيًا إلهيًّا من السماء؛ تشريفًا للصديق، وتقديرًا لصدقه، وسبقه، وعظيم
بلائه في الإسلام، فقد روى الترمذي وابن حبان، وصححه الألباني، عَنْ
عَائِشَةَ -رضي الله عنها- أَنَّ جِبْرِيْلَ جَاءَ بِصُوْرَتِهَا فِي
خِرْقَةِ حَرِيْرٍ خَضْرَاءَ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-
فَقَالَ: هَذِهِ زَوْجَتُكَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ. وفي الصحيحين،
عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه
وسلم-: "أُرِيتُكِ فِي الْمَنَامِ ثَلاَثَ
لَيَالٍ، جَاءَنِى بِكِ الْمَلَكُ فِى سَرَقَةٍ -أي قطعة جيِّدة- مِنْ
حَرِيرٍ فَيَقُولُ: هَذِهِ امْرَأَتُكَ. فَأَكْشِفُ عَنْ وَجْهِكِ فَإِذَا
أَنْتِ هِيَ، فَأَقُولُ: إِنْ يَكُ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يُمْضِهِ".
ومن المعلوم أنَّ رُؤيَا الأنبياء حقٌّ، ووحيٌ نافذ وشريعة، إلا أن النبي
-صلى الله عليه وسلم- رغم هذه الرؤية الصالحة التي جاءت واضحة كفلق الصبح
لم يقدم على خطبة عائشة؛ تاركًا الأمر إلى مولاه، قائلاً: "إِنْ يَكُ هَذَا
مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يُمْضِهِ"، وفعلاً، فقد أمضاه الله، فإن الله إذا
أراد أمرا سهّل أسبابه، فقد جاءت إلى النبي إحدى الصحابيات الفضليات
تُسمَّى خَوْلَة بنت حكيم مقترحة عليه أن يتزوَّج بعائشة بنت أبي بكر،
مبادرة من عندها؛ شفقة على الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وعسى هذا الزواج
يخفف عن حزنه على خديجة، ويُنسِي بعض ما يجده تجاهها، وتملأ الثغرة الحاصلة
بوفاتها، ورأَتْ خولة أن هذا الزواج إنْ حصل وتم سوف يوطد العلاقة ويمتِّن
الصِّلَة أكثر بين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبين أحبِّ الخلق إليه
أبي بكر الصدِّيق -رضي الله عنه-.
وندع الحديث الآن لتلك المرأة، خَوْلَة بنت حكيم، تحدِّثنا عن هذه الخطبة
الميمونة المباركة كيف تمت وحصلت، وذلك بعد أن أخذت الضوء الأخضر من الرسول
الكريم بالموافقة. تقول خولة -رضي الله عنها-: دخلتُ بيتَ أبي بكر فوجدت
أمَّ رُومَان زوجة أبي بكر، فقلت لها مبشِّرة: يَا أُمَّ رُوْمَانَ! مَاذَا
أَدْخَلَ اللهُ عَلَيْكُمْ مِنَ الخَيْرِ وَالبَرَكَةِ؟ قَالَتْ: وما ذاك؟
فقلت: أرسلني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأخطب له عائشة. قالت:
ودِدتُ، (أي أحب هذا وأتمناه، ولكن) انتظِري أبا بكرٍ فإنه آتٍ، (وهذا منها
من باب مراعاة الأدب مع الزوج، حيث لم تتعجل في الأمر مع حبه وتمنيه له،
بل أحالته إلى صاحب الأمر).
تقول خولة: وجاء أبو بكر، فقلت له: يا أبا بكر، مَاذَا أَدْخَلَ اللهُ
عَلَيْكَ مِنَ الخَيْرِ وَالبَرَكَةِ؟ أرسلَنِي رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- لأخطُبَ له عائشة. قال الصدِّيق -صلى الله عليه وسلم- : أَوَ
تَصْلُحُ لَهُ وَهِيَ ابْنَةُ أَخِيْهِ؟! (أي أنه رأى مقامه -صلى الله عليه
وسلم- أكبر بكثيرٍ من أن تكون عائشة الصغيرة زوجته، ولذا قال مستغربًا
ومتعجبًا: وهل تصلح له؟ إنما هي بنت أخيه) تقول خولة: فرجعتُ إلى النبيِّ
-صلى الله عليه وسلم- فقلت له ما قال أبو بكر، فقال -صلى الله عليه وسلم-:
"ارجِعي إليه فقولي له: أنا أخوك وأنت أخي في الإسلام، وابنتك تصلح لي"،
فرجعتْ؛ تقول خولة: أتيتُ أبا بكرٍ فذكرت له ذلك، فقال أبو بكر لِخَوْلَة:
لأرى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فمضَتْ خَوْلَة إلى الرسول -صلى الله
عليه وسلم- فدعَتْه، فجاء بيت صديقه أبي بكر، فأنكَحَه عائشة، وهي يومئذٍ
بنت ستِّ سنين أو سبع.
وهكذا تمت هذه الخطبة الميمونة المباركة على عائشة في شهر شوال، وقبل
الهجرة بثلاث سنين، بوحي من الله، وبمباركة من السماء، ولقد فرح أبو
بكر-رضي الله عنه- بهذا الشرف العظيم أيما فرح، وأمهرها -صلى الله عليه
وسلم- خمسمائة درهم كما في صحيح مسلم، ولو كان المهر بكثرته لكانت -رضي
الله عنها- أكثر النساء مهراً، إنما الأمر كما وجه -صلى الله عليه وسلم-:
"أقلُّهُنَّ مهراً أكْثَرُهُنَّ بركةً"، ولو كان الناس يعقلون لكان قدوتهم
الحبيب -صلى الله عليه وسلم-، ليس بالخمسمائة درهم، وإنما بتخفيف المهور،
وتسهيل أمور الزواج، لما في ذلك من نفع عظيم للمجتمع، وعفته، وطهارته.
ثم إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- تقديرا لسن عروسه عائشة لم يشأ أن
يأخذها من بيت أبويها، ليثقلها بأعباء الزوجية وهي حديثة السن، بل تركها
تلهو وتلعب مع صواحبها وأترابها، مكتفيا برؤيتها كلما زار بيت والدها، وكان
-صلى الله عليه وسلم- لا يخطئ أن يأتي بيت أبي بكر أحد طرفي النهار، إما
بكرة وإما عشية.
واستمر الأمر على هذا الحال إلى أن مضت ثلاث سنين، وأذن الله بالهجرة
لنبيه، فهاجروا واستقروا بالمدينة، ولم تمض أشهر معدودات حتى تم خلالها
بناء مسجد الرسول وبيته، واطمأن المسلمون إلى مقامهم في مهاجرهم ودارهم
الجديدة، واستقر حالهم في أمن وسلام وهدوء، وفي أثناء ذلك بدأ التجهيز
للعرس المنشود، عرس وأي عرس؟ فكيف كان حفل العرس؟ وكيف كانت الزفة؟! وما
الذي أعطاه العريس للعروس؟ ولماذا استحيت؟ إنها قصة الزواج المبارك،
سنسمعها في الخطبة القادمة بمشيئة الله، (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) [الأحزاب:21].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
نَبْتَةٌ طيِّبَةٌ مباركة، بدأت تترعرع في هذا المنبت الطيب، والمعدن
الأصيل؛ ولذا فهي ليست كأي فتاة، بل نشأت وشبت وعقلت بوتيرة سريعة؛ لما
كانت تلقى من رعاية، وعناية، وحسن تربية.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام
على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأزواجه أمهات
المؤمنين، وعلى صحابته الكرام الذين اهتدوا بهديه، واقتدوا بسنته، ومن
تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فقد بدأنا الحديث عن سلسلة لسيرة أمنا أم المؤمنين عائشة -رضي
الله عنها-، فتحدثنا عن منشأ قصة الإفك، وسببها الرئيس، ثم عرضنا القصة
بأكملها، ومباشرة من فم صاحبتها، ثم أشرنا إلى شيء مما احتوته من دروس
وعبر، ومن فوائد وفرائد.
وكانت البداية بقصة الإفك نظرا لما يقتضيه الحال في هذه الأيام، من إثارة
وحكاية لقصة الإفك؛ لندلل على أن هذه الاتهامات الباطلة، والأقاويل النكدة،
في حق أم المؤمنين عائشة، إنما هي امتداد لإفك قديم له جذور في عمق
التاريخ؛ وأنها مهما تكررت وأُحبكت فهي مؤامرة على السنة المطهرة، وصاحبها
-عليه أفضل الصلاة والتسليم-، ونقَلَتِها ورواتها رضوان الله عليهم أجمعين،
خاصة عائشة -رضي الله عنها- التي نقلت للمسلمين الكثير مما كان يجري في
بيت النبوة؛ امتثالاً لأمر الله، (وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ)
[الأحزاب:34]، فكانت -رضي الله عنها- بحق معلمة الرجال والأجيال، رغم صغر
سنها، فتعالوا -أيها المؤمنون- نرجع خطوات إلى الوراء؛ لنمسك بالخيوط
الأولى في سيرة حبيبة حبيب الله، والمبرأة بكتاب الله.
كُتب السير والتاريخ تفيد أن عائشة ولدت في بيت عامر بالعلم والأدب، ومعروف
بالحسب والنسب، نشأت الفتاة والطفلة في بيت يُضرب به المثل في العفة
والطهارة، في بيت قائم على المواساة، والجود والكرم، وحسن الضيافة، كما شهد
بذلك المشركون أنفسهم، ففي صحيح البخاري قول ابْن الدَّغِنَةِ لأبي بكر: "إِنَّ
مِثْلَكَ لَا يَخْرُجُ وَلَا يُخْرَجُ، فَإِنَّكَ تَكْسِبُ الْمَعْدُومَ،
وَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ
عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ".
وهكذا البيت له أثر كبير في نشأة الأولاد وتربيتهم، فبيت عُرف بكثرة
المكارم لا شك ستكتحل عيون الصغار فيه بدوام النظر لهذه المكرمات، وستشنف
الآذان ليل نهار، ألم يقل الأول:
وَيَنْشَأُ نَاشِئُ الفتيانِ فِينَا *** علَى مَا كَان عَوَّدَهُ أبُوهُ
فقولا لي، أيها الوالدان: ما الذي يجري في بيتكما من مكرمات أو سيئات، أقُلْ لكما كيف هم الأولاد والبنات.
نشأت عائشة وترعرعت في بيت أبي بكر صاحب النجدة والنخوة، الصادق الذي لا
يعرف الكذب، ولا يدري ما الكذب، فهي بنت الإمام الصديق، خليفة رسول الله
أبي بكر، القرشية التميمية المكية النبوية، أم المؤمنين -رضي الله عنها-
وأرضاها، وَكَانَتِ فتاةً بَيْضَاءَ جَمِيْلَةً، وَلذا يُقَال لَهَا
"الحُمَيْرَاءُ"، ولدت بعدَ المبعث بأربع سنين أو خمس، ونشأت في هذا البيت
المبارك، وفي بيئة إيمانية في ظل الإسلام، والتربية على تعاليمه العظام،
فقد حازت الفضل من كل جوانبه، ونالت الشرف من سائر أوجهه، قالت -رضي الله
عنها-: " لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَيَّ إِلَّا وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ".
كان لإيمان أبي بكر وأم رومان الصادق أثر على أولادهما جميعاً، فصلاح
الآباء ينعكس على الأولاد، بركة وأثراً وتوفيقاً، أليس الله بارك ووفق
الغلامين في سورة الكهف بصلاح أبيهما: (وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا) [الكهف:82]،
فتأملوا -أيها الآباء!- وابدؤوا بأنفسكم إن أردتم صلاح أولادكم، فعائشة
نبتة طيبة مباركة بدأت تترعرع في هذا المنبت الطيب، والمعدن الأصيل، ولذا
فهي ليست كأي فتاة، بل نشأت وشبت وعقلت بوتيرة سريعة؛ لما كانت تلقى من
رعاية، وعناية، وحسن تربية؛ وقد ورد أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان
يوصي أم رومان بابنتها عائشة، ويقول لها: "يا أم رومان! استوصي بعائشة
خيرا، واحفظيني فيها"، وذلك لما لاحظ عليها من مخايل النجابة، وملامح
الفطنة والذكاء، وهي -بعدُ- في طور طفولتها البريئة، فقد كانت تتمتع بحيوية
عجيبة، وحركة دائبة، رغم أنها -كغيرها- تلعب باستمرار على أرجوحة لها، لكن
قضى الله وقدر في علمه السابق أن تكون عائشة فتاة نشيطة مفعمة بالحيوية،
وأن تنشأ ليست كأي فتاة في عصرها، فسيكون لها شأن عظيم في المستقبل.
كيف لا؟ وهي ستكون أمًّا لأمَّة هي أفضل الأمم على الإطلاق، بل وستكون زوجة
لأفضل الأنبياء والمرسلين، يا له من حظ وتوفيق! يا لها من سعادة! فستكون
قرينة بيت النبوة، ستعيش مع خير الناس وأفضل الخلق على الإطلاق، ستنال شرفي
الدنيا والآخرة، ستنهل من معين النبوة مباشرة، ستتربى في حضن الحبيب -صلى
الله عليه وسلم-، ستحفظ من السنن والحكم والآداب النبوية ما لم تحفظه أي
امرأة، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، ولا شك أنه نتاج سبق الإيمان، وسبق
التصديق والصحبة لخير الأنام، ذلك الفضل لأبي بكر وابنته وبيته نتاج
الصلاح، ومكارم الأخلاق، وصنائع المعروف التي كان أبو بكر يُسابق عليها
ويُنافس، هذا في الجاهلية وقبل الإسلام.
واستمر على ذلك وزاد بعد الإسلام، وليس لوحده، بل البيت كله، فأهل بيت أبي
بكر كلهم ناصروا النبي -صلى الله عليه وسلم- بدءاً بالأب والأم والأولاد
والبنات، وهَبوا أنفسهم وما يملكون لله ولدين الله، فكانت الثمرة العظيمة
والبركة عاجلة وافرة، وما عند الله خيرٌ وأبقى، فأين من يتعظ؟! أين من
يعتبر؟ هاهو الميدان مفتوح، والمجال مفسوح، ودين الله مازال، بل هو الآن
بأمس الحاجة للرجال والمال، فأين المتنافسون والمتسابقون؟ أين الموفقون
والعارفون؟ أين البيت المسلم الذي وهب نفسه بكل أفراده وهمهم ومالهم لله
ولدين الله؟ فالوعد من الله مازال قائمًا (إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) [محمد:7].
إنها الدروس العملية، والعبر الحية، فإنه لما بلغت الفتاة الصغيرة الطاهرة
الجميلة من العمر ست سنين، كانت مكة في حينها غارقة في فاجعة موت أبي طالب
عم النبي -صلى الله عليه وسلم-، والقائم في خط الدفاع الأول عن الرسول -صلى
الله عليه وسلم- ودعوته، وبعده ابتلي بموت زوجته الوفية خديجة -رضي الله
عنها- والتي كانت عوناً وسنداً له بعد الله، فقد كانت تخفف عنه -صلى الله
عليه وسلم- ما يلقاه من عناء وهموم، وتشاركه في تحمل أعباء الدعوة، وتبليغ
الرسالة، ولذا فقد ترك موت خديجة فراغا هائلاً في حياته الزوجية، وحزن -صلى
الله عليه وسلم- عليها حزنا شديدا، حتى سمي ذلك العام بعام الحزن، ووسط
هذا الجو المشحون بالحزن والرعب وعدم الاستقرار جاءت العناية الإلهية لرسول
الأمة؛ بيانًا لمكانته، وإفصاحا عن منزلته عند الله، فقد اختار الله
سبحانه لنبيه زوجة المستقبل من فوق سبع سماوات؛ جاء الخبر بأن مَنْ ستَخلفُ
خديجة في بيت النبوة ستكون بنت أحب الناس إلى قلب رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- على الإطلاق.
عباد الله! إن زواج النبي -صلى الله عليه وسلم- بعائشة لم يكن بمبادرة
شخصية منه -صلى الله عليه وسلم- فحسب، بل كان في البداية اختيارا ربانيًّا،
ووحيًا إلهيًّا من السماء؛ تشريفًا للصديق، وتقديرًا لصدقه، وسبقه، وعظيم
بلائه في الإسلام، فقد روى الترمذي وابن حبان، وصححه الألباني، عَنْ
عَائِشَةَ -رضي الله عنها- أَنَّ جِبْرِيْلَ جَاءَ بِصُوْرَتِهَا فِي
خِرْقَةِ حَرِيْرٍ خَضْرَاءَ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-
فَقَالَ: هَذِهِ زَوْجَتُكَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ. وفي الصحيحين،
عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه
وسلم-: "أُرِيتُكِ فِي الْمَنَامِ ثَلاَثَ
لَيَالٍ، جَاءَنِى بِكِ الْمَلَكُ فِى سَرَقَةٍ -أي قطعة جيِّدة- مِنْ
حَرِيرٍ فَيَقُولُ: هَذِهِ امْرَأَتُكَ. فَأَكْشِفُ عَنْ وَجْهِكِ فَإِذَا
أَنْتِ هِيَ، فَأَقُولُ: إِنْ يَكُ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يُمْضِهِ".
ومن المعلوم أنَّ رُؤيَا الأنبياء حقٌّ، ووحيٌ نافذ وشريعة، إلا أن النبي
-صلى الله عليه وسلم- رغم هذه الرؤية الصالحة التي جاءت واضحة كفلق الصبح
لم يقدم على خطبة عائشة؛ تاركًا الأمر إلى مولاه، قائلاً: "إِنْ يَكُ هَذَا
مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يُمْضِهِ"، وفعلاً، فقد أمضاه الله، فإن الله إذا
أراد أمرا سهّل أسبابه، فقد جاءت إلى النبي إحدى الصحابيات الفضليات
تُسمَّى خَوْلَة بنت حكيم مقترحة عليه أن يتزوَّج بعائشة بنت أبي بكر،
مبادرة من عندها؛ شفقة على الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وعسى هذا الزواج
يخفف عن حزنه على خديجة، ويُنسِي بعض ما يجده تجاهها، وتملأ الثغرة الحاصلة
بوفاتها، ورأَتْ خولة أن هذا الزواج إنْ حصل وتم سوف يوطد العلاقة ويمتِّن
الصِّلَة أكثر بين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبين أحبِّ الخلق إليه
أبي بكر الصدِّيق -رضي الله عنه-.
وندع الحديث الآن لتلك المرأة، خَوْلَة بنت حكيم، تحدِّثنا عن هذه الخطبة
الميمونة المباركة كيف تمت وحصلت، وذلك بعد أن أخذت الضوء الأخضر من الرسول
الكريم بالموافقة. تقول خولة -رضي الله عنها-: دخلتُ بيتَ أبي بكر فوجدت
أمَّ رُومَان زوجة أبي بكر، فقلت لها مبشِّرة: يَا أُمَّ رُوْمَانَ! مَاذَا
أَدْخَلَ اللهُ عَلَيْكُمْ مِنَ الخَيْرِ وَالبَرَكَةِ؟ قَالَتْ: وما ذاك؟
فقلت: أرسلني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأخطب له عائشة. قالت:
ودِدتُ، (أي أحب هذا وأتمناه، ولكن) انتظِري أبا بكرٍ فإنه آتٍ، (وهذا منها
من باب مراعاة الأدب مع الزوج، حيث لم تتعجل في الأمر مع حبه وتمنيه له،
بل أحالته إلى صاحب الأمر).
تقول خولة: وجاء أبو بكر، فقلت له: يا أبا بكر، مَاذَا أَدْخَلَ اللهُ
عَلَيْكَ مِنَ الخَيْرِ وَالبَرَكَةِ؟ أرسلَنِي رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- لأخطُبَ له عائشة. قال الصدِّيق -صلى الله عليه وسلم- : أَوَ
تَصْلُحُ لَهُ وَهِيَ ابْنَةُ أَخِيْهِ؟! (أي أنه رأى مقامه -صلى الله عليه
وسلم- أكبر بكثيرٍ من أن تكون عائشة الصغيرة زوجته، ولذا قال مستغربًا
ومتعجبًا: وهل تصلح له؟ إنما هي بنت أخيه) تقول خولة: فرجعتُ إلى النبيِّ
-صلى الله عليه وسلم- فقلت له ما قال أبو بكر، فقال -صلى الله عليه وسلم-:
"ارجِعي إليه فقولي له: أنا أخوك وأنت أخي في الإسلام، وابنتك تصلح لي"،
فرجعتْ؛ تقول خولة: أتيتُ أبا بكرٍ فذكرت له ذلك، فقال أبو بكر لِخَوْلَة:
لأرى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فمضَتْ خَوْلَة إلى الرسول -صلى الله
عليه وسلم- فدعَتْه، فجاء بيت صديقه أبي بكر، فأنكَحَه عائشة، وهي يومئذٍ
بنت ستِّ سنين أو سبع.
وهكذا تمت هذه الخطبة الميمونة المباركة على عائشة في شهر شوال، وقبل
الهجرة بثلاث سنين، بوحي من الله، وبمباركة من السماء، ولقد فرح أبو
بكر-رضي الله عنه- بهذا الشرف العظيم أيما فرح، وأمهرها -صلى الله عليه
وسلم- خمسمائة درهم كما في صحيح مسلم، ولو كان المهر بكثرته لكانت -رضي
الله عنها- أكثر النساء مهراً، إنما الأمر كما وجه -صلى الله عليه وسلم-:
"أقلُّهُنَّ مهراً أكْثَرُهُنَّ بركةً"، ولو كان الناس يعقلون لكان قدوتهم
الحبيب -صلى الله عليه وسلم-، ليس بالخمسمائة درهم، وإنما بتخفيف المهور،
وتسهيل أمور الزواج، لما في ذلك من نفع عظيم للمجتمع، وعفته، وطهارته.
ثم إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- تقديرا لسن عروسه عائشة لم يشأ أن
يأخذها من بيت أبويها، ليثقلها بأعباء الزوجية وهي حديثة السن، بل تركها
تلهو وتلعب مع صواحبها وأترابها، مكتفيا برؤيتها كلما زار بيت والدها، وكان
-صلى الله عليه وسلم- لا يخطئ أن يأتي بيت أبي بكر أحد طرفي النهار، إما
بكرة وإما عشية.
واستمر الأمر على هذا الحال إلى أن مضت ثلاث سنين، وأذن الله بالهجرة
لنبيه، فهاجروا واستقروا بالمدينة، ولم تمض أشهر معدودات حتى تم خلالها
بناء مسجد الرسول وبيته، واطمأن المسلمون إلى مقامهم في مهاجرهم ودارهم
الجديدة، واستقر حالهم في أمن وسلام وهدوء، وفي أثناء ذلك بدأ التجهيز
للعرس المنشود، عرس وأي عرس؟ فكيف كان حفل العرس؟ وكيف كانت الزفة؟! وما
الذي أعطاه العريس للعروس؟ ولماذا استحيت؟ إنها قصة الزواج المبارك،
سنسمعها في الخطبة القادمة بمشيئة الله، (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) [الأحزاب:21].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى