رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
د.محمد بن عبد الله الهبدان
موقف السلف والخلف من القرأن
بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى
إن أروع ما مر في تاريخ الأمة ذلك الجيل الفريد ، ذلك الجيل الذي قال عنه رسول صلى الله عليه وسلم " خيركم قرني " (1) والذي استحق استحقاقاً كاملاً وصف الله سبحانه ] كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله [ [آل عمران:110] إنه الجيل الذي تم فيه اللقاء بين المثال والواقع ، فترجم مثاليات الإسلام إلى واقع ، وارتفع بالواقع البشري إلى درجة المثال ، ونحن والله بحاجة جد والله ماسة لأن نتعرف على هذا الجيل ، لنعرف مكان الأسوة لنا فيه ، ولنقيس على ضوئه مدى قربنا أو بعدنا عن حقيقة الإسلام .
أيها الأحبة في الله : لقد كان العرب شتيتاً متناثراً لا يجتمع على شيء رغم وجود مقومات التجمع الأرضية كلها ، ولكن الأمة مع ذلك لم تنشأ رغم مرور الزمن المديد على هذا الشتيت المتناثر ، وهو يحمل تلك المقومات، بل كانوا قبائل متناحرة تأكلها الحروب والثارات ، وتأكلها قبل كل شيء جاهليتها التي تعيش فيها مجافية لهدي السماء ، ومن هناك رفعها الإسلام لا أفرادا ولا قبائل ، ولكن أمة هي أعظم أمة في التاريخ بشهادة الله مخرجِها إلى الوجود ] كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله [ [آل عمران:110] فمن أي شيء تكونت هذه الأمة الفذة ، وما العوامل التي أثرت في تكوينها ونشأتها ؟ وما هو يا ترى ذلك الشيء العجيب.. الذي أخرج ذلك الجيل الفذ من تلك الأمة التي ظلت لقيا مهملا عدة قرون ؟ !
لا شك بادئ ذي بدء أنه القرآن .. ذلك الكتاب العظيم الذي نزل ليعيد بناء البشرية على هدي الوحي الرباني :] إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم [[الإسراء :9] ] وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم [ [الزخرف:4] ] وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد [ لقد عاش ذلك الجيل مع القرآن حياة كاملة إن صح التعبير ..كل جملة في القرآن ، وكل عبارة ، وكل توجيه ، وكل أمر أو نهي .. يصل إلى أعماق نفوسهم ويحركها الحركة التامة المطلوبة .
لم تكن قراءتهم للقرآن لمجرد التأمل الفكري ،أو الاستمتاع والتذوق ، أو استخراج نظريات كلامية أو عقلية،أو حتى للتأثر الذي يأخذ بمجامع النفس ثم ينتهي ويزول ويضمحل ولا تحرك صاحبها من مكانه ، إنما كانت قراءتهم للمعرفة وللتنفيذ الفوري ،يروي الصحابة عن أنفسهم يقولون : لم يكن أحدنا يستكثر من القرآن،إنما كنا نتعلم عشر آيات لا نزيد عليهن حتى نعمل بما فيهن ، فتعلمنا القرآن والعمل جميعاً (1)
فقد كانت كلمات القرآن وجمله بالنسبة لهم المنهج اليومي الذي يتلقاه المسلمون ليعملوا به فورا ، لا يتخلف منهم أحد ولا يتباطأ إنسان ، بل يتسابقون إلى ذلك ويتلقونه كما يتلقى الجندي في ثكنته ، أو في ميدانه ، أمر القائد فيعيه ويفهمه ويقوم مبادرة إلى التنفيذ .
إذن هل نعجب حين نعرف الطريقة التي كانوا يتلقون بها توجيهات القرآن وتوجيهات الرسول صلى الله عليه وسلم إذا رأينا تلك النماذج الفذة التي تُحدثنا عنها كتب السيرة ، بتلك الوفرة التي وعاها التاريخ ، هل نعجب من الذين باتوا خاوية بطونهم ليقدموا اللقمة الضئيلة التي يملكونها إلى ضيفهم ، وأطفئوا السراج حتى لا يرى الضيف أنهم لا يملكون إلا ما قدموه له ..فأنزل الله فيهم ] ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة [[الحشر :9]
وهل نعجب من الذي خرج من بيته وبيده تمرات فلما رأى القتال قال : لئن عشت حتى انتهي من هذه التمرات إنها لحياة طويلة !! فألقى التمرات واقتحم المعركة شوقا إلى الجنة فاستشهد ؟!
وهل نعجب ممن كان في ليلة عرسه فلما سمع منادي الجهاد قام ملبيا طالبا الجنة فلما استشهد غسلته الملائكة ؟!
وهل نعجب من عمر يبكي حين رأى العجوز تلهّي أبناءها ليناموا ، فيذهب بنفسه فيحمل الدقيق على ظهره ويعود يصنع للأطفال الطعام بيده ، ولا ينصرف حتى يعلم أنهم قد شبعوا وناموا ؟! وهل نعجب من ماعز تؤرقه نفسه ، يلح على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يقيم عليه الحد ،لا يطيق أن يلقى الله بلا كفارة ؟ ومن الغامدية تلح في إقامة الحد عليها ، وتظل على عزيمتها لا تفارقها حتى تفطم ولدها .. تريد أن تلقى الله خالية من الذنوب ؟! وهل نعجب من ربعي بن عامر يدخل على رستم كما دخل ، مستعلياً على ما تملكه الجاهلية من السلطان والجاه ، معتزاً بلا إله إلا الله ، يصدع بكلمة الحق بنبرة حادة ولغة جادة ، بل لم تقم تلك الصولجان في نفسه وزنا لأنه يزنها بميزان الله فإذا هي خاوية ، تستحق أن يدوسها بأقدام حماره ، ويمزقها بطرف رمحه ، وهل نعجب من انتشار الإسلام في تلك الرقعة الفسيحة من الأرض في تلك البرهة من الزمن ، فيبلغ من المحيط غربا إلى الهند شرقا في نصف قرن من الزمان على أيدي أولئك الأفذاذ من الرجال ؟!
أرأيت كيف عمل القرآن في نفوس المسلمين الأوائل فأنشأها إنشاءً، وصنعها من جديد ، فكان منهم ذلك الواقع الذي سجله التاريخ ، والذي يلتقي فيه الواقع بالمثال ،وإن تعجب أخا الإسلام تعجب من تأثير هذا القرآن حتى على كبار الأعداء ولولا أنهم أحسوا بعظمة هذا القرآن ، وروعته وعظيم أثره لما حذروا منه هذا التحذير الذي يدل على مبلغ معرفتهم بأثر هذا القرآن في النفوس ، إنها ورب الكعبة لمفارقة عجيبة أن يدرك أعداؤنا من عظمة هذا القرآن ما لا ندركه ، وأن يعملوا جاهدين على طمس معالمه ، ومحو آثاره في العباد والبلاد ، لخوفهم الشديد من عود الأمة إلى هذا القرآن الذي يؤثر في النفوس ويحييها ويبعث فيها العزة والكرامة ، يقول غلادستون :مادام هذا القرآن موجودا في أيدي المسلمين ، فلن تستطيع أوربة السيطرة على الشرق ، ولا أن تكون هي نفسها في أمان ، وكان نشيد جيوش الاستعمار كان نشيدهم :أنا ذاهب لسحق الأمة الملعونة ،لأحارب الديانة الإسلامية ، ولأمحو القرآن بكل قوتي .(1)
أيها المسلمون : ها نحن الآن عرفنا كيف أثر القرآن على ذلك الجيل الفريد وعلمنا أنه السبب في وصولهم إلى تلك القمم السامقة ، وعرفنا عِظَم خوف أعدائنا من هذا القرآن ؟ فيحق لي أن أسألكم :
ما منزلة القرآن في نفوسنا نحن ؟ وما مدى تأثيره ؟ وهل هناك صلة وثيقة ورابطة أكيدة بهذا القرآن ؟ إن المنصف منا يعلم كيف تدهور الحال مع كتاب ربنا حتى يكاد أن يتحقق فينا شكوى ] وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا [ [الفرقان:30] إن الصلة الباقية لهذا القرآن هي لافتتاح الاحتفالات أو المؤتمرات أو في الإذاعة واختتامها،وتحول عند البعض إلى تمائم ورقى تعلق على الأجساد ، أو توضع في البيوت دفعاً للضرر .
فهل نزل القرآن يا مسلمون على محمد صلى الله عليه وسلم ليكون هكذا ؟ هل نزل القرآن ليحتفظ كل واحد منا بنسخة من القرآن في بيته ، ويبقى مركوناً يعلوه الغبار ، لا نعطيه حتى ولا جزءاً من وقتٍ نعطيه كل يوم لمطالعة جريدة رياضية أو مجلة إخبارية ؟!!
وهل نزل هذا القرآن ليمدحه المادحون ، مظهرين احترامه وتقديره نظرياً، ثم يجعلونه وراءهم ظهريا معرضين عنه عمليا في حياتهم وأحكامهم ومناهجهم وجميع أمورهم؟
وهل نزل القرآن ليقوم فاسق من الفساق ..يتغنى بسورة من سوره ..ثم يمضي الأمر وكأن شيئا لم يكن ؟؟ نعم كأن شيئا لم يكن ..بل أعظم من ذلك وأمض ..أن تصفق له القنوات الفضائية ..وتفتح له الصفحات الدعائية ..والأمة لا تغضب لكتاب ربها ..ولا تغار لكلام ربها ..حكى المبرد عن شيخه أبي عثمان المازني أنه قصده بعض أهل الذمة ليقرأ عليه كتاب سيبويه وبذل له مائة دينار ، فامتنع ورده ، فقلن له : أترد هذا القدر مع شدة فاقتك ؟ فقال : إن هذا الكتاب يشتمل على ثلاثمائة وكذا وكذا آية من كتاب الله ،ولست أرى تمكين هذا الذمي منها غيرة على القرآن[1] ..فمن يغار لكتاب الله تعالى في هذا الزمن ..من يوقف هذا التلاعب بكتاب الله تعالى .
أيها المسلمون : إن الواجب علينا أن نقرأ القرآن ،وأن نتلقاه كما تلقاه أصحاب رسول الله وتلقاه أسلافنا الأوائل ،نتلقاه في كل شأن من شئون حياتنا على أننا مخاطبون به كما خوطب به من قبلنا ، ونتلقاه كما تلقوه بنفس المشاعر والأحاسيس،والخضوع والخشوع ..نتلقاه على أنه توجيهات حاضرة ، تعالج أوضاعنا ومشاكلنا ، وخطط مستقبلنا ، نتلقاه وكأننا نخاطب به أول مرة ، وكلنا ثقة وتعظيم وتصديق بهذا القرآن المبين ،يتلقاه المؤمن في خاصة نفسه وشجونه وأحزانه ، ورضاه وفرحه ، وزيادة إيمانه ونقصه ، وفي مشاكله الصغيرة المحدودة ، وفي مجاهدته لنفسه وهواه ، وتتلقاه الأمة في مواقفها وجهادها وأحكامها وعلاقاتها ، الكل يتلقونه بتلك الروح والإيمان العظيم بالقرآن الكريم
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم
الخطبة الثانية
لقد أورثنا سوء موقفنا من القرآن الكريم والذي يتمثل في عدم العمل به في واقع الأمة وتأديب المتطاولين عليه ..انحطاطا عاما في كل شيء ، وبلغ الانحطاط إلى أن نقلد أعداءنا في الرذائل ، ونقصر عن لحوقهم في المخترعات وكسب الأسواق والنفوس ..حتى صرنا في مهوى لا يجوز أن يسمى إلا بسقوط النفس وهذا من بعض عقوبات الله لمن أعرض عن وحيه وهداه .يقول الله تعالى : ] ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا [ يقول ابن القيم رحمه الله : ( فإن من أعرض عن ذكره الذي أنزله ، فله من ضيق الصدر ، ونكد العيش ، وكثرة الخوف ، وشدة الحرص والتعب على الدنيا ، والتحسر على فواتها وبعد حصولها ، والآلام التي في خلال ذلك ..وأي عيش أضيق من هذه لو كان للقلب شعور ؟ فقلوب أهل البدع والمعرضين عن القرآن وأهل الغفلة عن الله ، وأهل المعاصي في جحيم قبل الجحيم الأكبر ، وقلوب الأبرار في نعيم قبل النعيم الأكبر ] إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم [ )[2] ويقول الله جل في علاه : ] ومن يعْش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون[ فأخبر سبحانه أن من ابتلاه بقرينه من الشياطين وضلاله به إنما كان بسبب إعراضه وعشوه عن ذكره الذي أنزله على رسوله فكان عقوبة هذا الإعراض أن قيض له شيطانا يقارنه فيصده عن سبيل ربه وطريق فلاحه وهو يحسب أنه مهتد ، حتى إذا وافى ربه يوم القيامة مع قرينه ، وعاين هلاكه وإفلاسه قال :] يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين [ وكل من أعرض عن الاهتداء بالوحي الذي هو ذكر الله فلابد أن يقول هذا يوم القيامة !![3]
أيها الإخوة في الله : عندما قدم مصطفى كمال أتاتورك إلى تركيا ..نحى القرآن عن واقع الحياة .. فأصبح قومه أجانب على الشعوب ، غرباء على الدنيا يتوسلون المنظمات الدولية ، ليكونوا بها أعضاء ، ويشحذون الهيئات العالمية لتقبلهم مشاركين ، وأصبحوا عمالا وحلاقين وخبازين ونجارين يبحثون عن لقمة العيش في الدنيا بعد أن كانوا خلفاء فاتحين مظفرين !!
فيا أمة محمد صلى الله عليه وسلم غيروا موقفكم من القرآن إلى موقف حسن يليق بكرامتكم ويصدق انتسابكم إلى هذا النبي واعتزازكم بحقيقتكم ..لا تتعرضوا لشكاية الرسول صلى الله عليه وسلم إذ يقول : ] يا رب إن قومي اتخذوا هذا لقرآن مهجورا [ انتشلوا أنفسكم من وصمة العار وغضب الجبار الذي أوقعنا شر موقع أمام الأعداء ..ألا تعتبروا بالأحداث الجسام ، ألا يلهب الحماس في صدوركم أن هؤلاء يتفانون في حمل مخازيهم ويتحملون المشاق لنفث ونشر رذائلهم وبعضنا يتقاعس عن حمل رسالة النور والهدى ؟!!
أيها الإخوة في الله : إن من تتبع ما جرى ويجري في بقاع الأرض من إضاعة الحقوق وقتل وحرق وسلب ونهب وهتك للأعراض وإهدار للكرامة ..قد دفعوا ثمنا غاليا لإضاعة القرآن.. وخسروا خسرانا لا يجبره إلا الرجوع إلى وحي رب العالمين وتصحيح الإيمان من جديد فعودوا إلى حمل رسالتكم ليحق الله الحق الذي كتبه على نفسه بقوله جل في علاه ] وكان حقا علينا نصر المؤمنين [ وقوله :] وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون [ فإن من استمر في إعراضه ضاعف الله له عذاب الخزي في الحياة الدنيا ] ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون [
ألا إنها دعوة للعودة إلى مصدر عزنا وقوتنا... ألا إنها دعوة لنربي أنفسنا وأبناءنا على مائدة القرآن
ألا إنها دعوة ليكون القرآن نبراسا يضيء لنا الطريق فهو حبل الله المتين وصراطه المستقيم
ألا إنها دعوة لأبناء قومي إلى أن المخرج من الفتن الهوجاء هو كتاب الله الذي هو الفصل ليس بالهزل من تركه من جبار قصمه الله ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله وهو حبله المتين ونوره المبين والذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم إن القرآن الكريم الذي عاش مشاكل الجيل الأول ، جيل الصحابة وحكموه في حياتهم فوضع الحلول لمشاكلهم ، ومشاكل البشرية كلها والعلاج لما كانت تعانيه ، كفيل أن يضع الحول لما تعانيه الأمة من تخلف وهوان ، ولما نعيشه من هزائم متتابعة متلاحقة في أكثر من ميدان لأن القرآن الكريم جاء من لدن حكيم خبير خالق الإنسان في أحسن تقويم وعالم بكل خلجة من خلجاته ، وبكل همسة من همساته ] ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير [ [الملك :14]
هذا وصلوا وسلموا رحمكم الله ..
(1) رواه البخاري ورقمه (2651) ومسلم ورقمه (2535) .
(1) انظر: تفسير ابن جرير (1/80) .
(1) كتاب قادة الغرب يقولون .. ص 43 والقول الأول ص36 من هذا الكتاب
[1] ـ الجزاء من جنس العمل (2/346) .
[2] ـ انظر : بدائع التفسير (3/172) .
[3] ـ انظر : بدائع التفسير (3/176) .
موقف السلف والخلف من القرأن
بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى
إن أروع ما مر في تاريخ الأمة ذلك الجيل الفريد ، ذلك الجيل الذي قال عنه رسول صلى الله عليه وسلم " خيركم قرني " (1) والذي استحق استحقاقاً كاملاً وصف الله سبحانه ] كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله [ [آل عمران:110] إنه الجيل الذي تم فيه اللقاء بين المثال والواقع ، فترجم مثاليات الإسلام إلى واقع ، وارتفع بالواقع البشري إلى درجة المثال ، ونحن والله بحاجة جد والله ماسة لأن نتعرف على هذا الجيل ، لنعرف مكان الأسوة لنا فيه ، ولنقيس على ضوئه مدى قربنا أو بعدنا عن حقيقة الإسلام .
أيها الأحبة في الله : لقد كان العرب شتيتاً متناثراً لا يجتمع على شيء رغم وجود مقومات التجمع الأرضية كلها ، ولكن الأمة مع ذلك لم تنشأ رغم مرور الزمن المديد على هذا الشتيت المتناثر ، وهو يحمل تلك المقومات، بل كانوا قبائل متناحرة تأكلها الحروب والثارات ، وتأكلها قبل كل شيء جاهليتها التي تعيش فيها مجافية لهدي السماء ، ومن هناك رفعها الإسلام لا أفرادا ولا قبائل ، ولكن أمة هي أعظم أمة في التاريخ بشهادة الله مخرجِها إلى الوجود ] كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله [ [آل عمران:110] فمن أي شيء تكونت هذه الأمة الفذة ، وما العوامل التي أثرت في تكوينها ونشأتها ؟ وما هو يا ترى ذلك الشيء العجيب.. الذي أخرج ذلك الجيل الفذ من تلك الأمة التي ظلت لقيا مهملا عدة قرون ؟ !
لا شك بادئ ذي بدء أنه القرآن .. ذلك الكتاب العظيم الذي نزل ليعيد بناء البشرية على هدي الوحي الرباني :] إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم [[الإسراء :9] ] وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم [ [الزخرف:4] ] وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد [ لقد عاش ذلك الجيل مع القرآن حياة كاملة إن صح التعبير ..كل جملة في القرآن ، وكل عبارة ، وكل توجيه ، وكل أمر أو نهي .. يصل إلى أعماق نفوسهم ويحركها الحركة التامة المطلوبة .
لم تكن قراءتهم للقرآن لمجرد التأمل الفكري ،أو الاستمتاع والتذوق ، أو استخراج نظريات كلامية أو عقلية،أو حتى للتأثر الذي يأخذ بمجامع النفس ثم ينتهي ويزول ويضمحل ولا تحرك صاحبها من مكانه ، إنما كانت قراءتهم للمعرفة وللتنفيذ الفوري ،يروي الصحابة عن أنفسهم يقولون : لم يكن أحدنا يستكثر من القرآن،إنما كنا نتعلم عشر آيات لا نزيد عليهن حتى نعمل بما فيهن ، فتعلمنا القرآن والعمل جميعاً (1)
فقد كانت كلمات القرآن وجمله بالنسبة لهم المنهج اليومي الذي يتلقاه المسلمون ليعملوا به فورا ، لا يتخلف منهم أحد ولا يتباطأ إنسان ، بل يتسابقون إلى ذلك ويتلقونه كما يتلقى الجندي في ثكنته ، أو في ميدانه ، أمر القائد فيعيه ويفهمه ويقوم مبادرة إلى التنفيذ .
إذن هل نعجب حين نعرف الطريقة التي كانوا يتلقون بها توجيهات القرآن وتوجيهات الرسول صلى الله عليه وسلم إذا رأينا تلك النماذج الفذة التي تُحدثنا عنها كتب السيرة ، بتلك الوفرة التي وعاها التاريخ ، هل نعجب من الذين باتوا خاوية بطونهم ليقدموا اللقمة الضئيلة التي يملكونها إلى ضيفهم ، وأطفئوا السراج حتى لا يرى الضيف أنهم لا يملكون إلا ما قدموه له ..فأنزل الله فيهم ] ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة [[الحشر :9]
وهل نعجب من الذي خرج من بيته وبيده تمرات فلما رأى القتال قال : لئن عشت حتى انتهي من هذه التمرات إنها لحياة طويلة !! فألقى التمرات واقتحم المعركة شوقا إلى الجنة فاستشهد ؟!
وهل نعجب ممن كان في ليلة عرسه فلما سمع منادي الجهاد قام ملبيا طالبا الجنة فلما استشهد غسلته الملائكة ؟!
وهل نعجب من عمر يبكي حين رأى العجوز تلهّي أبناءها ليناموا ، فيذهب بنفسه فيحمل الدقيق على ظهره ويعود يصنع للأطفال الطعام بيده ، ولا ينصرف حتى يعلم أنهم قد شبعوا وناموا ؟! وهل نعجب من ماعز تؤرقه نفسه ، يلح على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يقيم عليه الحد ،لا يطيق أن يلقى الله بلا كفارة ؟ ومن الغامدية تلح في إقامة الحد عليها ، وتظل على عزيمتها لا تفارقها حتى تفطم ولدها .. تريد أن تلقى الله خالية من الذنوب ؟! وهل نعجب من ربعي بن عامر يدخل على رستم كما دخل ، مستعلياً على ما تملكه الجاهلية من السلطان والجاه ، معتزاً بلا إله إلا الله ، يصدع بكلمة الحق بنبرة حادة ولغة جادة ، بل لم تقم تلك الصولجان في نفسه وزنا لأنه يزنها بميزان الله فإذا هي خاوية ، تستحق أن يدوسها بأقدام حماره ، ويمزقها بطرف رمحه ، وهل نعجب من انتشار الإسلام في تلك الرقعة الفسيحة من الأرض في تلك البرهة من الزمن ، فيبلغ من المحيط غربا إلى الهند شرقا في نصف قرن من الزمان على أيدي أولئك الأفذاذ من الرجال ؟!
أرأيت كيف عمل القرآن في نفوس المسلمين الأوائل فأنشأها إنشاءً، وصنعها من جديد ، فكان منهم ذلك الواقع الذي سجله التاريخ ، والذي يلتقي فيه الواقع بالمثال ،وإن تعجب أخا الإسلام تعجب من تأثير هذا القرآن حتى على كبار الأعداء ولولا أنهم أحسوا بعظمة هذا القرآن ، وروعته وعظيم أثره لما حذروا منه هذا التحذير الذي يدل على مبلغ معرفتهم بأثر هذا القرآن في النفوس ، إنها ورب الكعبة لمفارقة عجيبة أن يدرك أعداؤنا من عظمة هذا القرآن ما لا ندركه ، وأن يعملوا جاهدين على طمس معالمه ، ومحو آثاره في العباد والبلاد ، لخوفهم الشديد من عود الأمة إلى هذا القرآن الذي يؤثر في النفوس ويحييها ويبعث فيها العزة والكرامة ، يقول غلادستون :مادام هذا القرآن موجودا في أيدي المسلمين ، فلن تستطيع أوربة السيطرة على الشرق ، ولا أن تكون هي نفسها في أمان ، وكان نشيد جيوش الاستعمار كان نشيدهم :أنا ذاهب لسحق الأمة الملعونة ،لأحارب الديانة الإسلامية ، ولأمحو القرآن بكل قوتي .(1)
أيها المسلمون : ها نحن الآن عرفنا كيف أثر القرآن على ذلك الجيل الفريد وعلمنا أنه السبب في وصولهم إلى تلك القمم السامقة ، وعرفنا عِظَم خوف أعدائنا من هذا القرآن ؟ فيحق لي أن أسألكم :
ما منزلة القرآن في نفوسنا نحن ؟ وما مدى تأثيره ؟ وهل هناك صلة وثيقة ورابطة أكيدة بهذا القرآن ؟ إن المنصف منا يعلم كيف تدهور الحال مع كتاب ربنا حتى يكاد أن يتحقق فينا شكوى ] وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا [ [الفرقان:30] إن الصلة الباقية لهذا القرآن هي لافتتاح الاحتفالات أو المؤتمرات أو في الإذاعة واختتامها،وتحول عند البعض إلى تمائم ورقى تعلق على الأجساد ، أو توضع في البيوت دفعاً للضرر .
فهل نزل القرآن يا مسلمون على محمد صلى الله عليه وسلم ليكون هكذا ؟ هل نزل القرآن ليحتفظ كل واحد منا بنسخة من القرآن في بيته ، ويبقى مركوناً يعلوه الغبار ، لا نعطيه حتى ولا جزءاً من وقتٍ نعطيه كل يوم لمطالعة جريدة رياضية أو مجلة إخبارية ؟!!
وهل نزل هذا القرآن ليمدحه المادحون ، مظهرين احترامه وتقديره نظرياً، ثم يجعلونه وراءهم ظهريا معرضين عنه عمليا في حياتهم وأحكامهم ومناهجهم وجميع أمورهم؟
وهل نزل القرآن ليقوم فاسق من الفساق ..يتغنى بسورة من سوره ..ثم يمضي الأمر وكأن شيئا لم يكن ؟؟ نعم كأن شيئا لم يكن ..بل أعظم من ذلك وأمض ..أن تصفق له القنوات الفضائية ..وتفتح له الصفحات الدعائية ..والأمة لا تغضب لكتاب ربها ..ولا تغار لكلام ربها ..حكى المبرد عن شيخه أبي عثمان المازني أنه قصده بعض أهل الذمة ليقرأ عليه كتاب سيبويه وبذل له مائة دينار ، فامتنع ورده ، فقلن له : أترد هذا القدر مع شدة فاقتك ؟ فقال : إن هذا الكتاب يشتمل على ثلاثمائة وكذا وكذا آية من كتاب الله ،ولست أرى تمكين هذا الذمي منها غيرة على القرآن[1] ..فمن يغار لكتاب الله تعالى في هذا الزمن ..من يوقف هذا التلاعب بكتاب الله تعالى .
أيها المسلمون : إن الواجب علينا أن نقرأ القرآن ،وأن نتلقاه كما تلقاه أصحاب رسول الله وتلقاه أسلافنا الأوائل ،نتلقاه في كل شأن من شئون حياتنا على أننا مخاطبون به كما خوطب به من قبلنا ، ونتلقاه كما تلقوه بنفس المشاعر والأحاسيس،والخضوع والخشوع ..نتلقاه على أنه توجيهات حاضرة ، تعالج أوضاعنا ومشاكلنا ، وخطط مستقبلنا ، نتلقاه وكأننا نخاطب به أول مرة ، وكلنا ثقة وتعظيم وتصديق بهذا القرآن المبين ،يتلقاه المؤمن في خاصة نفسه وشجونه وأحزانه ، ورضاه وفرحه ، وزيادة إيمانه ونقصه ، وفي مشاكله الصغيرة المحدودة ، وفي مجاهدته لنفسه وهواه ، وتتلقاه الأمة في مواقفها وجهادها وأحكامها وعلاقاتها ، الكل يتلقونه بتلك الروح والإيمان العظيم بالقرآن الكريم
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم
الخطبة الثانية
لقد أورثنا سوء موقفنا من القرآن الكريم والذي يتمثل في عدم العمل به في واقع الأمة وتأديب المتطاولين عليه ..انحطاطا عاما في كل شيء ، وبلغ الانحطاط إلى أن نقلد أعداءنا في الرذائل ، ونقصر عن لحوقهم في المخترعات وكسب الأسواق والنفوس ..حتى صرنا في مهوى لا يجوز أن يسمى إلا بسقوط النفس وهذا من بعض عقوبات الله لمن أعرض عن وحيه وهداه .يقول الله تعالى : ] ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا [ يقول ابن القيم رحمه الله : ( فإن من أعرض عن ذكره الذي أنزله ، فله من ضيق الصدر ، ونكد العيش ، وكثرة الخوف ، وشدة الحرص والتعب على الدنيا ، والتحسر على فواتها وبعد حصولها ، والآلام التي في خلال ذلك ..وأي عيش أضيق من هذه لو كان للقلب شعور ؟ فقلوب أهل البدع والمعرضين عن القرآن وأهل الغفلة عن الله ، وأهل المعاصي في جحيم قبل الجحيم الأكبر ، وقلوب الأبرار في نعيم قبل النعيم الأكبر ] إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم [ )[2] ويقول الله جل في علاه : ] ومن يعْش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون[ فأخبر سبحانه أن من ابتلاه بقرينه من الشياطين وضلاله به إنما كان بسبب إعراضه وعشوه عن ذكره الذي أنزله على رسوله فكان عقوبة هذا الإعراض أن قيض له شيطانا يقارنه فيصده عن سبيل ربه وطريق فلاحه وهو يحسب أنه مهتد ، حتى إذا وافى ربه يوم القيامة مع قرينه ، وعاين هلاكه وإفلاسه قال :] يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين [ وكل من أعرض عن الاهتداء بالوحي الذي هو ذكر الله فلابد أن يقول هذا يوم القيامة !![3]
أيها الإخوة في الله : عندما قدم مصطفى كمال أتاتورك إلى تركيا ..نحى القرآن عن واقع الحياة .. فأصبح قومه أجانب على الشعوب ، غرباء على الدنيا يتوسلون المنظمات الدولية ، ليكونوا بها أعضاء ، ويشحذون الهيئات العالمية لتقبلهم مشاركين ، وأصبحوا عمالا وحلاقين وخبازين ونجارين يبحثون عن لقمة العيش في الدنيا بعد أن كانوا خلفاء فاتحين مظفرين !!
فيا أمة محمد صلى الله عليه وسلم غيروا موقفكم من القرآن إلى موقف حسن يليق بكرامتكم ويصدق انتسابكم إلى هذا النبي واعتزازكم بحقيقتكم ..لا تتعرضوا لشكاية الرسول صلى الله عليه وسلم إذ يقول : ] يا رب إن قومي اتخذوا هذا لقرآن مهجورا [ انتشلوا أنفسكم من وصمة العار وغضب الجبار الذي أوقعنا شر موقع أمام الأعداء ..ألا تعتبروا بالأحداث الجسام ، ألا يلهب الحماس في صدوركم أن هؤلاء يتفانون في حمل مخازيهم ويتحملون المشاق لنفث ونشر رذائلهم وبعضنا يتقاعس عن حمل رسالة النور والهدى ؟!!
أيها الإخوة في الله : إن من تتبع ما جرى ويجري في بقاع الأرض من إضاعة الحقوق وقتل وحرق وسلب ونهب وهتك للأعراض وإهدار للكرامة ..قد دفعوا ثمنا غاليا لإضاعة القرآن.. وخسروا خسرانا لا يجبره إلا الرجوع إلى وحي رب العالمين وتصحيح الإيمان من جديد فعودوا إلى حمل رسالتكم ليحق الله الحق الذي كتبه على نفسه بقوله جل في علاه ] وكان حقا علينا نصر المؤمنين [ وقوله :] وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون [ فإن من استمر في إعراضه ضاعف الله له عذاب الخزي في الحياة الدنيا ] ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون [
ألا إنها دعوة للعودة إلى مصدر عزنا وقوتنا... ألا إنها دعوة لنربي أنفسنا وأبناءنا على مائدة القرآن
ألا إنها دعوة ليكون القرآن نبراسا يضيء لنا الطريق فهو حبل الله المتين وصراطه المستقيم
ألا إنها دعوة لأبناء قومي إلى أن المخرج من الفتن الهوجاء هو كتاب الله الذي هو الفصل ليس بالهزل من تركه من جبار قصمه الله ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله وهو حبله المتين ونوره المبين والذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم إن القرآن الكريم الذي عاش مشاكل الجيل الأول ، جيل الصحابة وحكموه في حياتهم فوضع الحلول لمشاكلهم ، ومشاكل البشرية كلها والعلاج لما كانت تعانيه ، كفيل أن يضع الحول لما تعانيه الأمة من تخلف وهوان ، ولما نعيشه من هزائم متتابعة متلاحقة في أكثر من ميدان لأن القرآن الكريم جاء من لدن حكيم خبير خالق الإنسان في أحسن تقويم وعالم بكل خلجة من خلجاته ، وبكل همسة من همساته ] ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير [ [الملك :14]
هذا وصلوا وسلموا رحمكم الله ..
(1) رواه البخاري ورقمه (2651) ومسلم ورقمه (2535) .
(1) انظر: تفسير ابن جرير (1/80) .
(1) كتاب قادة الغرب يقولون .. ص 43 والقول الأول ص36 من هذا الكتاب
[1] ـ الجزاء من جنس العمل (2/346) .
[2] ـ انظر : بدائع التفسير (3/172) .
[3] ـ انظر : بدائع التفسير (3/176) .
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى