رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
الشيخ/ إبراهيم بن صالح العجلان
آداب المعاصي
معاشِر المُسلمين:
قدرنا أن نذنِبَ ونُخطئ، ومشيئةُ اللَّه فينا أن نقصِّرَ ونسيء، كلُّ بني آدمَ خَطَّاء، لَم نكنْ يومًا ملائكةً لا يعْصونَ الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤْمَرون .
بل نحن بشرٌ من البشَر، من أبٍ أذنبَ وأخطأ، ولنفسِه ظلم، ومَن شابه أَبَهُ فما ظلم.
أنا وأنت يا عبد الله، الضعفُ مغروسٌ فينا، والشَّيطانُ والهوى يستهْوينا .
تضعفُ نفوسُنا ردحًا من العمر، وتعترينا الغفلةُ والغفلاتُ حينًا من الدهر .
أنا وأنت يا عبد الله أصحاب ذنوبٍ وسيّئات ومعاصٍ وخطيئات، ومَن ذا الَّذي يسلمُ من تلك الآفات؟!
مَنِ الَّذِي مَا سَاءَ قَطّْ = وَمَنْ لَهُ الحُسْنَى فَقَطْ
ثبت في الصَّحيحَين عن أبِي هُرَيْرة - رضِي الله عنْه - أنَّ النَّبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((والَّذي نفسي بيدِه، لَو لم تُذْنِبوا، لذهَبَ اللَّه بكُم، ولجاء بقومٍ يُذْنِبون فيستغفرون الله، فيغْفر لهم)).
فإذا علِمْنا - عباد الله - أنَّنا مُذْنِبون خطَّاؤون، فعليْنا أن نتعلَّم كيف نتعامل مع هذه الذّنوب، عليْنا أن نتعلَّم أدبًا لطيفًا، هو أدبُ المُذْنبين، أو قُل: هو أدبُ المعْصِية.
ولا يذهب - أخي الكريم - فهمُك بعيدًا، فتتوهَّم من هذا التَّهوينَ من شأن المعصية، أو تسويغَها والتَّبرير لها، وإنَّما المراد بيانُ الموقف الشَّرعي، والأدبِ الواجبِ تُجاه هذه المعصية.
يا أيها العبد الضَّعيف، لا تعصِ الله تعالى، فإذا عصَيتَ اللَّه فاستجْمِع معي هذه الآداب:
أوَّلاً: أخي العاصي - وكلّنا والله ذلك العاصي - بادر أُخيَّ بعد الخطيئة بالتَّوبة، وأصلح ما أفسدتْه جوارحُك بدوام الاستِغْفار، وهكذا، كلَّما قادك هواك لمعصية، وجرَّتك نفسك الأمَّارة إلى إساءة، فأعقِبْ ذلك بالاستِكانة والأوْبة، والإنابة والتَّوبة، فهذه المبادرة منك برهانٌ على حياة قلْبِك، وتحرُّك الإيمان بين جنبيْك؛ قال - سبحانه - عن عباده المتَّقين، والموْعودين بجنَّة عرْضها السَّموات والأرض: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 135].
ثمَّ أبْشِرْ أخي التائب من ذنبِه، فدونك فضائلَ جمَّةً : يفرح ربُّك بتوْبتك، ويكفِّرُ عنك خطيئتَك، بل ويبدِّلُ سيِّئاتِك حسنات.
يَا مَنْ عَدَا ثُمَّ اعْتَدَى ثُمَّ اقْتَرَفْ = ثُمَّ انْتَهَى ثُمَّ ارْعَوَى ثُمَّ اعْتَرَفْ
أَبْشِرْ بِقـَوْلِ اللَّهِ فِي آيـَاتِهِ = إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفْ
بيْد أنَّ التَّوبة أخي التَّائب ليستْ كلِمة تُقال دونما أن يكون لها أثرٌ من حال أو تصديق من فِعال التَّوبة الحقة: انكسار في القلب، وحسرة في الفؤاد، .
التوبة الحقة: دمعة في العَيْن ولوعة في الضمير .
التَّوبة الصادقة: ندم على ما فات، وعزمٌ على مجافاة الذَّنب فيما هو آت، وردٌّ لحقوق البريات؛ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً} [التحريم: 8].
ثانيًا: أخي المذنب - وكلّنا والله ذاك الرَّجل - لا تَسْتَصْغِرِ الذَّنب، ولا تُهوِّن من شأن المعصية؛ فلا تدري، فلعلَّ ما احتقرتَه يكون سببًا لشقائك في الآخرة، وقديمًا قال بلال بن سعد: لا تنظُرْ إلى صِغَر الخطيئة، وانظر إلى عظم مَن عصيت.
- دخلتِ النَّارَ امرأةٌ بسبب هرَّة حبستها.
- ورجلٌ مُجاهد، كُبَّ في النار على وجهه، من أجل شملة أخذَها.
- وربَّ كلمة يتكلَّم بها الرَّجُل ما يلقي لها بالاً، تهوي به في قَعْرِ سقرَ، نعوذ بالله من سقر.
وبقدرِ إيمان العبدِ وتقواه، وخوفه من ربِّه ومولاه، يهون الذنب في قلبِه أو يعظم، قال ابن مسعود - رضي الله عنْه -: "إنَّ المؤمن يرى ذنوبَه كأنَّه قاعدٌ تحت جبل، يَخاف أن يقعَ عليه، وإنَّ الفاجرَ يرى ذنوبَه كذُبابٍ مرَّ على أنفِه فقال به هكذا".
ولذا حذَّرنا النَّاصح لأمَّته - صلَّى الله عليه وسلَّم - من استحقارِ الذنوب وتهوينها، فقال: ((إيَّاكم ومحقّرات الذنوب؛ فإنَّما مثل محقّراتِ الذنوب كمثل قوم نزلوا بطن وادٍ فجاء ذا بعود، وجاء ذا بعود، حتَّى جمعوا ما أنضجوا به خُبزهم، وإنَّ محقّراتِ الذنوب، متى يؤخذ بها صاحبها تُهْلِكْهُ))؛ رواه الإمام أحمد، وحسَّنه الحافظ ابن حجر.
فاستعْظِم - أخي المذنب - ذنبَك، واستشعر شناعة خطيئتك، واجعل هذا الذَّنبَ أمامَ عينيْك، واجعل حسناتِك خلْفَ ظهرك، لتبقى بعد ذلك سبَّاقًا للخيرات، ومبادرًا للطَّاعات.
خَلِّ الذُّنُوبَ صَغِيرَهَا = وَكَبِيرَهَا ذَاكَ التُّقَى
وَاصْنَعْ كَمَاشٍ فَوْقَ أَرْ = ضِ الشَّوْكِ يَحْذَرُ مَا يَرَى
لا تَحْقِرَنَّ صَغِيرَةً = إِنَّ الجِبَالَ مِنَ الحَصَى
ثالثًا: أخي المقصّر - وكلنا وربي مقصِّر - إيَّاك ثمَّ إيَّاك من المجاهرة بالمعاصي، فما ظلمَ عبدٌ نفسه، بمثل استعلانه واستعلائه بالإثم والآثام، وقد دلَّتْ نصوص الوحيين على أنَّ المعاصي الخفيَّة أخفُّ جرمًا وإثمًا من المعاصي المستعلنة؛ ففي محكم التَّنزيل يقول الله سبحانه: {لاَ يُحِبُّ اللَّهُ الجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ القَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ} [النساء: 148]، ويقول المصطفى - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((كلّ أمَّتي معافًى إلاَّ المجاهرين، وإنَّ من المجاهَرة أن يَعْمَل الرَّجُل باللَّيل عملاً، ثمَّ يُصْبِح وقد سَتَره الله، فيقول: يا فلانُ عمِلْتُ البارحة كذا وكذا، وقد باتَ يستُره ربُّه ويصبح يكشِف سِتْرَ الله عنه))؛ أخرجه البخاري في صحيحه.
بل ربَّما كان تستُّر العبدُ بمعصيتِه سببًا لعفو الله ومغفرته، سأل رجُل ابنَ عمر - رضي الله عنهما -: كيف سمعت رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول في النَّجوى؟ فقال: سمعته يقول: ((إنَّ الله يدني المؤمن، فيضع عليه كَنَفَه ويَسْتُرُه، فيقول: أتعرف ذنب كذا، أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم أي ربِّ، حتَّى إذا قرَّره بذنوبه، ورأى في نفسه أنَّه هلك، قال الله له: سترتُها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم))؛ متَّفق عليه.
تذكَّر أخي المذنب، أنَّ جهارَك بالمعاصي نوعٌ من المنكر تُعاقَب الأمَّةُ عليه إن لم تغيِّره أو تنكره، فلا تكُنْ سببًا لاستِنْزال العقوبات على أمَّتك من حيث لا تشعر.
رابعًا: يا مَن بُلي بالذنب - وكلّنا ذاك المبتَلى – احذر - رعاك الله - أن يكونَ ذنبُك من السيئات المضاعفَة، والخطيئات المتعدِّية، تذكَّر أخي المبارك أنَّ السيّئة تعظم في حالات :
- فتعظم إذا كانت في مكانٍ شريف، كحرم الله؛ {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25].
- وتعظم إذا كانت في زمن فاضل؛ قال تعالى عن الأشهُر الحرم: {فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة: 36].
- وتعظم السيّئة أيضًا إذا صدرت ممَّن هو قدوة للنَّاس، ومحلٌّ للتأسِّي به؛ {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا العَذَابُ ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب: 30].
- وتعظم السيِّئة أيضًا: إذا ضعف داعيها: ((ثلاثةٌ لا يكلِّمهم الله يوم القيامة، ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: شيخٌ زانٍ، وملِك كذَّاب، وعائل مستكبر))؛ رواه مسلم في صحيحه.
إغواء المسلمين وإضلالهم، وزرع الشُّبه في صدورهم، أو الشهوات في نفوسهم - خطيئات متعدِّية، وسيئات مضاعفة، توعَّد الله فاعليها، بقوله: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل: 25].
ومن المعاصي المتعدية:
أن يسنَّ العاصي في الإسلام سنَّة سيّئة، فهذا المسكين له وِزْرُه وذنبه، ووِزْر مَن عمل بعده من غير أن ينقُص من أوزارِهم شيئًا، كما صحَّ بهذا الخبر عن سيّد البشر - صلَّى الله عليه وسلَّم.
خامسًا: أخي الخطاء – وكلُّنا وايم الله خطَّاء - استدفع هذه الخطايا بفعل الحسنات، والإكثار منها، لا يقعدنَّك الشيطان عن الطاعة، بسبب أنك مُذنب .
تصور معي - يا عبد الله - هذا الموقف، ثم انظر فضْل الله بعد ذلك على عباده، رجل يأتي إلى مجلس النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيقول: يا رسول الله، إني عالجت امرأةً في أقصى المدينة، وإنّي أصبتُ منها دون أن أمسَّها، فأنا هذا، فاقض فيَّ ما شئتَ، فلم يجبه النَّبيّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - بشيء، حتَّى إذا طال مجلسُه، مضى إلى حاله، فدعاه النَّبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - حتَّى إذا أوقف بين يديه - صلَّى الله عليه وسلَّم - تلا عليه قول الحقِّ - تبارك وتعالى -: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114].
فقال رجلٌ من القوم: يا نبيَّ الله، هذه له خاصَّة ؟ فقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((بل للناس كافَّة)).
عباد الله، وكلَّما كانت الحسنة من جنس السيّئة كان ذلك أبلغ في التَّكفير والإذهاب، فإنْ كانت السيّئة من خطايا اللّسان، فليكثر العبد من طاعة الله بلسانه، وإن كانتْ خطيئته سماعَ حرام، فليشنِّف سمعه بالذكر والقرآن.
قال شيخ الإسلام:
وينبغي أن تكون الحسنات من جنس السيئات؛ فإنَّه أبلغ في المحو.
سادسًا: يا مَن آلمه ذنبُه، وأقلقتْه خطيئته، لا تقنط من رحمة الله، ولا تيئس من رَوْح الله؛ {إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ القَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف: 87]،
اسمع يا مَن استكثر ذنوبَه، واستثقلَ معاصيه، اسمع لنداء الملك الكريم الغنيّ يناديك فيقول: ((يا ابنَ آدم، لو بلغت ذنوبُك عنانَ السَّماء، ثمَّ استغفرْتَني غفرت لك ولا أبالي)).
ذنبٌ تكاد السموات يتفطَّرن منه وتنشقّ الأرض وتخرّ الجبال هدًّا، حينما زعم النَّصارى أنَّ عيسى ابن الله، ومع ذلك يناديهم ربهم، ويحضهم على التوبة، ويعدهم بالمغفرة فيقول: {أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 74].
شيخ كبير هرم، قد احدودبَ ظهرُه، وابيضَّ شعره، وسقط حاجباه على عينيه، يجرّ خطواته نحو المصطفى - صلَّى الله عليه وسلَّم - قد علاه الأسى، وامتلأ قلبه من الرَّجاء، فيقف على رأس النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيقول: يا رسول الله، شيخ غدرَ وفَجر، ولم يدع حاجةً ولا داجة، إلاَّ اقتطفها بيمينه، لو قُسمت ذنوبُه بين أهل الأرض لأوبقتهم، فهل له من توبة؟ فقال النَّبيّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أسلمتَ؟)) قال: أمَّا أنا فأشهد أن لا إله إلاَّ الله وأنَّ محمَّدًا رسول الله،، فقال له النَّبيّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((فإنَّ الله غافر لك ما كنت كذلك، ومبدِّل سيّئاتِك حسنات))، فقال: يا رسول الله، وغدراتي وفجراتي، فقال: ((وغدراتك وفجراتك))، فأدبر الرَّجُل وهو يُكبِّر ويهلِّل من شدة الفرَح حتَّى توارى عن أعين النَّاس.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53]، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني ....
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى.
أمَّا بعد:
فيا إخوة الإيمان، وكم يتمنَّى كلٌّ منَّا أن يطلِّق هذه المعاصي، وأن يملأ يومه وعمره بحياة طاهرة نقيَّة، لا معاصيَ تكدِّرها، ولا خطيئات تنغصها، وثمَّة أسباب - عباد الله - تُعين - بعد توفيق الله تعالى - على ترْك المعاصي وهجرانها، من أهمّها:
- أن يتذكَّر العبدُ شؤْمَ المعصية وقبح الذَّنب، فما من شرٍّ يَحصل في نفس العبد وفي دنيا النَّاس، إلاَّ وسبَبه الذّنوب والمعاصي؛ {ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41].
وما زالت نعمةٌ عن عبد إلاَّ بسبب ذنب اقترفه، وفي الحديث: ((إنَّ العبد ليحْرَم الرِّزْق بالذَّنب يُصيبه)).
إِذَا كُنْتَ فِي نِعْمَةٍ فَارْعَهَا = فَإِنَّ المَعَاصِي تُزِيلُ النِّعَمْ
وَصُنْهَا بِطَاعَةِ رَبِّ العِبَادِ = فَرَبُّ العِبَادِ سَرِيعُ النِّقَمْ
ـ ومما يُعين على ترك الخطايا: استشعار مراقبة الله، واطلاعه على الحال.
فيا مَن زيَّنت له نفسه عصيانَ الله، ويا مَن أزَّه هواه نحو الحرام أزًّا، قِفْ وسَل نفسك: أين الله؟ هل يراني؟ هل يطَّلع على حالي؟
تذكَّر أنَّ الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السَّماء
تذكَّر أنَّ الله يعلم السّرَّ وأخفى
تذكَّر أنَّ من أسرَّ القول ومَن جهر سواء في علم الله تعالى.
املأ قلبك - أخي المبارك - من معاني المراقبة لله وتعظيمه، فهو - بإذن الله - صمامُ أمان، يَقيك من أشواك المعاصي وأوْحال السيّئات.
ـ وممَّا يُعين على هجران المعاصي: محاسبة النَّفس على كلّ تقصير، ولوْمها في كلّ حقير، فاجلس - أخي - مع نفسك وحاسبها، واخْلُ بها وعاتبها، تذكَّر فيها شريط خطاياك، واستذْكِر فيها حقوقًا ضيَّعتَها، وحدودًا جاوزْتَها، ورضي الله عن الملهم الفاروق حين قال: "حاسبوا أنفُسَكم قبل أن تُحاسبوا، وزِنوها قبل أن تُوزنوا".
يا مَن تكاثرتْ عليه خطاياه، جفِّفْ منابع هذه الخطايا وخواطرَها بتذكُّر الآخرة، أفسِدْ لذائذ المعاصي بذِكْر الموت وشدَّته، والقبر وظُلمته، والصِّراط وزلَّته؛ فما عولجت قلوبُنا السَّادرة اللاَّهية بمثل تذكّر قوارع الآخرة.
تَفْنَى اللَّذَاذَةُ مِمَّنْ نَالَ صَفْوَتَهَا = مِنَ الحَرَامِ وَيَبْقَى الإِثْمُ وَالعَارُ
تَبْقَى عَوَاقِبَ سُوءٍ فِي مَغَبَّتِهَا = لا خَيْرَ فِي لَذَّةٍ مِنْ بَعْدِهَا النَّارِ
ـ وممَّا يُعين على ترْك المعاصي: مفارقة مواطِنِها ومجافاة دواعيها؛ فهذه المعاصي ليستْ وليدة المصادفة، بل لها مقدّمات ومثيرات.
فإن كنتَ - يا عبد الله - جادًّا وصادقًا في ترك الخطايا، فأغلق دونَها الأبواب، وسدِّد المنافذ الموصلة إليها.
ـ عباد الله: وما استُدْفِعَت المعاصي بمثل المداومة على الطَّاعات، ومع التَّخلية تكون التَّحلية.
قال الشافعي: صحبتُ الصوفيَّة، فلم أستفد منهم إلاَّ كلِمتين: الوقت سيفٌ فإن قطعتَه وإلا قطعَك، ونفسك إن لَم تشغلْها بالحقِّ شغلتْك بالباطل.
ثمَّ اعلم - عبد الله - أنَّ للنَّفس إقبالاً وإدبارًا، فإن رأيتَ من نفسك ذلك الإقبال، فاستكْثِر من الطَّاعات، ونوِّع في القُرب والخيرات، وإن رأيتَ من نفسك إدْبارًا، فاقصرها على الواجبات: إِذَا هَبَّتْ رِيَاحُكَ فَاغْتَنِمْهَا = فَإِنَّ لِكُلِّ خَافِقَةٍ سُكُونَا
ـ دعاء المولى - عزَّ وجلَّ: من أعظم ما يستعين به العبد على ترْك المعاصي، وقد كان من مأثور دعاء المصطفى - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((اللَّهُمَّ جنِّبْني منكرات الأخلاق والأهواء والأدواء)).
ـ عباد الله: وجامِع هجران الذنوب، وأُسُّها وأساسها: الإرادة، ثمَّ الإرادة.
أن تحمِل بين جنبيك إرادة قويَّة، ملؤُها الصدق والإخلاص على مُجاهدة النَّفس والهوى ؛ طلبًا لرِضْوان الله وجنَّة عرضُها السَّموات والأرض، نسأل الله تعالى بمنِّه وكرمه أن يُجنِّبَنا السوء والفحشاء، وأن يهْدِينا لطاعته ومرضاته.
عباد الله، صلوا بعد ذلك على نبي الهدى والرحمة.
آداب المعاصي
معاشِر المُسلمين:
قدرنا أن نذنِبَ ونُخطئ، ومشيئةُ اللَّه فينا أن نقصِّرَ ونسيء، كلُّ بني آدمَ خَطَّاء، لَم نكنْ يومًا ملائكةً لا يعْصونَ الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤْمَرون .
بل نحن بشرٌ من البشَر، من أبٍ أذنبَ وأخطأ، ولنفسِه ظلم، ومَن شابه أَبَهُ فما ظلم.
أنا وأنت يا عبد الله، الضعفُ مغروسٌ فينا، والشَّيطانُ والهوى يستهْوينا .
تضعفُ نفوسُنا ردحًا من العمر، وتعترينا الغفلةُ والغفلاتُ حينًا من الدهر .
أنا وأنت يا عبد الله أصحاب ذنوبٍ وسيّئات ومعاصٍ وخطيئات، ومَن ذا الَّذي يسلمُ من تلك الآفات؟!
مَنِ الَّذِي مَا سَاءَ قَطّْ = وَمَنْ لَهُ الحُسْنَى فَقَطْ
ثبت في الصَّحيحَين عن أبِي هُرَيْرة - رضِي الله عنْه - أنَّ النَّبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((والَّذي نفسي بيدِه، لَو لم تُذْنِبوا، لذهَبَ اللَّه بكُم، ولجاء بقومٍ يُذْنِبون فيستغفرون الله، فيغْفر لهم)).
فإذا علِمْنا - عباد الله - أنَّنا مُذْنِبون خطَّاؤون، فعليْنا أن نتعلَّم كيف نتعامل مع هذه الذّنوب، عليْنا أن نتعلَّم أدبًا لطيفًا، هو أدبُ المُذْنبين، أو قُل: هو أدبُ المعْصِية.
ولا يذهب - أخي الكريم - فهمُك بعيدًا، فتتوهَّم من هذا التَّهوينَ من شأن المعصية، أو تسويغَها والتَّبرير لها، وإنَّما المراد بيانُ الموقف الشَّرعي، والأدبِ الواجبِ تُجاه هذه المعصية.
يا أيها العبد الضَّعيف، لا تعصِ الله تعالى، فإذا عصَيتَ اللَّه فاستجْمِع معي هذه الآداب:
أوَّلاً: أخي العاصي - وكلّنا والله ذلك العاصي - بادر أُخيَّ بعد الخطيئة بالتَّوبة، وأصلح ما أفسدتْه جوارحُك بدوام الاستِغْفار، وهكذا، كلَّما قادك هواك لمعصية، وجرَّتك نفسك الأمَّارة إلى إساءة، فأعقِبْ ذلك بالاستِكانة والأوْبة، والإنابة والتَّوبة، فهذه المبادرة منك برهانٌ على حياة قلْبِك، وتحرُّك الإيمان بين جنبيْك؛ قال - سبحانه - عن عباده المتَّقين، والموْعودين بجنَّة عرْضها السَّموات والأرض: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 135].
ثمَّ أبْشِرْ أخي التائب من ذنبِه، فدونك فضائلَ جمَّةً : يفرح ربُّك بتوْبتك، ويكفِّرُ عنك خطيئتَك، بل ويبدِّلُ سيِّئاتِك حسنات.
يَا مَنْ عَدَا ثُمَّ اعْتَدَى ثُمَّ اقْتَرَفْ = ثُمَّ انْتَهَى ثُمَّ ارْعَوَى ثُمَّ اعْتَرَفْ
أَبْشِرْ بِقـَوْلِ اللَّهِ فِي آيـَاتِهِ = إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفْ
بيْد أنَّ التَّوبة أخي التَّائب ليستْ كلِمة تُقال دونما أن يكون لها أثرٌ من حال أو تصديق من فِعال التَّوبة الحقة: انكسار في القلب، وحسرة في الفؤاد، .
التوبة الحقة: دمعة في العَيْن ولوعة في الضمير .
التَّوبة الصادقة: ندم على ما فات، وعزمٌ على مجافاة الذَّنب فيما هو آت، وردٌّ لحقوق البريات؛ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً} [التحريم: 8].
ثانيًا: أخي المذنب - وكلّنا والله ذاك الرَّجل - لا تَسْتَصْغِرِ الذَّنب، ولا تُهوِّن من شأن المعصية؛ فلا تدري، فلعلَّ ما احتقرتَه يكون سببًا لشقائك في الآخرة، وقديمًا قال بلال بن سعد: لا تنظُرْ إلى صِغَر الخطيئة، وانظر إلى عظم مَن عصيت.
- دخلتِ النَّارَ امرأةٌ بسبب هرَّة حبستها.
- ورجلٌ مُجاهد، كُبَّ في النار على وجهه، من أجل شملة أخذَها.
- وربَّ كلمة يتكلَّم بها الرَّجُل ما يلقي لها بالاً، تهوي به في قَعْرِ سقرَ، نعوذ بالله من سقر.
وبقدرِ إيمان العبدِ وتقواه، وخوفه من ربِّه ومولاه، يهون الذنب في قلبِه أو يعظم، قال ابن مسعود - رضي الله عنْه -: "إنَّ المؤمن يرى ذنوبَه كأنَّه قاعدٌ تحت جبل، يَخاف أن يقعَ عليه، وإنَّ الفاجرَ يرى ذنوبَه كذُبابٍ مرَّ على أنفِه فقال به هكذا".
ولذا حذَّرنا النَّاصح لأمَّته - صلَّى الله عليه وسلَّم - من استحقارِ الذنوب وتهوينها، فقال: ((إيَّاكم ومحقّرات الذنوب؛ فإنَّما مثل محقّراتِ الذنوب كمثل قوم نزلوا بطن وادٍ فجاء ذا بعود، وجاء ذا بعود، حتَّى جمعوا ما أنضجوا به خُبزهم، وإنَّ محقّراتِ الذنوب، متى يؤخذ بها صاحبها تُهْلِكْهُ))؛ رواه الإمام أحمد، وحسَّنه الحافظ ابن حجر.
فاستعْظِم - أخي المذنب - ذنبَك، واستشعر شناعة خطيئتك، واجعل هذا الذَّنبَ أمامَ عينيْك، واجعل حسناتِك خلْفَ ظهرك، لتبقى بعد ذلك سبَّاقًا للخيرات، ومبادرًا للطَّاعات.
خَلِّ الذُّنُوبَ صَغِيرَهَا = وَكَبِيرَهَا ذَاكَ التُّقَى
وَاصْنَعْ كَمَاشٍ فَوْقَ أَرْ = ضِ الشَّوْكِ يَحْذَرُ مَا يَرَى
لا تَحْقِرَنَّ صَغِيرَةً = إِنَّ الجِبَالَ مِنَ الحَصَى
ثالثًا: أخي المقصّر - وكلنا وربي مقصِّر - إيَّاك ثمَّ إيَّاك من المجاهرة بالمعاصي، فما ظلمَ عبدٌ نفسه، بمثل استعلانه واستعلائه بالإثم والآثام، وقد دلَّتْ نصوص الوحيين على أنَّ المعاصي الخفيَّة أخفُّ جرمًا وإثمًا من المعاصي المستعلنة؛ ففي محكم التَّنزيل يقول الله سبحانه: {لاَ يُحِبُّ اللَّهُ الجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ القَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ} [النساء: 148]، ويقول المصطفى - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((كلّ أمَّتي معافًى إلاَّ المجاهرين، وإنَّ من المجاهَرة أن يَعْمَل الرَّجُل باللَّيل عملاً، ثمَّ يُصْبِح وقد سَتَره الله، فيقول: يا فلانُ عمِلْتُ البارحة كذا وكذا، وقد باتَ يستُره ربُّه ويصبح يكشِف سِتْرَ الله عنه))؛ أخرجه البخاري في صحيحه.
بل ربَّما كان تستُّر العبدُ بمعصيتِه سببًا لعفو الله ومغفرته، سأل رجُل ابنَ عمر - رضي الله عنهما -: كيف سمعت رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول في النَّجوى؟ فقال: سمعته يقول: ((إنَّ الله يدني المؤمن، فيضع عليه كَنَفَه ويَسْتُرُه، فيقول: أتعرف ذنب كذا، أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم أي ربِّ، حتَّى إذا قرَّره بذنوبه، ورأى في نفسه أنَّه هلك، قال الله له: سترتُها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم))؛ متَّفق عليه.
تذكَّر أخي المذنب، أنَّ جهارَك بالمعاصي نوعٌ من المنكر تُعاقَب الأمَّةُ عليه إن لم تغيِّره أو تنكره، فلا تكُنْ سببًا لاستِنْزال العقوبات على أمَّتك من حيث لا تشعر.
رابعًا: يا مَن بُلي بالذنب - وكلّنا ذاك المبتَلى – احذر - رعاك الله - أن يكونَ ذنبُك من السيئات المضاعفَة، والخطيئات المتعدِّية، تذكَّر أخي المبارك أنَّ السيّئة تعظم في حالات :
- فتعظم إذا كانت في مكانٍ شريف، كحرم الله؛ {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25].
- وتعظم إذا كانت في زمن فاضل؛ قال تعالى عن الأشهُر الحرم: {فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة: 36].
- وتعظم السيّئة أيضًا إذا صدرت ممَّن هو قدوة للنَّاس، ومحلٌّ للتأسِّي به؛ {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا العَذَابُ ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب: 30].
- وتعظم السيِّئة أيضًا: إذا ضعف داعيها: ((ثلاثةٌ لا يكلِّمهم الله يوم القيامة، ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: شيخٌ زانٍ، وملِك كذَّاب، وعائل مستكبر))؛ رواه مسلم في صحيحه.
إغواء المسلمين وإضلالهم، وزرع الشُّبه في صدورهم، أو الشهوات في نفوسهم - خطيئات متعدِّية، وسيئات مضاعفة، توعَّد الله فاعليها، بقوله: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل: 25].
ومن المعاصي المتعدية:
أن يسنَّ العاصي في الإسلام سنَّة سيّئة، فهذا المسكين له وِزْرُه وذنبه، ووِزْر مَن عمل بعده من غير أن ينقُص من أوزارِهم شيئًا، كما صحَّ بهذا الخبر عن سيّد البشر - صلَّى الله عليه وسلَّم.
خامسًا: أخي الخطاء – وكلُّنا وايم الله خطَّاء - استدفع هذه الخطايا بفعل الحسنات، والإكثار منها، لا يقعدنَّك الشيطان عن الطاعة، بسبب أنك مُذنب .
تصور معي - يا عبد الله - هذا الموقف، ثم انظر فضْل الله بعد ذلك على عباده، رجل يأتي إلى مجلس النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيقول: يا رسول الله، إني عالجت امرأةً في أقصى المدينة، وإنّي أصبتُ منها دون أن أمسَّها، فأنا هذا، فاقض فيَّ ما شئتَ، فلم يجبه النَّبيّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - بشيء، حتَّى إذا طال مجلسُه، مضى إلى حاله، فدعاه النَّبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - حتَّى إذا أوقف بين يديه - صلَّى الله عليه وسلَّم - تلا عليه قول الحقِّ - تبارك وتعالى -: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114].
فقال رجلٌ من القوم: يا نبيَّ الله، هذه له خاصَّة ؟ فقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((بل للناس كافَّة)).
عباد الله، وكلَّما كانت الحسنة من جنس السيّئة كان ذلك أبلغ في التَّكفير والإذهاب، فإنْ كانت السيّئة من خطايا اللّسان، فليكثر العبد من طاعة الله بلسانه، وإن كانتْ خطيئته سماعَ حرام، فليشنِّف سمعه بالذكر والقرآن.
قال شيخ الإسلام:
وينبغي أن تكون الحسنات من جنس السيئات؛ فإنَّه أبلغ في المحو.
سادسًا: يا مَن آلمه ذنبُه، وأقلقتْه خطيئته، لا تقنط من رحمة الله، ولا تيئس من رَوْح الله؛ {إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ القَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف: 87]،
اسمع يا مَن استكثر ذنوبَه، واستثقلَ معاصيه، اسمع لنداء الملك الكريم الغنيّ يناديك فيقول: ((يا ابنَ آدم، لو بلغت ذنوبُك عنانَ السَّماء، ثمَّ استغفرْتَني غفرت لك ولا أبالي)).
ذنبٌ تكاد السموات يتفطَّرن منه وتنشقّ الأرض وتخرّ الجبال هدًّا، حينما زعم النَّصارى أنَّ عيسى ابن الله، ومع ذلك يناديهم ربهم، ويحضهم على التوبة، ويعدهم بالمغفرة فيقول: {أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 74].
شيخ كبير هرم، قد احدودبَ ظهرُه، وابيضَّ شعره، وسقط حاجباه على عينيه، يجرّ خطواته نحو المصطفى - صلَّى الله عليه وسلَّم - قد علاه الأسى، وامتلأ قلبه من الرَّجاء، فيقف على رأس النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيقول: يا رسول الله، شيخ غدرَ وفَجر، ولم يدع حاجةً ولا داجة، إلاَّ اقتطفها بيمينه، لو قُسمت ذنوبُه بين أهل الأرض لأوبقتهم، فهل له من توبة؟ فقال النَّبيّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أسلمتَ؟)) قال: أمَّا أنا فأشهد أن لا إله إلاَّ الله وأنَّ محمَّدًا رسول الله،، فقال له النَّبيّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((فإنَّ الله غافر لك ما كنت كذلك، ومبدِّل سيّئاتِك حسنات))، فقال: يا رسول الله، وغدراتي وفجراتي، فقال: ((وغدراتك وفجراتك))، فأدبر الرَّجُل وهو يُكبِّر ويهلِّل من شدة الفرَح حتَّى توارى عن أعين النَّاس.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53]، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني ....
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى.
أمَّا بعد:
فيا إخوة الإيمان، وكم يتمنَّى كلٌّ منَّا أن يطلِّق هذه المعاصي، وأن يملأ يومه وعمره بحياة طاهرة نقيَّة، لا معاصيَ تكدِّرها، ولا خطيئات تنغصها، وثمَّة أسباب - عباد الله - تُعين - بعد توفيق الله تعالى - على ترْك المعاصي وهجرانها، من أهمّها:
- أن يتذكَّر العبدُ شؤْمَ المعصية وقبح الذَّنب، فما من شرٍّ يَحصل في نفس العبد وفي دنيا النَّاس، إلاَّ وسبَبه الذّنوب والمعاصي؛ {ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41].
وما زالت نعمةٌ عن عبد إلاَّ بسبب ذنب اقترفه، وفي الحديث: ((إنَّ العبد ليحْرَم الرِّزْق بالذَّنب يُصيبه)).
إِذَا كُنْتَ فِي نِعْمَةٍ فَارْعَهَا = فَإِنَّ المَعَاصِي تُزِيلُ النِّعَمْ
وَصُنْهَا بِطَاعَةِ رَبِّ العِبَادِ = فَرَبُّ العِبَادِ سَرِيعُ النِّقَمْ
ـ ومما يُعين على ترك الخطايا: استشعار مراقبة الله، واطلاعه على الحال.
فيا مَن زيَّنت له نفسه عصيانَ الله، ويا مَن أزَّه هواه نحو الحرام أزًّا، قِفْ وسَل نفسك: أين الله؟ هل يراني؟ هل يطَّلع على حالي؟
تذكَّر أنَّ الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السَّماء
تذكَّر أنَّ الله يعلم السّرَّ وأخفى
تذكَّر أنَّ من أسرَّ القول ومَن جهر سواء في علم الله تعالى.
املأ قلبك - أخي المبارك - من معاني المراقبة لله وتعظيمه، فهو - بإذن الله - صمامُ أمان، يَقيك من أشواك المعاصي وأوْحال السيّئات.
ـ وممَّا يُعين على هجران المعاصي: محاسبة النَّفس على كلّ تقصير، ولوْمها في كلّ حقير، فاجلس - أخي - مع نفسك وحاسبها، واخْلُ بها وعاتبها، تذكَّر فيها شريط خطاياك، واستذْكِر فيها حقوقًا ضيَّعتَها، وحدودًا جاوزْتَها، ورضي الله عن الملهم الفاروق حين قال: "حاسبوا أنفُسَكم قبل أن تُحاسبوا، وزِنوها قبل أن تُوزنوا".
يا مَن تكاثرتْ عليه خطاياه، جفِّفْ منابع هذه الخطايا وخواطرَها بتذكُّر الآخرة، أفسِدْ لذائذ المعاصي بذِكْر الموت وشدَّته، والقبر وظُلمته، والصِّراط وزلَّته؛ فما عولجت قلوبُنا السَّادرة اللاَّهية بمثل تذكّر قوارع الآخرة.
تَفْنَى اللَّذَاذَةُ مِمَّنْ نَالَ صَفْوَتَهَا = مِنَ الحَرَامِ وَيَبْقَى الإِثْمُ وَالعَارُ
تَبْقَى عَوَاقِبَ سُوءٍ فِي مَغَبَّتِهَا = لا خَيْرَ فِي لَذَّةٍ مِنْ بَعْدِهَا النَّارِ
ـ وممَّا يُعين على ترْك المعاصي: مفارقة مواطِنِها ومجافاة دواعيها؛ فهذه المعاصي ليستْ وليدة المصادفة، بل لها مقدّمات ومثيرات.
فإن كنتَ - يا عبد الله - جادًّا وصادقًا في ترك الخطايا، فأغلق دونَها الأبواب، وسدِّد المنافذ الموصلة إليها.
ـ عباد الله: وما استُدْفِعَت المعاصي بمثل المداومة على الطَّاعات، ومع التَّخلية تكون التَّحلية.
قال الشافعي: صحبتُ الصوفيَّة، فلم أستفد منهم إلاَّ كلِمتين: الوقت سيفٌ فإن قطعتَه وإلا قطعَك، ونفسك إن لَم تشغلْها بالحقِّ شغلتْك بالباطل.
ثمَّ اعلم - عبد الله - أنَّ للنَّفس إقبالاً وإدبارًا، فإن رأيتَ من نفسك ذلك الإقبال، فاستكْثِر من الطَّاعات، ونوِّع في القُرب والخيرات، وإن رأيتَ من نفسك إدْبارًا، فاقصرها على الواجبات: إِذَا هَبَّتْ رِيَاحُكَ فَاغْتَنِمْهَا = فَإِنَّ لِكُلِّ خَافِقَةٍ سُكُونَا
ـ دعاء المولى - عزَّ وجلَّ: من أعظم ما يستعين به العبد على ترْك المعاصي، وقد كان من مأثور دعاء المصطفى - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((اللَّهُمَّ جنِّبْني منكرات الأخلاق والأهواء والأدواء)).
ـ عباد الله: وجامِع هجران الذنوب، وأُسُّها وأساسها: الإرادة، ثمَّ الإرادة.
أن تحمِل بين جنبيك إرادة قويَّة، ملؤُها الصدق والإخلاص على مُجاهدة النَّفس والهوى ؛ طلبًا لرِضْوان الله وجنَّة عرضُها السَّموات والأرض، نسأل الله تعالى بمنِّه وكرمه أن يُجنِّبَنا السوء والفحشاء، وأن يهْدِينا لطاعته ومرضاته.
عباد الله، صلوا بعد ذلك على نبي الهدى والرحمة.
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى