مسلم
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
الشيخ / محمد بن أحمد الفراج
نعمة نزول المطر
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى أله وأصحابه وسلم.
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)) [آل عمران:102]،
((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)) [النساء:1]،
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً* يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)) [الأحزاب:70-71]... أما بعد:
اعلم أخي القارئ أن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي رسوله صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
إن مما يشاهده كل مسلم ما أنعم الله سبحانه وتعالى به على هذه الأمة، وعلى عباده، وعلى هذه البلاد في هذا العام، من نعمة الغيث والقطر، الذي اتخذ صفة الاستمرار، فأرسله الله سبحانه وتعالى على معظم أرجاء هذه البلاد، غيثاً مغيثاً هنيئاً مريئاً سحاً غدقاً طبقاً مجللا نافعاً بإذن ربه سبحانه وتعالى، ولا يكاد يمر يوم حتى يرى الناس آثار رحمة الله سبحانه وتعالى ونعمته، فيرسل الله الريح مبشره، ويَنْشأ السحاب، ويعم ويشمل، ويَسِحُّ المطر، وتُشق الأرض، وينبت النبات، حتى بدل الله سبحانة وتعالى الحال وغيّر الأمر، فبينما كان بالأمس، كانت الأرض غبراء، وكانت القلوب وجلة، والوجوه عابسة، والأنعام جائعة، بدل الله سبحانه وتعالى الحال بمنه ورحمته، فأصبحت ترى الأرض واحة خضراء فيحاء في كثير من الأماكن والنواحي، وصدحت الطير، وأورقت الشجر، وأزهرت الأرض، وشبعت الأنعام، وفرحت النفوس، وابتهجت القلوب، فلله الحمد والشكر، وله الفضل والمنة على هذه النعم العظيمة، والمنن القديرة، نسأله سبحانه وتعالى أن يجعلها نعمة لا استدراجا، قال تعالى: ((اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاء كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ* وَإِن كَانُوا مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِم مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ* فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)) [الروم:48-50]، إذاً هم يستبشرون، يستبشر الناس ويخرجون إلى البراري، ليشاهدوا آثار نعمة الله سبحانه وتعالى ورحمته، وكيف لا يفرح العباد بنعم الله، وكيف لا يفرحون بالمطر، وكيف لا يفرحون بالغيث، وكيف لا يفرحون بالخضرة والنضرة، عم الخير، وشملت البركة، وجلبت الكمأة، وظهرت نعم عظيمة كثيرة شاهدها الناس بأرصادهم، وسمعوا عنها بأذانهم، وعاشوها بأنفسهم:
تأملْ في نَبات الأرضِ وانْظر
إلى آثارِ ما صَنَعَ المَلِيكُ
عُيونٌ مِنْ لُجَيْنٍ شَاخِصَاتٌ
بأحْدَاقٍ هي الذّهَبُ السّبِيكُ
على قُطُبِ الزّبَرْجَدِ شَاهِــدَاتٌ
بأنّ اللهَ ليس لهُ شَرِيــكُ
إن مما يخطئ فيه فهم كثير من الناس، ظنهم أن كل ما شاهدوه من خير إنما هو دليل رضى الله سبحانه وتعالى، وإنما هو نعمة وبركة، وإننا في الوقت الذي نرجو ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يكون كذلك، وأن يكون ما أعطانا إياه من الخير والبركة نعمةً وفضلاً وإحساناً وهو كذلك، إلا أنه مما ينبغي أن يعلمه كل أحد أنه ليس العطاء دليل الخير، وليس دليل الرضى، كما قال تعالى: ((فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ* وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ)) [الفجر:14-15]، كلا.. كلا، نفى الله سبحانه وتعالى هذا المفهوم، وبيّن أن الأمر راجع إلى أمره وحكمته، فليس كل ما أعطا الله عبده من خير دليل رضى، لا سيما إذا كان العبد على حالة من الإقبال إلى معصية الله، وترك طاعة الله عز وجل، فإن ذلك منذر ببلاء عظيم، وقد يكون ذلك استدراجاً وإمهالا، كما قال تعالى: (( فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ* وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ)) [القلم:44-45]، قال ابن عباس- رضي الله عنه-: (إذا رأيت الله عز وجل ينعم على عبده، ويمده وهو مقيم على معصيته، فاعلم أنما هو استدراج)، ثم تلا هذه الآية.
إذاً فالذي ينبغي أخي القارئ أن لا نقيس الأمور بالعطاء والمنع، وأن نقيسها بحال العبد وبما هو عليه من طاعة الله عز وجل أو مخالفته، أرأيت ما يعيشه كثير من الكفار في كثير من البلاد من نعمة غيث ومطر وبركة، أذلك دليل على رضي الله عز وجل عنهم؟ كلا.! بل هو استدراج وتعجيل للطيبات، قال تعالى: ((لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ* مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ)) [آل عمران:196-197]، وقال: ((ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)) [الحجر:3]، وقال: ((وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ)) [محمد:12] فإذا علم هذا، فالواجب على العبد إزاء ما نشاهده من هذا الخير، ومن هذه النعمة، ومن هذا المطر، ومن هذه البركات، أن يكون مترددا بين الخوف والرجاء، بأن يكون هذا مكافئة من الله عز وجل ونعمة، والخوف من أن يكون هذا استدراجا وإمهالا، وهذا ما أرشدنا الله عز وجل إليه، قال تعالى: ((وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ)) [الروم:46]، وقال عز وجل: ((وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)) [الروم:24]، وقال عز وجل: ((هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ* وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ)) [الرعد:12-13]، فالأمر يا عباد الله كما قال الله: ((خَوْفاً وَطَمَعاً))، طمعا في ثواب الله، طمعا في القطر، طمعا في الربيع والنبات والخير والبركة، وخوفا من عذاب الله عز وجل وإمهاله، خوفا من ريح عاصفة، تدمر كل شيئ أتت عليه، لا تذر شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم، خوفا من ريح تبدل الأمر، وتكدر الصفوة، وتحول اللهو إلى تعاسة وعذاب، خوفا من صواعق قاصفة تدمر السكن والوطن، وتنزل على البر والحضر، وتقتل الأرواح، وتميت الممتلكات، خوفا من برق كالشواظ وكاللهب، يخطف الأبصار، ويشق عنان السماء، ((يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ)) [النور:43]، وقد حدث شيء من ذلك، وشاهده الناس هذا العام في كثير من الأماكن والنواحي، خوفا من مطر جارف، من مطر مغرق يدمر الحرث، ويهلك الأرواح، خوفا من برد ينزل فيهلك الزرع، ويهلك الأنعام، وقد حصل شيء من ذلك في كثير من النواحي، وكثيرا ما نسمع ذلك في وسائل الأنباء والأخبار، فالواجب على العبد أن يكون مترددا بين الخوف والرجاء، وبين منزلة الخوف والطمع، كما بين الله سبحانه وتعالى.
ثم تأمل أخي القارئ في سيرة أتقى عباد الله، نبي الله عليه الصلاة والسلام، ما هديه وما توجيهه، وما عمله إذا شاهد المطر، وإذا شاهد العارض والسحاب، دلت الأحاديث الصحيحة أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا شاهد الناشئ تغير وجهه، ووجل قلبه، فإن كان في صلاة خففها، وإن كان في عمل تركه، وجعل يدخل ويخرج، ويشاهد السماء، وربما تزمل وتدثر،ك وارتعد من الخوف، وربما قال: زملوني.. زملوني، دثروني.. دثروني، فتقول عائشة: يا رسول الله الناس يفرحون بالمطر وأنت تخاف، روى مسلم في صحيحه من حديث عطاء بن أبي رباح عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: وإذا تخيلت السماء تغير لونه وخرج ودخل وأقبل وأدبر، فإذا مطرت سري عنه، فعرفت ذلك في وجهه، قالت عائشة: فسألته، فقال: (لعله يا عائشة كما قال قوم عاد)، ((فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا)) [الأحقاف:24]، فإذا أمطرت السماء هش وبش، وفرح عليه الصلاة والسلام، وقال: (اللهم صيب هنيئا) رواه البخاري، وربما عليه الصلاة والسلام كشف رأسه للمطر، وخرج له إذا علم أنه رحمة، عن أنس بن مالك- رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أمطرت السماء، حسر ثوبه عن ظهره حتى يصيبه المطر، فقيل له: لم تصنع هذا، قال: (إنه حديث عهد بربه عز وجل) رواه الحاكم في المستدرك وقال: (هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه)، هذا هدي نبيك عليه الصلاة والسلام، كان يشفق إذا رأى السماء قد تغيرت كان يخاف أن يكون عذابا، عذاباً لمن؟ لسيد الخلق على النبي عليه الصلاة والسلام وصحابته، خير نبي وخير جيل، فإذا كان هذا خوفه وإشفاقه عليه الصلاة والسلام مع ما هو عليه من طاعة وترك لمحارم الله، فكيف بنا لا نخاف، كيف بنا نأمن من عذاب الله، كيف بنا نفرح ونظن أن ما أعطانا لله عز وجل إنما هو دليل رضا، ولا نتذكر أن ذلك قد يكون استدراجا وإمهالا، وقد يكون علامة عذاب والعياذ بالله، ينبغي أن يكون عندنا هذا الخاطر، وهذا الهاجس، وهذا الخوف، لأن الله عز وجل يقول: ((فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ* فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ))، وفي حديث عطاء السابق، قالت: كان النبي- صلى الله عليه وسلم- إذا عصفت الريح قال: ((اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به))، وفي رواية الترمذي ((وخير ما أمرت به، ونعوذ بك من شر هذه الريح وشر ما فيها ونشر ما أمرت به))، فينبغي أن تعلم أخي القارئ هدي نبيك- عليه الصلاة والسلام- وسنته، وأن تفعل كما يفعل، وأن تتردد دائما بين منزلة الخوف والرجاء، كما كان- عليه الصلاة والسلام- يفعل، لاسيما وحال كثير من الناس بما لا يخفى على ذي لب وذي عين ترى.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيم لشأنه، وأشهد أن محمد عبده ورسوله، الداعي إلى رضوانه- صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه وأعوانه وسلم تسليما كثيرا- إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين، أما بعد:
فإن الواجب على كل مسلم ومسلمة أن يقابل نعم الله بالشكر، ومن أجلّ نعم الله هذا الغيث والمطر، الذي به بعد رحمة الله حياة الناس والأنعام والأرض والنبات، قال تعالى: ((وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ)) [الأنبياء:30]، يرسل الله سبحانه وتعالى المطر، فيكون به حياة الأنَاسيِّ والأنعام، ويخرج الله به عز وجل من كل الثمرات، فينبغي على العبد أن يتذكر افتقاره إلى نعم الله، وأن يقابل ذلك بالشكر، قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)) [فاطر:15]، وقوله: ((أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ* أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ* لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ )) [الواقعة:68-70]. وقال عز وجل: ((قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاء مَّعِينٍ)) [الملك:30].
من يأتيكم بالمطر؟ من يأتيكم بالماء؟ من يسر لكم أسباب الحياة إلا الله؟ فنحمد الله سبحانه وتعالى على نعمه الظاهرة والباطنة، ألا تعلم أن الشكر ليست كلمه تقال باللسان فحسب، بل إن الشكر منازل ودرجات، فمن ذلك:-
1- شكر القلب: وهو أن يشعر الإنسان بفضل الله عز وجل، ونعمه عليه، وأن ينسب النعم إلى الله وحده لا إلى غيره، كما قال تعالى: ((وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ)) [النحل:53]. في الصحيحين من حديث زيد بن خالد الجهني، قال: صلى لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليلة، فلما انصرف أقبل على الناس، فقال: (هل تدرون ماذا قال ربكم)، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: (أصبح من عبادي مؤمن وكافر، فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي وكافر بالكوكب، وأما من قال بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي ومؤمن بالكوكب).
2- شكر اللسان: بأن يلهج اللسان بنعمة الله وشكره، وتذكر آلائه، ويحمد الله دوما وأبداً، وليلا ونهارا، وجهارا وإصراراً بنعم الله، ومن ذلك هذا الغيث وهذا النبات وهذا الربيع.
3- شكر الجوارح: بأن يستعمل الإنسان جوارحه، ويستعمل نعم الله في طاعته، بحيث لا يفتقده الله حيث أمره، ولا يجده حيث نهاه، يكف عن معاصي الله، ويقبل على طاعات الله، وعلى واجبات الله، ولا يتجرأ على محارم الله، ذلك هو الشكر الأعظم والأكبر، إن الشكر ليس كلمة تقال باللسان، ما أهون ذلك على الإنسان، والجوارح منكبة على العصيان، إن الشكر باللسان والقلب والجوارح، إن الشكر بالعمل، قال تعالى: ((اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً)) [سبأ:31].
لم يقل الله قولوا آل داود شكرا، ونبينا- عليه الصلاة والسلام- لما غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فهم أن الشكر عمل وأفهم أمته ذلك، فقام من الليل حتى تفطرت قدماه، وورمت عقباه، وقال- عليه الصلاة والسلام-: (أفلا أكون عبدا شكور)) متفق عليه، نعم أخي القارئ فهم وأفهم أمته أن الشكر بالجوارح، فالله الله وأنت تشاهد رحمة الله، وتشاهد نعمة الله، وتشاهد الغيث والمطر، وتشاهد الربيع والنبات، الله الله بالشكر، شكر اللسان، وشكر القلب، وشكر الجوارح والأركان.
لا تكفر يا عبد الله نعمة الله، لا تجحد نعمة الله، هل من شكر نعمة الله التكاسل عن الصلوات؟ والتواني عن الجماعات؟ وهجر المساجد والجمع والجماعات؟!!
هل من شكر نعمة الله التزاحم عند أبواب السحرة والكهنة؟ هل من شكر نعمة الله تعاطي الربا؟ وحرب الله عز وجل به؟ وعمل الدعايات له من غير حياء من الله، ولا من خلقه؟!!
هل من شكر نعمة الله السهر على المسلسلات الفاجرة، والتمثيليات الخبيثة الماكرة، وشراء أفلام الفيديو، التي يحارب الله عز وجل بها؟!!
هل من شكر نعمه الله أن نبيع الفاحشة على شكل شريط غناء، أو على شكل فيلم فيديو، أو على شكل صحيفة فاجرة، فيها صور المومسات الفاجرات الفاتنات؟!!
هل من شكر نعمة الله أن نجاهر بهذه الدشّات فوق أسطح المنازل، لتجلب لنا كل عار وشنار ودمار، وكل سفار للأخلاق ودمار للفضيلة؟!!
هل من شكر نعمة الله أن تخرج نسائنا متبرجات فاتنات مائلات مميلات؟!!
هل من شكر نعمة الله أن يخرج شبابنا متسكعين عابثين لا هين فاتنين لبنات المسلمين، يتجمعون في الشوارع على أمور لا ترضي الله عز وجل، يفحطون ويفسدون ويجاهرون بالدخان، وغيره من المحرمات التي لا تخفى على أحد؟!!
نشاهد هؤلاء الشباب على كثبان الرمال وفي البرار، يعملون حركات هستيرية، لا تدل على دين ولا على خلق، يخاطرون بأنفسهم، يتسكعون ويمشون في الأرض مرحا، يجوبون الرمال ويجوبون البراري.
يعاكسون بنات المسلمون ويغازلونهن، يرفعون أصوات الغناء، ويتبجحون بكل منكر وفجور، هل ذلك من شكر نعمة الله؟!!
هل من شكر نعم الله أن نخرج نسائنا، ونعرض لحومهن أمام الناس، فتتقارب العوائل في أماكن الربيع، وتتجمع النساء حلقات كاشفات الوجوه، مبديات للمفاتن، ويتجمع الشباب حولهن وعلى رؤؤسهن، يخرج النساء يتعرضن للرجال ويعملن بعض الحركات الفاتنة، كما شاهدنا وشاهده كثير ممن يخرجوا إلى البراري هذه الأيام، أين الغيرة، أفلا نتقي الله عز وجل، أكلاما دعينا إلى لهو أو عبث خرجنا وأخرجنا نسائنا، وإذا دعينا إلى طاعة الله توانينا، تفكر وتأمل.
يا عبد الله، إذا دعيت إلى شيء من اللهو فانظر ما الفائدة؟ أيّ خير تجني، وأيّ بر ترجو، ماذا تريد من تلك التجمعات؟ لا بأس أن يخرج الإنسان ويخرج نسائه وأهله، ويشاهد نعم الله، ويفرح بالربيع، ولكن ليبحث عن الأماكن النائية، لا نريد أن نرى ما نرى من هذه المشاهد التي والله تفطر القلوب، وتجرح الأفئدة، من تقارب العوائل، وتجمعهم إلى جوار بعضهم البعض، والسهر في المخيمات على الأغاني المرفوعة، وعلى لعب الورق، وعلى مشاهدة المسرحيات إلى ساعة متأخرة من الليل.
ألا فاتقوا الله يا شباب الإسلام: اتقوا الله في أوقاتكم، اتقوا الله في أعماركم لا تضيعوها، لا تقابلوا نعمة الله عز وجل بالجحود والكفر، قابلوا نعم الله بالشكر، اخرجوا وسبحوا الله، وافرحوا بالربيع، وأعلنوا شكر نعم الله عز وجل، اتقوا الله لا تجاهروا الله بالمعاصي، والله لقد شاهدت بالأمس القريب مظاهر مؤذية من تسكع شباب المسلمين، وتمردهم على ربهم، ولعبهم بالسيارات، وتعرضهم للنساء، ومن تبرج كثير من النساء، وتقارب كثير من العوائل، شاهدت ذلك في بعض البراري، وحُدثت عن كثير وكثير، أهذا من شكر نعم الله؟!! أهذا يدل على خير؟ أهذا يدل على إقبال للقلوب على شكر لنعم الله عز وجل؟ لا والله! وحاش وكلا والله!
فاتقوا الله يا عبد الله، واعلم أن الشكر تُعقل به النعم، وتستمر الخيرات والبركات، وأن كفر نعم الله، ومقابلتها بالمعاصي، سبب وبريد إلى زوالها وذهابها، قال تعالى: ((لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)) [إبراهيم:7]
إذا كنت في نعمة فارعها فإن المعاصي تزيل النعم
وحطها بطاعة رب العباد فرب العباد شديد النقـم
أخي القارئ: ما الذي سلب قوم سبا نعمتهم؟ ما الذي حول عافيتهم؟ ما الذي بدلهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيءٍ من سدر قليل؟ ما الذي صيرهم بعد الأمن والأمان والراحة والاطمئنان، إلى التبعثر والتشرذم حتى صاروا مثلا في القديم والحديث والحاضر والغابر؟ ما الذي باعد بين أسفارهم وقد كانوا جميعا؟ إلا الكفر والمعصية، إلا المجاهرة بالمعاصي والسيئات، فلنحذر من أن نسلك مسلك القوم، لا يصبنا ما أصابهم، ((فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ)) [الحشر:2].
يحدث العلماء أن المرأة كانت تدخل بين الأشجار والأغصان الملتفة- في قوم سبأ- وعلى رأسها المكتل، فتخرج من الناحية الثانية، وإذا المكتل ممتلئ بكل طيب من الثمار والخيرات، لا تحتاج أن تجني بيدها، وإنما يكفي أن تمشي بين الأشجار لكثرتها ووفرتها، فصير الله حالهم كما ذكر: ((لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ* فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ ذَلِكَ * جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ)) [سبأ:15-17]. فاعتبر وخذ العبرة لنفسك أخي القارئ، فالسعيد والله من وعض بغيره، والشقي هو من وعض بنفسه ووعض به غيره، فلنتعاهد ونتعاون ونتواصى على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا نقابل هذا الخير والربيع بالجحود والمعاصي، ينبغي أن يذكر بعضنا بعضا إذا رأينا منكر في البر والحضر، أن ينزل أحدنا من سيارته ويغضب لله، ويغير هذا المنكر، وينهى الناس العاصين، ويسدي لهم النصح، ويحذرهم من معصية الله وجحود نعمته.
اللهم ألطف بحال المسلمين، اللهم لا تعذبنا بعذابك، اللهم عافنا قبل ذلك، اللهم أصلح أحوالنا وأحوال المسلمين، اللهم ارزقنا شكر النعم، اللهم أتم علينا نعمك، اللهم لا تجعلها استدراجا وإمهالا، اللهم اجعلها نعم وإحسانا، اللهم يا حي يا قيوم أرنا من خيراتك ومن بركاتك ما تفرح به نفوسنا، وتلذ قلوبنا، وتطرب أعيننا، وتلهج به ألسنتنا شكرا وثناء عليك يا رب العالمين، اللهم إنا خلق من خلقك، فلا تمنع عنا بذنوبنا ومعاصينا وسيئاتنا وجحودنا فضلك، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، اللهم لا تعذبنا بما يفعله السفهاء منا، إنا براء إليك مما يفعلون، لا نرضى بفعلهم، ولا نرضى بمعاصيهم، اللهم لا تعمنا بعذابك، اللهم لا تشملنا بعذابك يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام، اللهم اهدي ضال المسلمين، اللهم رد شاردهم يا حي يا قيوم، اللهم أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أسقنا سقيا رحمة، لا سقيا عذاب ولا بلاء ولا هدم ولا غرق، اللهم أسقنا غيث مغيث هنيئا مريئا سحاً غدقاً.
أخي القارئ: إن إعلان التوبة والاستغفار والرجوع إلى الله سبب في كثرة الخير والمطر، قال تعالى: ((فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً* يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً* وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً)) [نوح:10-12].
وقال تعالى: ((وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم)) [المائدة:66].
وقال عز وجل: ((وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ)) [الأعراف:96] .
اللهم اغفر لنا إنك كنت غفارا، أرسل السماء علينا مدرارا، وامددنا من بركاتك، وأنبت لنا ثمار وأشجار وأزهارا يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام، اللهم أجر لنا الضرع، وأنبت لنا الزرع، وأخرج لنا من بركات السماء والأرض ما تجعله عونا على طاعتك وبلاغاً إلى حين، اللهم أصلح ولاة أمر المسلمين، واجعلهم هداةً مهتدين، لا ضالين ولا مضلين يا رب العالمين، يا ذا الجلال والإكرام، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
نعمة نزول المطر
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى أله وأصحابه وسلم.
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)) [آل عمران:102]،
((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)) [النساء:1]،
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً* يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)) [الأحزاب:70-71]... أما بعد:
اعلم أخي القارئ أن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي رسوله صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
إن مما يشاهده كل مسلم ما أنعم الله سبحانه وتعالى به على هذه الأمة، وعلى عباده، وعلى هذه البلاد في هذا العام، من نعمة الغيث والقطر، الذي اتخذ صفة الاستمرار، فأرسله الله سبحانه وتعالى على معظم أرجاء هذه البلاد، غيثاً مغيثاً هنيئاً مريئاً سحاً غدقاً طبقاً مجللا نافعاً بإذن ربه سبحانه وتعالى، ولا يكاد يمر يوم حتى يرى الناس آثار رحمة الله سبحانه وتعالى ونعمته، فيرسل الله الريح مبشره، ويَنْشأ السحاب، ويعم ويشمل، ويَسِحُّ المطر، وتُشق الأرض، وينبت النبات، حتى بدل الله سبحانة وتعالى الحال وغيّر الأمر، فبينما كان بالأمس، كانت الأرض غبراء، وكانت القلوب وجلة، والوجوه عابسة، والأنعام جائعة، بدل الله سبحانه وتعالى الحال بمنه ورحمته، فأصبحت ترى الأرض واحة خضراء فيحاء في كثير من الأماكن والنواحي، وصدحت الطير، وأورقت الشجر، وأزهرت الأرض، وشبعت الأنعام، وفرحت النفوس، وابتهجت القلوب، فلله الحمد والشكر، وله الفضل والمنة على هذه النعم العظيمة، والمنن القديرة، نسأله سبحانه وتعالى أن يجعلها نعمة لا استدراجا، قال تعالى: ((اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاء كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ* وَإِن كَانُوا مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِم مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ* فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)) [الروم:48-50]، إذاً هم يستبشرون، يستبشر الناس ويخرجون إلى البراري، ليشاهدوا آثار نعمة الله سبحانه وتعالى ورحمته، وكيف لا يفرح العباد بنعم الله، وكيف لا يفرحون بالمطر، وكيف لا يفرحون بالغيث، وكيف لا يفرحون بالخضرة والنضرة، عم الخير، وشملت البركة، وجلبت الكمأة، وظهرت نعم عظيمة كثيرة شاهدها الناس بأرصادهم، وسمعوا عنها بأذانهم، وعاشوها بأنفسهم:
تأملْ في نَبات الأرضِ وانْظر
إلى آثارِ ما صَنَعَ المَلِيكُ
عُيونٌ مِنْ لُجَيْنٍ شَاخِصَاتٌ
بأحْدَاقٍ هي الذّهَبُ السّبِيكُ
على قُطُبِ الزّبَرْجَدِ شَاهِــدَاتٌ
بأنّ اللهَ ليس لهُ شَرِيــكُ
إن مما يخطئ فيه فهم كثير من الناس، ظنهم أن كل ما شاهدوه من خير إنما هو دليل رضى الله سبحانه وتعالى، وإنما هو نعمة وبركة، وإننا في الوقت الذي نرجو ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يكون كذلك، وأن يكون ما أعطانا إياه من الخير والبركة نعمةً وفضلاً وإحساناً وهو كذلك، إلا أنه مما ينبغي أن يعلمه كل أحد أنه ليس العطاء دليل الخير، وليس دليل الرضى، كما قال تعالى: ((فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ* وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ)) [الفجر:14-15]، كلا.. كلا، نفى الله سبحانه وتعالى هذا المفهوم، وبيّن أن الأمر راجع إلى أمره وحكمته، فليس كل ما أعطا الله عبده من خير دليل رضى، لا سيما إذا كان العبد على حالة من الإقبال إلى معصية الله، وترك طاعة الله عز وجل، فإن ذلك منذر ببلاء عظيم، وقد يكون ذلك استدراجاً وإمهالا، كما قال تعالى: (( فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ* وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ)) [القلم:44-45]، قال ابن عباس- رضي الله عنه-: (إذا رأيت الله عز وجل ينعم على عبده، ويمده وهو مقيم على معصيته، فاعلم أنما هو استدراج)، ثم تلا هذه الآية.
إذاً فالذي ينبغي أخي القارئ أن لا نقيس الأمور بالعطاء والمنع، وأن نقيسها بحال العبد وبما هو عليه من طاعة الله عز وجل أو مخالفته، أرأيت ما يعيشه كثير من الكفار في كثير من البلاد من نعمة غيث ومطر وبركة، أذلك دليل على رضي الله عز وجل عنهم؟ كلا.! بل هو استدراج وتعجيل للطيبات، قال تعالى: ((لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ* مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ)) [آل عمران:196-197]، وقال: ((ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)) [الحجر:3]، وقال: ((وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ)) [محمد:12] فإذا علم هذا، فالواجب على العبد إزاء ما نشاهده من هذا الخير، ومن هذه النعمة، ومن هذا المطر، ومن هذه البركات، أن يكون مترددا بين الخوف والرجاء، بأن يكون هذا مكافئة من الله عز وجل ونعمة، والخوف من أن يكون هذا استدراجا وإمهالا، وهذا ما أرشدنا الله عز وجل إليه، قال تعالى: ((وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ)) [الروم:46]، وقال عز وجل: ((وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)) [الروم:24]، وقال عز وجل: ((هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ* وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ)) [الرعد:12-13]، فالأمر يا عباد الله كما قال الله: ((خَوْفاً وَطَمَعاً))، طمعا في ثواب الله، طمعا في القطر، طمعا في الربيع والنبات والخير والبركة، وخوفا من عذاب الله عز وجل وإمهاله، خوفا من ريح عاصفة، تدمر كل شيئ أتت عليه، لا تذر شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم، خوفا من ريح تبدل الأمر، وتكدر الصفوة، وتحول اللهو إلى تعاسة وعذاب، خوفا من صواعق قاصفة تدمر السكن والوطن، وتنزل على البر والحضر، وتقتل الأرواح، وتميت الممتلكات، خوفا من برق كالشواظ وكاللهب، يخطف الأبصار، ويشق عنان السماء، ((يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ)) [النور:43]، وقد حدث شيء من ذلك، وشاهده الناس هذا العام في كثير من الأماكن والنواحي، خوفا من مطر جارف، من مطر مغرق يدمر الحرث، ويهلك الأرواح، خوفا من برد ينزل فيهلك الزرع، ويهلك الأنعام، وقد حصل شيء من ذلك في كثير من النواحي، وكثيرا ما نسمع ذلك في وسائل الأنباء والأخبار، فالواجب على العبد أن يكون مترددا بين الخوف والرجاء، وبين منزلة الخوف والطمع، كما بين الله سبحانه وتعالى.
ثم تأمل أخي القارئ في سيرة أتقى عباد الله، نبي الله عليه الصلاة والسلام، ما هديه وما توجيهه، وما عمله إذا شاهد المطر، وإذا شاهد العارض والسحاب، دلت الأحاديث الصحيحة أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا شاهد الناشئ تغير وجهه، ووجل قلبه، فإن كان في صلاة خففها، وإن كان في عمل تركه، وجعل يدخل ويخرج، ويشاهد السماء، وربما تزمل وتدثر،ك وارتعد من الخوف، وربما قال: زملوني.. زملوني، دثروني.. دثروني، فتقول عائشة: يا رسول الله الناس يفرحون بالمطر وأنت تخاف، روى مسلم في صحيحه من حديث عطاء بن أبي رباح عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: وإذا تخيلت السماء تغير لونه وخرج ودخل وأقبل وأدبر، فإذا مطرت سري عنه، فعرفت ذلك في وجهه، قالت عائشة: فسألته، فقال: (لعله يا عائشة كما قال قوم عاد)، ((فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا)) [الأحقاف:24]، فإذا أمطرت السماء هش وبش، وفرح عليه الصلاة والسلام، وقال: (اللهم صيب هنيئا) رواه البخاري، وربما عليه الصلاة والسلام كشف رأسه للمطر، وخرج له إذا علم أنه رحمة، عن أنس بن مالك- رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أمطرت السماء، حسر ثوبه عن ظهره حتى يصيبه المطر، فقيل له: لم تصنع هذا، قال: (إنه حديث عهد بربه عز وجل) رواه الحاكم في المستدرك وقال: (هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه)، هذا هدي نبيك عليه الصلاة والسلام، كان يشفق إذا رأى السماء قد تغيرت كان يخاف أن يكون عذابا، عذاباً لمن؟ لسيد الخلق على النبي عليه الصلاة والسلام وصحابته، خير نبي وخير جيل، فإذا كان هذا خوفه وإشفاقه عليه الصلاة والسلام مع ما هو عليه من طاعة وترك لمحارم الله، فكيف بنا لا نخاف، كيف بنا نأمن من عذاب الله، كيف بنا نفرح ونظن أن ما أعطانا لله عز وجل إنما هو دليل رضا، ولا نتذكر أن ذلك قد يكون استدراجا وإمهالا، وقد يكون علامة عذاب والعياذ بالله، ينبغي أن يكون عندنا هذا الخاطر، وهذا الهاجس، وهذا الخوف، لأن الله عز وجل يقول: ((فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ* فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ))، وفي حديث عطاء السابق، قالت: كان النبي- صلى الله عليه وسلم- إذا عصفت الريح قال: ((اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به))، وفي رواية الترمذي ((وخير ما أمرت به، ونعوذ بك من شر هذه الريح وشر ما فيها ونشر ما أمرت به))، فينبغي أن تعلم أخي القارئ هدي نبيك- عليه الصلاة والسلام- وسنته، وأن تفعل كما يفعل، وأن تتردد دائما بين منزلة الخوف والرجاء، كما كان- عليه الصلاة والسلام- يفعل، لاسيما وحال كثير من الناس بما لا يخفى على ذي لب وذي عين ترى.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيم لشأنه، وأشهد أن محمد عبده ورسوله، الداعي إلى رضوانه- صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه وأعوانه وسلم تسليما كثيرا- إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين، أما بعد:
فإن الواجب على كل مسلم ومسلمة أن يقابل نعم الله بالشكر، ومن أجلّ نعم الله هذا الغيث والمطر، الذي به بعد رحمة الله حياة الناس والأنعام والأرض والنبات، قال تعالى: ((وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ)) [الأنبياء:30]، يرسل الله سبحانه وتعالى المطر، فيكون به حياة الأنَاسيِّ والأنعام، ويخرج الله به عز وجل من كل الثمرات، فينبغي على العبد أن يتذكر افتقاره إلى نعم الله، وأن يقابل ذلك بالشكر، قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)) [فاطر:15]، وقوله: ((أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ* أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ* لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ )) [الواقعة:68-70]. وقال عز وجل: ((قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاء مَّعِينٍ)) [الملك:30].
من يأتيكم بالمطر؟ من يأتيكم بالماء؟ من يسر لكم أسباب الحياة إلا الله؟ فنحمد الله سبحانه وتعالى على نعمه الظاهرة والباطنة، ألا تعلم أن الشكر ليست كلمه تقال باللسان فحسب، بل إن الشكر منازل ودرجات، فمن ذلك:-
1- شكر القلب: وهو أن يشعر الإنسان بفضل الله عز وجل، ونعمه عليه، وأن ينسب النعم إلى الله وحده لا إلى غيره، كما قال تعالى: ((وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ)) [النحل:53]. في الصحيحين من حديث زيد بن خالد الجهني، قال: صلى لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليلة، فلما انصرف أقبل على الناس، فقال: (هل تدرون ماذا قال ربكم)، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: (أصبح من عبادي مؤمن وكافر، فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي وكافر بالكوكب، وأما من قال بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي ومؤمن بالكوكب).
2- شكر اللسان: بأن يلهج اللسان بنعمة الله وشكره، وتذكر آلائه، ويحمد الله دوما وأبداً، وليلا ونهارا، وجهارا وإصراراً بنعم الله، ومن ذلك هذا الغيث وهذا النبات وهذا الربيع.
3- شكر الجوارح: بأن يستعمل الإنسان جوارحه، ويستعمل نعم الله في طاعته، بحيث لا يفتقده الله حيث أمره، ولا يجده حيث نهاه، يكف عن معاصي الله، ويقبل على طاعات الله، وعلى واجبات الله، ولا يتجرأ على محارم الله، ذلك هو الشكر الأعظم والأكبر، إن الشكر ليس كلمة تقال باللسان، ما أهون ذلك على الإنسان، والجوارح منكبة على العصيان، إن الشكر باللسان والقلب والجوارح، إن الشكر بالعمل، قال تعالى: ((اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً)) [سبأ:31].
لم يقل الله قولوا آل داود شكرا، ونبينا- عليه الصلاة والسلام- لما غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فهم أن الشكر عمل وأفهم أمته ذلك، فقام من الليل حتى تفطرت قدماه، وورمت عقباه، وقال- عليه الصلاة والسلام-: (أفلا أكون عبدا شكور)) متفق عليه، نعم أخي القارئ فهم وأفهم أمته أن الشكر بالجوارح، فالله الله وأنت تشاهد رحمة الله، وتشاهد نعمة الله، وتشاهد الغيث والمطر، وتشاهد الربيع والنبات، الله الله بالشكر، شكر اللسان، وشكر القلب، وشكر الجوارح والأركان.
لا تكفر يا عبد الله نعمة الله، لا تجحد نعمة الله، هل من شكر نعمة الله التكاسل عن الصلوات؟ والتواني عن الجماعات؟ وهجر المساجد والجمع والجماعات؟!!
هل من شكر نعمة الله التزاحم عند أبواب السحرة والكهنة؟ هل من شكر نعمة الله تعاطي الربا؟ وحرب الله عز وجل به؟ وعمل الدعايات له من غير حياء من الله، ولا من خلقه؟!!
هل من شكر نعمة الله السهر على المسلسلات الفاجرة، والتمثيليات الخبيثة الماكرة، وشراء أفلام الفيديو، التي يحارب الله عز وجل بها؟!!
هل من شكر نعمه الله أن نبيع الفاحشة على شكل شريط غناء، أو على شكل فيلم فيديو، أو على شكل صحيفة فاجرة، فيها صور المومسات الفاجرات الفاتنات؟!!
هل من شكر نعمة الله أن نجاهر بهذه الدشّات فوق أسطح المنازل، لتجلب لنا كل عار وشنار ودمار، وكل سفار للأخلاق ودمار للفضيلة؟!!
هل من شكر نعمة الله أن تخرج نسائنا متبرجات فاتنات مائلات مميلات؟!!
هل من شكر نعمة الله أن يخرج شبابنا متسكعين عابثين لا هين فاتنين لبنات المسلمين، يتجمعون في الشوارع على أمور لا ترضي الله عز وجل، يفحطون ويفسدون ويجاهرون بالدخان، وغيره من المحرمات التي لا تخفى على أحد؟!!
نشاهد هؤلاء الشباب على كثبان الرمال وفي البرار، يعملون حركات هستيرية، لا تدل على دين ولا على خلق، يخاطرون بأنفسهم، يتسكعون ويمشون في الأرض مرحا، يجوبون الرمال ويجوبون البراري.
يعاكسون بنات المسلمون ويغازلونهن، يرفعون أصوات الغناء، ويتبجحون بكل منكر وفجور، هل ذلك من شكر نعمة الله؟!!
هل من شكر نعم الله أن نخرج نسائنا، ونعرض لحومهن أمام الناس، فتتقارب العوائل في أماكن الربيع، وتتجمع النساء حلقات كاشفات الوجوه، مبديات للمفاتن، ويتجمع الشباب حولهن وعلى رؤؤسهن، يخرج النساء يتعرضن للرجال ويعملن بعض الحركات الفاتنة، كما شاهدنا وشاهده كثير ممن يخرجوا إلى البراري هذه الأيام، أين الغيرة، أفلا نتقي الله عز وجل، أكلاما دعينا إلى لهو أو عبث خرجنا وأخرجنا نسائنا، وإذا دعينا إلى طاعة الله توانينا، تفكر وتأمل.
يا عبد الله، إذا دعيت إلى شيء من اللهو فانظر ما الفائدة؟ أيّ خير تجني، وأيّ بر ترجو، ماذا تريد من تلك التجمعات؟ لا بأس أن يخرج الإنسان ويخرج نسائه وأهله، ويشاهد نعم الله، ويفرح بالربيع، ولكن ليبحث عن الأماكن النائية، لا نريد أن نرى ما نرى من هذه المشاهد التي والله تفطر القلوب، وتجرح الأفئدة، من تقارب العوائل، وتجمعهم إلى جوار بعضهم البعض، والسهر في المخيمات على الأغاني المرفوعة، وعلى لعب الورق، وعلى مشاهدة المسرحيات إلى ساعة متأخرة من الليل.
ألا فاتقوا الله يا شباب الإسلام: اتقوا الله في أوقاتكم، اتقوا الله في أعماركم لا تضيعوها، لا تقابلوا نعمة الله عز وجل بالجحود والكفر، قابلوا نعم الله بالشكر، اخرجوا وسبحوا الله، وافرحوا بالربيع، وأعلنوا شكر نعم الله عز وجل، اتقوا الله لا تجاهروا الله بالمعاصي، والله لقد شاهدت بالأمس القريب مظاهر مؤذية من تسكع شباب المسلمين، وتمردهم على ربهم، ولعبهم بالسيارات، وتعرضهم للنساء، ومن تبرج كثير من النساء، وتقارب كثير من العوائل، شاهدت ذلك في بعض البراري، وحُدثت عن كثير وكثير، أهذا من شكر نعم الله؟!! أهذا يدل على خير؟ أهذا يدل على إقبال للقلوب على شكر لنعم الله عز وجل؟ لا والله! وحاش وكلا والله!
فاتقوا الله يا عبد الله، واعلم أن الشكر تُعقل به النعم، وتستمر الخيرات والبركات، وأن كفر نعم الله، ومقابلتها بالمعاصي، سبب وبريد إلى زوالها وذهابها، قال تعالى: ((لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)) [إبراهيم:7]
إذا كنت في نعمة فارعها فإن المعاصي تزيل النعم
وحطها بطاعة رب العباد فرب العباد شديد النقـم
أخي القارئ: ما الذي سلب قوم سبا نعمتهم؟ ما الذي حول عافيتهم؟ ما الذي بدلهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيءٍ من سدر قليل؟ ما الذي صيرهم بعد الأمن والأمان والراحة والاطمئنان، إلى التبعثر والتشرذم حتى صاروا مثلا في القديم والحديث والحاضر والغابر؟ ما الذي باعد بين أسفارهم وقد كانوا جميعا؟ إلا الكفر والمعصية، إلا المجاهرة بالمعاصي والسيئات، فلنحذر من أن نسلك مسلك القوم، لا يصبنا ما أصابهم، ((فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ)) [الحشر:2].
يحدث العلماء أن المرأة كانت تدخل بين الأشجار والأغصان الملتفة- في قوم سبأ- وعلى رأسها المكتل، فتخرج من الناحية الثانية، وإذا المكتل ممتلئ بكل طيب من الثمار والخيرات، لا تحتاج أن تجني بيدها، وإنما يكفي أن تمشي بين الأشجار لكثرتها ووفرتها، فصير الله حالهم كما ذكر: ((لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ* فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ ذَلِكَ * جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ)) [سبأ:15-17]. فاعتبر وخذ العبرة لنفسك أخي القارئ، فالسعيد والله من وعض بغيره، والشقي هو من وعض بنفسه ووعض به غيره، فلنتعاهد ونتعاون ونتواصى على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا نقابل هذا الخير والربيع بالجحود والمعاصي، ينبغي أن يذكر بعضنا بعضا إذا رأينا منكر في البر والحضر، أن ينزل أحدنا من سيارته ويغضب لله، ويغير هذا المنكر، وينهى الناس العاصين، ويسدي لهم النصح، ويحذرهم من معصية الله وجحود نعمته.
اللهم ألطف بحال المسلمين، اللهم لا تعذبنا بعذابك، اللهم عافنا قبل ذلك، اللهم أصلح أحوالنا وأحوال المسلمين، اللهم ارزقنا شكر النعم، اللهم أتم علينا نعمك، اللهم لا تجعلها استدراجا وإمهالا، اللهم اجعلها نعم وإحسانا، اللهم يا حي يا قيوم أرنا من خيراتك ومن بركاتك ما تفرح به نفوسنا، وتلذ قلوبنا، وتطرب أعيننا، وتلهج به ألسنتنا شكرا وثناء عليك يا رب العالمين، اللهم إنا خلق من خلقك، فلا تمنع عنا بذنوبنا ومعاصينا وسيئاتنا وجحودنا فضلك، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، اللهم لا تعذبنا بما يفعله السفهاء منا، إنا براء إليك مما يفعلون، لا نرضى بفعلهم، ولا نرضى بمعاصيهم، اللهم لا تعمنا بعذابك، اللهم لا تشملنا بعذابك يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام، اللهم اهدي ضال المسلمين، اللهم رد شاردهم يا حي يا قيوم، اللهم أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أسقنا سقيا رحمة، لا سقيا عذاب ولا بلاء ولا هدم ولا غرق، اللهم أسقنا غيث مغيث هنيئا مريئا سحاً غدقاً.
أخي القارئ: إن إعلان التوبة والاستغفار والرجوع إلى الله سبب في كثرة الخير والمطر، قال تعالى: ((فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً* يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً* وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً)) [نوح:10-12].
وقال تعالى: ((وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم)) [المائدة:66].
وقال عز وجل: ((وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ)) [الأعراف:96] .
اللهم اغفر لنا إنك كنت غفارا، أرسل السماء علينا مدرارا، وامددنا من بركاتك، وأنبت لنا ثمار وأشجار وأزهارا يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام، اللهم أجر لنا الضرع، وأنبت لنا الزرع، وأخرج لنا من بركات السماء والأرض ما تجعله عونا على طاعتك وبلاغاً إلى حين، اللهم أصلح ولاة أمر المسلمين، واجعلهم هداةً مهتدين، لا ضالين ولا مضلين يا رب العالمين، يا ذا الجلال والإكرام، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى