رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
الشيخ / أحمد بن حسين الفقيهي
آكلو الربا
الخطبة الأولى:
عباد الله: نحن في زمن طغى فيه طلب المال، وصارت الدنيا لدى كثير من الناس أكبر همهم، ومبلغ علمهم، لها يسعون، ومن أجلها يتعادون ويتقاطعون ، و لا يبالون في جمع المال من أي طريق أتى المال ، فالحرام عندهم ما تعذر عليهم أخذه، والحلال في عرفهم ما تمكنوا من تناوله ، وهذا مصداق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من أنه يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانُ مَا يُبَالِي الرَّجُلُ مِنْ أَيْنَ أَصَابَ الْمَالَ مِنْ حِلٍّ أَوْ حَرَامٍ . رواه النسائي وأصله في البخاري.
أيها المسلمون: عالم اليوم فشا فيه الربا أكلاً ومؤاكلة ، وبيعاً وشراءً، حتى قل من يسلم من الوقوع فيه، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " " يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَأْكُلُونَ فِيهِ الرِّبَا ، فَيَأْكُلُ نَاسٌ أَوِ النَّاسُ كُلُّهُمْ ، فَمَنْ َلمْ يَأْكُلْ مِنْهُمْ نَالَهُ مِنْ غُبَارِهِ . " رواه أحمد وسنده صحيح.
عباد الله: لم يبلغ التهديد في القرآن الكريم سواءً في اللفظ أو المعنى ما بلغه في أمر الربا، ولم يبلغ من تفظيع أمر أراد الإسلام إبطاله من أمور الجاهلية ما بلغ من تفظيع الربا، ولم يعلن الله تعالى الحرب على أحدٍ إلا على أكلة الربا، ولقد كان للربا في الجاهلية الأولى مفاسده وشروره، إلا أن الجوانب الشائنة والقبيحة من وجهه الكالح ما كانت كلها بادية في مجتمع الجاهلية الأولى كما بدت اليوم وتكشفت في عالمنا الحاضر، ولا كانت البثور والدمامل في ذلك الوجه الدميم مكشوفةً كلها كما كشفت اليوم في مجتمعنا الحديث، وإن الناظر على مستوى الأفراد والدول يجد مدى الخراب والدمار الذي خلفه التعامل بالربا من الإفلاس والكساد والركود ، والعجز عن تسديد الديون ، وشلل في الاقتصاد ، وارتفاع مستوى البطالة ، وانهيار الكثير من الشركات والمؤسسات ، وجعل الأموال الطائلة تتركز في أيدي قلة من الناس ، ولعل هذا شيء من صور الحرب التي توعد الله بها المتعاملين بالربا ، تلك الحرب التي لا تجدي فيها السفن ولا الطائرات ، ولا تنفع فيها القنابل ولا الدبابات ، لأنها حرب مع خالق الأرض والسموات ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ }،{ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ }،{ وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ }،{ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} [ سُورَةُ البَقَرَةِ : 278 ، 279 ، 280 ، 281 ] .
أيها المسلمون: يكفي في قبح الربا والزجر عن إتيانه أن شبه المصطفى صلى الله عليه وسلم أيسره كأن يأتي الرجل أمه علانية روى الحاكم وغيره وصححه عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الرِّبَا ثَلَاثَةٌ وَسَبْعُونَ بَابًا ، أَيْسَرُهَا مِثْلُ أَنْ يَنْكِحَ الرَّجُلُ أُمَّهُ " ، وروى الإمام أحمد وسنده صحيح من حديث عبدالله بن حنظلة رضي الله عنه مرفوعاً " دِرْهَمُ رِبًا يَأْكُلُهُ الرَّجُلُ وَهُوَ يَعْلَمُ أَشَدُّ مِنْ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ زَنْيَةً " ، فإذا كان هذا عباد الله في درهم واحد من الربا فكيف بمن يأكلون الألوف بل الملايين من الربا ، فيا هي خسارة من أسس تجارته على الربا، ومن كان كسبه من فوائد الربا، ويا بؤس من كانت وظيفته كتابة الربا أو الدعاية للربا، وما مصير جسد ما نبت إلا من الربا، وأولاد ما أطعموا إلا من الربا، وما غذوا إلا عليه، ألا إن كل جسد نبت من سحت فالنار أولى به.
عباد الله: لضرر الربا وعظم عقوبته حرمه تعالى وقبحه في جميع الشرائع على الأمم السابقة، ولكن أهل الكتاب حرفوا كتبهم وغيروا فيها، فصار اليهود يحلون التعامل بالربا مع غير اليهود ليمتصوا ثرواتهم ويستولوا على أملاكهم، ثم توسعوا فيه حتى صاروا لا يتعاملون إلا به، ثم عمموه على كل العالم، وقد عرف عرب الجاهلية الربا وكانوا يتعاملون به، فإذا استدان بعضهم من بعض وحان وقت السداد يقول الدائن للمدين: "تقضي أم تُربي"، أي: إن كان لديك مال تقضي دينك وإلا أزيدك في المدة وتزيدني في المال، ولكن العرب مع تعاملهم بهذا الربا كانوا يعرفون خبثه وأنه كسب حرام، فلا يضعون أموال الربا في الأمور المقدسة لديهم، يروى عن ابن وهب بن عمرو بن عائذ وهو خال والد النبي صلى الله عليه وسلم وكان شريفا من رجالات العرب في الجاهلية، يروى عنه أنه قال مخاطبا قريشاً عند إعادة بناء الكعبة: "يا معشر قريش، لا تدخلوا في بنيانها من كسبكم إلا طيبا، لا يدخل فيها مهر بغي، ولا بيع ربا، ولا مظلمة أحد من الناس"، وهذا أكبر دليل على خبث الربا وخسته واتفاق الناس حتى في الجاهلية على ذمه.
أيها المسلمون: إن أموال المرابين وإن كثرت وتضخمت فهي ممحوقة البركة، لا ينتفعون منها بشيء وإنما يقاسون أتعابها، ويتحملون حسابها ويصلون عذابها، ويرثها غيرهم في الدنيا ، يقول الله تعالى ( يمحق الله الربا ويربي الصدقات) . وقال صلى الله عليه وسلم : [ما أحد أكثر من الربا إلا كانت عاقبة أمره إلى قلة. ] ( رواه الحاكم وهو في صحيح الجامع ) وهذه عقوبات عاجلة في الدنيا ، وأما العقوبات الآجلة فهي أشد وأبقى، قال الله تعالى في بيان ما يلاقيه المرابي عند قيامه من قبره للحشر " {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ... } [ سُورَةُ البَقَرَةِ : 275 ، وذلك أن الناس إذا بعثوا من قبورهم خرجوا مسرعين إلى المحشر، كما قال تعالى " { يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا } [سُورَةُ الْمَعَارِجِ: 43 ] إلا آكل الربا فإنه يوم البعث يقوم ويسقط كحال المصروع الذي يقوم ويسقط بسبب الصرع، وكلما هم بالإسراع مع الناس تعثر وتأخر عقوبة وفضيحة له، وأما عذاب المرابين يوم القيامة فقد جاء في حديث الإسراء أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يسبح في نهر من الدم، وكلما أراد أن يخرج من هذا النهر، استقبله رجل على شاطئ النهر، وبين يديه حجارة يرجمه بحجر منها في فمه حتى يرجع حيث كان، فسأل عنه فأخبر أنه آكل الربا.
أيها المسلمون: حين بين المولى سبحانه خطورة الربا وعاقبة أكله في الدنيا والآخرة أدخل سبحانه بين آيات الربا هذه الآية وهي قوله تعالى: " إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون" أدخل سبحانه هذه الآية بين آيات الربا ليبين أن من أكبر الأسباب التي تعين على ترك الربا الإيمان بالله تعالى ، وأن آكل الربا لا يأكل الربا حين يأكله وهو مؤمن، فمن لم يترك ما بقي من الربا بعد نهي الله تعالى عنه وتوعده عليه فهو مخل بالإيمان " { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } قال المفسرون : فبين سبحانه أن الإيمان والربا لا يجتمعان ، ولذا كان صاحبه حقيقاً باللعن والطرد من رحمة الله تعالى ، وقد قال جابر بن عبدالله رضي الله عنهما: (( لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آكِلَ الرِّبَا وَمُؤْكِلَهُ وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَيْهِ وَقَالَ هُمْ سَوَاءٌ )) أخرجه مسلم .
عباد الله: إن انتشار الربا وغلبته في أموال الناس لعلامة شر ودنو عذاب مقدّر، جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( : إِذَا ظَهَرَ الزِّنَا وَالرِّبَا فِي قَرْيَةٍ ، فَقَدْ أَحَلُّوا بِأَنْفُسِهِمْ عَذَابَ اللَّهِ )). أخرجه الحاكم وسنده صحيح ، وإن من العذاب الذي نلمسه في هذه الأيام محق البركة وحرمان التوفيق وفقدان السعادة وكثرة البلايا وفساد الاقتصاد وخراب البيوت، وما هذه الهزائم والخسائر ، وهذه البراكين والزلازل ، وهذا الهرج والمرج ، وكثرة الحوادث والأمراض ، إلا بما كسبت أيدي الناس من تعاطٍ للربا وغيره ألا فلنتق الله عباد الله، وليحرص كل واحد منا على تعلم أحكام دينه، وألا يدخل في معاملة تجارية أو بنكية إلا بعد التأكد من سلامتها وبعدها عن الربا، وإذا جهل المسلم بعض الأحكام أو شك في تعاملات المصارف والبنوك فعليه بسؤال أهل العلم عن ذلك ليسلم له ماله من الشبهة والحرام .
أيا عبداً لجمـعِ المـالِ عُـذراً * أتدري ما السبيلُ إلى الضلاله ْ؟
سبيلُكَ في اْغتصابِ المالِ غدراً * فبئس المالُ ، قد أشقى رِجالَـهْ
فكُن حَـذِراً إذا جَمَّعـتَ مـالاً * فـإن حرامَـهُ يُفنـي حلالَـهْ
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم وبهدي سيد المرسلين ..
الخطبة الثانية
عباد الله: إن من المصائب التي تضاف إلى سجل مصائب هذا العصر الذي نحن أحوج ما نكون فيه إلى الله ، محاربة الله تعالى بتقنين وتوسيع الربا ليطرق كل بيت, ويتسلل إلى كل دار, ويلغ الناس فيه بيعاً وشراء كل يوم بل كل لحظة.
أيها المسلمون: السندات وسيلة من وسائل التمويل الربوي ، وإصدارها وتداولها محرم بإجماع علماء الإسلام المعتبرين والفقهاء السابقين والمعاصرين وقرارات المجامع الفقهية تؤكد على ذلك ، حيث جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي ما نصه : إن السندات التي تمثل التزاماً بدفع مبلغ مع فائدة منسوبة إليه أو نفع مشروط محرمة شرعاً من حيث الإصدار أو الشراء أو التداول ، لأنها قروض ربوية سواء أكانت الجهة المصدرة لها خاصة أو عامة ترتبط بالدولة . ولا أثر لتسميتها شهادات أو صكوكاً استثمارية أو ادخارية أو تسمية الفائدة الربوية الملتزم بها ربحاً أو ريعاً أو عمولة أو عائداً .
أيها المسلمون : إن المأمول في بلاد قامت على شرع الله ونظامها الأساسي ينص على أن جميع معاملاتها تتم وفق شرع الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، إن المأمول هو قصر المعاملات في هذه السوق الناشئة على البديل الإسلامي المتمثل في الصكوك والسندات الإسلامية التي تعزز الاستثمار الحقيقي, وتساعد على تدويل المال بين الأغنياء والفقراء, ويقتسم فيها الجميع الربح والخسارة .
أيها المسلمون: في خطبة حجة الوداع التي أوصى فيها الرسول صلى الله عليه وسلم أمته بأهم الوصايا، يقول صلى الله عليه وسلم كما عند ابن ماجه من حديث عَمْرِو بْنِ الْأَحْوَصِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ((فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ بَيْنَكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا))، ثم قال صلى الله عليه وسلم: ((أَلَا وَإِنَّ كُلَّ رِبًا مِنْ رِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ لَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ أَلَا يَا أُمَّتَاهُ هَلْ بَلَّغْتُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ قَالُوا نَعَمْ قَالَ اللَّهُمَّ اشْهَدْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ)).
هذه وصية الوداع من رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يغادر هذه الدنيا، يوصي بها أمته ناصحا مشفقا، ويُشهد الله على ذلك، فهل تكون أمة محمد صلى الله عليه وسلم مطيعة له وهي تعصيه في آخر وأهم وصاياه؟! وماذا تنتظر الأمة إذا عصت هذا الأمر الإلهي وتلك الوصية النبوية؟! هل تنتظر الأمة رفعة وعزا وهي تتعامل بالحرام؟! وهل تنتظر أمة رخاءً ونماءً وهي تبيح وتقنن التزود من الآثام ؟!
ألا فاتقوا الله عباد الله ، واجتنبوا الحرام، واحذروا الآثام ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه، ومن استغنى عن شيء أغناه الله عنه، ومن يستعفف يعفه الله ومن يتق الله يرزقه الله: (ومن يتق الله يجعل له مخرجاً *ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدراً )[سورة الطلاق:2-3]. (ومن يتق الله يجعل له من أمره يسراً * ذلك أمر الله أنزله إليكم ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجراً )[سورة الطلاق:4-5].
ثم فصلوا وسلموا على الهادي البشير ..
آكلو الربا
الخطبة الأولى:
عباد الله: نحن في زمن طغى فيه طلب المال، وصارت الدنيا لدى كثير من الناس أكبر همهم، ومبلغ علمهم، لها يسعون، ومن أجلها يتعادون ويتقاطعون ، و لا يبالون في جمع المال من أي طريق أتى المال ، فالحرام عندهم ما تعذر عليهم أخذه، والحلال في عرفهم ما تمكنوا من تناوله ، وهذا مصداق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من أنه يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانُ مَا يُبَالِي الرَّجُلُ مِنْ أَيْنَ أَصَابَ الْمَالَ مِنْ حِلٍّ أَوْ حَرَامٍ . رواه النسائي وأصله في البخاري.
أيها المسلمون: عالم اليوم فشا فيه الربا أكلاً ومؤاكلة ، وبيعاً وشراءً، حتى قل من يسلم من الوقوع فيه، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " " يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَأْكُلُونَ فِيهِ الرِّبَا ، فَيَأْكُلُ نَاسٌ أَوِ النَّاسُ كُلُّهُمْ ، فَمَنْ َلمْ يَأْكُلْ مِنْهُمْ نَالَهُ مِنْ غُبَارِهِ . " رواه أحمد وسنده صحيح.
عباد الله: لم يبلغ التهديد في القرآن الكريم سواءً في اللفظ أو المعنى ما بلغه في أمر الربا، ولم يبلغ من تفظيع أمر أراد الإسلام إبطاله من أمور الجاهلية ما بلغ من تفظيع الربا، ولم يعلن الله تعالى الحرب على أحدٍ إلا على أكلة الربا، ولقد كان للربا في الجاهلية الأولى مفاسده وشروره، إلا أن الجوانب الشائنة والقبيحة من وجهه الكالح ما كانت كلها بادية في مجتمع الجاهلية الأولى كما بدت اليوم وتكشفت في عالمنا الحاضر، ولا كانت البثور والدمامل في ذلك الوجه الدميم مكشوفةً كلها كما كشفت اليوم في مجتمعنا الحديث، وإن الناظر على مستوى الأفراد والدول يجد مدى الخراب والدمار الذي خلفه التعامل بالربا من الإفلاس والكساد والركود ، والعجز عن تسديد الديون ، وشلل في الاقتصاد ، وارتفاع مستوى البطالة ، وانهيار الكثير من الشركات والمؤسسات ، وجعل الأموال الطائلة تتركز في أيدي قلة من الناس ، ولعل هذا شيء من صور الحرب التي توعد الله بها المتعاملين بالربا ، تلك الحرب التي لا تجدي فيها السفن ولا الطائرات ، ولا تنفع فيها القنابل ولا الدبابات ، لأنها حرب مع خالق الأرض والسموات ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ }،{ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ }،{ وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ }،{ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} [ سُورَةُ البَقَرَةِ : 278 ، 279 ، 280 ، 281 ] .
أيها المسلمون: يكفي في قبح الربا والزجر عن إتيانه أن شبه المصطفى صلى الله عليه وسلم أيسره كأن يأتي الرجل أمه علانية روى الحاكم وغيره وصححه عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الرِّبَا ثَلَاثَةٌ وَسَبْعُونَ بَابًا ، أَيْسَرُهَا مِثْلُ أَنْ يَنْكِحَ الرَّجُلُ أُمَّهُ " ، وروى الإمام أحمد وسنده صحيح من حديث عبدالله بن حنظلة رضي الله عنه مرفوعاً " دِرْهَمُ رِبًا يَأْكُلُهُ الرَّجُلُ وَهُوَ يَعْلَمُ أَشَدُّ مِنْ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ زَنْيَةً " ، فإذا كان هذا عباد الله في درهم واحد من الربا فكيف بمن يأكلون الألوف بل الملايين من الربا ، فيا هي خسارة من أسس تجارته على الربا، ومن كان كسبه من فوائد الربا، ويا بؤس من كانت وظيفته كتابة الربا أو الدعاية للربا، وما مصير جسد ما نبت إلا من الربا، وأولاد ما أطعموا إلا من الربا، وما غذوا إلا عليه، ألا إن كل جسد نبت من سحت فالنار أولى به.
عباد الله: لضرر الربا وعظم عقوبته حرمه تعالى وقبحه في جميع الشرائع على الأمم السابقة، ولكن أهل الكتاب حرفوا كتبهم وغيروا فيها، فصار اليهود يحلون التعامل بالربا مع غير اليهود ليمتصوا ثرواتهم ويستولوا على أملاكهم، ثم توسعوا فيه حتى صاروا لا يتعاملون إلا به، ثم عمموه على كل العالم، وقد عرف عرب الجاهلية الربا وكانوا يتعاملون به، فإذا استدان بعضهم من بعض وحان وقت السداد يقول الدائن للمدين: "تقضي أم تُربي"، أي: إن كان لديك مال تقضي دينك وإلا أزيدك في المدة وتزيدني في المال، ولكن العرب مع تعاملهم بهذا الربا كانوا يعرفون خبثه وأنه كسب حرام، فلا يضعون أموال الربا في الأمور المقدسة لديهم، يروى عن ابن وهب بن عمرو بن عائذ وهو خال والد النبي صلى الله عليه وسلم وكان شريفا من رجالات العرب في الجاهلية، يروى عنه أنه قال مخاطبا قريشاً عند إعادة بناء الكعبة: "يا معشر قريش، لا تدخلوا في بنيانها من كسبكم إلا طيبا، لا يدخل فيها مهر بغي، ولا بيع ربا، ولا مظلمة أحد من الناس"، وهذا أكبر دليل على خبث الربا وخسته واتفاق الناس حتى في الجاهلية على ذمه.
أيها المسلمون: إن أموال المرابين وإن كثرت وتضخمت فهي ممحوقة البركة، لا ينتفعون منها بشيء وإنما يقاسون أتعابها، ويتحملون حسابها ويصلون عذابها، ويرثها غيرهم في الدنيا ، يقول الله تعالى ( يمحق الله الربا ويربي الصدقات) . وقال صلى الله عليه وسلم : [ما أحد أكثر من الربا إلا كانت عاقبة أمره إلى قلة. ] ( رواه الحاكم وهو في صحيح الجامع ) وهذه عقوبات عاجلة في الدنيا ، وأما العقوبات الآجلة فهي أشد وأبقى، قال الله تعالى في بيان ما يلاقيه المرابي عند قيامه من قبره للحشر " {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ... } [ سُورَةُ البَقَرَةِ : 275 ، وذلك أن الناس إذا بعثوا من قبورهم خرجوا مسرعين إلى المحشر، كما قال تعالى " { يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا } [سُورَةُ الْمَعَارِجِ: 43 ] إلا آكل الربا فإنه يوم البعث يقوم ويسقط كحال المصروع الذي يقوم ويسقط بسبب الصرع، وكلما هم بالإسراع مع الناس تعثر وتأخر عقوبة وفضيحة له، وأما عذاب المرابين يوم القيامة فقد جاء في حديث الإسراء أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يسبح في نهر من الدم، وكلما أراد أن يخرج من هذا النهر، استقبله رجل على شاطئ النهر، وبين يديه حجارة يرجمه بحجر منها في فمه حتى يرجع حيث كان، فسأل عنه فأخبر أنه آكل الربا.
أيها المسلمون: حين بين المولى سبحانه خطورة الربا وعاقبة أكله في الدنيا والآخرة أدخل سبحانه بين آيات الربا هذه الآية وهي قوله تعالى: " إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون" أدخل سبحانه هذه الآية بين آيات الربا ليبين أن من أكبر الأسباب التي تعين على ترك الربا الإيمان بالله تعالى ، وأن آكل الربا لا يأكل الربا حين يأكله وهو مؤمن، فمن لم يترك ما بقي من الربا بعد نهي الله تعالى عنه وتوعده عليه فهو مخل بالإيمان " { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } قال المفسرون : فبين سبحانه أن الإيمان والربا لا يجتمعان ، ولذا كان صاحبه حقيقاً باللعن والطرد من رحمة الله تعالى ، وقد قال جابر بن عبدالله رضي الله عنهما: (( لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آكِلَ الرِّبَا وَمُؤْكِلَهُ وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَيْهِ وَقَالَ هُمْ سَوَاءٌ )) أخرجه مسلم .
عباد الله: إن انتشار الربا وغلبته في أموال الناس لعلامة شر ودنو عذاب مقدّر، جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( : إِذَا ظَهَرَ الزِّنَا وَالرِّبَا فِي قَرْيَةٍ ، فَقَدْ أَحَلُّوا بِأَنْفُسِهِمْ عَذَابَ اللَّهِ )). أخرجه الحاكم وسنده صحيح ، وإن من العذاب الذي نلمسه في هذه الأيام محق البركة وحرمان التوفيق وفقدان السعادة وكثرة البلايا وفساد الاقتصاد وخراب البيوت، وما هذه الهزائم والخسائر ، وهذه البراكين والزلازل ، وهذا الهرج والمرج ، وكثرة الحوادث والأمراض ، إلا بما كسبت أيدي الناس من تعاطٍ للربا وغيره ألا فلنتق الله عباد الله، وليحرص كل واحد منا على تعلم أحكام دينه، وألا يدخل في معاملة تجارية أو بنكية إلا بعد التأكد من سلامتها وبعدها عن الربا، وإذا جهل المسلم بعض الأحكام أو شك في تعاملات المصارف والبنوك فعليه بسؤال أهل العلم عن ذلك ليسلم له ماله من الشبهة والحرام .
أيا عبداً لجمـعِ المـالِ عُـذراً * أتدري ما السبيلُ إلى الضلاله ْ؟
سبيلُكَ في اْغتصابِ المالِ غدراً * فبئس المالُ ، قد أشقى رِجالَـهْ
فكُن حَـذِراً إذا جَمَّعـتَ مـالاً * فـإن حرامَـهُ يُفنـي حلالَـهْ
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم وبهدي سيد المرسلين ..
الخطبة الثانية
عباد الله: إن من المصائب التي تضاف إلى سجل مصائب هذا العصر الذي نحن أحوج ما نكون فيه إلى الله ، محاربة الله تعالى بتقنين وتوسيع الربا ليطرق كل بيت, ويتسلل إلى كل دار, ويلغ الناس فيه بيعاً وشراء كل يوم بل كل لحظة.
أيها المسلمون: السندات وسيلة من وسائل التمويل الربوي ، وإصدارها وتداولها محرم بإجماع علماء الإسلام المعتبرين والفقهاء السابقين والمعاصرين وقرارات المجامع الفقهية تؤكد على ذلك ، حيث جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي ما نصه : إن السندات التي تمثل التزاماً بدفع مبلغ مع فائدة منسوبة إليه أو نفع مشروط محرمة شرعاً من حيث الإصدار أو الشراء أو التداول ، لأنها قروض ربوية سواء أكانت الجهة المصدرة لها خاصة أو عامة ترتبط بالدولة . ولا أثر لتسميتها شهادات أو صكوكاً استثمارية أو ادخارية أو تسمية الفائدة الربوية الملتزم بها ربحاً أو ريعاً أو عمولة أو عائداً .
أيها المسلمون : إن المأمول في بلاد قامت على شرع الله ونظامها الأساسي ينص على أن جميع معاملاتها تتم وفق شرع الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، إن المأمول هو قصر المعاملات في هذه السوق الناشئة على البديل الإسلامي المتمثل في الصكوك والسندات الإسلامية التي تعزز الاستثمار الحقيقي, وتساعد على تدويل المال بين الأغنياء والفقراء, ويقتسم فيها الجميع الربح والخسارة .
أيها المسلمون: في خطبة حجة الوداع التي أوصى فيها الرسول صلى الله عليه وسلم أمته بأهم الوصايا، يقول صلى الله عليه وسلم كما عند ابن ماجه من حديث عَمْرِو بْنِ الْأَحْوَصِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ((فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ بَيْنَكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا))، ثم قال صلى الله عليه وسلم: ((أَلَا وَإِنَّ كُلَّ رِبًا مِنْ رِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ لَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ أَلَا يَا أُمَّتَاهُ هَلْ بَلَّغْتُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ قَالُوا نَعَمْ قَالَ اللَّهُمَّ اشْهَدْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ)).
هذه وصية الوداع من رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يغادر هذه الدنيا، يوصي بها أمته ناصحا مشفقا، ويُشهد الله على ذلك، فهل تكون أمة محمد صلى الله عليه وسلم مطيعة له وهي تعصيه في آخر وأهم وصاياه؟! وماذا تنتظر الأمة إذا عصت هذا الأمر الإلهي وتلك الوصية النبوية؟! هل تنتظر الأمة رفعة وعزا وهي تتعامل بالحرام؟! وهل تنتظر أمة رخاءً ونماءً وهي تبيح وتقنن التزود من الآثام ؟!
ألا فاتقوا الله عباد الله ، واجتنبوا الحرام، واحذروا الآثام ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه، ومن استغنى عن شيء أغناه الله عنه، ومن يستعفف يعفه الله ومن يتق الله يرزقه الله: (ومن يتق الله يجعل له مخرجاً *ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدراً )[سورة الطلاق:2-3]. (ومن يتق الله يجعل له من أمره يسراً * ذلك أمر الله أنزله إليكم ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجراً )[سورة الطلاق:4-5].
ثم فصلوا وسلموا على الهادي البشير ..
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى