حبيبه الرحمن
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
ومن هنا فالأسر الواعية الناضجة تولي عناية خاصة للإجازة الصيفية في
تربية أبنائهم، وصقل مواهبهم، وكشف قدراتهم، وإبراز طاقاتهم؛ فالأسر
الواعية بدورها، والمضطلعة بمهامها هي من تُعِدُّ العُدة قبل حلول الإجازة
أو في بدايتها، وترتب أوراقها: فترسم البرامج، وَتُخَطِّطُ لاستثمار
الأوقات، وتجعل الإجازة فرصة ثرة للتميز والتفوق، ولتعليم المهارات وكشف
القدرات، وتفجير الطاقات، وتفتح الباب بمصراعيه لأنشطة لا منهجية قد تتعذر
إقامتها ..
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصلى الله وسلم
على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه
أمهات المؤمنين، وخلفائه المهديين الراشدين، ومن استن بسنتهم واقتدى بهديهم
إلى يوم الدين.
أما بعد:
عباد الله: هاهي الإجازة الصيفية قد أطلت برأسها، وحلت بيننا ضيفًا عزيزًا
بعد الانتظار الطويل، والجهود المضنية المتواصلة في التحصيل، وعناء العام
الدراسي الكامل، والذي يمشي على وتيرة واحدة مما يورث الإملال والرتابة،
وتأتي الإجازة الصيفية للقضاء على هذا الروتين الممل وكسره، وتجديد الحياة
بتجديد نوع النشاط، والخروج من شرنقة الدراسة النظامية إلى العالم الرحب
الفسيح.
ولذا لا يخفي أحد فرحته وأنسه بالإجازة، ولا يختلف اثنان منا على أهميتها
وفائدتها، ومناسبتها للفطرة الإنسانية؛ لأن الإنسان بطبعه يمل ويتوقف عن
الإنتاج إذا كانت حياته تسير على روتين معتاد ونمط معين، لا تجديد فيه ولا
ترويح،كما قال -صلى الله عليه وسلم-: "وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً".
ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. وقال علي -رضي الله عنه-: روّحوا القلوب ساعة بعد ساعة،
فإنّ القلب إذا أكره عمي. وقال أيضًا: إن هذه القلوب تمل كما تمل الأبدان،
فابتغوا لها طرائف الحكمة.
ومن هنا كانت الإجازة حاجة للبشرية، وضرورة جبلية وحياتية، وبابًا من أبواب
الرقي والتقدم نحو الأفضل، وهي ثقافة موروثة من قديم الزمان، وموجودة لدى
جميع أمم العالم منذ قديم الأيام.
عباد الله: إن المقصود الأول من الإجازة هو الترويح عن النفس، ولكن من
المجرَّب الملحوظ أن الإجازة قد تتحول هي الأخرى إلى روتين ممل، وعبء ثقيل
لا يطاق إن لم نُعمل فيها عقلنا، ونفكر في الطريقة المثلى لقضائها، مما
يحقق هدفها، إضافة إلى فوائد أخرى غير الترويح نجنيها إن خططنا لها.
ومن هنا كان التخطيط ضروريًّا لا بد منه في قضاء الإجازة؛ لأن أيام الدراسة
تغير نشاطاتك وتتنوع تلقائيًّا، وكثيرًا ما يكون التغيير إلزاميًّا، أما
الإجازة فلا، فالأمر باختيارك، ومتروك لرغبة الإنسان ومزاجه، وهنا مربط
الفرس كما يقال.
فبالله عليكم يا أولى الألباب! تصوروا حال أسرة تقضي إجازتها دون تخطيط أو
أهداف، هكذا تترك الأمور على علاتها، فالأبناء والبنات يسهرون الليل كله
متنقلين بين اللعب ببلاي ستيشن والمشاهدة للقنوات والفضائيات المختلفة،
وساعات طوال على مواقع التواصل والشبكة العنكبوتية ... إلى قُبيل الفجر،
وربما غلبهم النوم عن صلاة الجماعة، وإلى ما شاء الله من النهار، ومن ثم
الاستيقاظ والعودة إلى ما سبق من لعب ومشاهدة، وقيل وقال، وهكذا دواليك.
لكن أنا على يقين أن أسبوعًا واحدًا من العيش بهذا النمط يعني: إملالاً لا
يطاق، وسآمة قاتلة، وفراغًا مقيتًا، ثم لا تسل عما يصيب الأولاد والبيت
أجمع من ضيق الصدر والطفش والزهق، وهكذا تتحول الإجازة لمرض نفسي واجتماعي
عضال.
أيها الإخوة! عندما نقول لا بد من التخطيط المسبق ووضع الأهداف للإجازة فلا
يعني هذا تحويل الإجازة لأيام عمل وجد، وحرمان النفس من الراحة والترفيه،
بل المطلوب هو الحفاظ على رونق الإجازة وبهائها، والاستفادة القصوى منها
لترفيهٍ أفضلَ مَشوبٍ بكُلِّ حلال نافع ومفيد، فكم من ترفيه يتعلم الإنسان
معه ما لا يتعلمه مع غيره، فالتربية والتعليم بالترفيه هو منهج جديد يسلكه
العالَم المتقدم؛ فيثمر ثماراً يانعة للفرد والمجتمع.
ومن هنا كان لنا وقفات مع الإجازة التي هي مرحلة حرجة تمر بها أسرنا
عمومًا، والشباب من الجنسين خصوصًا، فهي مفترق طرق، ونقطة تحول في حياة
الكثير من الشباب، قوة أبدان، وصحة أجسام، ونضج غرائز، تجتمع هذه كلها مع
فراغ وقت طويل، ووفرة في السيولة المالية لدى الكثير، يقول -صلى الله عليه
وسلم-: "نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ" رواه البخاري.
وفي مثل هذه الحالات تشتد حاجة الشباب إلى آباء عقلاء، ومربين أمناء؛ لأن
فيها يجتمع ثالوث الفساد والإفساد الذي عبر عنها الشاعر بقوله:
إنَّ الشَّبَابَ والفَراغَ والجِدَهْ *** مَفْسَدَةٌ لِلْمَرْءِ أَيّ مَفْسَدَهْ
ولأهمية مرحلة الشباب ذكرها النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديثه محذرًا من
إضاعتها: "لَا تَزُولُ قَدَمُ ابْنِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ
عِنْدِ رَبِّهِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ خَمْسٍ"، ذكَر منها: "وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ" رواه الترمذي.
فإن لم تجد هذه المرحلة وتلك الطاقات الشبابية عناية من الآباء والمربين،
وتوجيهًا من الناصحين، فإنها ستكون عامل هدم، ومعول فساد في المجتمع، بحيث
لا يؤويهم إلا الأرصفة والممرات، والشوارع والجلسات، فيزعجون ويضايقون،
وربما تكون لهم لقاءات واستراحات كمدارس شيطانية تعلمهم كل أنواع الشهوات
والشبهات.
ويزداد الأمر علة، والطين بلة إذا اجتمعت تلك الطاقات الفارغة مع المثيرات
للغرائز، المهيجة لها عبر مواقع مشبوهة، وأفلام ماجنة، ودعايات وشبهات
مضللة؛ وتعظم البلية إذا صاحب ذلك جلساء سوء ومكر وفسق!.
فالأمر جد خطير معاشر الآباء والأمهات! فهل ندرك حجم مشكلة الفراغ هذه
الأيام؟! ومشكلة الجليس؟! هل سنحرص كل الحرص على توجيه الأبناء؟ بل هل يدرك
شبابنا بأنفسهم خطورة الأيام القادمة؟ وأهمية استثمارها، وبذل وسعهم في
بناء شخصياتهم وتكاملها؟ فهذه الأيام فرصة ثمينة لتنمية المهارات
والهوايات، فرصة لمزيد من الإبداع فيما يحبه الشاب ويتشوق إليه ليختار هو
بملء إرادته وحريته ما يسره و ينفعه، مع الترفيه والتسلية.
معاشر الشباب! إن التاريخ يشهد أن الذين برزوا في ساحات الفكر والإبداع،
وفي ميادين الابتكار والاختراع، جلُّهم تخرجوا من هذا النوع من المدارس، مع
أهمية المدارس النظامية، ومن هنا فالأسرة الواعية الناضجة تولي عناية خاصة
للإجازة الصيفية في تربية أبنائهم، وصقل مواهبهم، وكشف قدراتهم، وإبراز
طاقاتهم، فالأسر الواعية بدورها، والمضطلعة بمهامها هي من تُعِدُّ العُدة
قبل حلول الإجازة أو في بدايتها، وترتب أوراقها: فترسم البرامج،
وَتُخَطِّطُ لاستثمار الأوقات، وتجعل الإجازة فرصة ثرة للتميز والتفوق،
ولتعليم المهارات وكشف القدرات، وتفجير الطاقات، وتفتح الباب بمصراعيه
لأنشطة لا منهجية قد تتعذر إقامتها في الموسم الدراسي.
فأقول لكلَّ أبوين كريمين: ماذا أعددتما لبناء شخصية الأبناء وتميزها في
هذه الإجازة؟ وماذا أعددتما للقضاء على الفراغ القاتل في حياة الأولاد؟ وما
البرامج التي رسمتما لاستثمار هذه الإجازة؟ فإن الفراغ داءٌ عضال، وسمٌّ
قتّال، تأملوا فقط حال بعض أولادكم أيام الإجازة، سهر في الليل، ونوم في
النهار، وضياع للأوقات والأعمار، وربما جلساء سوء، ولصوص أوقات وأعراض.
وقد ثبت أن الإجازة كانت نقطة تحوُّلٍ في انحراف البعض من الشباب: أفكار
منحرفة، وسفريات مشبوهة، وجلساتٌ مضللة، ...؛ فهل يعي الآباء والأمهات هذا؟
وهل يتنبهون لخطورة الأمر؟ وهل يقفون وقفة صدق وصراحة مع أنفسهم؟ إننا
ننشغل كثيرًا عن أبنائنا وبناتنا، وقليل منا من يحرص على تخصيص أوقات
للجلوس معهم ومتابعتهم، ومعرفة أحوالهم ومشاكلهم، فكم نفرط في صغارنا
وأولادنا! وكم نفرط في أوقاتهم وأعمارهم! فهم صفحات بيضاء تنقصهم الخبرة
والتجربة، وكم ينشغل عنهم آباؤهم وأمهاتهم خاصة في الإجازة!.
والعجيب أن الكل يتمنى تفوقهم وتميزهم! ونطالبهم بالصلاح والإنتاج! ولا
تكفي الأماني فقط، بصراحة الكثير منا -معاشرَ الآباءِ- منهمك في تجاراته
وسفراته، واستراحاته وجلساته، وغافل عن أبنائه وبناته، وعن تربيتهم
ومساعدتهم وإرشادهم لطريق التميز والتفوق.
فالأبناء أمانة في أعناقنا، وسنسأل عنهم إن لم نقم بواجبنا تجاههم، وسنعاقَب إن أهملنا رعايتهم وتأديبهم وتربيتهم، كما يقول الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا) [التحريم:6]، ويقول أيضًا: (يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ
وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاعْلَمُوا أَنَّمَا
أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ
عَظِيمٌ) [الأنفال:27-28].
وكثير من أبنائنا وبناتنا -بسبب قلة التجربة بالعراك الحياتي ودوامته، وضعف
أو غياب المحاضن التربوية- في غفلة عن الغد، واستغراق في الحاضر، لهوٌ
ومباحات، وتضييع للأوقات، وملل وفراغ، وتقطيع الليالي والأيام، بلا تنظيم
ولا محاسبة ولا إفادة! ثم نريد منهم بعد أن يتفوقوا؟! فمَن ينقذ شبابنا
وفتياتنا من هذا الذهول والتخبط والفوضى في حياتهم؟! من يوجههم ويرشدهم إلى
طريق التميز، ويخطط لهم كيفية قضاء فراغهم؟.
فإن الأبناء بحاجة ماسَّةٍ لخبرة وتجارب الآباء، فقليل من أوقاتكم
وتوجيهاتكم لأبنائكم، فلم لا نُربي فيهم أن من أكبر علامات المقت إضاعة
الوقت؟ لِم لا نغرس فيهم حب استثمار الأوقات فيما ينفعهم؟ لم لا نذكرهم
-باستمرار- أن الإجازة هي أسهل وأقصر طريق للتفوق والتميز وتنمية المهارات
الحياتية، وتطوير القدرات الفردية؟.
ولعل كثيرًا من الآباء يتساءل خاصة في مطلع كل إجازة عن البرامج والوسائل
المناسبة التي تساعد على تفوق الأبناء والبنات؟ وماذا وكيف أعمل حتى يحرزوا
هذا التميز؟ فأقول: لعل هذه الإرشادات العملية تكون عوناً لك:
أولاً: اجمع أبناءك وبناتك وذكرهم بأهمية الوقت، وضرورة استفادتهم من
الإجازة، وأن هذا لا يعني حرمانهم من الترفيه والأنس، بل ليجعلوا أوقاتًا
لهذا وأوقاتًا لذاك، من نفع وتطوير للنفس، وتنظيم للوقت، ومهم جداً أن
تشاركهم بالرأي والتوجيه والتخطيط فيما يحبون ويرغبون، دون أن تتولى أنت
ذلك أو تأمرهم به، بل أرشد ووجه وسهِّل لهم العقبات والصعوبات.
ثانياً: ذكرهم دائمًا بأن هناك فرقاً كبيراً جداً بين مجرد ملء الفراغ وشغل
الأوقات، وبين استغلال الأوقات في تنمية المواهب وتطوير القدرات، فشتان
بين هذا وذاك. والإجازة فرصة ثمينة لبناء الذات، وتطوير القدرات عبر
الدورات التدريبية المكثفة في أي فنّ ومهارة يحتاجها الولد.
ثالثاً: حذرهم -برسم خطة وبتنظيم ساعات اليوم- من السهر الطويل خاصة خارج
المنزل، وبيِّن لهم خطورته وحرمته، وأهمية نوم الليل وبركته، وأهمية صلاة
الفجر مع الجماعة وفضلها العظيم، وَضِّحْ لهم ذلك، وكرره عليهم، وشجعهم على
الحرص عليه؛ فإن سهر الليل بما لا ينفع ضياع للنهار والأعمار، ومن ثَم نوم
وكسل، وفتور وملل.
رابعاً: هناك برامج عامة وبرامج خاصة، أما الخاصة فأنت من يخطط لها مع
أبنائك، بحسب ظروفكم وأحوالكم؛ لكن، ما أجمل تنظيم الوقت وتعويد الأبناء
عليه! وتقسيم البرنامج اليومي بنومه وزياراته ومناسباته على الأوقات!
فبرامج في الصباح وأخرى في الظهر والعصر والمغرب والعشاء.
أما البرامج العامة فكثيرة جدًّا؛ فإن من فضل الله وإحسانه علينا في هذه
البلاد المباركة وجود مؤسسات وهيئات رسمية وخيرية، يرعاها رجال ونساء أفذاذ
أخيار، يحملون همَّ الأجيال وتربيتهم، ويبذلون قصارى الجهد للإصلاح والنفع
والتوجيه، هكذا نحسبهم ولا نزكي على الله أحدًا، لكن أعمالهم وجهودهم هي
التي تتكلم، فمراكز التحفيظ والنوادي الصيفية وميادين المعرفة والتدريب
والتأهيل تفتح أبوابها في كل صيف لتكون عوناً للآباء والأمهات لقضاء إجازة
نافعة ومفيدة، ليس مجرد ملء الفراغ، وقتل الأوقات، بل لتطوير النفس وتنمية
المهارات.
فأين أهل الهمم والعزائم؟ أين الآباء والأمهات من توجيه أبنائهم وتسجيلهم
في هذه المحاضن والمناشط، ومتابعتهم؟! فالحجة قائمة على الجميع، وأبواب
الخير مشرعة، وبكل الفنون والعلوم، والعاجز من أتبَع نفسه هواها، وتمنى على
الله الأماني، ومجرد الأماني دون عملٍ وجدٍّ فهي رؤوس أموال المفاليس، ومن
حيل ومداخل إبليس، فكم من شاب يقف عند التنظير والأماني؟!.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولعامة المسلمين من كل ذنب؛ إنه هو الغفور الرحيم.
تربية أبنائهم، وصقل مواهبهم، وكشف قدراتهم، وإبراز طاقاتهم؛ فالأسر
الواعية بدورها، والمضطلعة بمهامها هي من تُعِدُّ العُدة قبل حلول الإجازة
أو في بدايتها، وترتب أوراقها: فترسم البرامج، وَتُخَطِّطُ لاستثمار
الأوقات، وتجعل الإجازة فرصة ثرة للتميز والتفوق، ولتعليم المهارات وكشف
القدرات، وتفجير الطاقات، وتفتح الباب بمصراعيه لأنشطة لا منهجية قد تتعذر
إقامتها ..
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصلى الله وسلم
على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه
أمهات المؤمنين، وخلفائه المهديين الراشدين، ومن استن بسنتهم واقتدى بهديهم
إلى يوم الدين.
أما بعد:
عباد الله: هاهي الإجازة الصيفية قد أطلت برأسها، وحلت بيننا ضيفًا عزيزًا
بعد الانتظار الطويل، والجهود المضنية المتواصلة في التحصيل، وعناء العام
الدراسي الكامل، والذي يمشي على وتيرة واحدة مما يورث الإملال والرتابة،
وتأتي الإجازة الصيفية للقضاء على هذا الروتين الممل وكسره، وتجديد الحياة
بتجديد نوع النشاط، والخروج من شرنقة الدراسة النظامية إلى العالم الرحب
الفسيح.
ولذا لا يخفي أحد فرحته وأنسه بالإجازة، ولا يختلف اثنان منا على أهميتها
وفائدتها، ومناسبتها للفطرة الإنسانية؛ لأن الإنسان بطبعه يمل ويتوقف عن
الإنتاج إذا كانت حياته تسير على روتين معتاد ونمط معين، لا تجديد فيه ولا
ترويح،كما قال -صلى الله عليه وسلم-: "وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً".
ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. وقال علي -رضي الله عنه-: روّحوا القلوب ساعة بعد ساعة،
فإنّ القلب إذا أكره عمي. وقال أيضًا: إن هذه القلوب تمل كما تمل الأبدان،
فابتغوا لها طرائف الحكمة.
ومن هنا كانت الإجازة حاجة للبشرية، وضرورة جبلية وحياتية، وبابًا من أبواب
الرقي والتقدم نحو الأفضل، وهي ثقافة موروثة من قديم الزمان، وموجودة لدى
جميع أمم العالم منذ قديم الأيام.
عباد الله: إن المقصود الأول من الإجازة هو الترويح عن النفس، ولكن من
المجرَّب الملحوظ أن الإجازة قد تتحول هي الأخرى إلى روتين ممل، وعبء ثقيل
لا يطاق إن لم نُعمل فيها عقلنا، ونفكر في الطريقة المثلى لقضائها، مما
يحقق هدفها، إضافة إلى فوائد أخرى غير الترويح نجنيها إن خططنا لها.
ومن هنا كان التخطيط ضروريًّا لا بد منه في قضاء الإجازة؛ لأن أيام الدراسة
تغير نشاطاتك وتتنوع تلقائيًّا، وكثيرًا ما يكون التغيير إلزاميًّا، أما
الإجازة فلا، فالأمر باختيارك، ومتروك لرغبة الإنسان ومزاجه، وهنا مربط
الفرس كما يقال.
فبالله عليكم يا أولى الألباب! تصوروا حال أسرة تقضي إجازتها دون تخطيط أو
أهداف، هكذا تترك الأمور على علاتها، فالأبناء والبنات يسهرون الليل كله
متنقلين بين اللعب ببلاي ستيشن والمشاهدة للقنوات والفضائيات المختلفة،
وساعات طوال على مواقع التواصل والشبكة العنكبوتية ... إلى قُبيل الفجر،
وربما غلبهم النوم عن صلاة الجماعة، وإلى ما شاء الله من النهار، ومن ثم
الاستيقاظ والعودة إلى ما سبق من لعب ومشاهدة، وقيل وقال، وهكذا دواليك.
لكن أنا على يقين أن أسبوعًا واحدًا من العيش بهذا النمط يعني: إملالاً لا
يطاق، وسآمة قاتلة، وفراغًا مقيتًا، ثم لا تسل عما يصيب الأولاد والبيت
أجمع من ضيق الصدر والطفش والزهق، وهكذا تتحول الإجازة لمرض نفسي واجتماعي
عضال.
أيها الإخوة! عندما نقول لا بد من التخطيط المسبق ووضع الأهداف للإجازة فلا
يعني هذا تحويل الإجازة لأيام عمل وجد، وحرمان النفس من الراحة والترفيه،
بل المطلوب هو الحفاظ على رونق الإجازة وبهائها، والاستفادة القصوى منها
لترفيهٍ أفضلَ مَشوبٍ بكُلِّ حلال نافع ومفيد، فكم من ترفيه يتعلم الإنسان
معه ما لا يتعلمه مع غيره، فالتربية والتعليم بالترفيه هو منهج جديد يسلكه
العالَم المتقدم؛ فيثمر ثماراً يانعة للفرد والمجتمع.
ومن هنا كان لنا وقفات مع الإجازة التي هي مرحلة حرجة تمر بها أسرنا
عمومًا، والشباب من الجنسين خصوصًا، فهي مفترق طرق، ونقطة تحول في حياة
الكثير من الشباب، قوة أبدان، وصحة أجسام، ونضج غرائز، تجتمع هذه كلها مع
فراغ وقت طويل، ووفرة في السيولة المالية لدى الكثير، يقول -صلى الله عليه
وسلم-: "نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ" رواه البخاري.
وفي مثل هذه الحالات تشتد حاجة الشباب إلى آباء عقلاء، ومربين أمناء؛ لأن
فيها يجتمع ثالوث الفساد والإفساد الذي عبر عنها الشاعر بقوله:
إنَّ الشَّبَابَ والفَراغَ والجِدَهْ *** مَفْسَدَةٌ لِلْمَرْءِ أَيّ مَفْسَدَهْ
ولأهمية مرحلة الشباب ذكرها النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديثه محذرًا من
إضاعتها: "لَا تَزُولُ قَدَمُ ابْنِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ
عِنْدِ رَبِّهِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ خَمْسٍ"، ذكَر منها: "وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ" رواه الترمذي.
فإن لم تجد هذه المرحلة وتلك الطاقات الشبابية عناية من الآباء والمربين،
وتوجيهًا من الناصحين، فإنها ستكون عامل هدم، ومعول فساد في المجتمع، بحيث
لا يؤويهم إلا الأرصفة والممرات، والشوارع والجلسات، فيزعجون ويضايقون،
وربما تكون لهم لقاءات واستراحات كمدارس شيطانية تعلمهم كل أنواع الشهوات
والشبهات.
ويزداد الأمر علة، والطين بلة إذا اجتمعت تلك الطاقات الفارغة مع المثيرات
للغرائز، المهيجة لها عبر مواقع مشبوهة، وأفلام ماجنة، ودعايات وشبهات
مضللة؛ وتعظم البلية إذا صاحب ذلك جلساء سوء ومكر وفسق!.
فالأمر جد خطير معاشر الآباء والأمهات! فهل ندرك حجم مشكلة الفراغ هذه
الأيام؟! ومشكلة الجليس؟! هل سنحرص كل الحرص على توجيه الأبناء؟ بل هل يدرك
شبابنا بأنفسهم خطورة الأيام القادمة؟ وأهمية استثمارها، وبذل وسعهم في
بناء شخصياتهم وتكاملها؟ فهذه الأيام فرصة ثمينة لتنمية المهارات
والهوايات، فرصة لمزيد من الإبداع فيما يحبه الشاب ويتشوق إليه ليختار هو
بملء إرادته وحريته ما يسره و ينفعه، مع الترفيه والتسلية.
معاشر الشباب! إن التاريخ يشهد أن الذين برزوا في ساحات الفكر والإبداع،
وفي ميادين الابتكار والاختراع، جلُّهم تخرجوا من هذا النوع من المدارس، مع
أهمية المدارس النظامية، ومن هنا فالأسرة الواعية الناضجة تولي عناية خاصة
للإجازة الصيفية في تربية أبنائهم، وصقل مواهبهم، وكشف قدراتهم، وإبراز
طاقاتهم، فالأسر الواعية بدورها، والمضطلعة بمهامها هي من تُعِدُّ العُدة
قبل حلول الإجازة أو في بدايتها، وترتب أوراقها: فترسم البرامج،
وَتُخَطِّطُ لاستثمار الأوقات، وتجعل الإجازة فرصة ثرة للتميز والتفوق،
ولتعليم المهارات وكشف القدرات، وتفجير الطاقات، وتفتح الباب بمصراعيه
لأنشطة لا منهجية قد تتعذر إقامتها في الموسم الدراسي.
فأقول لكلَّ أبوين كريمين: ماذا أعددتما لبناء شخصية الأبناء وتميزها في
هذه الإجازة؟ وماذا أعددتما للقضاء على الفراغ القاتل في حياة الأولاد؟ وما
البرامج التي رسمتما لاستثمار هذه الإجازة؟ فإن الفراغ داءٌ عضال، وسمٌّ
قتّال، تأملوا فقط حال بعض أولادكم أيام الإجازة، سهر في الليل، ونوم في
النهار، وضياع للأوقات والأعمار، وربما جلساء سوء، ولصوص أوقات وأعراض.
وقد ثبت أن الإجازة كانت نقطة تحوُّلٍ في انحراف البعض من الشباب: أفكار
منحرفة، وسفريات مشبوهة، وجلساتٌ مضللة، ...؛ فهل يعي الآباء والأمهات هذا؟
وهل يتنبهون لخطورة الأمر؟ وهل يقفون وقفة صدق وصراحة مع أنفسهم؟ إننا
ننشغل كثيرًا عن أبنائنا وبناتنا، وقليل منا من يحرص على تخصيص أوقات
للجلوس معهم ومتابعتهم، ومعرفة أحوالهم ومشاكلهم، فكم نفرط في صغارنا
وأولادنا! وكم نفرط في أوقاتهم وأعمارهم! فهم صفحات بيضاء تنقصهم الخبرة
والتجربة، وكم ينشغل عنهم آباؤهم وأمهاتهم خاصة في الإجازة!.
والعجيب أن الكل يتمنى تفوقهم وتميزهم! ونطالبهم بالصلاح والإنتاج! ولا
تكفي الأماني فقط، بصراحة الكثير منا -معاشرَ الآباءِ- منهمك في تجاراته
وسفراته، واستراحاته وجلساته، وغافل عن أبنائه وبناته، وعن تربيتهم
ومساعدتهم وإرشادهم لطريق التميز والتفوق.
فالأبناء أمانة في أعناقنا، وسنسأل عنهم إن لم نقم بواجبنا تجاههم، وسنعاقَب إن أهملنا رعايتهم وتأديبهم وتربيتهم، كما يقول الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا) [التحريم:6]، ويقول أيضًا: (يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ
وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاعْلَمُوا أَنَّمَا
أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ
عَظِيمٌ) [الأنفال:27-28].
وكثير من أبنائنا وبناتنا -بسبب قلة التجربة بالعراك الحياتي ودوامته، وضعف
أو غياب المحاضن التربوية- في غفلة عن الغد، واستغراق في الحاضر، لهوٌ
ومباحات، وتضييع للأوقات، وملل وفراغ، وتقطيع الليالي والأيام، بلا تنظيم
ولا محاسبة ولا إفادة! ثم نريد منهم بعد أن يتفوقوا؟! فمَن ينقذ شبابنا
وفتياتنا من هذا الذهول والتخبط والفوضى في حياتهم؟! من يوجههم ويرشدهم إلى
طريق التميز، ويخطط لهم كيفية قضاء فراغهم؟.
فإن الأبناء بحاجة ماسَّةٍ لخبرة وتجارب الآباء، فقليل من أوقاتكم
وتوجيهاتكم لأبنائكم، فلم لا نُربي فيهم أن من أكبر علامات المقت إضاعة
الوقت؟ لِم لا نغرس فيهم حب استثمار الأوقات فيما ينفعهم؟ لم لا نذكرهم
-باستمرار- أن الإجازة هي أسهل وأقصر طريق للتفوق والتميز وتنمية المهارات
الحياتية، وتطوير القدرات الفردية؟.
ولعل كثيرًا من الآباء يتساءل خاصة في مطلع كل إجازة عن البرامج والوسائل
المناسبة التي تساعد على تفوق الأبناء والبنات؟ وماذا وكيف أعمل حتى يحرزوا
هذا التميز؟ فأقول: لعل هذه الإرشادات العملية تكون عوناً لك:
أولاً: اجمع أبناءك وبناتك وذكرهم بأهمية الوقت، وضرورة استفادتهم من
الإجازة، وأن هذا لا يعني حرمانهم من الترفيه والأنس، بل ليجعلوا أوقاتًا
لهذا وأوقاتًا لذاك، من نفع وتطوير للنفس، وتنظيم للوقت، ومهم جداً أن
تشاركهم بالرأي والتوجيه والتخطيط فيما يحبون ويرغبون، دون أن تتولى أنت
ذلك أو تأمرهم به، بل أرشد ووجه وسهِّل لهم العقبات والصعوبات.
ثانياً: ذكرهم دائمًا بأن هناك فرقاً كبيراً جداً بين مجرد ملء الفراغ وشغل
الأوقات، وبين استغلال الأوقات في تنمية المواهب وتطوير القدرات، فشتان
بين هذا وذاك. والإجازة فرصة ثمينة لبناء الذات، وتطوير القدرات عبر
الدورات التدريبية المكثفة في أي فنّ ومهارة يحتاجها الولد.
ثالثاً: حذرهم -برسم خطة وبتنظيم ساعات اليوم- من السهر الطويل خاصة خارج
المنزل، وبيِّن لهم خطورته وحرمته، وأهمية نوم الليل وبركته، وأهمية صلاة
الفجر مع الجماعة وفضلها العظيم، وَضِّحْ لهم ذلك، وكرره عليهم، وشجعهم على
الحرص عليه؛ فإن سهر الليل بما لا ينفع ضياع للنهار والأعمار، ومن ثَم نوم
وكسل، وفتور وملل.
رابعاً: هناك برامج عامة وبرامج خاصة، أما الخاصة فأنت من يخطط لها مع
أبنائك، بحسب ظروفكم وأحوالكم؛ لكن، ما أجمل تنظيم الوقت وتعويد الأبناء
عليه! وتقسيم البرنامج اليومي بنومه وزياراته ومناسباته على الأوقات!
فبرامج في الصباح وأخرى في الظهر والعصر والمغرب والعشاء.
أما البرامج العامة فكثيرة جدًّا؛ فإن من فضل الله وإحسانه علينا في هذه
البلاد المباركة وجود مؤسسات وهيئات رسمية وخيرية، يرعاها رجال ونساء أفذاذ
أخيار، يحملون همَّ الأجيال وتربيتهم، ويبذلون قصارى الجهد للإصلاح والنفع
والتوجيه، هكذا نحسبهم ولا نزكي على الله أحدًا، لكن أعمالهم وجهودهم هي
التي تتكلم، فمراكز التحفيظ والنوادي الصيفية وميادين المعرفة والتدريب
والتأهيل تفتح أبوابها في كل صيف لتكون عوناً للآباء والأمهات لقضاء إجازة
نافعة ومفيدة، ليس مجرد ملء الفراغ، وقتل الأوقات، بل لتطوير النفس وتنمية
المهارات.
فأين أهل الهمم والعزائم؟ أين الآباء والأمهات من توجيه أبنائهم وتسجيلهم
في هذه المحاضن والمناشط، ومتابعتهم؟! فالحجة قائمة على الجميع، وأبواب
الخير مشرعة، وبكل الفنون والعلوم، والعاجز من أتبَع نفسه هواها، وتمنى على
الله الأماني، ومجرد الأماني دون عملٍ وجدٍّ فهي رؤوس أموال المفاليس، ومن
حيل ومداخل إبليس، فكم من شاب يقف عند التنظير والأماني؟!.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولعامة المسلمين من كل ذنب؛ إنه هو الغفور الرحيم.
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى