رضا السويسى
الادارة
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
الشيخ / إبراهيم بن محمد الحقيل
احتساب النبي عليه الصلاة والسلام (2)
تقرير الحسبة بأقواله (ب)
الخطبة الأولى
الحمد لله رب العالمين؛ خلق خلقه فدبرهم، وشرع لهم من الدين ما يصلحهم [صِبْغَةَ الله وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ] {البقرة:138} نحمده على هدايته، ونشكره على رعايته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وصفيه وخليله؛ اصطفاه الله تعالى للعالمين رسولا، وزاده رفعة وتفضيلا، فهو صاحب الحوض والفضيلة والشفاعة والوسيلة، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، خير صحب وآل، والتابعين لهم بإحسان.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] {المائدة:35}.
أيها الناس: دين الإسلام دين له حدود، وفيه حلال وحرام، وحقوق وواجبات [تِلْكَ حُدُودُ الله فَلَا تَقْرَبُوهَا] {البقرة:187} وفي آية أخرى [تِلْكَ حُدُودُ الله فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ] {البقرة:229} وفي ثالثة [تِلْكَ حُدُودُ الله وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ] {النساء:14}.
وهذه الحدود التي يجب الوقوف عندها، ولا يحل لمسلم أن يتعداها منها ما هو لحق الله تعالى وحده كالعبادات المحضة، ومنها ما هو لحق الله تعالى ولحق البشر وهو ما يتعلق بأنواع المعاملات والأخلاق والقصاص ونحو ذلك.
ولما كان العصيان من طبيعة البشر، والخطأ من سجاياهم؛ كان لا بد من الاحتساب عليهم، ورد الظالم عن ظلمه، والعاصي عن عصيانه؛ طاعة لله تعالى، وغيرةً على حرماته، وحفظا للأفراد والأمم من كل أسباب الهلاك والعذاب في الدنيا والآخرة.
وبهذا كان الاحتساب على الناس واجبا على آحادهم كل بحسب موقعه وقدرته؛ لأن الأمر يعنيهم واحدا واحدا، ولأن العذاب إن وقع بسبب أهل المعاصي لم يُستثن منهم أحد، وتلك سنة الله الماضية في الأمم الغابرة، وهذا ما قرره النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ لأمته، وأوجبه عليهم، وحذرهم من التهاون به، وأكثر القول فيه:
فتارة يأمرهم بالاحتساب على الناس بأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، بل ويوصيهم بذلك، ويبايعه أصحابه ـ رضي الله عنهم ـ عليه، وتارة أخرى يخبر أن سيد الشهداء من قتل بسبب احتسابه وقوله للحق، كما يخبر ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن كلمة الحق عند السلطان الجائر من أعظم الجهاد في سبيل الله تعالى.
بل إنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ عد الاحتساب على الناس من الصدقات، وذلك في حديث أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة ...وذكر منها: وأمر بالمعروف صدقة ونهي عن المنكر صدقة...)رواه مسلم.
وجعل ـ عليه الصلاة والسلام ـ من حق الطريق لمن جلس فيه أن يحتسب على الناس، ولا يسكت إذا رأى المنكرات، وإلا لم يكن مؤديا لحق الطريق، وذلك في حديث أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:( إياكم والجلوس على الطرقات، فقالوا: ما لنا بد، إنما هي مجالسنا نتحدث فيها، قال: فإذا أبيتم إلا المجالس فأعطوا الطريق حقها، قالوا: وما حق الطريق؟ قال: غض البصر وكف الأذى ورد السلام وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر)رواه الشيخان.
والأسواق كالطرقات: تكثر فيها المنكرات، ويرتادها كثير من الناس، وقل فيهم من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وهذا من تقصيرهم في هذا الباب العظيم من الدين.
ومن أساليبه ـ عليه الصلاة والسلام ـ في تقرير الحسبة أنه ضرب مثلا عظيما بين فيه ضرر المفسدين على المجتمع، ونفع المصلحين الذين يأخذون على أيديهم؛ ليدل الناس على أهمية الحسبة في نجاتهم، ورفع العذاب عنهم، فلا يتهاونون بها، أو يقعدون عن الأخذ على أيدي المفسدين والسفهاء منهم؛ لأنهم إن لم يأخذوا على أيديهم أهلكوهم معهم؛ كما روى النعمان بن بشير ـ رضي الله عنهما ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا)رواه البخاري.
وبين عليه الصلاة والسلام أن الهلاك الذي يصيب من تركوا الاحتساب، وعطلوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يكون خاصا وعاما؛ فالخاص يكون للأفراد بإلفهم للمنكرات، واعتيادهم مشاهدتها، وعدم إنكار قلوبهم لها، وهذا هو موت القلوب، ومن مات قلبه هلك.
وجاء معنى ذلك في حديث حذيفة ـ رضي الله عنه ـ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:(تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا، فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين: على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مربادا كالكوز مجخيا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه)رواه مسلم.
فذكر ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن من صفات القلب السليم إنكار الفتن، والإعلان بالمعاصي من أعظم الفتن، كما ذكر أن من صفات القلب الفاسد تشرب الفتن، التي من أعظمها ظهور المنكرات، فعدم الاحتساب على أصحابها، وعدم إنكار القلب لها هو الإصابة بموت القلوب وفتنتها، فلا تعرف معروفا ولا تنكر منكرا، إلا ما أشربت من هواها.
وأما العقاب العام، والعذاب الشامل إذا قدره الله تعالى على أمة من الأمم قد استوجبت ذلك بانتهاك حرماته جل وعلا فإنه لا يخص أهل المعصية وحدهم، بل يكون عاما عليهم وعلى غيرهم كما في قول الله تعالى [وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ] {الأنفال:25} .
وسبب ذلك انتشار المنكرات وظهورها، مع عدم النكير على أصحابها؛ لضعف أهل الحق واستكانتهم وتقصيرهم، وقوة أهل الباطل وعتوهم وعنادهم، وقد جاء معنى ذلك في حديث زينب بنت جحش ـ رضي الله عنها ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها فزعا يقول: (لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا، وحلق بإصبعه وبالتي تليها، فقالت زينب: فقلت: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث)متفق عليه.
والخبث لا يكثر إلا بتوافر أسبابه ودواعيه، التي منها جلد المفسدين في نشر فسادهم، وقوة نفوذهم، مع تقاعس المصلحين عن مدافعة المفسدين، ورد إفسادهم عن الناس.
وإذا وقع ذلك في أمة من الأمم كانت حرية بعقوبة الله تعالى كما في حديث حذيفة بن اليمان ـ رضي الله عنهما ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم) رواه الترمذي وحسنه.
وفي حديث جرير بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ قال: سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول:(ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي يقدرون أن يغيروا عليهم ولا يغيروا إلا أصابهم الله بعقاب قبل أن يموتوا)رواه أبو داود وصححه ابن حبان.
والمتأمل للنصوص الواردة عن النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ في تقرير الحسبة، وأنها من شعائر الدين يجد أنها متنوعة؛ فتارة يأمرهم ـ عليه الصلاة والسلام ـ بالاحتساب على الناس، ويوصيهم بذلك، ويبايعهم عليه، ويعده في الصدقات، ويذكر أنه من الجهاد، وأنه نجاة للمجتمع، ويضرب الأمثلة على ذلك.
وتارة أخرى يرهبهم من التفريط فيه، ويذكر لهم ما يترتب على ترك الاحتساب من فساد القلوب، وحلول العقاب والهلاك.
وكل ذلك يدل على ما للاحتساب على الناس من أهمية كبرى في دين الله تعالى، وهذه الأمة الخاتمة تلازمها الخيرية ما قامت فيها هذه الشعيرة العظيمة، فإذا ماتت فيها لم تكن أحسن حالا من الأمم التي عذبت من قبل [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ المُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الفَاسِقُونَ] {آل عمران:110} بارك الله لي ولكم ....
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما أمر، والشكر على نعمه فقد تأذن بالزيادة لمن شكر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إرغاما لمن جحد به وكفر، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الشافع المشفع في المحشر، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله ربكم، وأقيموا على طاعته دهركم [فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ] {الحجر:99}.
أيها المسلمون: من يحاربون الحسبة والمحتسبين من الصحفيين والإعلاميين ومن يسمون أنفسهم بالمفكرين والمثقفين يبنون فكرتهم في محاربة الحسبة والمحتسبين على مذهب غربي مفاده أن البشرية بعد الثورتين الصناعية والتجارية قد بلغت سن الرشد، وآن للإنسان أن يتحرر من أي وصاية عليه وبالأخص وصاية الدين؛ فله الحرية في أن يقول ما يشاء، ويفعل ما يشاء، ولا رقيب عليه ولا حسيب إلا نفسه وضميره كما يقولون.
ثم بعد ثورة الاتصالات والمعلومات التي نتج عنها مئات القنوات المرئية الفضائية، وملايين المواقع الإلكترونية على الشبكة العالمية زاد إلحاح المفسدين في الأرض مطالبين بإلغاء الحسبة، ونشطوا في محاربة المحتسبين عبر وسائل الإعلام، بحجة أن العالم قد أصبح قرية واحدة، وأن منع الفساد أو تحجيمه لن يغني شيئا أمام طوفان عولمة الاتصالات، ويزعمون أنه من الخير للناس أن يتعايشوا مع الانفتاح الذي منه الفساد العقائدي والأخلاقي، ويعتادوا عليه، ويسارعوا إليه، قبل أن يفاجئوا به.
وكل هذه المسوغات التي يذكرونها ما هي إلا من حيل المفسدين، ووحي الشيطان لهم، وصدق لله تعالى إذ يقول [وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ] {الأنعام:121}.
أما دعوى أن البشرية قد بلغت سن الرشد، ويجب أن ترفع الوصاية عن أفرادها فهي كذبة صدقوها ولم يطبقوها لا في الشرق ولا في الغرب؛ إذ يوجد في كل دول العالم قوانين وأنظمة، وعقوبات لمن ينتهكها، ومقتضى بلوغ البشرية سن الرشد أن تلغى جميع الأنظمة والقوانين والعقوبات؛ لأنها وصاية على البشر، ولا وصاية على من بلغوا سن الرشد، ولا يقول بهذا عاقل إلا ما كان من بعض منظري ما يسمى بالمذاهب الفوضوية التي ظلت كتاباتهم نظريات غير قابلة للتطبيق العملي.
وإذا كان الأمر كذلك فلماذا يقبل المحاربون للحسبة وصاية بشر مثلهم عليهم في سائر الأنظمة والقوانين، ولا يقبلون وصاية شرع الله تعالى عليهم المتمثل في شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ وهل هم يعبدون بشرا مثلهم ويستنكفون من العبودية لله تعالى؟ ويطالبون الناس برفضها والتمرد عليها؟
وأما دعوى المسارعة إلى الانفتاح، وقبول ما عند الآخرين ولو كان فسادا لئلا نفاجأ به فهي دعوى مردودة بشرع الله تعالى الذي أمرنا بمدافعة الفساد، ومحاربة أزلامه، وتحذير الناس منهم [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المَصِيرُ] {التوبة:73} وفي آيات أخرى [وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا * فَلَا تُطِعِ الكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا] {الفرقان:52}.
هذا؛ والأمم الأخرى من كتابية ووثنية تدافع عن أفكارها وأديانها وثقافاتها أمام غزو الأمم الأخرى لها، وتفرض وصاية على أفرادها في هذا السبيل، فما بال أقوامنا يرفضون الحق الذي لديهم، ويسارعون في باطل غيرهم، بل ويفرضون وصايتهم علينا بقسرنا على باطلهم؟!
إن الذين يرفضون شعيرة الحسبة ما هم إلا منحرفون متسلطون يريدون فرض وصايتهم على الناس، ويحولون بينهم وبين دينهم وشعائره، ويسعون في نقلهم من أشرف المقامات وهو مقام عبوديتهم لله تعالى، والرضا بدينه، والتزام أحكامه إلى عبودية أفكارهم الضالة، ومذاهبهم المنحرفة. كفى الله تعالى المسلمين شرهم، وردهم على أعقابهم خاسرين. آمين.
[المُنَافِقُونَ وَالمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ المُنَافِقِينَ هُمُ الفَاسِقُونَ * وَعَدَ اللهُ المُنَافِقِينَ وَالمُنَافِقَاتِ وَالكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ] {التوبة:68} .
وصلوا وسلموا على نبيكم....
احتساب النبي عليه الصلاة والسلام (2)
تقرير الحسبة بأقواله (ب)
الخطبة الأولى
الحمد لله رب العالمين؛ خلق خلقه فدبرهم، وشرع لهم من الدين ما يصلحهم [صِبْغَةَ الله وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ] {البقرة:138} نحمده على هدايته، ونشكره على رعايته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وصفيه وخليله؛ اصطفاه الله تعالى للعالمين رسولا، وزاده رفعة وتفضيلا، فهو صاحب الحوض والفضيلة والشفاعة والوسيلة، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، خير صحب وآل، والتابعين لهم بإحسان.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] {المائدة:35}.
أيها الناس: دين الإسلام دين له حدود، وفيه حلال وحرام، وحقوق وواجبات [تِلْكَ حُدُودُ الله فَلَا تَقْرَبُوهَا] {البقرة:187} وفي آية أخرى [تِلْكَ حُدُودُ الله فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ] {البقرة:229} وفي ثالثة [تِلْكَ حُدُودُ الله وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ] {النساء:14}.
وهذه الحدود التي يجب الوقوف عندها، ولا يحل لمسلم أن يتعداها منها ما هو لحق الله تعالى وحده كالعبادات المحضة، ومنها ما هو لحق الله تعالى ولحق البشر وهو ما يتعلق بأنواع المعاملات والأخلاق والقصاص ونحو ذلك.
ولما كان العصيان من طبيعة البشر، والخطأ من سجاياهم؛ كان لا بد من الاحتساب عليهم، ورد الظالم عن ظلمه، والعاصي عن عصيانه؛ طاعة لله تعالى، وغيرةً على حرماته، وحفظا للأفراد والأمم من كل أسباب الهلاك والعذاب في الدنيا والآخرة.
وبهذا كان الاحتساب على الناس واجبا على آحادهم كل بحسب موقعه وقدرته؛ لأن الأمر يعنيهم واحدا واحدا، ولأن العذاب إن وقع بسبب أهل المعاصي لم يُستثن منهم أحد، وتلك سنة الله الماضية في الأمم الغابرة، وهذا ما قرره النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ لأمته، وأوجبه عليهم، وحذرهم من التهاون به، وأكثر القول فيه:
فتارة يأمرهم بالاحتساب على الناس بأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، بل ويوصيهم بذلك، ويبايعه أصحابه ـ رضي الله عنهم ـ عليه، وتارة أخرى يخبر أن سيد الشهداء من قتل بسبب احتسابه وقوله للحق، كما يخبر ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن كلمة الحق عند السلطان الجائر من أعظم الجهاد في سبيل الله تعالى.
بل إنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ عد الاحتساب على الناس من الصدقات، وذلك في حديث أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة ...وذكر منها: وأمر بالمعروف صدقة ونهي عن المنكر صدقة...)رواه مسلم.
وجعل ـ عليه الصلاة والسلام ـ من حق الطريق لمن جلس فيه أن يحتسب على الناس، ولا يسكت إذا رأى المنكرات، وإلا لم يكن مؤديا لحق الطريق، وذلك في حديث أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:( إياكم والجلوس على الطرقات، فقالوا: ما لنا بد، إنما هي مجالسنا نتحدث فيها، قال: فإذا أبيتم إلا المجالس فأعطوا الطريق حقها، قالوا: وما حق الطريق؟ قال: غض البصر وكف الأذى ورد السلام وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر)رواه الشيخان.
والأسواق كالطرقات: تكثر فيها المنكرات، ويرتادها كثير من الناس، وقل فيهم من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وهذا من تقصيرهم في هذا الباب العظيم من الدين.
ومن أساليبه ـ عليه الصلاة والسلام ـ في تقرير الحسبة أنه ضرب مثلا عظيما بين فيه ضرر المفسدين على المجتمع، ونفع المصلحين الذين يأخذون على أيديهم؛ ليدل الناس على أهمية الحسبة في نجاتهم، ورفع العذاب عنهم، فلا يتهاونون بها، أو يقعدون عن الأخذ على أيدي المفسدين والسفهاء منهم؛ لأنهم إن لم يأخذوا على أيديهم أهلكوهم معهم؛ كما روى النعمان بن بشير ـ رضي الله عنهما ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا)رواه البخاري.
وبين عليه الصلاة والسلام أن الهلاك الذي يصيب من تركوا الاحتساب، وعطلوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يكون خاصا وعاما؛ فالخاص يكون للأفراد بإلفهم للمنكرات، واعتيادهم مشاهدتها، وعدم إنكار قلوبهم لها، وهذا هو موت القلوب، ومن مات قلبه هلك.
وجاء معنى ذلك في حديث حذيفة ـ رضي الله عنه ـ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:(تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا، فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين: على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مربادا كالكوز مجخيا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه)رواه مسلم.
فذكر ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن من صفات القلب السليم إنكار الفتن، والإعلان بالمعاصي من أعظم الفتن، كما ذكر أن من صفات القلب الفاسد تشرب الفتن، التي من أعظمها ظهور المنكرات، فعدم الاحتساب على أصحابها، وعدم إنكار القلب لها هو الإصابة بموت القلوب وفتنتها، فلا تعرف معروفا ولا تنكر منكرا، إلا ما أشربت من هواها.
وأما العقاب العام، والعذاب الشامل إذا قدره الله تعالى على أمة من الأمم قد استوجبت ذلك بانتهاك حرماته جل وعلا فإنه لا يخص أهل المعصية وحدهم، بل يكون عاما عليهم وعلى غيرهم كما في قول الله تعالى [وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ] {الأنفال:25} .
وسبب ذلك انتشار المنكرات وظهورها، مع عدم النكير على أصحابها؛ لضعف أهل الحق واستكانتهم وتقصيرهم، وقوة أهل الباطل وعتوهم وعنادهم، وقد جاء معنى ذلك في حديث زينب بنت جحش ـ رضي الله عنها ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها فزعا يقول: (لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا، وحلق بإصبعه وبالتي تليها، فقالت زينب: فقلت: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث)متفق عليه.
والخبث لا يكثر إلا بتوافر أسبابه ودواعيه، التي منها جلد المفسدين في نشر فسادهم، وقوة نفوذهم، مع تقاعس المصلحين عن مدافعة المفسدين، ورد إفسادهم عن الناس.
وإذا وقع ذلك في أمة من الأمم كانت حرية بعقوبة الله تعالى كما في حديث حذيفة بن اليمان ـ رضي الله عنهما ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم) رواه الترمذي وحسنه.
وفي حديث جرير بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ قال: سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول:(ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي يقدرون أن يغيروا عليهم ولا يغيروا إلا أصابهم الله بعقاب قبل أن يموتوا)رواه أبو داود وصححه ابن حبان.
والمتأمل للنصوص الواردة عن النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ في تقرير الحسبة، وأنها من شعائر الدين يجد أنها متنوعة؛ فتارة يأمرهم ـ عليه الصلاة والسلام ـ بالاحتساب على الناس، ويوصيهم بذلك، ويبايعهم عليه، ويعده في الصدقات، ويذكر أنه من الجهاد، وأنه نجاة للمجتمع، ويضرب الأمثلة على ذلك.
وتارة أخرى يرهبهم من التفريط فيه، ويذكر لهم ما يترتب على ترك الاحتساب من فساد القلوب، وحلول العقاب والهلاك.
وكل ذلك يدل على ما للاحتساب على الناس من أهمية كبرى في دين الله تعالى، وهذه الأمة الخاتمة تلازمها الخيرية ما قامت فيها هذه الشعيرة العظيمة، فإذا ماتت فيها لم تكن أحسن حالا من الأمم التي عذبت من قبل [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ المُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الفَاسِقُونَ] {آل عمران:110} بارك الله لي ولكم ....
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما أمر، والشكر على نعمه فقد تأذن بالزيادة لمن شكر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إرغاما لمن جحد به وكفر، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الشافع المشفع في المحشر، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله ربكم، وأقيموا على طاعته دهركم [فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ] {الحجر:99}.
أيها المسلمون: من يحاربون الحسبة والمحتسبين من الصحفيين والإعلاميين ومن يسمون أنفسهم بالمفكرين والمثقفين يبنون فكرتهم في محاربة الحسبة والمحتسبين على مذهب غربي مفاده أن البشرية بعد الثورتين الصناعية والتجارية قد بلغت سن الرشد، وآن للإنسان أن يتحرر من أي وصاية عليه وبالأخص وصاية الدين؛ فله الحرية في أن يقول ما يشاء، ويفعل ما يشاء، ولا رقيب عليه ولا حسيب إلا نفسه وضميره كما يقولون.
ثم بعد ثورة الاتصالات والمعلومات التي نتج عنها مئات القنوات المرئية الفضائية، وملايين المواقع الإلكترونية على الشبكة العالمية زاد إلحاح المفسدين في الأرض مطالبين بإلغاء الحسبة، ونشطوا في محاربة المحتسبين عبر وسائل الإعلام، بحجة أن العالم قد أصبح قرية واحدة، وأن منع الفساد أو تحجيمه لن يغني شيئا أمام طوفان عولمة الاتصالات، ويزعمون أنه من الخير للناس أن يتعايشوا مع الانفتاح الذي منه الفساد العقائدي والأخلاقي، ويعتادوا عليه، ويسارعوا إليه، قبل أن يفاجئوا به.
وكل هذه المسوغات التي يذكرونها ما هي إلا من حيل المفسدين، ووحي الشيطان لهم، وصدق لله تعالى إذ يقول [وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ] {الأنعام:121}.
أما دعوى أن البشرية قد بلغت سن الرشد، ويجب أن ترفع الوصاية عن أفرادها فهي كذبة صدقوها ولم يطبقوها لا في الشرق ولا في الغرب؛ إذ يوجد في كل دول العالم قوانين وأنظمة، وعقوبات لمن ينتهكها، ومقتضى بلوغ البشرية سن الرشد أن تلغى جميع الأنظمة والقوانين والعقوبات؛ لأنها وصاية على البشر، ولا وصاية على من بلغوا سن الرشد، ولا يقول بهذا عاقل إلا ما كان من بعض منظري ما يسمى بالمذاهب الفوضوية التي ظلت كتاباتهم نظريات غير قابلة للتطبيق العملي.
وإذا كان الأمر كذلك فلماذا يقبل المحاربون للحسبة وصاية بشر مثلهم عليهم في سائر الأنظمة والقوانين، ولا يقبلون وصاية شرع الله تعالى عليهم المتمثل في شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ وهل هم يعبدون بشرا مثلهم ويستنكفون من العبودية لله تعالى؟ ويطالبون الناس برفضها والتمرد عليها؟
وأما دعوى المسارعة إلى الانفتاح، وقبول ما عند الآخرين ولو كان فسادا لئلا نفاجأ به فهي دعوى مردودة بشرع الله تعالى الذي أمرنا بمدافعة الفساد، ومحاربة أزلامه، وتحذير الناس منهم [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المَصِيرُ] {التوبة:73} وفي آيات أخرى [وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا * فَلَا تُطِعِ الكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا] {الفرقان:52}.
هذا؛ والأمم الأخرى من كتابية ووثنية تدافع عن أفكارها وأديانها وثقافاتها أمام غزو الأمم الأخرى لها، وتفرض وصاية على أفرادها في هذا السبيل، فما بال أقوامنا يرفضون الحق الذي لديهم، ويسارعون في باطل غيرهم، بل ويفرضون وصايتهم علينا بقسرنا على باطلهم؟!
إن الذين يرفضون شعيرة الحسبة ما هم إلا منحرفون متسلطون يريدون فرض وصايتهم على الناس، ويحولون بينهم وبين دينهم وشعائره، ويسعون في نقلهم من أشرف المقامات وهو مقام عبوديتهم لله تعالى، والرضا بدينه، والتزام أحكامه إلى عبودية أفكارهم الضالة، ومذاهبهم المنحرفة. كفى الله تعالى المسلمين شرهم، وردهم على أعقابهم خاسرين. آمين.
[المُنَافِقُونَ وَالمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ المُنَافِقِينَ هُمُ الفَاسِقُونَ * وَعَدَ اللهُ المُنَافِقِينَ وَالمُنَافِقَاتِ وَالكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ] {التوبة:68} .
وصلوا وسلموا على نبيكم....
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى