رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
الشيخ / إبراهيم بن محمد الحقيل
صلاة الجماعة (1)
فضل الخروج إلى المسجد
الخطبة الأولى
الحمد لله؛ فتح لعباده أبواب الخيرات، ودلهم على طرق اكتساب الحسنات، وحذرهم من أسباب السيئات، نحمده على ما منَّ به علينا من أنواع المنن، ونشكره على ما اختصنا به من النعم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ دلت آياته ومخلوقاته على عظمته، فهو العظيم الذي صمد الخلق كلهم إليه فقام بهم، وقضى حوائجهم {وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاء وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ }الروم25 ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ نصح لأمته أعظم النصح، فهداهم إلى ما ينفعهم، وحذرهم مما يضرهم؛ فجزاه الله تعالى عنا وعن المسلمين خير ما جزى نبيا عن أمته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه؛ أصلح هذه الأمة قلوبا، وأزكاهم أعمالا، وأهداهم سبيلا، - رضي الله عنهم - وأرضاهم رغم أنوف الكارهين لهم، الساخرين بهم، الساخطين عليهم، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد : فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، ولئن كان رمضان قد انتهى بما أودع العباد فيه من أعمالهم فإن الله تعالى يعبد في كل الأوقات، وليس بين العبد وبين عبادته إلا الموت، فبه ينقطع العمل، ويبتدئ الجزاء {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ
}الحجر99.
أيها الناس: يكدح الناس في الدنيا كأنهم مخلدون فيها، وينسى كثير منهم أعمال الآخرة كأنهم لا ينقلون إليها، وينتج عن ذلك تضييعهم لأعمال صالحة واجبة عظيمة الأجور لمصلحة أعمال دنيوية قد يربحون فيها شيئا من مال وقد يخسرون، وكم ضيع من الصلوات المكتوبة، وكم فاتت تكبيرة الإحرام من أجل شيء يسير من الدنيا، ذلك فضلا عن تضييع النوافل!!
والكيس الحازم الفطن من رتب مهمات أعماله، وبدأ بالأهم منها، فما كان للآخرة قدمه على ما كان للدنيا؛ لأن كل المسلمين يتفقون على أن الآخرة أهم من الدنيا، فمن فعل ذلك سلمت له آخرته، ولم تفته الدنيا.
إن الله عز وجل قد رتب أجورا كبيرة على أعمال يسيرة دائمة مع العبد في يومه وليلته، ولا يحافظ على هذه الأعمال -رغم أنها يسيرة- إلا المرابطون على طاعة الله تعالى، ومن تلكم الأعمال: الصلوات الخمس، ففيها من الأجور والمنافع والخير، ما لا يحصيه المحصون، ولا يعده العادون، ولا سيما إذا أتم المصلي شروطها وأركانها، وأتى بواجباتها وسننها، وسابق غيره إليها في المساجد مع جماعة المسلمين حيث ينادى بها؛ حتى إن مشيه إلى المسجد عبادة تقربه إلى الله تعالى، ورتب على ذلك من الثواب ما لا يفرط فيه إلا محروم خسران.
فالمشي إلى المساجد يكفر الخطايا، ويرفع الدرجات كما جاء في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(من تطهر في بيته ثم مشى إلى بيت من بيوت الله ليقضي فريضة من فرائض الله كانت خطوتاه إحداهما تحط خطيئة والأخرى ترفع درجة) وفي حديث آخر عنه - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط )روى الحديثين مسلم في صحيحه.
ولما أراد بعض الصحابة - رضي الله عنهم - الانتقال قرب المسجد أوصاهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يبقوا في مساكنهم؛ ليكتب لهم ممشاهم إلى المسجد؛ كما روى جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - فقال:(خلت البقاع حول المسجد فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا إلى قرب المسجد فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم: إنه بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا قرب المسجد، قالوا: نعم يا رسول الله، قد أردنا ذلك، فقال: يا بني سلمة دياركم تكتب آثاركم، دياركم تكتب آثاركم ) وفي رواية:(فقالوا: ما كان يسرنا أنا كنا تحولنا) رواه مسلم.
وكلما بعد المسجد عن المنزل طال الممشى، وكثرت الخطى، فزاد الأجر، وكثرت الحسنات؛ كما روى أبو موسى - رضي الله عنه - فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(إن أعظم الناس أجرا في الصلاة أبعدهم إليها ممشى فأبعدهم)رواه الشيخان.
قال الحافظ ابن رجب - رحمه الله تعالى -: وكلما شق عليك المشي إلى المساجد كان أفضل؛ ولهذا فضل المشي إلى صلاة العشاء وصلاة الصبح، وعدل بقيام الليل كله؛ كما في صحيح مسلم عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:(من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما صلى الليل كله).
ولذلك كانت هاتان الصلاتان أثقل الصلاة على المنافقين؛ لأن المنافقين يريدون بصلاتهم في المسجد أن يراهم الناس، وهاتان الصلاتان ليليتان، فلا يحافظ عليهما، ويمشي إليهما إلا مؤمن.
والخطوة الواحدة من الخطى إلى المسجد تعدل صدقة؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم :(وكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة )رواه الشيخان.
ولأجل ذلك كان من السلف الصالح من يقارب بين الخطى في المشي إلى المساجد لتكثير الأجر قال أنس - رضي الله عنه- :(مشيت مع زيد بن ثابت إلى المسجد فقارب بين الخطى وقال: أردت أن تكثر خطانا إلى المسجد)رواه ابن أبي شيبة.
فإن كان المشي إلى صلاة الجمعة فالأجر أكثر، والثواب أعظم؛ كما روى أوس بن أوس الثقفي - رضي الله عنه - فقال: سمعت رسول الله يقول:( من غسل يوم الجمعة واغتسل، ثم بكر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام، فاستمع ولم يلغ؛ كان له بكل خطوة عمل سنة أجر صيامها وقيامها ) رواه أبو داود وصححه ابن خزيمة وابن حبان.
ومن عظيم فضل الله تعالى على عباده، ورحمته بهم، وتوسيع مجالات الخير لهم: أن الرجوع من المسجد عقب الصلاة يحتسب كما يحتسب الذهاب، روى أبي بن كعب - رضي الله عنه - فقال:(كان رجل لا أعلم رجلا أبعد من المسجد منه، وكان لا تخطئه صلاة، قال: فقيل له: لو اشتريت حمارا تركبه في الظلماء وفي الرمضاء، قال: ما يسرني أن منزلي إلى جنب المسجد، إني أريد أن يكتب لي ممشاي إلى المسجد ورجوعي إذا رجعت إلى أهلي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قد جمع الله لك ذلك كله)رواه مسلم.
قال العلماء: في هذا الحديث إثبات الثواب في الخطى في الرجوع كما يثبت في الذهاب.
ومن عظيم ما جاء في فضل المشي إلى المساجد لأداء الصلوات : ما جاء في حديث معاذ بن جبل - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم احتبس عنهم ذات غداة فلما سألوه قال - عليه الصلاة والسلام - : أما إني سأحدثكم ما حبسني عنكم الغداة، إني قمت من الليل فتوضأت وصليت ما قدر لي فنعست في صلاتي حتى استثقلت، فإذا أنا بربي تبارك وتعالى في أحسن صورة فقال: يا محمد، قلت: لبيك رب، قال: فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت:لا أدري، قالها ثلاثا، قال: فرأيته وضع كفه بين كتفيَّ حتى وجدت برد أنامله بين ثديي، فتجلى لي كل شيء وعرفت، فقال: يا محمد ، قلت: لبيك رب، قال: فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: في الكفارات، قال: ما هن؟ قلت: مشي الأقدام إلى الحسنات، والجلوس في المساجد بعد الصلوات، وإسباغ الوضوء حين الكريهات) صححه البخاري والترمذي.
وفي رواية للإمام أحمد ( قال: يا محمد، فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قال: قلت: في الكفارات، قال: وما الكفارات؟ قلت: المشي على الأقدام إلى الجماعات، والجلوس في المسجد خلاف الصلوات، وإبلاغ الوضوء في المكاره، قال: من فعل ذلك عاش بخير، ومات بخير، وكان من خطيئته كيوم ولدته أمه).
والمشي إلى صلاتي العشاء والفجر سبب للنور يوم القيامة؛ كما جاء في حديث بريدة - رضي الله عنه -:(بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة)رواه أبو داود والترمذي، وفي لفظ لابن خزيمة من حديث سهل بن سعد- رضي الله عنه-:(ليبشر المشاؤن في الظلام إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة).
ويفرح الله تعالى بمشي عبده إلى المسجد لأداء الصلاة؛ فإن الله تعالى يحب الطاعة لعباده، ويكره لهم المعصية {إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ }الزمر7 قال الحافظ ابن خزيمة - رحمه الله تعالى -:باب ذكر فرح الرب تعالى بمشي عبده إلى المسجد متوضياً، ثم ساق تحته حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(لا يتوضأ أحد فيحسن وضوءه ويسبغه ثم يأتي المسجد لا يريد إلا الصلاة فيه إلا تبشبش الله إليه كما يتبشبش أهل الغائب بطلعته ).
ولأجل ذلك فإن الله تعالى يُعِدُّ لزوار المساجد ضيافة في الجنة في كل غدوة يغدونها إلى المسجد، فالمشاءون إلى المساجد في ضيافة الله تعالى حتى يعودوا إلى منازلهم، روى أبو هريرة -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له في الجنة نزلا كلما غدا أو راح) رواه مسلم، والنزل:ما يهيأ للضيف عند قدومه.
ومن خرج إلى المسجد يريد الصلاة فهو في صلاة إلى أن يرجع؛ كما روى الدارمي من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(من توضأ ثم خرج يريد الصلاة فهو في صلاة حتى يرجع إلى بيته).
وإذا تأخر العبد عن صلاة الجماعة مع حرصه على إدراكها، ومشيه إليها؛ كتب له أجرها ولو فاتته ؛ كما جاء في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(من توضأ فأحسن وضوءه ثم راح فوجد الناس قد صلوا أعطاه الله مثل أجر من صلاها أو حضرها لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا) رواه أحمد.وهذا يدل على عظيم أمر الخروج لصلاة الجماعة عند الله تعالى.
بل جاء ما هو أعظم من ذلك في حديث أبي أمامة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:( من خرج من بيته متطهرا إلى صلاة مكتوبة فأجره كأجر الحاج المحرم، ومن خرج إلى تسبيح الضحى لا ينصبه إلا إياه فأجره كأجر المعتمر، وصلاة على إثر صلاة لا لغو بينهما كتاب في عليين ) رواه أبو داود.
ومن خرج من بيته إلى الجماعة فهو في رعاية الله تعالى وحفظه، وله أن يعود إلى منزله سالما غانما، فإن توفاه الله تعالى أدخله الجنة؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم :(ثلاثة كلهم ضامن على الله عز وجل، وذكر منهم:رجلا راح إلى المسجد فهو ضامن على الله حتى يتوفاه فيدخله الجنة أو يرده بما نال من أجر وغنيمة)رواه أبو داود وصححه ابن حبان والحاكم.
فاحرصوا - رحمكم الله تعالى - على إدراك هذه الأجور العظيمة بالمشي إلى المساجد، وكثرة الخطى إليها، والمحافظة على الجماعات، وعودوا أبناءكم ومن ولاكم الله تعالى أمورهم على هذا الخير العظيم؛ ففي ذلك ثواب الدنيا والآخرة.
(من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة وكان الله سميعا بصير) بارك الله لي ولكم ...
الخطبة الثانية
الحمد الله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، ولا أمن إلا للمؤمنين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله النبي الأمين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين ، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- وراقبوه، والزموا طاعته ولا تعصوه {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ }النور52.
أيها المسلمون: المحافظة على الجماعات، واعتياد المشي إلى المساجد يستطيعه المسلم إذا جاهد نفسه على ذلك، وروضها عليه، وقد رأينا كثيرا من الناس فعلوا ذلك في رمضان حتى إنهم كانوا يسابقون على الصف الأول، وعلى الدنو من الإمام، ومن استطاع ذلك في شهر كامل فإنه قادر على أن يستمر عليه العمر كله.
إن كثيرا من الناس يحجزهم عن المسابقة إلى ذلك كسلهم، وتسلط الشياطين عليهم بالتسويف والتأجيل، فيسمع واحدهم النداء فيتعلل بعمل يعمله، أو يتأخر لأن إقامة الصلاة بقي عليها وقت، فما يزال الشيطان يتمادى به حتى تفوته الجماعة، أو التكبيرة الأولى!!
ويظل كثير من الناس يمنون أنفسهم بأنه سيأتي اليوم الذي يحافظ فيه الواحد منهم على الجماعة، ويسابق على الصف الأول، ولا تفوته التكبيرة الأولى، ويعد نفسه بأن ذلك سيحصل إذا فرغ من شغله، وقلَّ ارتباطه، وخفَّت مسؤولياته، وما هذا التسويف والعدة والأماني إلا حبائل الشيطان يصطاد بها العبد حتى يدركه الموت ولما يفرغ من شغله.
وما الذي يمنع المسلم أن يجعل المشي إلى المساجد، وحضور الجماعة من أهم مهماته، وأول أولوياته، حتى يعتاد ذلك، ويكون جزءا من حياته، ومن فعل ذلك في رمضان فهو قادر على أن يفعله العمر كله، ولن يفوته من الدنيا ما قد يدركه غيره ممن هجروا المساجد، وأضاعوا صلاة الجماعة، فخسروا كثيرا.
إن سلفنا الصالح قد أدركوا أهمية المشي إلى المساجد، وحضور الجماعة، وعلموا ما رتب على ذلك من عظيم الثواب والجزاء، فجعلوا ذلك من أهم أعمالهم، لا يقدمون عليه أمرا من أمور الدنيا مهما علا شأنه، وبعضهم قد عذرهم الله تعالى في ذلك لمرض مقعد، أو كبر معجز، وما تركوا المشي إلى المساجد، وحضور صلاة الجماعة يبتغون الأجر من الله تعالى على ذلك.
منهم :محمد بن علي الحفار الغرناطي - رحمه الله تعالى -، قال ابن الخطيب :قد بقى الحفار نحوا من عامين أو أزيد يخرج للصلوات الخمس يهادى بين رجلين لشيء كان برجله حتى كان بعض أصحابه يقول: الحفار حجة الله على من لم يحضر الجماعة.
وكان الربيع بن خيثم - رحمه الله تعالى - يقاد إلى الصلاة ، وكان به الفالج، فقيل له: يا أبا يزيد، إنه قد رخص لك في ذلك، قال: إني أسمع حي على الصلاة، حي على الفلاح، فإن استطعتم أن تأتوها ولو حبوا.
ومن عجز منهم عن المشي إلى المسجد كان يستأجر من يحمله إلى المسجد لحضور الجماعة يبتغي الأجر على ذلك؛ كما وقع للعالم المالكي ابن خفيف - رحمه الله تعالى - ؛ إذ كان به وجع الخاصرة، فكان إذا أصابه أقعده عن الحركة، فكان إذا نودي بالصلاة يُحمل على ظهر رجل، فقيل له: لو خففت على نفسك! فقال - رحمه الله تعالى -: إذا سمعتم حي على الصلاة ولم تروني في الصف فاطلبوني في المقبرة.
وربما أحس بعضهم بالموت قبل الصلاة فآثر أن يخرج إلى الجماعة ليشهدها، ويموت في المسجد؛ كما وقع ذلك لعامر بن عبد الله بن الزبير - رحمه الله تعالى -؛ إذ سمع المؤذن وهو يجود بنفسه ومنزله قريب من المسجد، فقال: خذوا بيدي، فقيل له: أنت عليل فقال: أسمع داعي الله فلا أجيبه؟! فأخذوا بيده، فدخل في صلاة المغرب، فركع مع الإمام ركعة ثم مات - رحمه الله تعالى -.
إن هؤلاء الصالحين كانوا بشرا مثلنا، ولهم أعمال وأولاد ومسئوليات، ولكنهم جعلوا من أهم مهماتهم المحافظة على الجماعة في المساجد، فما فاتتهم الدنيا، والله تعالى أعلم بما أعد لهم من الأجر في الآخرة، فسيروا يا عباد الله سيرتهم في المشي إلى المساجد، والمحافظة على الجماعة، والمسابقة على الصف الأول، وإدراك تكبيرة الإحرام؛ ففي ذلك الثواب الجزيل من الله تعالى، والفوز بخيري الدنيا والآخرة.
وصلوا وسلموا على نبيكم ...
صلاة الجماعة (1)
فضل الخروج إلى المسجد
الخطبة الأولى
الحمد لله؛ فتح لعباده أبواب الخيرات، ودلهم على طرق اكتساب الحسنات، وحذرهم من أسباب السيئات، نحمده على ما منَّ به علينا من أنواع المنن، ونشكره على ما اختصنا به من النعم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ دلت آياته ومخلوقاته على عظمته، فهو العظيم الذي صمد الخلق كلهم إليه فقام بهم، وقضى حوائجهم {وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاء وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ }الروم25 ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ نصح لأمته أعظم النصح، فهداهم إلى ما ينفعهم، وحذرهم مما يضرهم؛ فجزاه الله تعالى عنا وعن المسلمين خير ما جزى نبيا عن أمته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه؛ أصلح هذه الأمة قلوبا، وأزكاهم أعمالا، وأهداهم سبيلا، - رضي الله عنهم - وأرضاهم رغم أنوف الكارهين لهم، الساخرين بهم، الساخطين عليهم، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد : فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، ولئن كان رمضان قد انتهى بما أودع العباد فيه من أعمالهم فإن الله تعالى يعبد في كل الأوقات، وليس بين العبد وبين عبادته إلا الموت، فبه ينقطع العمل، ويبتدئ الجزاء {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ
}الحجر99.
أيها الناس: يكدح الناس في الدنيا كأنهم مخلدون فيها، وينسى كثير منهم أعمال الآخرة كأنهم لا ينقلون إليها، وينتج عن ذلك تضييعهم لأعمال صالحة واجبة عظيمة الأجور لمصلحة أعمال دنيوية قد يربحون فيها شيئا من مال وقد يخسرون، وكم ضيع من الصلوات المكتوبة، وكم فاتت تكبيرة الإحرام من أجل شيء يسير من الدنيا، ذلك فضلا عن تضييع النوافل!!
والكيس الحازم الفطن من رتب مهمات أعماله، وبدأ بالأهم منها، فما كان للآخرة قدمه على ما كان للدنيا؛ لأن كل المسلمين يتفقون على أن الآخرة أهم من الدنيا، فمن فعل ذلك سلمت له آخرته، ولم تفته الدنيا.
إن الله عز وجل قد رتب أجورا كبيرة على أعمال يسيرة دائمة مع العبد في يومه وليلته، ولا يحافظ على هذه الأعمال -رغم أنها يسيرة- إلا المرابطون على طاعة الله تعالى، ومن تلكم الأعمال: الصلوات الخمس، ففيها من الأجور والمنافع والخير، ما لا يحصيه المحصون، ولا يعده العادون، ولا سيما إذا أتم المصلي شروطها وأركانها، وأتى بواجباتها وسننها، وسابق غيره إليها في المساجد مع جماعة المسلمين حيث ينادى بها؛ حتى إن مشيه إلى المسجد عبادة تقربه إلى الله تعالى، ورتب على ذلك من الثواب ما لا يفرط فيه إلا محروم خسران.
فالمشي إلى المساجد يكفر الخطايا، ويرفع الدرجات كما جاء في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(من تطهر في بيته ثم مشى إلى بيت من بيوت الله ليقضي فريضة من فرائض الله كانت خطوتاه إحداهما تحط خطيئة والأخرى ترفع درجة) وفي حديث آخر عنه - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط )روى الحديثين مسلم في صحيحه.
ولما أراد بعض الصحابة - رضي الله عنهم - الانتقال قرب المسجد أوصاهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يبقوا في مساكنهم؛ ليكتب لهم ممشاهم إلى المسجد؛ كما روى جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - فقال:(خلت البقاع حول المسجد فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا إلى قرب المسجد فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم: إنه بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا قرب المسجد، قالوا: نعم يا رسول الله، قد أردنا ذلك، فقال: يا بني سلمة دياركم تكتب آثاركم، دياركم تكتب آثاركم ) وفي رواية:(فقالوا: ما كان يسرنا أنا كنا تحولنا) رواه مسلم.
وكلما بعد المسجد عن المنزل طال الممشى، وكثرت الخطى، فزاد الأجر، وكثرت الحسنات؛ كما روى أبو موسى - رضي الله عنه - فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(إن أعظم الناس أجرا في الصلاة أبعدهم إليها ممشى فأبعدهم)رواه الشيخان.
قال الحافظ ابن رجب - رحمه الله تعالى -: وكلما شق عليك المشي إلى المساجد كان أفضل؛ ولهذا فضل المشي إلى صلاة العشاء وصلاة الصبح، وعدل بقيام الليل كله؛ كما في صحيح مسلم عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:(من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما صلى الليل كله).
ولذلك كانت هاتان الصلاتان أثقل الصلاة على المنافقين؛ لأن المنافقين يريدون بصلاتهم في المسجد أن يراهم الناس، وهاتان الصلاتان ليليتان، فلا يحافظ عليهما، ويمشي إليهما إلا مؤمن.
والخطوة الواحدة من الخطى إلى المسجد تعدل صدقة؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم :(وكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة )رواه الشيخان.
ولأجل ذلك كان من السلف الصالح من يقارب بين الخطى في المشي إلى المساجد لتكثير الأجر قال أنس - رضي الله عنه- :(مشيت مع زيد بن ثابت إلى المسجد فقارب بين الخطى وقال: أردت أن تكثر خطانا إلى المسجد)رواه ابن أبي شيبة.
فإن كان المشي إلى صلاة الجمعة فالأجر أكثر، والثواب أعظم؛ كما روى أوس بن أوس الثقفي - رضي الله عنه - فقال: سمعت رسول الله يقول:( من غسل يوم الجمعة واغتسل، ثم بكر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام، فاستمع ولم يلغ؛ كان له بكل خطوة عمل سنة أجر صيامها وقيامها ) رواه أبو داود وصححه ابن خزيمة وابن حبان.
ومن عظيم فضل الله تعالى على عباده، ورحمته بهم، وتوسيع مجالات الخير لهم: أن الرجوع من المسجد عقب الصلاة يحتسب كما يحتسب الذهاب، روى أبي بن كعب - رضي الله عنه - فقال:(كان رجل لا أعلم رجلا أبعد من المسجد منه، وكان لا تخطئه صلاة، قال: فقيل له: لو اشتريت حمارا تركبه في الظلماء وفي الرمضاء، قال: ما يسرني أن منزلي إلى جنب المسجد، إني أريد أن يكتب لي ممشاي إلى المسجد ورجوعي إذا رجعت إلى أهلي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قد جمع الله لك ذلك كله)رواه مسلم.
قال العلماء: في هذا الحديث إثبات الثواب في الخطى في الرجوع كما يثبت في الذهاب.
ومن عظيم ما جاء في فضل المشي إلى المساجد لأداء الصلوات : ما جاء في حديث معاذ بن جبل - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم احتبس عنهم ذات غداة فلما سألوه قال - عليه الصلاة والسلام - : أما إني سأحدثكم ما حبسني عنكم الغداة، إني قمت من الليل فتوضأت وصليت ما قدر لي فنعست في صلاتي حتى استثقلت، فإذا أنا بربي تبارك وتعالى في أحسن صورة فقال: يا محمد، قلت: لبيك رب، قال: فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت:لا أدري، قالها ثلاثا، قال: فرأيته وضع كفه بين كتفيَّ حتى وجدت برد أنامله بين ثديي، فتجلى لي كل شيء وعرفت، فقال: يا محمد ، قلت: لبيك رب، قال: فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: في الكفارات، قال: ما هن؟ قلت: مشي الأقدام إلى الحسنات، والجلوس في المساجد بعد الصلوات، وإسباغ الوضوء حين الكريهات) صححه البخاري والترمذي.
وفي رواية للإمام أحمد ( قال: يا محمد، فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قال: قلت: في الكفارات، قال: وما الكفارات؟ قلت: المشي على الأقدام إلى الجماعات، والجلوس في المسجد خلاف الصلوات، وإبلاغ الوضوء في المكاره، قال: من فعل ذلك عاش بخير، ومات بخير، وكان من خطيئته كيوم ولدته أمه).
والمشي إلى صلاتي العشاء والفجر سبب للنور يوم القيامة؛ كما جاء في حديث بريدة - رضي الله عنه -:(بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة)رواه أبو داود والترمذي، وفي لفظ لابن خزيمة من حديث سهل بن سعد- رضي الله عنه-:(ليبشر المشاؤن في الظلام إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة).
ويفرح الله تعالى بمشي عبده إلى المسجد لأداء الصلاة؛ فإن الله تعالى يحب الطاعة لعباده، ويكره لهم المعصية {إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ }الزمر7 قال الحافظ ابن خزيمة - رحمه الله تعالى -:باب ذكر فرح الرب تعالى بمشي عبده إلى المسجد متوضياً، ثم ساق تحته حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(لا يتوضأ أحد فيحسن وضوءه ويسبغه ثم يأتي المسجد لا يريد إلا الصلاة فيه إلا تبشبش الله إليه كما يتبشبش أهل الغائب بطلعته ).
ولأجل ذلك فإن الله تعالى يُعِدُّ لزوار المساجد ضيافة في الجنة في كل غدوة يغدونها إلى المسجد، فالمشاءون إلى المساجد في ضيافة الله تعالى حتى يعودوا إلى منازلهم، روى أبو هريرة -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له في الجنة نزلا كلما غدا أو راح) رواه مسلم، والنزل:ما يهيأ للضيف عند قدومه.
ومن خرج إلى المسجد يريد الصلاة فهو في صلاة إلى أن يرجع؛ كما روى الدارمي من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(من توضأ ثم خرج يريد الصلاة فهو في صلاة حتى يرجع إلى بيته).
وإذا تأخر العبد عن صلاة الجماعة مع حرصه على إدراكها، ومشيه إليها؛ كتب له أجرها ولو فاتته ؛ كما جاء في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(من توضأ فأحسن وضوءه ثم راح فوجد الناس قد صلوا أعطاه الله مثل أجر من صلاها أو حضرها لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا) رواه أحمد.وهذا يدل على عظيم أمر الخروج لصلاة الجماعة عند الله تعالى.
بل جاء ما هو أعظم من ذلك في حديث أبي أمامة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:( من خرج من بيته متطهرا إلى صلاة مكتوبة فأجره كأجر الحاج المحرم، ومن خرج إلى تسبيح الضحى لا ينصبه إلا إياه فأجره كأجر المعتمر، وصلاة على إثر صلاة لا لغو بينهما كتاب في عليين ) رواه أبو داود.
ومن خرج من بيته إلى الجماعة فهو في رعاية الله تعالى وحفظه، وله أن يعود إلى منزله سالما غانما، فإن توفاه الله تعالى أدخله الجنة؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم :(ثلاثة كلهم ضامن على الله عز وجل، وذكر منهم:رجلا راح إلى المسجد فهو ضامن على الله حتى يتوفاه فيدخله الجنة أو يرده بما نال من أجر وغنيمة)رواه أبو داود وصححه ابن حبان والحاكم.
فاحرصوا - رحمكم الله تعالى - على إدراك هذه الأجور العظيمة بالمشي إلى المساجد، وكثرة الخطى إليها، والمحافظة على الجماعات، وعودوا أبناءكم ومن ولاكم الله تعالى أمورهم على هذا الخير العظيم؛ ففي ذلك ثواب الدنيا والآخرة.
(من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة وكان الله سميعا بصير) بارك الله لي ولكم ...
الخطبة الثانية
الحمد الله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، ولا أمن إلا للمؤمنين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله النبي الأمين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين ، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- وراقبوه، والزموا طاعته ولا تعصوه {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ }النور52.
أيها المسلمون: المحافظة على الجماعات، واعتياد المشي إلى المساجد يستطيعه المسلم إذا جاهد نفسه على ذلك، وروضها عليه، وقد رأينا كثيرا من الناس فعلوا ذلك في رمضان حتى إنهم كانوا يسابقون على الصف الأول، وعلى الدنو من الإمام، ومن استطاع ذلك في شهر كامل فإنه قادر على أن يستمر عليه العمر كله.
إن كثيرا من الناس يحجزهم عن المسابقة إلى ذلك كسلهم، وتسلط الشياطين عليهم بالتسويف والتأجيل، فيسمع واحدهم النداء فيتعلل بعمل يعمله، أو يتأخر لأن إقامة الصلاة بقي عليها وقت، فما يزال الشيطان يتمادى به حتى تفوته الجماعة، أو التكبيرة الأولى!!
ويظل كثير من الناس يمنون أنفسهم بأنه سيأتي اليوم الذي يحافظ فيه الواحد منهم على الجماعة، ويسابق على الصف الأول، ولا تفوته التكبيرة الأولى، ويعد نفسه بأن ذلك سيحصل إذا فرغ من شغله، وقلَّ ارتباطه، وخفَّت مسؤولياته، وما هذا التسويف والعدة والأماني إلا حبائل الشيطان يصطاد بها العبد حتى يدركه الموت ولما يفرغ من شغله.
وما الذي يمنع المسلم أن يجعل المشي إلى المساجد، وحضور الجماعة من أهم مهماته، وأول أولوياته، حتى يعتاد ذلك، ويكون جزءا من حياته، ومن فعل ذلك في رمضان فهو قادر على أن يفعله العمر كله، ولن يفوته من الدنيا ما قد يدركه غيره ممن هجروا المساجد، وأضاعوا صلاة الجماعة، فخسروا كثيرا.
إن سلفنا الصالح قد أدركوا أهمية المشي إلى المساجد، وحضور الجماعة، وعلموا ما رتب على ذلك من عظيم الثواب والجزاء، فجعلوا ذلك من أهم أعمالهم، لا يقدمون عليه أمرا من أمور الدنيا مهما علا شأنه، وبعضهم قد عذرهم الله تعالى في ذلك لمرض مقعد، أو كبر معجز، وما تركوا المشي إلى المساجد، وحضور صلاة الجماعة يبتغون الأجر من الله تعالى على ذلك.
منهم :محمد بن علي الحفار الغرناطي - رحمه الله تعالى -، قال ابن الخطيب :قد بقى الحفار نحوا من عامين أو أزيد يخرج للصلوات الخمس يهادى بين رجلين لشيء كان برجله حتى كان بعض أصحابه يقول: الحفار حجة الله على من لم يحضر الجماعة.
وكان الربيع بن خيثم - رحمه الله تعالى - يقاد إلى الصلاة ، وكان به الفالج، فقيل له: يا أبا يزيد، إنه قد رخص لك في ذلك، قال: إني أسمع حي على الصلاة، حي على الفلاح، فإن استطعتم أن تأتوها ولو حبوا.
ومن عجز منهم عن المشي إلى المسجد كان يستأجر من يحمله إلى المسجد لحضور الجماعة يبتغي الأجر على ذلك؛ كما وقع للعالم المالكي ابن خفيف - رحمه الله تعالى - ؛ إذ كان به وجع الخاصرة، فكان إذا أصابه أقعده عن الحركة، فكان إذا نودي بالصلاة يُحمل على ظهر رجل، فقيل له: لو خففت على نفسك! فقال - رحمه الله تعالى -: إذا سمعتم حي على الصلاة ولم تروني في الصف فاطلبوني في المقبرة.
وربما أحس بعضهم بالموت قبل الصلاة فآثر أن يخرج إلى الجماعة ليشهدها، ويموت في المسجد؛ كما وقع ذلك لعامر بن عبد الله بن الزبير - رحمه الله تعالى -؛ إذ سمع المؤذن وهو يجود بنفسه ومنزله قريب من المسجد، فقال: خذوا بيدي، فقيل له: أنت عليل فقال: أسمع داعي الله فلا أجيبه؟! فأخذوا بيده، فدخل في صلاة المغرب، فركع مع الإمام ركعة ثم مات - رحمه الله تعالى -.
إن هؤلاء الصالحين كانوا بشرا مثلنا، ولهم أعمال وأولاد ومسئوليات، ولكنهم جعلوا من أهم مهماتهم المحافظة على الجماعة في المساجد، فما فاتتهم الدنيا، والله تعالى أعلم بما أعد لهم من الأجر في الآخرة، فسيروا يا عباد الله سيرتهم في المشي إلى المساجد، والمحافظة على الجماعة، والمسابقة على الصف الأول، وإدراك تكبيرة الإحرام؛ ففي ذلك الثواب الجزيل من الله تعالى، والفوز بخيري الدنيا والآخرة.
وصلوا وسلموا على نبيكم ...
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى