مسلم
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
د.محمد بن عبد الله الهبدان
العلم وأهدافه في الإسلام
بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى
ففي أعقاب معركة بدر الشهيرة وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم يستشير جيشه االمنصور ، وقف يسألهم والفرحة تعمر قلبه والبهجة تملأ صدره ، يسألهم ويشاورهم في أمر الأسرى ، ماذا يصنع بهم ؟ وماذا يفعل بهم ؟ فأشار أبوبكر الصديق رضي الله عنه بأخذ الفدية منهم ، وأشار فاروق هذه الأمة بقتلهم إعزازا لهذا الدين ! ومال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرأي أبي بكر فكان يأخذ الفداء منهم ، وقد تباين أخذ االفداء من هؤلاء الأسرى ، وإن مما يثير العجب ، ويدهش القلب ، ذلك القرار الذي ااتخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم تجاه أولئك ؟ يا ترى ما هو ذلك القرار الذي لم يكن يخطر على البال ؟ولا يتصوره الخيال ؟ولكن تلك النفس الموصولة بالله لم تكن لتغفل عن ذلك ولا أن تشغله بهجة النصر والانتصار على الأعداء ؟ لقد كان من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لهؤلاء أن من كان يعرف الكتابة جُعل فداءه أن يعلم أولاد الأنصار الكتابة (1) هكذا كان أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يدل دلالة واضحة ، وإيحاءا عظيما على اهتمامه أن يربي ذلك الجيل الجديد على الكتابة التي هي وسيلة لإدراك العلوم والمعارف .
ومن هنا نعرف أحبتي الكرام أهمية العلم في الإسلام وأنه جاء لينتزع تلك الأمة التي كانت تعيش على هامش الحياة وهامش التاريخ ، جاء لينتشلها من ذلك البعد السحيق عن العلم والتعلم وانشغالهم بثاراتهم ونزاعاتهم وفخرهم وهجائهم ، وكان أشد ما يشغلهم في حياتهم هو قول الشعر وحفظ الأنساب ، لا لشيء إلا من أجل التباهي والتفاخر والنيل من القبائل الأخرى عند الخصام والنزاع .
ولذا فقد حفل القرآن الكريم على توجيهات عدة لهذه الأمة كما حفلت بها سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ،وكلها تنصب على الاهتمام بالعلم والتعلم وبيان منزلته ورفعة أهله ، فقد بدأ الوحي بادئ ذي بدء بالإقراء { اقرأ } ولذلك دلالته الواضحة خاصة بالنسبة لأمة أمية لا تقرأ ولا تكتب ، ثم ثنى بذكر العلم { اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم ، الذي علم بالقلم ، علم الإنسان ما لم يعلم}،ثم تلك المقارنة بين من يعلم ومن لا يعلم توحي بفضيلة العلم وبيان منزلته { قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون } ثم تلك اللفتات التي تدعو إلى النظر والتأمل في آيات الله في الكون كما في قوله جل جلاله { قل انظروا ماذا في السموات والأرض }[يونس:101] وقال { وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون }[ الذاريات :20-21] وهذا النظر والتبصر والتدبر هو نقطة البداية التي يبدأ منها العلم ، وبدأ منها المسلمون بالفعل توجههم لطلب العلم .وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم دائما يشحذ الهمم ويقوي العزائم ، ويبين ما للعلم من الفضيلة والدرجة العالية كما في قوله صلى الله عليه وسلم " من يرد الله به خيرا يفقه في الدين " رواه البخاري ، ولذلك أيضاً لا نعجب من مقولة رسول الله صلى الله عليه وسلم االتي تدل دلالة واضحة بينه يفهمها كل أحد على أن هذا العلم له مكانته ومنزلته في االإسلام قال عليه الصلاة والسلام " طلب العلم فريضة لكل مسلم " (1) رواه ابن ماجه من حديث أنس رضي الله عنه . طلب العلم فريضة !! هذه الكلمة تشع وحدها أمواجا من النور ، وتفتح وحدها آفاقا من الحياة ، فريضة .. ماذا تعني هذه الكلمة في قلوب المؤمنين ؟
إنها أولا : تعني أن العلم واجب مفروض على الإنسان أن يؤديه ، لا يجوز أن تشغله عنه المشاغل ، ولا أن تقعده عنه العقبات .ولا أن تصرفه عنه الصوارف !!
وهي ثانيا : تعني أن العلم واجب يؤديه الإنسان إلى الله تعالى ويتعبد به إليه ، ومن ثم فهو يؤديه بأمانه ، ويؤديه بنزاهة ، ويؤديه بإخلاص .
وهي ثالثاً : تعني أنه عمل يقرب العبد إلى ربه ، فكلما قام الإنسان بهذه الفريضة ، أو بهذه العبادة ، أحس أنه يقترب من الله ، فيزداد به إيمانا ، ويزداد له خشية وحبا ، ويزداد به إحساسا بالرضى في رحابه ، والشكر على عطاياه .{ إنما يخشى الله من عباده العلماء }
تلك بعض معاني الفريضة في قلب المؤمن ، وتلك كانت معاني العلم في نفوس المسلمين !!
ولم يشعر المسلمون قط أن الدنيا تنفصل في إحساسهم عن الآخرة أو أن الدين ينفصل عن الحياة ، وقد امتدت علومهم بهذا الشعور الشامل حتى شمل المعرفة كلها، من علوم الدين من فقه وشريعة وتوحيد .. أو علوم اللغة . وعلوم الفلك والفيزياء والكيمياء والرياضيات إلى آخر ما كان معروفا يومئذ من العلوم .
ولم يفهم المسلمون من قول النبي صلى الله عليه وسلم طلب العلم فريضة أنه قاصر على العلم الشرعي فحسب فتلك فريضة بدهية على كل مسلم ليتعرف كيف يعبد الله تعالى العبادة الصحيحة ، ويعرف الحلال من الحرام وما ينبغي فعله ، وما ينبغي االانتهاء عنه ،ولكنهم فهموا منه معنى أوسع من ذلك وجعلوه ينطبق على كل علم ما دام لا يخرج عن الحدود والضوابط التي رسمها الله تعالى ، وإلا فانظر معي يا رعاك الله ، كيف ينفذ المسلمون هذا الأمر الرباني { واعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم }[الأنفال :60] هل يستطيعون ذلك بغير علم، علم يشمل اليوم الفيزياء والكيمياء والرياضيات والميكانيكا ، وعشرات غيرها من االعلوم ؟؟
وانظر إلى قوله سبحانه { وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه } [الجاثية :13]
هل يتحقق التسخير بغير علم ؟ هل يقول الإنسان للشيء كن فيكون ؟ أم يحتاج لتحقيق ذلك التسخير إلى جهد علمي ؟ وعشرات من الأمور تقطع بأن العلم الذي هو فريضة ليس هو العلم الشرعي وحده ، إنما هو كل علم نافع ، ولكن يختلف الأمر بين علم وعلم فيكون أحدهما فرض عين والآخر فرض كفاية ، ولكنه في جميع الأحوال فريضة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بحق .
أيها المسلمون : حين يكون العلم في الإسلام على هذا المفهوم العظيم ينتج عن ذلك نتائج هامة في حياة الأمة ،
ينتج أولاً : أن العلم لا يمكن أن يكون مصادما للدين ولا معاديا للعقيدة ، وإلا فكيف يكون العلم في الإسلام فريضة على العباد حتى ميز أهله فقال { يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات } ثم يكون بعد ذلك مناقضاً للدين ؟ لقد عاش العلم في ظلال العقيدة والدين يتقدم وينشط ، ويصل إلى كشوفات علمية هائلة ، أقر بها االمتعنتون أنفسهم من علماء أوروبا ، دون أن يفترق الطريق لحظة أو يحدث الشقاق ، ذلك أن العلم كان فريضة إلى الله تؤدى كما تؤدى الصلاة والزكاة والصيام والدين ، ولذا لم يحدث في تاريخ المسلمين أن عالماً يبحث في الطب أو الفلك أوغيرها .. وجد نفسه معزولا عن الدين ، أو وجد أن الدين يعطله عن البحث العلمي الدقيق ، فالعلم والدين أصلان متكاملان في فطرة الإنسان وكيانه ولا يمكن أن يكونا متناقضين، بحيث يكونا في موضع التقابل والتضاد فمن أراد الدين فليترك العلم ومن أراد العلم فليترك الدين ..
وينتج من ذلك ثانيا : أن العلم لا يكون وسيلة لإفساد الأخلاق ، فإذا كان العلم فريضة فهو محكوم إذن بالمنهج الإلهي القويم وحاشا لله أن يوجد في بنود المنهج الرباني أن يكون العلم أداة لإفساد الأخلاق وتدميرها ،{ قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون } [الأعراف : ] ، فالعلم في ظل الإسلام هو النور الذي يهدي الله به االناس في مسالك الأرض وينير لهم السبيل ،وواقعنا المعاصر نموذج فذ للتقدم العلمي، ولاستخدام العلم في الوقت ذاته ، لإفساد الأخلاق .
ولعل من أبرز الأمثلة على ذلك : تيسير استخدام موانع الحمل ، وإنتاجها على نطاق واسع أكبر بكثير من حاجة البشرية الراشدة ، وتخفيض أسعارها حتى تصبح في متناول ، أي فتاة تريد أن تحصل عليها ، وإخراجها من دائرة المراقبة الصحية التي يمكن للأطباء أن يمارسوها ، وذلك ببيعها دون حاجة إلى تذكرة الطبيب ، بالرغم مما يقوله الأطباء أنفسهم من خطورة استخدامها بغير رقابة صحية ، والهدف من ذلك واضح ! فحين تأمن الفتاة نتائج اتصالاتها غير المشروعة ، فما الذي يمنعها في أن تغرق في هذه العلاقات إلى آخر المدى ،ويتحقق للشياطين ما يريدون من إشاعة االفاحشة على أوسع نطاق !!
وليست موانع الحمل وحدها هي التي استخدم فيها العلم لإفساد الأخلاق فالإذاعة والتلفاز والفيديو والبث المباشر وغيرها مما يمكن أن يجد من هذه الأشياء كلها أدوات كان يمكن أن تستخدم في ترشيد الأمة ، وتوجيهها الوجهة الصالحة ، ولكنها تستخدم االيوم للإفساد المتعمد الذي تجاوز في كثير من الأحيان دائرة الإفساد الخلقي إلى إفساد االفطرة الإنسانية ذاتها ، بإشاعة التفاهة والضحالة والسطحية ، وشغل النفس عن معالي الأمور وتوجيهها إلى سفاسفها .
أيها الأحبة في الله : وينتج من ذلك ثالثا : أن العلم لا يكون وسيلة للشر أو الإيذاء !
وكيف يستخدم العلم في الشر وهو فريضة وعبادة ؟ قال معاذ رضي الله عنه " تعلموا االعلم ، فإن تعلمه لله خشية ، وطلبه عبادة ، ومذاكرته تسبيح ، والبحث عنه جهاد ، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة ، وبذله لأهله قربة " (1) فأين ينبع الشر في هذا الطريق الذي تحفه خشية الله وعبادته وتسبيحه ، والتقرب إليه ؟
وربما يخطر على البال أن علوم المسلمين في السابق لم تستخدم في الشر؛ لأنها كانت بدائية بسيطة لا تصلح للشر ، إذا قيست بطاقة الذرة وعلوم التدمير في القرن العشرين !!
والواقع ليس كذلك فإن علوما أدنى من علوم المسلمين وأبسط كانت تقدر على الشر وتستخدم فيه ! فقد استخدم الكهنة في مصر القديمة وكانوا في الأغلب هم العلماء ، ااستخدموا معارف الكيمياء والطب والنجوم في السحر والاستحواذ على الأموال بالباطل ، والتحكم في كل أمور الناس بالعبودية والإذلال ، ولو أراد المسلمون أن يستخدموا العلم للشر فلم تكن لتمنعهم بساطة علومهم ، ولا لتعجزهم من عمل السوء ولكن ..هذا هو التاريخ .. صفحة رائعة مشرقة مضيئة .. تشهد أن العلم الإسلامي لم يسع للشر ولم يستخدم للشر .. بل أراد دائما وجه الله وتوجه إلى الخير ..ذلك أنه كان فريضة إلى الله يتقرب بها العلماء إلى حماه !!
والآن نطوي تلك الصفحة المشرقة المضيئة لنطلع على صفحة أخرى .. صفحة الغرب تلك الصفحة التي امتلأت بالدماء والأشلاء ، فقد أدى سباق التسلح في الميدان االنووي إلى إنفاق مقادير من الأموال كانت كفيلة برفع الفاقة والعوز عن البشرية كلها ، وتوفير وسائل الحياة الكريمة لمجموعة ضخمة من البشر تعيش أدنى من درجة االآدمية بكثير !! ومع ذلك لا يتوقف السباق المسعور ولا يشبع ولا يصل إلى نتيجة حاسمة كذلك !! وهذا كله لغير ضرورة حقيقية !! فما زال في أمكنة الأسلحة التي يسمونها تقليدية أن تفتك بعشرات الألوف بل بالملايين ، وفي إمكانيتها أن تقرر النصر لمن يملكها ، ويحسن استخدامها ..
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وسنة رسوله وجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه وصلى الله على نبينا محمد
الخطبة الثانية
أيها المسلمون : إننا بحاجة اليوم إلى أن نرجع للعلم احترمه وتقديره وأهدافه وغايته ، وقد صار المسلمون يتلهون به في عبث فاضح ، لا يليق بالبشر العاديين فضلا عن المسلمين، إنهم يأخذون العلم في استخفاف العابث .. إن كانوا طلبة في المدارس والمعاهد ، أو أساتذة يدرسون الطلاب غايته الوظيفة أو الكسب أو الشهرة من أقرب طريق ، ووسيلته الغش والخداع والتلفيق !
إنهم لا يعطونه من الجد والعناية والاحترام حتى ما يعطيه إياه أوروبا الكافرة ! وهم أولى من الأوربيين بالتقاليد العلمية التي سار عليها أسلافنا الأوائل حين كانوا يعيشون في ظل الإسلام ويستمدون من روح الإسلام ، ولذلك هم في حاجة ماسة لمعرفة هدي رسول الله يردهم إلى احترام العلم وتقديره ، ويعيدهم لروح الجد والإخلاص
العلم وأهدافه في الإسلام
بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى
ففي أعقاب معركة بدر الشهيرة وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم يستشير جيشه االمنصور ، وقف يسألهم والفرحة تعمر قلبه والبهجة تملأ صدره ، يسألهم ويشاورهم في أمر الأسرى ، ماذا يصنع بهم ؟ وماذا يفعل بهم ؟ فأشار أبوبكر الصديق رضي الله عنه بأخذ الفدية منهم ، وأشار فاروق هذه الأمة بقتلهم إعزازا لهذا الدين ! ومال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرأي أبي بكر فكان يأخذ الفداء منهم ، وقد تباين أخذ االفداء من هؤلاء الأسرى ، وإن مما يثير العجب ، ويدهش القلب ، ذلك القرار الذي ااتخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم تجاه أولئك ؟ يا ترى ما هو ذلك القرار الذي لم يكن يخطر على البال ؟ولا يتصوره الخيال ؟ولكن تلك النفس الموصولة بالله لم تكن لتغفل عن ذلك ولا أن تشغله بهجة النصر والانتصار على الأعداء ؟ لقد كان من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لهؤلاء أن من كان يعرف الكتابة جُعل فداءه أن يعلم أولاد الأنصار الكتابة (1) هكذا كان أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يدل دلالة واضحة ، وإيحاءا عظيما على اهتمامه أن يربي ذلك الجيل الجديد على الكتابة التي هي وسيلة لإدراك العلوم والمعارف .
ومن هنا نعرف أحبتي الكرام أهمية العلم في الإسلام وأنه جاء لينتزع تلك الأمة التي كانت تعيش على هامش الحياة وهامش التاريخ ، جاء لينتشلها من ذلك البعد السحيق عن العلم والتعلم وانشغالهم بثاراتهم ونزاعاتهم وفخرهم وهجائهم ، وكان أشد ما يشغلهم في حياتهم هو قول الشعر وحفظ الأنساب ، لا لشيء إلا من أجل التباهي والتفاخر والنيل من القبائل الأخرى عند الخصام والنزاع .
ولذا فقد حفل القرآن الكريم على توجيهات عدة لهذه الأمة كما حفلت بها سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ،وكلها تنصب على الاهتمام بالعلم والتعلم وبيان منزلته ورفعة أهله ، فقد بدأ الوحي بادئ ذي بدء بالإقراء { اقرأ } ولذلك دلالته الواضحة خاصة بالنسبة لأمة أمية لا تقرأ ولا تكتب ، ثم ثنى بذكر العلم { اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم ، الذي علم بالقلم ، علم الإنسان ما لم يعلم}،ثم تلك المقارنة بين من يعلم ومن لا يعلم توحي بفضيلة العلم وبيان منزلته { قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون } ثم تلك اللفتات التي تدعو إلى النظر والتأمل في آيات الله في الكون كما في قوله جل جلاله { قل انظروا ماذا في السموات والأرض }[يونس:101] وقال { وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون }[ الذاريات :20-21] وهذا النظر والتبصر والتدبر هو نقطة البداية التي يبدأ منها العلم ، وبدأ منها المسلمون بالفعل توجههم لطلب العلم .وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم دائما يشحذ الهمم ويقوي العزائم ، ويبين ما للعلم من الفضيلة والدرجة العالية كما في قوله صلى الله عليه وسلم " من يرد الله به خيرا يفقه في الدين " رواه البخاري ، ولذلك أيضاً لا نعجب من مقولة رسول الله صلى الله عليه وسلم االتي تدل دلالة واضحة بينه يفهمها كل أحد على أن هذا العلم له مكانته ومنزلته في االإسلام قال عليه الصلاة والسلام " طلب العلم فريضة لكل مسلم " (1) رواه ابن ماجه من حديث أنس رضي الله عنه . طلب العلم فريضة !! هذه الكلمة تشع وحدها أمواجا من النور ، وتفتح وحدها آفاقا من الحياة ، فريضة .. ماذا تعني هذه الكلمة في قلوب المؤمنين ؟
إنها أولا : تعني أن العلم واجب مفروض على الإنسان أن يؤديه ، لا يجوز أن تشغله عنه المشاغل ، ولا أن تقعده عنه العقبات .ولا أن تصرفه عنه الصوارف !!
وهي ثانيا : تعني أن العلم واجب يؤديه الإنسان إلى الله تعالى ويتعبد به إليه ، ومن ثم فهو يؤديه بأمانه ، ويؤديه بنزاهة ، ويؤديه بإخلاص .
وهي ثالثاً : تعني أنه عمل يقرب العبد إلى ربه ، فكلما قام الإنسان بهذه الفريضة ، أو بهذه العبادة ، أحس أنه يقترب من الله ، فيزداد به إيمانا ، ويزداد له خشية وحبا ، ويزداد به إحساسا بالرضى في رحابه ، والشكر على عطاياه .{ إنما يخشى الله من عباده العلماء }
تلك بعض معاني الفريضة في قلب المؤمن ، وتلك كانت معاني العلم في نفوس المسلمين !!
ولم يشعر المسلمون قط أن الدنيا تنفصل في إحساسهم عن الآخرة أو أن الدين ينفصل عن الحياة ، وقد امتدت علومهم بهذا الشعور الشامل حتى شمل المعرفة كلها، من علوم الدين من فقه وشريعة وتوحيد .. أو علوم اللغة . وعلوم الفلك والفيزياء والكيمياء والرياضيات إلى آخر ما كان معروفا يومئذ من العلوم .
ولم يفهم المسلمون من قول النبي صلى الله عليه وسلم طلب العلم فريضة أنه قاصر على العلم الشرعي فحسب فتلك فريضة بدهية على كل مسلم ليتعرف كيف يعبد الله تعالى العبادة الصحيحة ، ويعرف الحلال من الحرام وما ينبغي فعله ، وما ينبغي االانتهاء عنه ،ولكنهم فهموا منه معنى أوسع من ذلك وجعلوه ينطبق على كل علم ما دام لا يخرج عن الحدود والضوابط التي رسمها الله تعالى ، وإلا فانظر معي يا رعاك الله ، كيف ينفذ المسلمون هذا الأمر الرباني { واعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم }[الأنفال :60] هل يستطيعون ذلك بغير علم، علم يشمل اليوم الفيزياء والكيمياء والرياضيات والميكانيكا ، وعشرات غيرها من االعلوم ؟؟
وانظر إلى قوله سبحانه { وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه } [الجاثية :13]
هل يتحقق التسخير بغير علم ؟ هل يقول الإنسان للشيء كن فيكون ؟ أم يحتاج لتحقيق ذلك التسخير إلى جهد علمي ؟ وعشرات من الأمور تقطع بأن العلم الذي هو فريضة ليس هو العلم الشرعي وحده ، إنما هو كل علم نافع ، ولكن يختلف الأمر بين علم وعلم فيكون أحدهما فرض عين والآخر فرض كفاية ، ولكنه في جميع الأحوال فريضة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بحق .
أيها المسلمون : حين يكون العلم في الإسلام على هذا المفهوم العظيم ينتج عن ذلك نتائج هامة في حياة الأمة ،
ينتج أولاً : أن العلم لا يمكن أن يكون مصادما للدين ولا معاديا للعقيدة ، وإلا فكيف يكون العلم في الإسلام فريضة على العباد حتى ميز أهله فقال { يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات } ثم يكون بعد ذلك مناقضاً للدين ؟ لقد عاش العلم في ظلال العقيدة والدين يتقدم وينشط ، ويصل إلى كشوفات علمية هائلة ، أقر بها االمتعنتون أنفسهم من علماء أوروبا ، دون أن يفترق الطريق لحظة أو يحدث الشقاق ، ذلك أن العلم كان فريضة إلى الله تؤدى كما تؤدى الصلاة والزكاة والصيام والدين ، ولذا لم يحدث في تاريخ المسلمين أن عالماً يبحث في الطب أو الفلك أوغيرها .. وجد نفسه معزولا عن الدين ، أو وجد أن الدين يعطله عن البحث العلمي الدقيق ، فالعلم والدين أصلان متكاملان في فطرة الإنسان وكيانه ولا يمكن أن يكونا متناقضين، بحيث يكونا في موضع التقابل والتضاد فمن أراد الدين فليترك العلم ومن أراد العلم فليترك الدين ..
وينتج من ذلك ثانيا : أن العلم لا يكون وسيلة لإفساد الأخلاق ، فإذا كان العلم فريضة فهو محكوم إذن بالمنهج الإلهي القويم وحاشا لله أن يوجد في بنود المنهج الرباني أن يكون العلم أداة لإفساد الأخلاق وتدميرها ،{ قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون } [الأعراف : ] ، فالعلم في ظل الإسلام هو النور الذي يهدي الله به االناس في مسالك الأرض وينير لهم السبيل ،وواقعنا المعاصر نموذج فذ للتقدم العلمي، ولاستخدام العلم في الوقت ذاته ، لإفساد الأخلاق .
ولعل من أبرز الأمثلة على ذلك : تيسير استخدام موانع الحمل ، وإنتاجها على نطاق واسع أكبر بكثير من حاجة البشرية الراشدة ، وتخفيض أسعارها حتى تصبح في متناول ، أي فتاة تريد أن تحصل عليها ، وإخراجها من دائرة المراقبة الصحية التي يمكن للأطباء أن يمارسوها ، وذلك ببيعها دون حاجة إلى تذكرة الطبيب ، بالرغم مما يقوله الأطباء أنفسهم من خطورة استخدامها بغير رقابة صحية ، والهدف من ذلك واضح ! فحين تأمن الفتاة نتائج اتصالاتها غير المشروعة ، فما الذي يمنعها في أن تغرق في هذه العلاقات إلى آخر المدى ،ويتحقق للشياطين ما يريدون من إشاعة االفاحشة على أوسع نطاق !!
وليست موانع الحمل وحدها هي التي استخدم فيها العلم لإفساد الأخلاق فالإذاعة والتلفاز والفيديو والبث المباشر وغيرها مما يمكن أن يجد من هذه الأشياء كلها أدوات كان يمكن أن تستخدم في ترشيد الأمة ، وتوجيهها الوجهة الصالحة ، ولكنها تستخدم االيوم للإفساد المتعمد الذي تجاوز في كثير من الأحيان دائرة الإفساد الخلقي إلى إفساد االفطرة الإنسانية ذاتها ، بإشاعة التفاهة والضحالة والسطحية ، وشغل النفس عن معالي الأمور وتوجيهها إلى سفاسفها .
أيها الأحبة في الله : وينتج من ذلك ثالثا : أن العلم لا يكون وسيلة للشر أو الإيذاء !
وكيف يستخدم العلم في الشر وهو فريضة وعبادة ؟ قال معاذ رضي الله عنه " تعلموا االعلم ، فإن تعلمه لله خشية ، وطلبه عبادة ، ومذاكرته تسبيح ، والبحث عنه جهاد ، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة ، وبذله لأهله قربة " (1) فأين ينبع الشر في هذا الطريق الذي تحفه خشية الله وعبادته وتسبيحه ، والتقرب إليه ؟
وربما يخطر على البال أن علوم المسلمين في السابق لم تستخدم في الشر؛ لأنها كانت بدائية بسيطة لا تصلح للشر ، إذا قيست بطاقة الذرة وعلوم التدمير في القرن العشرين !!
والواقع ليس كذلك فإن علوما أدنى من علوم المسلمين وأبسط كانت تقدر على الشر وتستخدم فيه ! فقد استخدم الكهنة في مصر القديمة وكانوا في الأغلب هم العلماء ، ااستخدموا معارف الكيمياء والطب والنجوم في السحر والاستحواذ على الأموال بالباطل ، والتحكم في كل أمور الناس بالعبودية والإذلال ، ولو أراد المسلمون أن يستخدموا العلم للشر فلم تكن لتمنعهم بساطة علومهم ، ولا لتعجزهم من عمل السوء ولكن ..هذا هو التاريخ .. صفحة رائعة مشرقة مضيئة .. تشهد أن العلم الإسلامي لم يسع للشر ولم يستخدم للشر .. بل أراد دائما وجه الله وتوجه إلى الخير ..ذلك أنه كان فريضة إلى الله يتقرب بها العلماء إلى حماه !!
والآن نطوي تلك الصفحة المشرقة المضيئة لنطلع على صفحة أخرى .. صفحة الغرب تلك الصفحة التي امتلأت بالدماء والأشلاء ، فقد أدى سباق التسلح في الميدان االنووي إلى إنفاق مقادير من الأموال كانت كفيلة برفع الفاقة والعوز عن البشرية كلها ، وتوفير وسائل الحياة الكريمة لمجموعة ضخمة من البشر تعيش أدنى من درجة االآدمية بكثير !! ومع ذلك لا يتوقف السباق المسعور ولا يشبع ولا يصل إلى نتيجة حاسمة كذلك !! وهذا كله لغير ضرورة حقيقية !! فما زال في أمكنة الأسلحة التي يسمونها تقليدية أن تفتك بعشرات الألوف بل بالملايين ، وفي إمكانيتها أن تقرر النصر لمن يملكها ، ويحسن استخدامها ..
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وسنة رسوله وجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه وصلى الله على نبينا محمد
الخطبة الثانية
أيها المسلمون : إننا بحاجة اليوم إلى أن نرجع للعلم احترمه وتقديره وأهدافه وغايته ، وقد صار المسلمون يتلهون به في عبث فاضح ، لا يليق بالبشر العاديين فضلا عن المسلمين، إنهم يأخذون العلم في استخفاف العابث .. إن كانوا طلبة في المدارس والمعاهد ، أو أساتذة يدرسون الطلاب غايته الوظيفة أو الكسب أو الشهرة من أقرب طريق ، ووسيلته الغش والخداع والتلفيق !
إنهم لا يعطونه من الجد والعناية والاحترام حتى ما يعطيه إياه أوروبا الكافرة ! وهم أولى من الأوربيين بالتقاليد العلمية التي سار عليها أسلافنا الأوائل حين كانوا يعيشون في ظل الإسلام ويستمدون من روح الإسلام ، ولذلك هم في حاجة ماسة لمعرفة هدي رسول الله يردهم إلى احترام العلم وتقديره ، ويعيدهم لروح الجد والإخلاص
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى