رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
الشيخ/ إبراهيم بن صالح العجلان
الأمراض
إخوة الإيمان:
أنَّ الحياة الدنيا طُبِعت على البلاء والمواجع، والمِحَن والفواجع، هذه حقيقة قرَّرَتها آياتُ التَّنزيل؛{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ} [البقرة: 155]، {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ* وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 2 - 3].
فهذه الدَّارُ العاجلة لذَّاتُها منغَّصَةٌ بكَدَر، وسرورها مشوبٌ بحزن.
طُبِعَتْ عَلَى كَدَرٍ وَأَنْتَ تُرِيدُهَا صَفْوًا مِنَ الأَقْذَارِ وَالأَكْدَارِ
ومن نقائص هذه الحياة ومنغّصاتها ما قدَّره الله على أهلها مِن الأمراض والأسقام، والأوجاع والآلام.
حياةُ العلَّة والاعتلال قدَرٌ مكتوبٌ، وكأسٌ مشروبٌ، وزائرٌ ثقيلٌ غيرُ مرغوب، فما من مخلوقٍ إلا وهو مُعرَّض لهذا البلاء، قلَّ ذلك أو كثُر، صغُر أم كبر، أمراضٌ وأمراض، تكتسحُ الأبدان، وتُوهِنُ الأجسام، وعالَم اليوم بمادياته ومتغيراته قد زاد مِن انتشار هذه الأسقام، حتَّى أصبحت أخبارُ الأمراض وأنواعها ودرجاتها حديثًا دائمًا، وهاجسًا ماثلاً؛ فجديرٌ بأهل الإيمان أن ينظروا إلى هذه الأدواءِ بعين البصيرة، ومنظار الرِّسالة ما يَزيدهم إيمانًا وقربةً، وسكينةً ورضًا.
يا مَن ترفُلُون في ثياب الصِّحة والعافية - زادكم الله من ذلك وبَسَط - اعلموا - رحمكم الله - أنَّ هذه الأمراضَ لهي آيةٌ من آيات الله في خلقه، وكمال قدرته على عبده.
فهذا الإنسان بينا هو يرفُلُ في كمال صحته، وعُنْفُوان عافيته، مفتولَ البِنْية، بهيَّ الطلعة، إذ حلَّ به الوَصَب، فتغيَّرت حالتُه، خارتْ قوتُه، وبانَتْ علَّتُه، وضعُفَت بِنْيَتُه، وظهر أنينُهُ، ويَبُسَ جبينُهُ، فسبحان مَن غيَّر الحال، وبدَّل الشَّان، وأظهر ضعف الإنسان.
إنَّ هذه الأمراض يوم تجثُم على أهلها كأنما تُخاطبهم: {لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} [الروم: 4]، {أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [البقرة: 165].
تُخاطبهم: أنَّ الإنسان مهما اغترَّ وطغَى، وأعرَضَ وبغَى، فليس بمُعجِزٍ في الأرض، وليس له من دون الله من ولي ولا نصير؛ هذه هي الرِّسالة الأولى التي ينبغي أن تُفقَه، وتستقر في الأذهان.
إنَّ هذه الأمراضَ هي أكبر برهان على ضعفِ المخلوق، وعجزه وقلِّة حيلته.
يا أهلَ الإيمان:
إنَّ من المُقرَّر شرعًا: أنَّ الله لا يُقدِّر شرًّا محضًا، وأن قدر الله فيه من النفع والخيريَّة ما يغيبُ عن نظرة البشر السَّطحية الدونية؛ فهذه الأمراض، وإن كانت محذورة ومُرَّة، إلا أنَّ فيها من المِنَح والخير ما يخفى على البعض سرُّها، ويغيبُ عنهم أجرُها، وفي الحديث: ((من يُرِد الله به خيرًا يُصبْ منه))؛ خرَّجه البخاري في \"صحيحه\".
إن سألتم عن أعظم مكاسب المرض وأهمِّ أسراره، فهي تلك النَّقلة التي يُحدِثُها المرض على صاحبه في إصلاح نفسه، وتهذيب ضميره، هذه الأمراضُ تَكسِر كأسَ الهوى الجاثمَ على الصُّدور، وتسوق صاحبَها سوقًا إلى المحاسبة والتَّوبة، والإنابة والأوبة.
فكم من ضالٍّ ما عَرَف طُرق الهداية إلاَّ بعد أن طَرَقَته الأمراض!
وكم من مُجاهرٍ ما تخلَّص من الكبائر إلاَّ يوم أن خَلَصتِ الأمراض إليه!
وكم من عبدٍ هامَ الحرامُ في خياله، ففكَّر فيه ودبَّر، وجمع له وادَّخَر، فجاورَته الأسقام، فجعل ما جمعه ووعاه صدقةً يجدها في ديوان حسناته!
وصَدَق الله - ومَن أصدق مِن الله قيلاً -: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19].
إخوة الإيمان:
سعادةُ المرء وكرامتُهُ وشرفُهُ بقدرِ تحقيقه لعبودية ربِّه، وفي حال المرض يجتمع للعبد مِن العبودية لله ما لا يجتمع له في غيره.
ترى المريضَ رقيقَ المشاعر، سريعَ الدَّمعة، شديدَ التذلُّل، عظيم الرَّجاء، ملازمًا للذِّكْر والدُّعاء، مطَّرحٌ بين يدي ربِّه، مُنتظرٌ فرجَ أرحم الرَّاحمين؛ {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ} [فصلت: 51].
وإذا اجتمع للعبد صلاحُ نفسٍ، ورجاءُ رحمة، وشكايةُ حالٍ، وانتظارُ فرجٍ - فتلك مِن أعلى مقامات العبودية والتذلُّل لله تعالى.
ذاق طعمَ هذه العبودية أيوبُ - عليه السلام - فنادى ربه: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ* فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} [الأنبياء: 83].
عباد الله:
ومن مِنَح المرض ومغانمه: أنَّ المريض وإنْ أعجَزَهُ العمل، وأعيَتْه الطاعة، فأجرُهُ محفوظٌ، وثوابُهُ مُدَّخَر؛ قال سيِّدُ البشر - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إذا مَرِض العبدُ أو سافر، كُتِبَ له مثلُ ما كان يعمل مُقيمًا صحيحًا))؛ رواه البخاري.
أبشِروا يا من زارَتْهم الأسقام، واعتادَتْهم الأوجاع، أبشِروا بفضل الله عليكم، فسيِّئاتُكم الماضية مُنحَطَّة، وخطيئاتُكُم الخالية ذاهبة؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: ((ما يُصيبُ المؤمنَ من وَصَبٍ ولا نَصَبٍ، ولا سَقَمٍ ولا حَزَنٍ، حتَّى الهمُّ يُهمُّه؛ إلاَّ كفَّر اللهُ به من سيِّئاته))؛ رواه مسلم.
وروى الإمام أحمد وغيره بسندٍ حسنٍ: أنَّ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((لا يزالُ البلاء بالمؤمن أو المؤمنة في جسده، وفي ماله، وفي ولده، حتَّى يلقى اللهَ وما عليه مِن خطيئة)).
قال بعض السَّلّف: \"لولا مصائبُ الدنيا، لوردنا القيامةَ مفاليس\".
فهذا المرض إذًا وما يتبعه من تمحيصٍ وثوابٍ هو - بإذن الله - سببٌ للرَّاحة الأبديَّة، والسَّعادة السَّرمديَّة في جناتٍ ونهر؛ بل وفي بلوغ درجاتها العُلى.
قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ العبد إذا سبَقَت له مِن الله منزلةٌ لم يبلغها بعمله، ابتلاه الله في جسده، أو في ماله، أو في ولده، ثُمَّ صبَّرَه، حتَّى يُبلِّغَه المنزلة التي سبقت له منه))؛ رواه الإمام أحمد، وأبو داود، وهو حديثٌ صحيحٌ.
أهل الأمراض أهلٌ للعطف والحَنان، والرَّحمة والإحسان، فالقُربُ منهم، والإحسانُ إليهم سببٌ لنوال رحمة الله: ((ارحموا مَن في الأرضِ يَرحمْكم مَن في السَّماء)).
وعظُمَ خيرُ ربِّنا لأهل الأمراض وطاب، يوم أن كتب الأجور العظيمة، والحسنات الوفيرة، لمن زارهم وواساهم، وأسمَعَهم من الكلام ما يُخفِّف آلامهم؛ روى مسلم في \"صحيحه\" من حديث ثوبانَ - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((مَن عادَ مريضًا لم يَزلْ في خُرْفةِ الجنَّة حتَّى يرجع))، قيل: يا رسولَ الله، وما خُرْفة الجنَّة؟ قال: ((جَنَاها)).
قال النَّووي: \"أي: يؤول به ذلك إلى الجنَّة واجتناء ثمارها\".
وعندَ التِّرمذي وابن ماجه، وصحَّحه ابن حبان: ((مَن عادَ مَريضًا أو زارَ أخًا له في الله، ناداهُ منادٍ: أنْ طِبتَ وطابَ ممشاك، وتبوَّأتَ من الجنَّة منزلاً)).
وأهل الأمراض أيضًا هم مِن أقرب النَّاس إلى ربِّهم، أحاطَت بهم معيَّة خالقهم، ورافَقَتهم محبَّةُ بارئهم؛ يقول - عليه الصلاة والسلام -: ((إنَّ عِظَم الجزاء مع عِظَم البلاء، وإنَّ الله إذا أحبَّ قومًا ابتلاهم))؛ رواه الترمذيُّ، وحسَّنه.
وفي الحديث القُدُسيِّ: ((يقول الله تعالى يومَ القيامة: يا ابنَ آدم، مَرضتُ فلم تعُدني؟ قال: كيف أعودُكَ وأنتَ ربُّ العالَمين؟ قال: أَمَا علمتَ أنَّ عبدي فلانًا مرِضَ فلم تعُدْه، أمَا علِمتَ أنَّك لو عُدتَّهُ لوجدتَني عندَه؟))؛ رواه مسلم في \"صحيحه\".
تلك - عبادَ الله - شيءٌ من حِكَم المرض وأسراره، وطَرَفٌ من مغانمه وأفضاله، وصَدَق القائل:
قَدْ يُنْعِمُ اللهُ بِالبَلوَى وَإِنْ عَظُمَتْ وَيَبْتَلِي اللهُ بَعْضَ القَوْمِ بِالنِّعَمِ
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه، إنَّ ربِّي غفورٌ رحيمٌ.
الخطبة الثَّانية
الحمد لله وحدَه، والصَّلاة والسَّلام على مَن لا نبي بعدَه، وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أمَّا بعدُ، فيا إخوة الإيمان:
وتظلُّ الصِّحةُ والعافية مطلبًا عزيزًا، وهاجسًا ثمينًا، ونعمةً لا تُقدَّر بثمن، ولا يحتملها ميزان، وقديمًا قالتِ الحكماء: العافية تاجٌ على رُؤوس الأصحَّاء لا يراه إلاَّ المَرِضُ.
وأصدقُ مِن ذلك وأبلغ: قول المصطفى - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن أصبحَ آمنًا في سِربِهِ، مُعافًى في جَسده، عندَه قُوتُ يومِه، فكأنَّما حِيزَت له الدُّنيا بحذافيرها))؛ رواه الترمذي، وابن ماجه، وهو حديثٌ حسنٌ.
عبادَ الله:
ومع ما في المرض من الخير والمِنَح، فإنَّ المؤمن لا يتمنَّى المرض ولا يسأله، وإذا حلَّت به هذه الأقدارُ، فإنَّ المُتعيّن على المؤمن أنْ يتعامل معها بالقدر الشَّرعيِّ الدِّيني.
ومن الواجب الشَّرعيِّ تُجاهَ الأمراض: أن يصبر المرءُ على ألمها، ويتصبَّر على لأْوائها، ويحتسب قَدَرَها بعبادة الصَّبر، لا بمعصية الجزع؛ قال عليُّ بن أبي طالب - رضي الله عنه -: \"إن صَبَرتَ، جَرَت عليك المقادير وأنت مأجورٌ، وإن جَزِعتَ، جَرَت عليك المقاديرُ وأنت مأزورٌ\".
ومن الواجب تُجاهَ الأمراض: عدمُ سبِّها وشَتمها؛ فلا يجوز وصفُ المرض بأنَّه لعينٌ أو خبيثٌ، أو أيّ نوعٍ من أنواع السبِّ، فهذا نوعٌ من سبِّ الأقدار؛ وقد قال النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - لأمِّ السَّائب - حين سمعها تشتكي الحُمَّى، وتقول: لا بارك الله فيها - قال لها: ((لا تسُبِّي الحُمَّى؛ فإنَّها تُذهِبُ خطايا بني آدم، كما يُذهِبُ الكيرُ خَبَثَ الحديد))؛ رواه مسلم.
ومن الواجب حالَ المرض: إحسانُ الظنِّ بالله، وتعلُّق القَلب به رجاءً وتذلُّلاً ومسكنةً، مع الاستيقان أنَّه لا كاشفَ للضُرِّ، ولا دافعَ للبأس إلاَّ ربُّ النَّاس.
يَا صَاحِبَ الْهَمِّ إِنَّ الْهَمَّ مُنفَرِجٌ أَبْشِرْ بِخَيرٍ فَإِنَّ الْفَارِجَ اللهُ
الْيَأْسُ يَقْطَعُ أَحْيَانًا بِصَاحِبِهِ لا تَيْأَسَنَّ فَإِنَّ الْكَافِيَ اللهُ
اللهُ يُحْدِثُ بَعْدَ الْعُسْرِ مَيْسَرَةً لا تَجْزَعَنَّ فَإِنَّ الصَّانِعَ اللهُ
إِذَا بُلِيتَ فَثِقْ بِاللهِ وَارْضَ بِهِ إِنَّ الَّذِي يَكْشِفُ الْبَلْوَى هُوَ اللهُ
واللهِ مَا لَكَ غَيْرُ اللهِ مِنْ أَحَدٍ فَحَسْبُكَ اللهُ فِي كُلٍّ لَكَ اللهُ
ومن المشروع فعلُهُ مع الأمراض: الأخذُ بالأسباب الحِسِّيَّة من التَّداوي والعلاج، فهذا من استدفاع القَدَر بالقَدَر، لا يُنافِي التوكُّلَ على الله.
ومِن الأدوية التي نطق بها الشَّرع، وصَدَّقها الواقع والتَّجرِبة: استدفاعُ المرض بالصَّدقات؛ قال - عليه الصَّلاة والسَّلام -: ((داووا مَرْضاكم بالصَّدقة))؛ رواه الطبراني وغيره، وحسَّنه الألباني.
وممَّا ينبغي ذِكرُهُ وتَذكُّرُه مع الأمراض: أنْ يحرِصَ المريض على كتابة وصيته، وتتأكَّدُ وتجبُ إذا كانت عليه حقوقٌ للعباد، فتجبُ كتابةُ الوصية حِفظًا للحقوق، وصيانةً لعِرْضِ المريض ودِينه.
وأخيرًا، أخي المبارك:
إذا نزل المرضُ - وكلنا عُرضةٌ لهذا البلاء - فإيَّاك، ثم إيَّاك أن تجعله سببًا لعصيان الله بالقنوط من رحمة الله، أو سوء الظنِّ بالله، أو بالاستعانة بالسَّحرة والمُشعوذِين طلبًا للشِّفاء والاستشفاء.
وتيقَّن - أُخَيَّ - أنَّ دِينك يُعلِّمُك أنَّه ما نزل داءٌ إلاَّ ونزل في أثره الدَّواء، وأنَّ الله لم يجعل شفاءَ الأسقام فيما حرَّم على العِباد إتيانَه، كما صحَّ بذلكم الخبر عن سيِّد البَشر.
اللَّهمَّ صَلِّ على محمَّد...
الأمراض
إخوة الإيمان:
أنَّ الحياة الدنيا طُبِعت على البلاء والمواجع، والمِحَن والفواجع، هذه حقيقة قرَّرَتها آياتُ التَّنزيل؛{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ} [البقرة: 155]، {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ* وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 2 - 3].
فهذه الدَّارُ العاجلة لذَّاتُها منغَّصَةٌ بكَدَر، وسرورها مشوبٌ بحزن.
طُبِعَتْ عَلَى كَدَرٍ وَأَنْتَ تُرِيدُهَا صَفْوًا مِنَ الأَقْذَارِ وَالأَكْدَارِ
ومن نقائص هذه الحياة ومنغّصاتها ما قدَّره الله على أهلها مِن الأمراض والأسقام، والأوجاع والآلام.
حياةُ العلَّة والاعتلال قدَرٌ مكتوبٌ، وكأسٌ مشروبٌ، وزائرٌ ثقيلٌ غيرُ مرغوب، فما من مخلوقٍ إلا وهو مُعرَّض لهذا البلاء، قلَّ ذلك أو كثُر، صغُر أم كبر، أمراضٌ وأمراض، تكتسحُ الأبدان، وتُوهِنُ الأجسام، وعالَم اليوم بمادياته ومتغيراته قد زاد مِن انتشار هذه الأسقام، حتَّى أصبحت أخبارُ الأمراض وأنواعها ودرجاتها حديثًا دائمًا، وهاجسًا ماثلاً؛ فجديرٌ بأهل الإيمان أن ينظروا إلى هذه الأدواءِ بعين البصيرة، ومنظار الرِّسالة ما يَزيدهم إيمانًا وقربةً، وسكينةً ورضًا.
يا مَن ترفُلُون في ثياب الصِّحة والعافية - زادكم الله من ذلك وبَسَط - اعلموا - رحمكم الله - أنَّ هذه الأمراضَ لهي آيةٌ من آيات الله في خلقه، وكمال قدرته على عبده.
فهذا الإنسان بينا هو يرفُلُ في كمال صحته، وعُنْفُوان عافيته، مفتولَ البِنْية، بهيَّ الطلعة، إذ حلَّ به الوَصَب، فتغيَّرت حالتُه، خارتْ قوتُه، وبانَتْ علَّتُه، وضعُفَت بِنْيَتُه، وظهر أنينُهُ، ويَبُسَ جبينُهُ، فسبحان مَن غيَّر الحال، وبدَّل الشَّان، وأظهر ضعف الإنسان.
إنَّ هذه الأمراض يوم تجثُم على أهلها كأنما تُخاطبهم: {لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} [الروم: 4]، {أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [البقرة: 165].
تُخاطبهم: أنَّ الإنسان مهما اغترَّ وطغَى، وأعرَضَ وبغَى، فليس بمُعجِزٍ في الأرض، وليس له من دون الله من ولي ولا نصير؛ هذه هي الرِّسالة الأولى التي ينبغي أن تُفقَه، وتستقر في الأذهان.
إنَّ هذه الأمراضَ هي أكبر برهان على ضعفِ المخلوق، وعجزه وقلِّة حيلته.
يا أهلَ الإيمان:
إنَّ من المُقرَّر شرعًا: أنَّ الله لا يُقدِّر شرًّا محضًا، وأن قدر الله فيه من النفع والخيريَّة ما يغيبُ عن نظرة البشر السَّطحية الدونية؛ فهذه الأمراض، وإن كانت محذورة ومُرَّة، إلا أنَّ فيها من المِنَح والخير ما يخفى على البعض سرُّها، ويغيبُ عنهم أجرُها، وفي الحديث: ((من يُرِد الله به خيرًا يُصبْ منه))؛ خرَّجه البخاري في \"صحيحه\".
إن سألتم عن أعظم مكاسب المرض وأهمِّ أسراره، فهي تلك النَّقلة التي يُحدِثُها المرض على صاحبه في إصلاح نفسه، وتهذيب ضميره، هذه الأمراضُ تَكسِر كأسَ الهوى الجاثمَ على الصُّدور، وتسوق صاحبَها سوقًا إلى المحاسبة والتَّوبة، والإنابة والأوبة.
فكم من ضالٍّ ما عَرَف طُرق الهداية إلاَّ بعد أن طَرَقَته الأمراض!
وكم من مُجاهرٍ ما تخلَّص من الكبائر إلاَّ يوم أن خَلَصتِ الأمراض إليه!
وكم من عبدٍ هامَ الحرامُ في خياله، ففكَّر فيه ودبَّر، وجمع له وادَّخَر، فجاورَته الأسقام، فجعل ما جمعه ووعاه صدقةً يجدها في ديوان حسناته!
وصَدَق الله - ومَن أصدق مِن الله قيلاً -: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19].
إخوة الإيمان:
سعادةُ المرء وكرامتُهُ وشرفُهُ بقدرِ تحقيقه لعبودية ربِّه، وفي حال المرض يجتمع للعبد مِن العبودية لله ما لا يجتمع له في غيره.
ترى المريضَ رقيقَ المشاعر، سريعَ الدَّمعة، شديدَ التذلُّل، عظيم الرَّجاء، ملازمًا للذِّكْر والدُّعاء، مطَّرحٌ بين يدي ربِّه، مُنتظرٌ فرجَ أرحم الرَّاحمين؛ {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ} [فصلت: 51].
وإذا اجتمع للعبد صلاحُ نفسٍ، ورجاءُ رحمة، وشكايةُ حالٍ، وانتظارُ فرجٍ - فتلك مِن أعلى مقامات العبودية والتذلُّل لله تعالى.
ذاق طعمَ هذه العبودية أيوبُ - عليه السلام - فنادى ربه: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ* فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} [الأنبياء: 83].
عباد الله:
ومن مِنَح المرض ومغانمه: أنَّ المريض وإنْ أعجَزَهُ العمل، وأعيَتْه الطاعة، فأجرُهُ محفوظٌ، وثوابُهُ مُدَّخَر؛ قال سيِّدُ البشر - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إذا مَرِض العبدُ أو سافر، كُتِبَ له مثلُ ما كان يعمل مُقيمًا صحيحًا))؛ رواه البخاري.
أبشِروا يا من زارَتْهم الأسقام، واعتادَتْهم الأوجاع، أبشِروا بفضل الله عليكم، فسيِّئاتُكم الماضية مُنحَطَّة، وخطيئاتُكُم الخالية ذاهبة؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: ((ما يُصيبُ المؤمنَ من وَصَبٍ ولا نَصَبٍ، ولا سَقَمٍ ولا حَزَنٍ، حتَّى الهمُّ يُهمُّه؛ إلاَّ كفَّر اللهُ به من سيِّئاته))؛ رواه مسلم.
وروى الإمام أحمد وغيره بسندٍ حسنٍ: أنَّ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((لا يزالُ البلاء بالمؤمن أو المؤمنة في جسده، وفي ماله، وفي ولده، حتَّى يلقى اللهَ وما عليه مِن خطيئة)).
قال بعض السَّلّف: \"لولا مصائبُ الدنيا، لوردنا القيامةَ مفاليس\".
فهذا المرض إذًا وما يتبعه من تمحيصٍ وثوابٍ هو - بإذن الله - سببٌ للرَّاحة الأبديَّة، والسَّعادة السَّرمديَّة في جناتٍ ونهر؛ بل وفي بلوغ درجاتها العُلى.
قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ العبد إذا سبَقَت له مِن الله منزلةٌ لم يبلغها بعمله، ابتلاه الله في جسده، أو في ماله، أو في ولده، ثُمَّ صبَّرَه، حتَّى يُبلِّغَه المنزلة التي سبقت له منه))؛ رواه الإمام أحمد، وأبو داود، وهو حديثٌ صحيحٌ.
أهل الأمراض أهلٌ للعطف والحَنان، والرَّحمة والإحسان، فالقُربُ منهم، والإحسانُ إليهم سببٌ لنوال رحمة الله: ((ارحموا مَن في الأرضِ يَرحمْكم مَن في السَّماء)).
وعظُمَ خيرُ ربِّنا لأهل الأمراض وطاب، يوم أن كتب الأجور العظيمة، والحسنات الوفيرة، لمن زارهم وواساهم، وأسمَعَهم من الكلام ما يُخفِّف آلامهم؛ روى مسلم في \"صحيحه\" من حديث ثوبانَ - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((مَن عادَ مريضًا لم يَزلْ في خُرْفةِ الجنَّة حتَّى يرجع))، قيل: يا رسولَ الله، وما خُرْفة الجنَّة؟ قال: ((جَنَاها)).
قال النَّووي: \"أي: يؤول به ذلك إلى الجنَّة واجتناء ثمارها\".
وعندَ التِّرمذي وابن ماجه، وصحَّحه ابن حبان: ((مَن عادَ مَريضًا أو زارَ أخًا له في الله، ناداهُ منادٍ: أنْ طِبتَ وطابَ ممشاك، وتبوَّأتَ من الجنَّة منزلاً)).
وأهل الأمراض أيضًا هم مِن أقرب النَّاس إلى ربِّهم، أحاطَت بهم معيَّة خالقهم، ورافَقَتهم محبَّةُ بارئهم؛ يقول - عليه الصلاة والسلام -: ((إنَّ عِظَم الجزاء مع عِظَم البلاء، وإنَّ الله إذا أحبَّ قومًا ابتلاهم))؛ رواه الترمذيُّ، وحسَّنه.
وفي الحديث القُدُسيِّ: ((يقول الله تعالى يومَ القيامة: يا ابنَ آدم، مَرضتُ فلم تعُدني؟ قال: كيف أعودُكَ وأنتَ ربُّ العالَمين؟ قال: أَمَا علمتَ أنَّ عبدي فلانًا مرِضَ فلم تعُدْه، أمَا علِمتَ أنَّك لو عُدتَّهُ لوجدتَني عندَه؟))؛ رواه مسلم في \"صحيحه\".
تلك - عبادَ الله - شيءٌ من حِكَم المرض وأسراره، وطَرَفٌ من مغانمه وأفضاله، وصَدَق القائل:
قَدْ يُنْعِمُ اللهُ بِالبَلوَى وَإِنْ عَظُمَتْ وَيَبْتَلِي اللهُ بَعْضَ القَوْمِ بِالنِّعَمِ
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه، إنَّ ربِّي غفورٌ رحيمٌ.
الخطبة الثَّانية
الحمد لله وحدَه، والصَّلاة والسَّلام على مَن لا نبي بعدَه، وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أمَّا بعدُ، فيا إخوة الإيمان:
وتظلُّ الصِّحةُ والعافية مطلبًا عزيزًا، وهاجسًا ثمينًا، ونعمةً لا تُقدَّر بثمن، ولا يحتملها ميزان، وقديمًا قالتِ الحكماء: العافية تاجٌ على رُؤوس الأصحَّاء لا يراه إلاَّ المَرِضُ.
وأصدقُ مِن ذلك وأبلغ: قول المصطفى - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن أصبحَ آمنًا في سِربِهِ، مُعافًى في جَسده، عندَه قُوتُ يومِه، فكأنَّما حِيزَت له الدُّنيا بحذافيرها))؛ رواه الترمذي، وابن ماجه، وهو حديثٌ حسنٌ.
عبادَ الله:
ومع ما في المرض من الخير والمِنَح، فإنَّ المؤمن لا يتمنَّى المرض ولا يسأله، وإذا حلَّت به هذه الأقدارُ، فإنَّ المُتعيّن على المؤمن أنْ يتعامل معها بالقدر الشَّرعيِّ الدِّيني.
ومن الواجب الشَّرعيِّ تُجاهَ الأمراض: أن يصبر المرءُ على ألمها، ويتصبَّر على لأْوائها، ويحتسب قَدَرَها بعبادة الصَّبر، لا بمعصية الجزع؛ قال عليُّ بن أبي طالب - رضي الله عنه -: \"إن صَبَرتَ، جَرَت عليك المقادير وأنت مأجورٌ، وإن جَزِعتَ، جَرَت عليك المقاديرُ وأنت مأزورٌ\".
ومن الواجب تُجاهَ الأمراض: عدمُ سبِّها وشَتمها؛ فلا يجوز وصفُ المرض بأنَّه لعينٌ أو خبيثٌ، أو أيّ نوعٍ من أنواع السبِّ، فهذا نوعٌ من سبِّ الأقدار؛ وقد قال النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - لأمِّ السَّائب - حين سمعها تشتكي الحُمَّى، وتقول: لا بارك الله فيها - قال لها: ((لا تسُبِّي الحُمَّى؛ فإنَّها تُذهِبُ خطايا بني آدم، كما يُذهِبُ الكيرُ خَبَثَ الحديد))؛ رواه مسلم.
ومن الواجب حالَ المرض: إحسانُ الظنِّ بالله، وتعلُّق القَلب به رجاءً وتذلُّلاً ومسكنةً، مع الاستيقان أنَّه لا كاشفَ للضُرِّ، ولا دافعَ للبأس إلاَّ ربُّ النَّاس.
يَا صَاحِبَ الْهَمِّ إِنَّ الْهَمَّ مُنفَرِجٌ أَبْشِرْ بِخَيرٍ فَإِنَّ الْفَارِجَ اللهُ
الْيَأْسُ يَقْطَعُ أَحْيَانًا بِصَاحِبِهِ لا تَيْأَسَنَّ فَإِنَّ الْكَافِيَ اللهُ
اللهُ يُحْدِثُ بَعْدَ الْعُسْرِ مَيْسَرَةً لا تَجْزَعَنَّ فَإِنَّ الصَّانِعَ اللهُ
إِذَا بُلِيتَ فَثِقْ بِاللهِ وَارْضَ بِهِ إِنَّ الَّذِي يَكْشِفُ الْبَلْوَى هُوَ اللهُ
واللهِ مَا لَكَ غَيْرُ اللهِ مِنْ أَحَدٍ فَحَسْبُكَ اللهُ فِي كُلٍّ لَكَ اللهُ
ومن المشروع فعلُهُ مع الأمراض: الأخذُ بالأسباب الحِسِّيَّة من التَّداوي والعلاج، فهذا من استدفاع القَدَر بالقَدَر، لا يُنافِي التوكُّلَ على الله.
ومِن الأدوية التي نطق بها الشَّرع، وصَدَّقها الواقع والتَّجرِبة: استدفاعُ المرض بالصَّدقات؛ قال - عليه الصَّلاة والسَّلام -: ((داووا مَرْضاكم بالصَّدقة))؛ رواه الطبراني وغيره، وحسَّنه الألباني.
وممَّا ينبغي ذِكرُهُ وتَذكُّرُه مع الأمراض: أنْ يحرِصَ المريض على كتابة وصيته، وتتأكَّدُ وتجبُ إذا كانت عليه حقوقٌ للعباد، فتجبُ كتابةُ الوصية حِفظًا للحقوق، وصيانةً لعِرْضِ المريض ودِينه.
وأخيرًا، أخي المبارك:
إذا نزل المرضُ - وكلنا عُرضةٌ لهذا البلاء - فإيَّاك، ثم إيَّاك أن تجعله سببًا لعصيان الله بالقنوط من رحمة الله، أو سوء الظنِّ بالله، أو بالاستعانة بالسَّحرة والمُشعوذِين طلبًا للشِّفاء والاستشفاء.
وتيقَّن - أُخَيَّ - أنَّ دِينك يُعلِّمُك أنَّه ما نزل داءٌ إلاَّ ونزل في أثره الدَّواء، وأنَّ الله لم يجعل شفاءَ الأسقام فيما حرَّم على العِباد إتيانَه، كما صحَّ بذلكم الخبر عن سيِّد البَشر.
اللَّهمَّ صَلِّ على محمَّد...
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى