رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
أحمد بن حسين الفقيهي
وليال عشـــر
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا .
أما بعد ....
فيا عباد الله : إن من نعم الله تعالى علينا أن مواسم الخيـر يتبع بعضها بعضاً ، فبعد أن نقضى موسم رمضان ، جاء موسم الحج ، وموسم العشر من ذي الحجة.
وما من موسم من هذه المواسم الفاضلة إلا ولله تعالى فيه وظيفةٌ من وظائف طاعاته يتقرب بها إليه ، ولله فيها لطيفةٌ من لطائف نفحاته يصيب بها من يشاء بفضله ورحمته عليه ، فالسعيد من اغتنم مواسم الشهور والأيام والساعات ، وتقرب فيها إلى مولاه بما فيها من وظائف الطاعات، فعسى أن تصيبه نفحةٌ من تلك النفحات ، فيسعد بها سعادةً يأمن بعدها من النار وما فيها من اللفحات ...
أيها المسلمون : ها هي أيام العشر نزلت بساحتكم وحلت بناديكم والموفق فيها من اغتنمها بالصالحات والمسابقة إلى الخيرات ، والمحروم من أضاعها بالغفلة عن القربات وارتكاب الفواحش والمحرمات .
هذه الأيام المباركة أقســـم بــها ربكم سبحانه ليدلل لكم على أهميتها وعظم نفعها قال تعالى : ) والفجر وليال عشر ( ؛ قال ابن عباس وغير واحد من السلف والخلف رضي الله عنهم: إنها عشر ذي الحجة .
عباد الله :لقد قرن المولى سبحانه هذه الأيام العشر بأفضل الأوقات ، والقرين بالمقارن يقتدي ، قرنها بالفجر وبالشفع وبالوتر وبالليل ، أما اقترانها بالفجر فلأنه بحلوله تعود الحياة إلى الأبدان بعد الموت ، وتعود الأنوار بعد الظلمة ، والحركة بعد السكون ، والقوة بعد الضعف ، وتجتمع فيه الملائكة ، وهو أقرب الأوقات إلى النزول الإلهي في الثلث الأخير من الليل ، وبه يعرف أهل الإيمان من أهل النفاق ، وقرنها بالشفع والوتر لأنهما العددان المكونان للمخلوقات ، فما من مخلوق إلا وهو شفع أو وتر ، وحتى العشر فيها شفع وهو الفجر ، وفيه الوتر وهو عرفة ، وقرنها بالليل لفضله ، فقد قُدم على النهار وذكر في القرآن أكثر من النهار ، وهو أفضل وقت لنفل الصلاة وهو أقرب إلى الإخلاص لأنه زمن خلوةٍ وانفراد ، وهو أقرب إلى مراقبة الرب تعالى إذ لا يراه ولا يسمعه ولا يعلم بحاله إلا الله ، وهو أقرب إلى إجابة الدعاء وإعطاء السؤال وغفران الذنوب .
أيها المسلمون : لقد دلت النصوص أن كل عمل صالح يقع في هذه الأيام فهو أحب إلى الله تعالى من نفسه إذا وقع في غيرها ، وإذا كان أحب إلى الله فهو أفضل عنده ، وإن العامل في هذه العشر أفضل من المجاهد الذي رجع بنفسه وماله، عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله منه في هذه الأيام العشر قالوا : ولا الجهاد في سبيل الله ، قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشيء )) أخرجه البخاري وهذا اللفظ للترمذي .
عبدالله : يا من فاته العمل في أيام وليالي شهر رمضان المبارك دونك هذه الأيام هي أفضل أيام الدنيا على الإطلاق ، وفضلها يزيد على فضل أيام رمضان ، عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أفضل أيام الدنيا أيام العشر ، قالوا : يا رسول الله ولا مثلهن في سبيل الله ؟ قال : ولا مثلهن في سبيل الله إلا من عُفَّر وجهه بالتراب ) أخرجه البزار وأبو يعلى وصححه الألباني رحمه الله .
وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن عشر ذي الحجة ، والعشر الأواخر من رمضان : أيهما أفضل ؟ فأجاب : أيام عشر ذي الحجة أفضل من أيام العشر من رمضان ، والليالي العشر الأواخر من رمضان أفضل من ليالي عشر ذي الحجة .. أ . هـ .
عباد الله :إن من فضائل هذه الأيام أن العبادات تجتمع فيها ولا تجتمع في غيرها فهي أيام الكمال ، ففيها الصلوات كما في غيرها وفيها الصدقة ، وفيها الصوم لمن أراد القضاء والتطوع ، وفيها الحج إلى بيت الله ولا يكون في غيرها ، وفيها الذكر والتلبية والدعاء ، واجتماع هذه العبادات فيها شرفٌ لها لا يضاهيها غيرها ولا يساويها سواها ، قال ابن حجر رحمه الله : والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه ، وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج ، ولا يتأتى ذلك في غيره .. أ هـ .
عباد الله : إن أولى الأعمال بالاهتمام في هذه الأيام ، المحافظة على الفرائض التي أوجبها الله على عباده ، ومن ذلك الصلاة والبر وصلة الرحم وغيرها ، قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه سبحانه ، (( وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه )) رواه البخاري .
إنه لا عذر في مثل هذه الأيام فضلاً عن غيرها لا سيما مع قرب الإجازة وطول الليل أن نتخلف ونتهاون بالصلوات ، خاصةً صلاة الفجر التي تئن من قلة السائرين إليها .
أيها المسلمون:إن التزود بالنوافل سبب للحصول على محبة الله سبحانه (( ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي عليها ، ولئن سألني لأعطينه ، ولئن استعاذني لأعيذنه )).
ومن النوافل المتعلقة بركن الصلاة تلك الرواتب التي من حافظ عليها بني الله له بها بيتاً في الجنة .
ومنها وصية المصطفى لأبي هريرة رضي الله عنه " ..صلاة الضحى ، وأن يوتر قبل أن ينام .."
عباد الله : إن ليالي وأيام العشر وطول ليل الشتاء دافعان للتزود بالخيرات والمسابقة في الطاعات ، ولقد استحب الشافعي رحمه الله قيام ليالي هذه الأيام العشر اغتناماً لفضلها ، وكان سعيد بن جبير رحمه الله ينادي فيقول : لا تطفئوا سرجكم ليالي العشر ، تعجبه العبادة وكان يجتهد اجتهاداً حتى ما يكاد يقدر عليه رحمه الله رحمة واسعة .
أيها المسلمون : ومن عبادة الصلاة إلى عبادة الصيام التي أضافها المولى سبحانه إلى نفسه وجعل جزاءها إليه .
هذه العبادة داخلة في عموم الأعمال الصالحة التي جاء الحث عليها في حديث (( ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله )) ، أما بخصوص صيام هذه الأيام فقد جاء عند الإمام أحمد والنسائي وأبو داود وغيرهما من حديث هُنيدةَ بن خالد عن امرأته قالت : حدثتني بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم عاشوراء ، وتسعاً من ذي الحجة ، وثلاث أيام من الشهر ) والحديث صححه الألباني رحمه الله .
وأما ما ورد عن عائشة رضي الله عنهما في أنها لم تر النبي صلى الله عليه وسلم صائماً العشر قط ، فأجيب عنه بأنها لم ترهُ هي صائماً فيها ، وربما رأته ذات مرة غير صائم لعارض مرض أو سفر أو غيرهما فجزمت بعدم صيامه ، والمثبت مقدم على النافي إن صح كما يقول ابن القيم رحمه الله .
أيها المسلمون : لقد أجاز العلماء جواز الجمع بين نيتين في صيام يوم واحد ، وعليه فمن كانت له عادة صيام يومي الاثنين والخميس فليحرص على صيامها هذه الأيام ويجمع بين نيتي العشر والاثنين والخميس .
وكذلك من كانت له عادة صيام الأيام البيض فليقدم صيامها إلى هذه الأيام ويجمع بين النيتين ، لحرمة صيام أيام التشريق في عيد الأضحى لأنها أيام أكل وشرب وذكر لله .
أما من كان عليه قضاء من رمضان ، فلا يحرم نفسه القضاء واغتنام صيام هذه الأيام فقد أفتى العلامة بن عثيمين رحمه الله بجواز صيام القضاء مع صيام النافلة بنية واحدة وقال رحمه الله ما نصه :(( فمن صام يوم عرفه أو يوم عاشوراء وعليه قضاء من رمضان فصيامه صحيح ، لكن لو نوى أن يصوم هذا اليوم عن قضاء رمضان حصل له الأجران : أجر يوم عرفة ، وأجر يوم عاشوراء مع أجر القضاء )) . أ هـ.
عباد الله: ومن عبادة الصلاة والصيام ، إلى أيسر العبادات وأسهلها ألا وهي ذكر الله سبحانه.
قال ابن رجب رحمه الله : وأما استحباب الإكثار من الذكر فيها – أي في أيام العشر – فقد دل عليه قوله سبحانه ) ويذكروا اسم الله في أيام معلومات ( ، فإن الأيام المعلومات هي أيام العشر عند جمهور العلماء .
وقال النووي رحمه الله : ( يستحب الإكثار من الأذكار في هذه العشر زيادةً على غيرها ، ويتأكد ذلك في يوم عرفة أكثر من باقي العشر) ومما يدخل في الأذكار وينبغي الحرص عليه ، وتعليم الأبناء والبنات المحافظة عليه ، الأوراد اليومية كأذكار الصباح والمساء ، وأذكار النوم ، والأذكار الواردة بعد الصلاة.
أيها المسلمون : إن أعظم عمل صالح في هذه العشر حج بيت الله الحرام ، فهو فرضٌ على من لم يحج ، ويجب عليه أن يبادر إلى أدائه ، فإن تأخر مع القدرة عليه فهو آثم ، ومن سبق أن أداه ، ولديه القدرة على أن يتطوع لله به فهو من أفضل الأعمال التي تقرب إلى الله تعالى ، ولو لم يكن فيه إلا غفران الذنوب لكان كافياً للتطوع لله تعالى به، قال النبي صلى الله عليه وسلم( الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) وقال عليه الصلاة والسلام ( من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه) .
اللهم يسر للحجاج حجهم ، وتقبل منهم عملهم يا حي يا قيوم ، أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم لي ولكم .
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين ، ولاعدوان إلا على الظالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .أما بعد
فيا عباد الله : أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أم سلمة رضي الله عنها قالت : قال صلى الله عليه وسلم : إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يمس من شعره وبشره شيئاً ، وفي رواية فلا يأخذن شعراً ، ولا يقلمن ظفراً ) .
و من المسائل في هذا الحديث :
أولاً : أنه يدل على تحريم أخذ شيء من الأشعار والأبشار والأظافر لأن الأصل في النهي أنه للتحريم ، لكن من تعمد الأخذ في هذه الأيام وهو يريد الأضحية فعليه التوبة إلى الله والاستغفار ، ولا فدية عليه إجماعاً ، والأضحية بحالها .
ثانياً : قيل في الحكمة في الإمساك أنه لما كان المضحي مشابها للمحرم في بعض أعمالا النسك ، وهو التقرب إلى الله بذبح القربان أعطى بعض أحكامه ، وقيل : ليبقى كامل الأجزاء ليعتق يوم العيد من النار .
ثالثاً : من أخذ من شعره أو ظفره أول العشر لعدم إرادته الأضحية ، ثم أرادها في أثناء العشر أمسك من حين إرادته .
رابعاً : المضحى عنهم كالزوجة والأولاد لا يتناولهم هذا الحديث ، وإنما يخص الحديث صاحب الأضحية فقط ، ما لم يكن لأحد الأبناء أو الزوجة أضحية تخصه.
خامساً : من وكل شخص في الذبح عنه ، فالنهي يخص الموكّل ، أما الوكيل فلا علاقة له بالتحريم .
سادساً : من له أضحية وعزم على الحج فإنه لا يأخذ من شعره وظفره إذا أراد الإحرام ، لكن إذا كان متمتعاً قصر من شعره عند الانتهاء من عمرته ثم أمسك حتى ينحر هديه .
أيها المسلمون : ينتظر البعض بفارغ الصبر حلول الإجازة ليجري البصر في آثار نعمة الله سبحانه من الأمطار والخيرات ، ولا بأس أن يروح المرء عن نفسه، لكن المؤمن يحتسب نزهته وينوي بها التقوي على طاعة الله سبحانه لكي لا تذهب عليه هذه الأيام وخيـرها سدى .
وليحذر المتنزهون من اقتراف الآثام وعصيان الملك العلام ، فهذه الأيام المباركة تضاعف فيها السيئات كما تضاعف فيها الحسنات ، لأنها من الأشهر الحرم التي حرمها الله سبحانه ونهانا فيها عن ظلم أنفسنا .
ولنتذكر جميعاً أن نعمة المطر وسائر النعم بالشكر تدوم وتكثر ، وبالكفران والعصيان تذهب وتفر ، فلنتق الله جميعاً ، ولا نعرض أنفسنا للعن البهائم لنا ، قال مجاهد رحمه الله : إن البهائم تلعن عصاة بني آدم إذا اشتدت السّنة وأمسك المطر ، تقول : هذا بشؤم معصية ابن آدم .
عباد الله : الغنيمة الغنيمة بانتهاز الفرصة في هذه الأيام العظيمة ، فما منها عوض ولا لها قيمة ، المبادرة المبادرة بالعمل ، والعجل العجل قبل هجوم الأجل ، قبل أن يندم المفرط على ما فعل ، قبل أن يسأل الرجعة ليعمل صالحاً فلا يجاب إلى ما سأل ، قبل أن يحول الموت بين المؤمل وبلوغ الأمل ، قبل أن يصير المرءُ مرتهناً في حفرته بما قدم من عمل .
إذا هبت رياحك فاغتنمها * فإن لكل خافقة سكـــون
ولا تغفل عن الإحسان فيها * فما تدري السكون متى يكون
وليال عشـــر
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا .
أما بعد ....
فيا عباد الله : إن من نعم الله تعالى علينا أن مواسم الخيـر يتبع بعضها بعضاً ، فبعد أن نقضى موسم رمضان ، جاء موسم الحج ، وموسم العشر من ذي الحجة.
وما من موسم من هذه المواسم الفاضلة إلا ولله تعالى فيه وظيفةٌ من وظائف طاعاته يتقرب بها إليه ، ولله فيها لطيفةٌ من لطائف نفحاته يصيب بها من يشاء بفضله ورحمته عليه ، فالسعيد من اغتنم مواسم الشهور والأيام والساعات ، وتقرب فيها إلى مولاه بما فيها من وظائف الطاعات، فعسى أن تصيبه نفحةٌ من تلك النفحات ، فيسعد بها سعادةً يأمن بعدها من النار وما فيها من اللفحات ...
أيها المسلمون : ها هي أيام العشر نزلت بساحتكم وحلت بناديكم والموفق فيها من اغتنمها بالصالحات والمسابقة إلى الخيرات ، والمحروم من أضاعها بالغفلة عن القربات وارتكاب الفواحش والمحرمات .
هذه الأيام المباركة أقســـم بــها ربكم سبحانه ليدلل لكم على أهميتها وعظم نفعها قال تعالى : ) والفجر وليال عشر ( ؛ قال ابن عباس وغير واحد من السلف والخلف رضي الله عنهم: إنها عشر ذي الحجة .
عباد الله :لقد قرن المولى سبحانه هذه الأيام العشر بأفضل الأوقات ، والقرين بالمقارن يقتدي ، قرنها بالفجر وبالشفع وبالوتر وبالليل ، أما اقترانها بالفجر فلأنه بحلوله تعود الحياة إلى الأبدان بعد الموت ، وتعود الأنوار بعد الظلمة ، والحركة بعد السكون ، والقوة بعد الضعف ، وتجتمع فيه الملائكة ، وهو أقرب الأوقات إلى النزول الإلهي في الثلث الأخير من الليل ، وبه يعرف أهل الإيمان من أهل النفاق ، وقرنها بالشفع والوتر لأنهما العددان المكونان للمخلوقات ، فما من مخلوق إلا وهو شفع أو وتر ، وحتى العشر فيها شفع وهو الفجر ، وفيه الوتر وهو عرفة ، وقرنها بالليل لفضله ، فقد قُدم على النهار وذكر في القرآن أكثر من النهار ، وهو أفضل وقت لنفل الصلاة وهو أقرب إلى الإخلاص لأنه زمن خلوةٍ وانفراد ، وهو أقرب إلى مراقبة الرب تعالى إذ لا يراه ولا يسمعه ولا يعلم بحاله إلا الله ، وهو أقرب إلى إجابة الدعاء وإعطاء السؤال وغفران الذنوب .
أيها المسلمون : لقد دلت النصوص أن كل عمل صالح يقع في هذه الأيام فهو أحب إلى الله تعالى من نفسه إذا وقع في غيرها ، وإذا كان أحب إلى الله فهو أفضل عنده ، وإن العامل في هذه العشر أفضل من المجاهد الذي رجع بنفسه وماله، عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله منه في هذه الأيام العشر قالوا : ولا الجهاد في سبيل الله ، قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشيء )) أخرجه البخاري وهذا اللفظ للترمذي .
عبدالله : يا من فاته العمل في أيام وليالي شهر رمضان المبارك دونك هذه الأيام هي أفضل أيام الدنيا على الإطلاق ، وفضلها يزيد على فضل أيام رمضان ، عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أفضل أيام الدنيا أيام العشر ، قالوا : يا رسول الله ولا مثلهن في سبيل الله ؟ قال : ولا مثلهن في سبيل الله إلا من عُفَّر وجهه بالتراب ) أخرجه البزار وأبو يعلى وصححه الألباني رحمه الله .
وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن عشر ذي الحجة ، والعشر الأواخر من رمضان : أيهما أفضل ؟ فأجاب : أيام عشر ذي الحجة أفضل من أيام العشر من رمضان ، والليالي العشر الأواخر من رمضان أفضل من ليالي عشر ذي الحجة .. أ . هـ .
عباد الله :إن من فضائل هذه الأيام أن العبادات تجتمع فيها ولا تجتمع في غيرها فهي أيام الكمال ، ففيها الصلوات كما في غيرها وفيها الصدقة ، وفيها الصوم لمن أراد القضاء والتطوع ، وفيها الحج إلى بيت الله ولا يكون في غيرها ، وفيها الذكر والتلبية والدعاء ، واجتماع هذه العبادات فيها شرفٌ لها لا يضاهيها غيرها ولا يساويها سواها ، قال ابن حجر رحمه الله : والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه ، وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج ، ولا يتأتى ذلك في غيره .. أ هـ .
عباد الله : إن أولى الأعمال بالاهتمام في هذه الأيام ، المحافظة على الفرائض التي أوجبها الله على عباده ، ومن ذلك الصلاة والبر وصلة الرحم وغيرها ، قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه سبحانه ، (( وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه )) رواه البخاري .
إنه لا عذر في مثل هذه الأيام فضلاً عن غيرها لا سيما مع قرب الإجازة وطول الليل أن نتخلف ونتهاون بالصلوات ، خاصةً صلاة الفجر التي تئن من قلة السائرين إليها .
أيها المسلمون:إن التزود بالنوافل سبب للحصول على محبة الله سبحانه (( ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي عليها ، ولئن سألني لأعطينه ، ولئن استعاذني لأعيذنه )).
ومن النوافل المتعلقة بركن الصلاة تلك الرواتب التي من حافظ عليها بني الله له بها بيتاً في الجنة .
ومنها وصية المصطفى لأبي هريرة رضي الله عنه " ..صلاة الضحى ، وأن يوتر قبل أن ينام .."
عباد الله : إن ليالي وأيام العشر وطول ليل الشتاء دافعان للتزود بالخيرات والمسابقة في الطاعات ، ولقد استحب الشافعي رحمه الله قيام ليالي هذه الأيام العشر اغتناماً لفضلها ، وكان سعيد بن جبير رحمه الله ينادي فيقول : لا تطفئوا سرجكم ليالي العشر ، تعجبه العبادة وكان يجتهد اجتهاداً حتى ما يكاد يقدر عليه رحمه الله رحمة واسعة .
أيها المسلمون : ومن عبادة الصلاة إلى عبادة الصيام التي أضافها المولى سبحانه إلى نفسه وجعل جزاءها إليه .
هذه العبادة داخلة في عموم الأعمال الصالحة التي جاء الحث عليها في حديث (( ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله )) ، أما بخصوص صيام هذه الأيام فقد جاء عند الإمام أحمد والنسائي وأبو داود وغيرهما من حديث هُنيدةَ بن خالد عن امرأته قالت : حدثتني بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم عاشوراء ، وتسعاً من ذي الحجة ، وثلاث أيام من الشهر ) والحديث صححه الألباني رحمه الله .
وأما ما ورد عن عائشة رضي الله عنهما في أنها لم تر النبي صلى الله عليه وسلم صائماً العشر قط ، فأجيب عنه بأنها لم ترهُ هي صائماً فيها ، وربما رأته ذات مرة غير صائم لعارض مرض أو سفر أو غيرهما فجزمت بعدم صيامه ، والمثبت مقدم على النافي إن صح كما يقول ابن القيم رحمه الله .
أيها المسلمون : لقد أجاز العلماء جواز الجمع بين نيتين في صيام يوم واحد ، وعليه فمن كانت له عادة صيام يومي الاثنين والخميس فليحرص على صيامها هذه الأيام ويجمع بين نيتي العشر والاثنين والخميس .
وكذلك من كانت له عادة صيام الأيام البيض فليقدم صيامها إلى هذه الأيام ويجمع بين النيتين ، لحرمة صيام أيام التشريق في عيد الأضحى لأنها أيام أكل وشرب وذكر لله .
أما من كان عليه قضاء من رمضان ، فلا يحرم نفسه القضاء واغتنام صيام هذه الأيام فقد أفتى العلامة بن عثيمين رحمه الله بجواز صيام القضاء مع صيام النافلة بنية واحدة وقال رحمه الله ما نصه :(( فمن صام يوم عرفه أو يوم عاشوراء وعليه قضاء من رمضان فصيامه صحيح ، لكن لو نوى أن يصوم هذا اليوم عن قضاء رمضان حصل له الأجران : أجر يوم عرفة ، وأجر يوم عاشوراء مع أجر القضاء )) . أ هـ.
عباد الله: ومن عبادة الصلاة والصيام ، إلى أيسر العبادات وأسهلها ألا وهي ذكر الله سبحانه.
قال ابن رجب رحمه الله : وأما استحباب الإكثار من الذكر فيها – أي في أيام العشر – فقد دل عليه قوله سبحانه ) ويذكروا اسم الله في أيام معلومات ( ، فإن الأيام المعلومات هي أيام العشر عند جمهور العلماء .
وقال النووي رحمه الله : ( يستحب الإكثار من الأذكار في هذه العشر زيادةً على غيرها ، ويتأكد ذلك في يوم عرفة أكثر من باقي العشر) ومما يدخل في الأذكار وينبغي الحرص عليه ، وتعليم الأبناء والبنات المحافظة عليه ، الأوراد اليومية كأذكار الصباح والمساء ، وأذكار النوم ، والأذكار الواردة بعد الصلاة.
أيها المسلمون : إن أعظم عمل صالح في هذه العشر حج بيت الله الحرام ، فهو فرضٌ على من لم يحج ، ويجب عليه أن يبادر إلى أدائه ، فإن تأخر مع القدرة عليه فهو آثم ، ومن سبق أن أداه ، ولديه القدرة على أن يتطوع لله به فهو من أفضل الأعمال التي تقرب إلى الله تعالى ، ولو لم يكن فيه إلا غفران الذنوب لكان كافياً للتطوع لله تعالى به، قال النبي صلى الله عليه وسلم( الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) وقال عليه الصلاة والسلام ( من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه) .
اللهم يسر للحجاج حجهم ، وتقبل منهم عملهم يا حي يا قيوم ، أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم لي ولكم .
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين ، ولاعدوان إلا على الظالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .أما بعد
فيا عباد الله : أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أم سلمة رضي الله عنها قالت : قال صلى الله عليه وسلم : إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يمس من شعره وبشره شيئاً ، وفي رواية فلا يأخذن شعراً ، ولا يقلمن ظفراً ) .
و من المسائل في هذا الحديث :
أولاً : أنه يدل على تحريم أخذ شيء من الأشعار والأبشار والأظافر لأن الأصل في النهي أنه للتحريم ، لكن من تعمد الأخذ في هذه الأيام وهو يريد الأضحية فعليه التوبة إلى الله والاستغفار ، ولا فدية عليه إجماعاً ، والأضحية بحالها .
ثانياً : قيل في الحكمة في الإمساك أنه لما كان المضحي مشابها للمحرم في بعض أعمالا النسك ، وهو التقرب إلى الله بذبح القربان أعطى بعض أحكامه ، وقيل : ليبقى كامل الأجزاء ليعتق يوم العيد من النار .
ثالثاً : من أخذ من شعره أو ظفره أول العشر لعدم إرادته الأضحية ، ثم أرادها في أثناء العشر أمسك من حين إرادته .
رابعاً : المضحى عنهم كالزوجة والأولاد لا يتناولهم هذا الحديث ، وإنما يخص الحديث صاحب الأضحية فقط ، ما لم يكن لأحد الأبناء أو الزوجة أضحية تخصه.
خامساً : من وكل شخص في الذبح عنه ، فالنهي يخص الموكّل ، أما الوكيل فلا علاقة له بالتحريم .
سادساً : من له أضحية وعزم على الحج فإنه لا يأخذ من شعره وظفره إذا أراد الإحرام ، لكن إذا كان متمتعاً قصر من شعره عند الانتهاء من عمرته ثم أمسك حتى ينحر هديه .
أيها المسلمون : ينتظر البعض بفارغ الصبر حلول الإجازة ليجري البصر في آثار نعمة الله سبحانه من الأمطار والخيرات ، ولا بأس أن يروح المرء عن نفسه، لكن المؤمن يحتسب نزهته وينوي بها التقوي على طاعة الله سبحانه لكي لا تذهب عليه هذه الأيام وخيـرها سدى .
وليحذر المتنزهون من اقتراف الآثام وعصيان الملك العلام ، فهذه الأيام المباركة تضاعف فيها السيئات كما تضاعف فيها الحسنات ، لأنها من الأشهر الحرم التي حرمها الله سبحانه ونهانا فيها عن ظلم أنفسنا .
ولنتذكر جميعاً أن نعمة المطر وسائر النعم بالشكر تدوم وتكثر ، وبالكفران والعصيان تذهب وتفر ، فلنتق الله جميعاً ، ولا نعرض أنفسنا للعن البهائم لنا ، قال مجاهد رحمه الله : إن البهائم تلعن عصاة بني آدم إذا اشتدت السّنة وأمسك المطر ، تقول : هذا بشؤم معصية ابن آدم .
عباد الله : الغنيمة الغنيمة بانتهاز الفرصة في هذه الأيام العظيمة ، فما منها عوض ولا لها قيمة ، المبادرة المبادرة بالعمل ، والعجل العجل قبل هجوم الأجل ، قبل أن يندم المفرط على ما فعل ، قبل أن يسأل الرجعة ليعمل صالحاً فلا يجاب إلى ما سأل ، قبل أن يحول الموت بين المؤمل وبلوغ الأمل ، قبل أن يصير المرءُ مرتهناً في حفرته بما قدم من عمل .
إذا هبت رياحك فاغتنمها * فإن لكل خافقة سكـــون
ولا تغفل عن الإحسان فيها * فما تدري السكون متى يكون
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى