رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
الشيخ/ إبراهيم بن صالح العجلان
زيارة بابا الفاتيكان لليهود
الحمدُ لله الذي هدى أهْلَ طاعته إلى سبيل الرَّشاد ، وَحَذَّرهم طريق أهْل الزَّيْغ والعناد ، ومن يضلل الله فما له من هاد، أحْمده سبحانه وأشْكره على ما أفاض منَ النِّعَم وأعاد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، القهار الجبار، أهلك عادًا الأولى، وثمود الذين جابوا الصخر بالواد.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، بلَّغ الرِّسالة فما زاغ عن الحق وما حاد، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم التناد.
أما بعد:
فاتقوا الله - عبادَ الله - حق تقواه، فمَن اتقى ربَّه حفظه وكفاه، ومنحه وأعطاه؛ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحديد: 28].
في ليلة هادئة، وبعد أن غطَّى مكةَ ظلامُها الدامس، فهدأتِ الجفون، وتلاحمتِ النجوم، وبَيْنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بين النائم واليقظان، لم يفجأه إلا سقفُ بيته قد انفرج، فإذا الروح الأمين، يدعو رسولَ رب العالمين، إلى زيارةٍ مشهودةٍ؛ ليرى من آيات ربه الكبرى، فاستجاب رسولُ الهدى، لنداء رب السموات العلا.
فجِيء بالبراق، وهو دابةٌ أبيضُ طويل، يضع حافره عند منتهى طرْفه، فلمَّا دنا المصطفى - صلى الله عليه وسلم - من البراق ليركب، نفر وتحرَّك، فقال جبريل - عليه السلام -: ألا تستحي يا براق؟! فوالله ما ركبك عبدٌ أكرمُ منه، ثم سكن البراق بعد ذلك حتى ركبه أمين السماء، وأمين الأرض.
انطلق هذا الموكب بأمر الله، يقطعُ السهول والقفار، في هذا الظلام البَهيم، متوجهًا إلى قبلة المسلمين، بيتِ المقدس، قبل أن تُحوَّل القبلة إلى الكعبة.
وصل الرَّكْب المبارك إلى الأرض المباركة، فترجَّل المصطفى - صلى الله عليه وسلم - عن البراق، ثم ربطه في حلقة كان يربط بها الأنبياءُ، بجوار حائط طويل عظيم بُنِي قديمًا.
عندها صلَّى النبي - صلى الله عليه وسلم - لربِّه ركعتين، بخشوعٍ وإخبات، مستشعرًا أن هذه البقعة قد صلَّى فيها إخوانُه منَ الأنبياء.
ثم عُرج به بعدها إلى السماء، وكان من خبر المعراج ما كان .
هذه البقعة المباركة قد أتى عليها حينٌ من الدهر شهدتْ فيه موطئَ قدمِ أشرف الخلق - صلى الله عليه وسلم.
أمَا والله لو تكلمتْ تلك الأطلال، لصاحتْ أنَّ خير يومٍ عرفتْه هو ذلك اليوم الذي زارهم فيه محمد - صلى الله عليه وسلم - وجَبرائيل - عليه السلام.
وستبقى تلك البقاع عزيزةً في النفوس، مقدسةً في الدين، تحمل في ضمير الأمة ذكرياتٍ لا تُمحى، وآهات لا تنسى .
سنظل نذكر تلك الديار، ونجأرُ إلى الله في صبحٍ ومساء : أنْ يطهرها من الأرجاس الأنجاس، وأن يمنَّ علينا بزيارتها والصلاة فيها، وتمريغ الجباه تذلُّلاً لله فيها.
معاشر المؤمنين:
هذا الحائط الذي ربط عليه المصطفى - صلى الله عليه وسلم - دابةَ البراق، هو الحائط الغربي للحرم القدسي الشريف، والمسمَّى عند المسلمين بحائط البراق، يبلغ ارتفاعه عشرين مترًا، ويبلغ طوله خمسين مترًا تقريبًا.
له في عقيدة اليهود شأنٌ وخبر، فهو من أهم الأماكن قداسةً في إرثهم الديني؛ كما يزعمون، أما لماذا تقدِّسه يهود؟ فلأنهم يعتقدون أنَّ هذا الحائط هو الجزء المتبقي من هيكل سليمان - عليه السلام.
يُحيي اليهودُ عند هذا الجدار طقوسهم العبادية، من صلاة وأدعية، وبكاء على خراب الهيكل، حتى سمي عندهم بحائط المبكى.
من خلال هذا الحائط، تدَّعي اليهود أحقيتهم في فلسطين، وإرثهم الديني فيه، وأصبحت زيارة هذا الحائط، وممارسة الطقوس اليهودية عنده تعني الشيءَ الكثير عند اليهود؛ إذ إن فيه إقرارًا واعترافًا بأحقيتهم لتلك الديار المغتصبة.
بل قد جاوز هذا الجدارُ المغتصب قيمتَه الدينية، إلى البُعد السياسي، فتتابع على زيارة هذا الحائط رؤساءُ وقادة؛ لاسترضاء ودِّ اليهود، ولكسب الأصوات المؤيدة لهم هناك، حتى غدتْ زيارة هذا الحائط امتحانًا لمعرفة قرب الولاء من اليهود من بُعده.
وقَفَ عند هذا الحائط رجالُ سياسة، وشخصيات معظَّمة، كان آخرها وأهمها زيارة بابا الفاتيكان \"بندكت السادس عشر\"، هذه الزيارة ليست عبثية، ولا سياحية؛ بل لها إشاراتها الدينية،وبعدها السياسي.
إن مما ينبغي أن يُعلم ويذكر - عباد الله - أن الكنيسة الكاثوليكية إلى وقتٍ غير بعيد، كانت تقف موقفًا حازمًا من قضية احتلال اليهود لأرض فلسطين، فظلَّت الكنيسة طوال ألفي عام متمسكةً باعتقادها أن الأمة اليهودية قد طُردوا من فلسطين؛ عقوبةً لهم على قتل المسيح، وظل الفاتيكان بتعاليمه وأدبياته معارضًا لقيام دولةٍ يهودية في أرض فلسطين.
هذا الموقف الديني عبَّر عنه قديمًا بابا الفاتيكان \"يبوس العاشر\"، حين حاول زعيم الحركة الصهيونية تيودور هرتزل أن يلقَى منه تأييدًا لجعل فلسطين وطنًا قوميًّا لليهود، فرفض البابا بشدة؛ بناءً على عقيدةٍ كاثوليكية لن يتنازل عنها.
ومارس الفاتيكان هذا الاعتراض عمليًّا بعد ذلك برسائلَ وجهها لعصبة الأمم قديمًا، فأرسل الوفود تلو الوفود؛ احتجاجًا على تأسيس كيان لدولة يهودية في أرض فلسطين، واستمرَّت الكنيسة الكاثوليكية على هذه السياسة، حتى جاء إعلان التبرئة قبل خمسين عامًا؛ تبرئة اليهود من دم المسيح؛ ليشكل هذا الإعلان انعطافًا تاريخيًّا، وتغيُّرًا في السياسة الكاثوليكية؛ ليبدأ بعدها عصر العلاقات الإيجابية بين النصارى الكاثوليك واليهود.
وقف بابا الفاتيكان عند حائط البراق؛ ليعطي العدوَّ المحتل رسالةَ تأييد على اغتصابه لديارنا ومقدساتنا، ويجرح المسلمين بعد ذلك بتصريحات استفزازية، شكر فيها الربَّ على استعادة اليهود لأرض أجدادهم، وقال ما نصُّه: إن معاداة السامية لا تزال تطلُّ برأسها القبيح في مناطقَ عديدةٍ من العالم، وهذا غير مقبول كلية، ويجب بذل كل جهد لمواجهة معاداة السامية.
إن على عجوز الفاتيكان - قبل أن يدافع عن الظلم، ويلمِّع صورة المحتل - أن يتمسك حقًّا بإرثه النصراني، فهل نسي البابا أو تناسى عقيدة النصرانية في عهدها الجديد؟ وهي أن المسيح نفسه قد أكَّد على خراب أورشليم، وهدم الهيكل، وطرد اليهود؛ عقوبةً لهم على جرائمهم.
هل غفل البابا أو تغافل عن عقيدة اليهود في عيسى - عليه السلام؟ فالمصادر اليهودية إلى الآن تعتقد أن مريم بنت عمران زانية، وأن عيسى ابن زنا.
في حين أننا - نحن المسلمين - نعظِّم شأن ابن مريم؛ فهو نبي الله ورسوله، وروحه وكلمته، ونعتقد أن مريم العذراء من أفضل نساء العالمين.
وهل جهل البابا أو تجاهل عهد أسلافِه وآبائه مع الفاروق - رضي الله عنه - يوم أن صالحوه على تسليم القدس سِلمًا، ولكن بشروط، كان في مقدمتها : أن لا يُساكنهم فيها اليهود ؟
فوافق عمر - رضي الله عنه - على هذا الشرط، وجعله نصًّا في عهد الأمان، الذي أعطاه للنصارى الرومان.
ولم ينسَ بابا الفاتيكان في زيارته الأخيرة هذه أن يعظ المسلمين بأهمية احترام الأديان، واحترام حرية العقيدة؛ {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 3].
فهذا البابا الذي يعظنا باحترام الأديان، هو هو البابا الذي قال قبل سنتين وأشهر: إن محمدًا لم يأتِ بشيء جديد، وإنما جاء بأوامرَ شيطانيةٍ وغيرِ إنسانية، ثم وصف دعوة محمدٍ باللاعقلانية.
هذا البابا الذي يدعونا إلى احترام حرية الاعتقاد، هو هو البابا الذي انطلقت في عهده - وبدعم الفاتيكان - الحملةُ المشهورة (مليون ضد محمد)، وهدفها الحد من انتشار الإسلام، وتشويه صورته.
وهو هو البابا الذي صاح سكرتيرُه الخاص محذرًا من أسلمة أوروبا.
أين حرية الاعتقاد من قرار مجلس أساقفة إيطاليا، الذي صدر قبل أشهر يطالب المجتمعَ والمؤسسات الإيطالية بوقف بناء المساجد والمراكز الإسلامية؛ زعمًا أن ذلك يمثِّل تهديدًا للثقافة المسيحية؟!
يصدر هذا القرار، المصادر لحرية الاعتقاد، في بلدٍ يوجد فيه نحو مليون مسلم.
جاء بابا الفاتيكان إلى بلاد الإسلام؛ ليصوِّر لنا أنه رمز السلام والوئام.
وحق لنا - نحن المسلمين - أن نتساءل:
هل هذه الزيارة جاءت لتخفيف الاحتقان الذي يعانيه اليهود في العالم بعد أحداث غزة؛ ليقف البابا برمزيته ومكانته للدفاع عن اليهود؟
هل تصريحات البابا المؤيدة لامتلاك اليهود أرضَ الميعاد تخلق جوًّا من السلام والتهدئة؟!
تأسَّف بابا الفاتيكان على الهولوكست - محرقةٌ وقعت لليهود قبل عشرات السنين - وصرح أن سيصلي من أجل ضحايا تلك المحرقة، ولم يتأسف على المحرقة التي أشعلها اليهود في أبناء غزة، والتي لم يجفَّ فيها الدم بعدُ.
إذا كانت الزيارة لأجل السلام والتأسُّف على المجازر، فلماذا لم يتأسف بابا الفاتيكان على الجرائم النصرانية في البلدان الإسلامية؟
ماذا عن المحرقة الصليبية في بلاد الأندلس ضد المسلمين، حين قَتَلوا وأحرقوا وشردوا ثلاثة ملايين مسلم، حتى لم يبقَ في الأندلس إلا الأطلالُ والآثار؟!
ماذا عن المجازر المروعة، والمذابح المهولة، التي قام بها الصليبيون، وبتحريض من الكنيسة، حين دخلوا القدس تحت رايةٍ أسموها \"خدَّام الرب\"، فدخلوا المدينة بعد أن أعطَوا أهلها الأمان، ثم استباحوا المدينة ثلاثة أيام، قتلوا فيها أكثر من سبعين ألف مسلم؟!
ما نسي التاريخ الحملات الصليبية البربرية، في صور الاستعمار البغيض للبلدان الإسلامية، وما حصل فيها من قتل وتشريد، ودمار وتخريب؛ مجازر البوسنة والهرسك، مذابح كوسوفا، احتلال العراق وأفغانستان.
وآخرها أفعال الخزي والعار واللاإنسانية في سجون أبي غريب، ومعتقل جوانتنامو، والتي ستبقى وصمة عار لا تمحى في تاريخ النصرانية \"المتحضرة\"، لماذا لم نسمع من بابا الفاتيكان كلمةً واحدة في استهجان واستنكار هذه المآسي؟!
أم أن قضايانا ودماءنا قد رخصت وهانت إلى هذه الدرجة التي لا يُعبأ فيها بنا؟!
إخوة الإيمان:
ونحن نرى هذا التعاطف والاقتراب النصراني تجاه اليهود، يجب ألاَّ ننسى أن نربط القضية بجذورها ومعتقداتها، فقد نبَّأنا الله في كتابه أن اليهود والنصارى بعضهم أولياء بعض، وأخبرنا - سبحانه - أننا سنسمع من الذين أوتوا الكتابَ ومن الذين أشركوا أذًى كثيرًا.
كما ينبغي لنا - معاشرَ المؤمنين - أن نفرِّق بين ديانة المسيح - عليه السلام - التي جاءت بالتوحيد الخالص، وبشَّرت برسولٍ يأتي من بعده اسمه أحمد، وبين الديانة النصرانية المبدَّلة، والتي حرَّفها اليهودي بولس، فأدخل عليهم عقيدة التثليث: أن الله ثالث ثلاثة؛ {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} [المائدة: 73]. تعالى الله جل جلاله، وتقدَّست أسماؤه، عما يقول الظالمون الضالون علوًّا كبيرًا.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [النساء: 171].
بارك الله لي ولكم...
زيارة بابا الفاتيكان لليهود
الحمدُ لله الذي هدى أهْلَ طاعته إلى سبيل الرَّشاد ، وَحَذَّرهم طريق أهْل الزَّيْغ والعناد ، ومن يضلل الله فما له من هاد، أحْمده سبحانه وأشْكره على ما أفاض منَ النِّعَم وأعاد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، القهار الجبار، أهلك عادًا الأولى، وثمود الذين جابوا الصخر بالواد.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، بلَّغ الرِّسالة فما زاغ عن الحق وما حاد، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم التناد.
أما بعد:
فاتقوا الله - عبادَ الله - حق تقواه، فمَن اتقى ربَّه حفظه وكفاه، ومنحه وأعطاه؛ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحديد: 28].
في ليلة هادئة، وبعد أن غطَّى مكةَ ظلامُها الدامس، فهدأتِ الجفون، وتلاحمتِ النجوم، وبَيْنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بين النائم واليقظان، لم يفجأه إلا سقفُ بيته قد انفرج، فإذا الروح الأمين، يدعو رسولَ رب العالمين، إلى زيارةٍ مشهودةٍ؛ ليرى من آيات ربه الكبرى، فاستجاب رسولُ الهدى، لنداء رب السموات العلا.
فجِيء بالبراق، وهو دابةٌ أبيضُ طويل، يضع حافره عند منتهى طرْفه، فلمَّا دنا المصطفى - صلى الله عليه وسلم - من البراق ليركب، نفر وتحرَّك، فقال جبريل - عليه السلام -: ألا تستحي يا براق؟! فوالله ما ركبك عبدٌ أكرمُ منه، ثم سكن البراق بعد ذلك حتى ركبه أمين السماء، وأمين الأرض.
انطلق هذا الموكب بأمر الله، يقطعُ السهول والقفار، في هذا الظلام البَهيم، متوجهًا إلى قبلة المسلمين، بيتِ المقدس، قبل أن تُحوَّل القبلة إلى الكعبة.
وصل الرَّكْب المبارك إلى الأرض المباركة، فترجَّل المصطفى - صلى الله عليه وسلم - عن البراق، ثم ربطه في حلقة كان يربط بها الأنبياءُ، بجوار حائط طويل عظيم بُنِي قديمًا.
عندها صلَّى النبي - صلى الله عليه وسلم - لربِّه ركعتين، بخشوعٍ وإخبات، مستشعرًا أن هذه البقعة قد صلَّى فيها إخوانُه منَ الأنبياء.
ثم عُرج به بعدها إلى السماء، وكان من خبر المعراج ما كان .
هذه البقعة المباركة قد أتى عليها حينٌ من الدهر شهدتْ فيه موطئَ قدمِ أشرف الخلق - صلى الله عليه وسلم.
أمَا والله لو تكلمتْ تلك الأطلال، لصاحتْ أنَّ خير يومٍ عرفتْه هو ذلك اليوم الذي زارهم فيه محمد - صلى الله عليه وسلم - وجَبرائيل - عليه السلام.
وستبقى تلك البقاع عزيزةً في النفوس، مقدسةً في الدين، تحمل في ضمير الأمة ذكرياتٍ لا تُمحى، وآهات لا تنسى .
سنظل نذكر تلك الديار، ونجأرُ إلى الله في صبحٍ ومساء : أنْ يطهرها من الأرجاس الأنجاس، وأن يمنَّ علينا بزيارتها والصلاة فيها، وتمريغ الجباه تذلُّلاً لله فيها.
معاشر المؤمنين:
هذا الحائط الذي ربط عليه المصطفى - صلى الله عليه وسلم - دابةَ البراق، هو الحائط الغربي للحرم القدسي الشريف، والمسمَّى عند المسلمين بحائط البراق، يبلغ ارتفاعه عشرين مترًا، ويبلغ طوله خمسين مترًا تقريبًا.
له في عقيدة اليهود شأنٌ وخبر، فهو من أهم الأماكن قداسةً في إرثهم الديني؛ كما يزعمون، أما لماذا تقدِّسه يهود؟ فلأنهم يعتقدون أنَّ هذا الحائط هو الجزء المتبقي من هيكل سليمان - عليه السلام.
يُحيي اليهودُ عند هذا الجدار طقوسهم العبادية، من صلاة وأدعية، وبكاء على خراب الهيكل، حتى سمي عندهم بحائط المبكى.
من خلال هذا الحائط، تدَّعي اليهود أحقيتهم في فلسطين، وإرثهم الديني فيه، وأصبحت زيارة هذا الحائط، وممارسة الطقوس اليهودية عنده تعني الشيءَ الكثير عند اليهود؛ إذ إن فيه إقرارًا واعترافًا بأحقيتهم لتلك الديار المغتصبة.
بل قد جاوز هذا الجدارُ المغتصب قيمتَه الدينية، إلى البُعد السياسي، فتتابع على زيارة هذا الحائط رؤساءُ وقادة؛ لاسترضاء ودِّ اليهود، ولكسب الأصوات المؤيدة لهم هناك، حتى غدتْ زيارة هذا الحائط امتحانًا لمعرفة قرب الولاء من اليهود من بُعده.
وقَفَ عند هذا الحائط رجالُ سياسة، وشخصيات معظَّمة، كان آخرها وأهمها زيارة بابا الفاتيكان \"بندكت السادس عشر\"، هذه الزيارة ليست عبثية، ولا سياحية؛ بل لها إشاراتها الدينية،وبعدها السياسي.
إن مما ينبغي أن يُعلم ويذكر - عباد الله - أن الكنيسة الكاثوليكية إلى وقتٍ غير بعيد، كانت تقف موقفًا حازمًا من قضية احتلال اليهود لأرض فلسطين، فظلَّت الكنيسة طوال ألفي عام متمسكةً باعتقادها أن الأمة اليهودية قد طُردوا من فلسطين؛ عقوبةً لهم على قتل المسيح، وظل الفاتيكان بتعاليمه وأدبياته معارضًا لقيام دولةٍ يهودية في أرض فلسطين.
هذا الموقف الديني عبَّر عنه قديمًا بابا الفاتيكان \"يبوس العاشر\"، حين حاول زعيم الحركة الصهيونية تيودور هرتزل أن يلقَى منه تأييدًا لجعل فلسطين وطنًا قوميًّا لليهود، فرفض البابا بشدة؛ بناءً على عقيدةٍ كاثوليكية لن يتنازل عنها.
ومارس الفاتيكان هذا الاعتراض عمليًّا بعد ذلك برسائلَ وجهها لعصبة الأمم قديمًا، فأرسل الوفود تلو الوفود؛ احتجاجًا على تأسيس كيان لدولة يهودية في أرض فلسطين، واستمرَّت الكنيسة الكاثوليكية على هذه السياسة، حتى جاء إعلان التبرئة قبل خمسين عامًا؛ تبرئة اليهود من دم المسيح؛ ليشكل هذا الإعلان انعطافًا تاريخيًّا، وتغيُّرًا في السياسة الكاثوليكية؛ ليبدأ بعدها عصر العلاقات الإيجابية بين النصارى الكاثوليك واليهود.
وقف بابا الفاتيكان عند حائط البراق؛ ليعطي العدوَّ المحتل رسالةَ تأييد على اغتصابه لديارنا ومقدساتنا، ويجرح المسلمين بعد ذلك بتصريحات استفزازية، شكر فيها الربَّ على استعادة اليهود لأرض أجدادهم، وقال ما نصُّه: إن معاداة السامية لا تزال تطلُّ برأسها القبيح في مناطقَ عديدةٍ من العالم، وهذا غير مقبول كلية، ويجب بذل كل جهد لمواجهة معاداة السامية.
إن على عجوز الفاتيكان - قبل أن يدافع عن الظلم، ويلمِّع صورة المحتل - أن يتمسك حقًّا بإرثه النصراني، فهل نسي البابا أو تناسى عقيدة النصرانية في عهدها الجديد؟ وهي أن المسيح نفسه قد أكَّد على خراب أورشليم، وهدم الهيكل، وطرد اليهود؛ عقوبةً لهم على جرائمهم.
هل غفل البابا أو تغافل عن عقيدة اليهود في عيسى - عليه السلام؟ فالمصادر اليهودية إلى الآن تعتقد أن مريم بنت عمران زانية، وأن عيسى ابن زنا.
في حين أننا - نحن المسلمين - نعظِّم شأن ابن مريم؛ فهو نبي الله ورسوله، وروحه وكلمته، ونعتقد أن مريم العذراء من أفضل نساء العالمين.
وهل جهل البابا أو تجاهل عهد أسلافِه وآبائه مع الفاروق - رضي الله عنه - يوم أن صالحوه على تسليم القدس سِلمًا، ولكن بشروط، كان في مقدمتها : أن لا يُساكنهم فيها اليهود ؟
فوافق عمر - رضي الله عنه - على هذا الشرط، وجعله نصًّا في عهد الأمان، الذي أعطاه للنصارى الرومان.
ولم ينسَ بابا الفاتيكان في زيارته الأخيرة هذه أن يعظ المسلمين بأهمية احترام الأديان، واحترام حرية العقيدة؛ {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 3].
فهذا البابا الذي يعظنا باحترام الأديان، هو هو البابا الذي قال قبل سنتين وأشهر: إن محمدًا لم يأتِ بشيء جديد، وإنما جاء بأوامرَ شيطانيةٍ وغيرِ إنسانية، ثم وصف دعوة محمدٍ باللاعقلانية.
هذا البابا الذي يدعونا إلى احترام حرية الاعتقاد، هو هو البابا الذي انطلقت في عهده - وبدعم الفاتيكان - الحملةُ المشهورة (مليون ضد محمد)، وهدفها الحد من انتشار الإسلام، وتشويه صورته.
وهو هو البابا الذي صاح سكرتيرُه الخاص محذرًا من أسلمة أوروبا.
أين حرية الاعتقاد من قرار مجلس أساقفة إيطاليا، الذي صدر قبل أشهر يطالب المجتمعَ والمؤسسات الإيطالية بوقف بناء المساجد والمراكز الإسلامية؛ زعمًا أن ذلك يمثِّل تهديدًا للثقافة المسيحية؟!
يصدر هذا القرار، المصادر لحرية الاعتقاد، في بلدٍ يوجد فيه نحو مليون مسلم.
جاء بابا الفاتيكان إلى بلاد الإسلام؛ ليصوِّر لنا أنه رمز السلام والوئام.
وحق لنا - نحن المسلمين - أن نتساءل:
هل هذه الزيارة جاءت لتخفيف الاحتقان الذي يعانيه اليهود في العالم بعد أحداث غزة؛ ليقف البابا برمزيته ومكانته للدفاع عن اليهود؟
هل تصريحات البابا المؤيدة لامتلاك اليهود أرضَ الميعاد تخلق جوًّا من السلام والتهدئة؟!
تأسَّف بابا الفاتيكان على الهولوكست - محرقةٌ وقعت لليهود قبل عشرات السنين - وصرح أن سيصلي من أجل ضحايا تلك المحرقة، ولم يتأسف على المحرقة التي أشعلها اليهود في أبناء غزة، والتي لم يجفَّ فيها الدم بعدُ.
إذا كانت الزيارة لأجل السلام والتأسُّف على المجازر، فلماذا لم يتأسف بابا الفاتيكان على الجرائم النصرانية في البلدان الإسلامية؟
ماذا عن المحرقة الصليبية في بلاد الأندلس ضد المسلمين، حين قَتَلوا وأحرقوا وشردوا ثلاثة ملايين مسلم، حتى لم يبقَ في الأندلس إلا الأطلالُ والآثار؟!
ماذا عن المجازر المروعة، والمذابح المهولة، التي قام بها الصليبيون، وبتحريض من الكنيسة، حين دخلوا القدس تحت رايةٍ أسموها \"خدَّام الرب\"، فدخلوا المدينة بعد أن أعطَوا أهلها الأمان، ثم استباحوا المدينة ثلاثة أيام، قتلوا فيها أكثر من سبعين ألف مسلم؟!
ما نسي التاريخ الحملات الصليبية البربرية، في صور الاستعمار البغيض للبلدان الإسلامية، وما حصل فيها من قتل وتشريد، ودمار وتخريب؛ مجازر البوسنة والهرسك، مذابح كوسوفا، احتلال العراق وأفغانستان.
وآخرها أفعال الخزي والعار واللاإنسانية في سجون أبي غريب، ومعتقل جوانتنامو، والتي ستبقى وصمة عار لا تمحى في تاريخ النصرانية \"المتحضرة\"، لماذا لم نسمع من بابا الفاتيكان كلمةً واحدة في استهجان واستنكار هذه المآسي؟!
أم أن قضايانا ودماءنا قد رخصت وهانت إلى هذه الدرجة التي لا يُعبأ فيها بنا؟!
إخوة الإيمان:
ونحن نرى هذا التعاطف والاقتراب النصراني تجاه اليهود، يجب ألاَّ ننسى أن نربط القضية بجذورها ومعتقداتها، فقد نبَّأنا الله في كتابه أن اليهود والنصارى بعضهم أولياء بعض، وأخبرنا - سبحانه - أننا سنسمع من الذين أوتوا الكتابَ ومن الذين أشركوا أذًى كثيرًا.
كما ينبغي لنا - معاشرَ المؤمنين - أن نفرِّق بين ديانة المسيح - عليه السلام - التي جاءت بالتوحيد الخالص، وبشَّرت برسولٍ يأتي من بعده اسمه أحمد، وبين الديانة النصرانية المبدَّلة، والتي حرَّفها اليهودي بولس، فأدخل عليهم عقيدة التثليث: أن الله ثالث ثلاثة؛ {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} [المائدة: 73]. تعالى الله جل جلاله، وتقدَّست أسماؤه، عما يقول الظالمون الضالون علوًّا كبيرًا.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [النساء: 171].
بارك الله لي ولكم...
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى