مسلم
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
د. رياض بن محمد المسيميري
التحذير من الكِبْر
الحمد لله (غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ)، (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ).
اللهم لك الحمد بما أنعمت به علينا من نعمك العظيمة وآلائك الجسيمة؛ حيث أرسلت إلينا أفضل رسلك؛ وأنزلت علينا خير كتبك.
لك الحمد بالإيمان، ولك الحمد بالقرآن، ولك الحمد بالسنة، لك الحمد بكل نعمة أنعمت بها علينا في قديم أو حديث، أو سر أو علانية، أو عامة أو خاصة، أو شاهد أو غائب.
لك الحمد حتى ترضى؛ ولك الحمد إذا رضيت، ولا حول ولا قوة إلا بك.
وأشهد ألا إله إلا أنت، وأشهد أن محمداً عبدك ورسولك؛ وصفيك وخليلك، وخيرتك من خلقك، وأمينك على وحيك؛ بعثته إلينا بالهدى ودين الحق لتظهره على الدين كله ولو كره المشركون؛ أما بعد:
أخي المسلم:
فمهما قلّبت النظر في أي ديانة، أو ملة أو نحلة، فلن تجد ما يماثل الإسلام أو يقاربه في سموه وعلوه، وكماله وتمامه، وشرائعه وأخلاقه.
كما انك لن تجد ديناً حارب الأخلاق الذميمة ومقتها كما حاربها الإسلام وتوعد عليها.
وإن من تمام النصح للأمة عامتها وخاصتها تحذيرها من الانزلاق في متاهة الأخلاق الدنيئة والخصال الخبيثة.
ولعل من أسوأ تلك الأخلاق التي حاربها الإسلام ومقت أهلها: الكِبْر والغرور.
وحسبك أن تتذكر أن هذا الخلق الذميم هو أول ذنب عُصي الله به من قِبل ذلك اللعين الطريد، حسبك أن تتذكر بذلك بشاعة هذا الخلق وسوء عاقبته: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكِبْر وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ).
واسمع إليه يتحدث عن نفسه وهو في أوج سكرته وغروره، وزهوه وإعجابه بذاته: (قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً).
واسمع إليه، يقوده غروره إلى الدجل والكذب: (أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ).
أيها المسلمون:
ولقد استن بسنة ذلك الشيطان اللعين فئام من الناس، فمستقل ومستكثر، وذلك بحسب التركيبة النفسية التي تقوم عليها شخصية ذلك المستكِبْر المغرور، كما تتنوع الدوافع الأرضية التي تؤز أولئك المستكِبْرين وتدفعهم إلى ممارسة هوايتهم في تصعير الوجوه ولي الأنوف.
فمن تلك الدوافع: سعة الثراء ووفرة المال، حيث تنطلق نظرة البعض إلى الآخرين من فوق ركام أرصدتهم وثرواتهم الطائلة، ونظرات التعالي والغرور تلك عما وصل إليه أولئك التافهون من سفاهة الرأي وركاكة العقل وسوء الطوية.
حيث ينسى هؤلاء في غمرة نشوتهم بأموالهم وأرصدتهم، ينسون أصل خلقتهم وأساس نشأتهم، بل أنهم لينسون المنعم جلَّ وجلاله.
وقد يقولونها بكل صراحة: إنّه كدّ العمر، وعرق الجبين، وعاقبة البذل والكفاح!.
وكل ذلك دون تنويه أو إشارة - ولو باقتضاب شديد - إلى تفضيل الخالق العظيم، وتوفيق المنعم الكريم، وصدق الله إذ يقول: (فَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ).
وصدق إذ يقول: (كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى * إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى).
نعوذ بالله من الكِبْر وأهله.
ومن الدوافع الأرضية التي تدفع ناقصي العقول إلى الكِبْر والغرور: حيازة المنصب البراق، والمركز الوظيفي اللامع!.
فما أن يحوز أحدهم منصباً أو مركز وظيفياً ما إلا وتتغير طباعه، وتفسد أخلاقه بين عشية وضحاها.
فالكِبْر واضح، والغرور ظاهر في قسمات وجوههم، وفي حركاتهم وسكناتهم، وخيالهم مشغول أيما حلَّوا أو ارتحلوا، بمسمى وظائفهم، وأبهة مكاتبهم!.
وهكذا الإنسان حين يخلو قلبه من الشعور بالخالق العظيم، المتفرد بالجلال والكمال، هكذا تخدعه المظاهر، وتأخذه الخيلاء، بما يبلغه من ثراء أو سلطان، ولو تذكّر أن ما به من نعمة فمن الله، وأنه ضعيف أمام حول الله وقوته من كِبْريائه، وخفف من خيلائه، ومشى على الأرض هوناً ما، لا تيهاً ولا مرحاً.
والقرآن الكريم يمقت ذلك المتطاول المغرور، ويذكره بضعفه وعجزه، وضآلته وصغره (وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً).
فلا يلجأ إلى الخيلاء والعجب إلا فارغ صغير؛ صغيرٌ في قلبه، صغيرٌ في وعيه، صغيرٌ في اهتماماته! فما الأموال والمناصب إلا كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءاً، حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً، أو كِبْرق خُلّب سرعان ما ينطفئ ويزول!.
سلوا التاريخ عن كنوز قارون، وسلوه عن تاج كسرى، وبساط قيصر وملكه!.
فكم من صاحب مال وجاه طغى وتجبر، وعتى وتكِبْر، ثم ما لبث أن مات وانتهى، وزال وانطفأ: (فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ).
ومن المضحكات المبكيات أن في الناس من يلجأ إلى الكِبْر والتعالي برغم صغر رصيده، وقلة جاهه، ففي الحديث الصحيح: "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب اليم: شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكِبْر". [أخرجه مسلم].
أيها الإخوة:
ومن أسوأ أنواع الكِبْر والغرور: ذلك الذي يصدر عمن ظاهره الصلاح والاستقامة، أو ممن ينتسب إلى العلم والدعوة، فيغتر بعلمه الذي علمه الله، ودعوته التي وفق إليها، فيتعالى على الناس ويزدريهم كِبْراً وغروراً.
بل إنك لتقرأ لبعضهم سطورا مشرقة عن عدالة الإسلام، وعظمة الإسلام، وأخلاق الرسول صلى الله عليه وسلّم، وحياة السلف الصالح، فيحدثونك عن تواضع الصديق، وعدالة الفاروق، وحياء عثمان، ثم تتفاجأ حين ترى التناقض الصارخ بين كتاباتهم وعلومهم، وبين استكبارهم وعتوهم، فأين هم من قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ).
وأين هؤلاء من خلق الرسول صلى الله عليه وسلّم الذي كان أكثر الناس تواضعاً وأبعدهم عن الكِبْر والغرور، حتى أن القادم ليقدم المدينة فيدخل مجلس النبي صلى الله عليه وسلّم فيقول: "أيكم محمد؟!" إذ لم يكن صلى الله عليه وسلّم يتميز عنهم بلباس ولا هيئة، وكلّ ذلك مع كونه أعلم الناس وأعرفهم بربه سبحانه.
أيّها المؤمنون:
ويدخل في جملة المستكِبْرين كذلك أولئك الذين يجادلون بالباطل، ويردون الحق سعياً وراء شهوة أو شبهة، والقرآن الكريم يفضح أمثال هؤلاء ويبين الدافع وراء خصومتهم وجدالهم بالباطل: (الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كِبْر مَقْتاً عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكِبْر جَبَّارٍ).
فالآية الكريمة تفضح هذا النوع من الناس الذي يجادل في آيات الله ويكابر، ويزعم لنفسه وللناس أنّه إنّما يناقش لأنه لم يقتنع، ويجادل لأنّه غير مستيقن، لكن الله العليم الخبير يقرر أنّه الكِبْر، والكِبْر وحده، فهو الذي يحيك في الصدر، وهو الذي يدعو صاحبه إلى الجدال فيما لا جدال فيه، والى المعاندة فيما هو من الواضحات البينات، ثم أنّه مع ذلك يجادل بغير حجة ولا برهان، ولا هدى ولا كتاب منير.
ويدخل في جملة المستكِبْرين كذلك أولئك المتخلفون عن أعظم شعائر الدين، وأظهر واجباته، وهي الصلاة المفروضة، والتي لا يتخلّف عنها ولا يتكاسل عن أدائها إلا مستكِبْر مغرور، واقرأ إن شئت وقوله تعالى: (فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى * وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى * ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى * أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى).
تأمل بتعبير القرآن البليغ، وهو يتهكم بذلك المفرط المغرور المتثاقل عن الصلاة، ويصور حركة اختياله، بأنه يتمطى؛ يمط ظهره، ويتبختر في مشيته، ذاهباً إلى أهله، داخلاً بيته، من غير أن يشعر بعظم جنايته حين يفرط في الأمانة المناطة به!.
ويا لمصيبتنا بأمثال هؤلاء الذين يصك إسماعهم النداء صباح مساء، فيمنعهم كِبْرهم وغرورهم عن إجابته، تلهيهم صحة ابدأنهم وكثرة أموالهم وإمهال الله لهم عن الاستجابة لله ورسوله.
فإلى الله المشتكى، واليه الملتجأ.
ويدخل في جملة المستكِبْرين أخيراً: أولئك المثقفون بثقافات الغرب وسمومه، الراضعون من حثالة أفكاره وفلسفاته، المتنكرون لقيم الإسلام وفضائله، الراغبون في نبذ موروث الفضائل، واستجلاب كل ذميم و رذيل من أخلاقيات القوم وطبائعهم.
نعوذ بالله من الكفر وأهله.
بارك الله لي ولكم في القرءان العظيم، وسنة نبيه الصادق الأمين، ونفعني وإياكم بما فيهما من الهداية والتبيين.
أقول ما تسمعون، واستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الملك الحق المبين، مالك الملك رب العالمين.
وأصلّي وأسلّم على الهادي البشير، والسراج المنير، بعثه الله تعالى بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون. أما بعد:
فإن الكِبْر أنواع وأشكال، والمستكِبْرون أصناف وأمثال.
ولقد توعد الله سبحانه المستكِبْرين عموما بالذل والصغار، والخزي والهوان، يقول النبي صلى الله عليه وسلّم: "يحشر المتكِبْرون يقوم القيامة أمثال الذر يطؤهم الناس".
فالجزاء من جنس العمل، فحين بغوا في الأرض بغير الحق، وتعالوا فوق الناس بكِبْريائهم وغرورهم، فإنهم يعودون يوم القيامة أقزاماً كالذر يوطئون بالإقدام، ويركلون بالأرجل.
فهناك تسقط الهالات الكاذبة والقيم الزائفة، فما عادوا يملكون شيئا يخدعون الناس ببريقه ويساومونهم بزخرفة وبهارجه.
لقد كان حريّاً بالمستكِبْر أن يتذكّر - قبل أن ينتابه شيء من الغرور أو العجب أو تسول له نفسه احتقار الناس وازدرائهم - كان حريّاً به أن يتذكر الماء الذي خُلق منه، والجيفة التي سيصير إليها، يتذكر أنّه أشبه بهباءة صغيرة في كون الله الواسع العظيم.
ويتذكّر قوله تعالى في الحديث القدسي: "الكِبْرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداً منها عذبته".
وقوله عليه الصلاة والسلام: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كِبْر". [أخرجه مسلم].
فكيف بمن امتلأ كِبْراً، من رأسه حتى أخمص قدميه؟!.
أيها الإخوة الكرام:
إن التواضع لا يصغر كبيراً، ولا يضع رفيعاً، ولا يبطل حقاً، ولكنه يوجب لصاحبه فضلاً، ويكسبه جلالاً وقدراً.
والعارفون بالله الخاشعون له سبحان لا يأبهون في قليل أو كثير من القيم الزائفة والبهارج الخادعة.
هذا رسول الله صلى الله عليه وسلّم يدخل مكة عام الفتح، فاتحاً منتصراً، محرراً لها من ربقة الوثنية والجاهلية، فلا ينفك عن التسبيح والاستغفار والثناء على ربه بما هو أهله، ويدخل شوارع مكة وأزقتها بكل تواضع وخشوع وسكينة واطمئنان، لم تحدثه نفسه في يوم كهذا بعجب أو غرور أو استعلاء وتجبر!.
وهذا عمر يتأسى بنبيّه عليه السلام، فيدخل بيت المقدس فاتحاً مظًّفراً، فيدخله متأبطاً حذاءه، ماشياً غير راكب، في خضوع وتواضع نادرين.
وهذا أبو بكر الخليفة الأول ينطلق وهو إمام للمسلمين، ينطلق إلى بيت عجوز في إطراف المدينة، فيلب شاتها، ويصنع طعامها، وينظّف بيتها! فاعتبروا يا أولى الأبصار.
اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك.
اللهم إنّا نسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والسلامة من كل إثم، والغنيمة من كل بر، والفوز بالجنة، والنجاة من النار.
اللهم أكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك.
اللهم لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة انك أنت الوهاب.
التحذير من الكِبْر
الحمد لله (غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ)، (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ).
اللهم لك الحمد بما أنعمت به علينا من نعمك العظيمة وآلائك الجسيمة؛ حيث أرسلت إلينا أفضل رسلك؛ وأنزلت علينا خير كتبك.
لك الحمد بالإيمان، ولك الحمد بالقرآن، ولك الحمد بالسنة، لك الحمد بكل نعمة أنعمت بها علينا في قديم أو حديث، أو سر أو علانية، أو عامة أو خاصة، أو شاهد أو غائب.
لك الحمد حتى ترضى؛ ولك الحمد إذا رضيت، ولا حول ولا قوة إلا بك.
وأشهد ألا إله إلا أنت، وأشهد أن محمداً عبدك ورسولك؛ وصفيك وخليلك، وخيرتك من خلقك، وأمينك على وحيك؛ بعثته إلينا بالهدى ودين الحق لتظهره على الدين كله ولو كره المشركون؛ أما بعد:
أخي المسلم:
فمهما قلّبت النظر في أي ديانة، أو ملة أو نحلة، فلن تجد ما يماثل الإسلام أو يقاربه في سموه وعلوه، وكماله وتمامه، وشرائعه وأخلاقه.
كما انك لن تجد ديناً حارب الأخلاق الذميمة ومقتها كما حاربها الإسلام وتوعد عليها.
وإن من تمام النصح للأمة عامتها وخاصتها تحذيرها من الانزلاق في متاهة الأخلاق الدنيئة والخصال الخبيثة.
ولعل من أسوأ تلك الأخلاق التي حاربها الإسلام ومقت أهلها: الكِبْر والغرور.
وحسبك أن تتذكر أن هذا الخلق الذميم هو أول ذنب عُصي الله به من قِبل ذلك اللعين الطريد، حسبك أن تتذكر بذلك بشاعة هذا الخلق وسوء عاقبته: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكِبْر وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ).
واسمع إليه يتحدث عن نفسه وهو في أوج سكرته وغروره، وزهوه وإعجابه بذاته: (قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً).
واسمع إليه، يقوده غروره إلى الدجل والكذب: (أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ).
أيها المسلمون:
ولقد استن بسنة ذلك الشيطان اللعين فئام من الناس، فمستقل ومستكثر، وذلك بحسب التركيبة النفسية التي تقوم عليها شخصية ذلك المستكِبْر المغرور، كما تتنوع الدوافع الأرضية التي تؤز أولئك المستكِبْرين وتدفعهم إلى ممارسة هوايتهم في تصعير الوجوه ولي الأنوف.
فمن تلك الدوافع: سعة الثراء ووفرة المال، حيث تنطلق نظرة البعض إلى الآخرين من فوق ركام أرصدتهم وثرواتهم الطائلة، ونظرات التعالي والغرور تلك عما وصل إليه أولئك التافهون من سفاهة الرأي وركاكة العقل وسوء الطوية.
حيث ينسى هؤلاء في غمرة نشوتهم بأموالهم وأرصدتهم، ينسون أصل خلقتهم وأساس نشأتهم، بل أنهم لينسون المنعم جلَّ وجلاله.
وقد يقولونها بكل صراحة: إنّه كدّ العمر، وعرق الجبين، وعاقبة البذل والكفاح!.
وكل ذلك دون تنويه أو إشارة - ولو باقتضاب شديد - إلى تفضيل الخالق العظيم، وتوفيق المنعم الكريم، وصدق الله إذ يقول: (فَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ).
وصدق إذ يقول: (كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى * إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى).
نعوذ بالله من الكِبْر وأهله.
ومن الدوافع الأرضية التي تدفع ناقصي العقول إلى الكِبْر والغرور: حيازة المنصب البراق، والمركز الوظيفي اللامع!.
فما أن يحوز أحدهم منصباً أو مركز وظيفياً ما إلا وتتغير طباعه، وتفسد أخلاقه بين عشية وضحاها.
فالكِبْر واضح، والغرور ظاهر في قسمات وجوههم، وفي حركاتهم وسكناتهم، وخيالهم مشغول أيما حلَّوا أو ارتحلوا، بمسمى وظائفهم، وأبهة مكاتبهم!.
وهكذا الإنسان حين يخلو قلبه من الشعور بالخالق العظيم، المتفرد بالجلال والكمال، هكذا تخدعه المظاهر، وتأخذه الخيلاء، بما يبلغه من ثراء أو سلطان، ولو تذكّر أن ما به من نعمة فمن الله، وأنه ضعيف أمام حول الله وقوته من كِبْريائه، وخفف من خيلائه، ومشى على الأرض هوناً ما، لا تيهاً ولا مرحاً.
والقرآن الكريم يمقت ذلك المتطاول المغرور، ويذكره بضعفه وعجزه، وضآلته وصغره (وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً).
فلا يلجأ إلى الخيلاء والعجب إلا فارغ صغير؛ صغيرٌ في قلبه، صغيرٌ في وعيه، صغيرٌ في اهتماماته! فما الأموال والمناصب إلا كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءاً، حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً، أو كِبْرق خُلّب سرعان ما ينطفئ ويزول!.
سلوا التاريخ عن كنوز قارون، وسلوه عن تاج كسرى، وبساط قيصر وملكه!.
فكم من صاحب مال وجاه طغى وتجبر، وعتى وتكِبْر، ثم ما لبث أن مات وانتهى، وزال وانطفأ: (فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ).
ومن المضحكات المبكيات أن في الناس من يلجأ إلى الكِبْر والتعالي برغم صغر رصيده، وقلة جاهه، ففي الحديث الصحيح: "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب اليم: شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكِبْر". [أخرجه مسلم].
أيها الإخوة:
ومن أسوأ أنواع الكِبْر والغرور: ذلك الذي يصدر عمن ظاهره الصلاح والاستقامة، أو ممن ينتسب إلى العلم والدعوة، فيغتر بعلمه الذي علمه الله، ودعوته التي وفق إليها، فيتعالى على الناس ويزدريهم كِبْراً وغروراً.
بل إنك لتقرأ لبعضهم سطورا مشرقة عن عدالة الإسلام، وعظمة الإسلام، وأخلاق الرسول صلى الله عليه وسلّم، وحياة السلف الصالح، فيحدثونك عن تواضع الصديق، وعدالة الفاروق، وحياء عثمان، ثم تتفاجأ حين ترى التناقض الصارخ بين كتاباتهم وعلومهم، وبين استكبارهم وعتوهم، فأين هم من قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ).
وأين هؤلاء من خلق الرسول صلى الله عليه وسلّم الذي كان أكثر الناس تواضعاً وأبعدهم عن الكِبْر والغرور، حتى أن القادم ليقدم المدينة فيدخل مجلس النبي صلى الله عليه وسلّم فيقول: "أيكم محمد؟!" إذ لم يكن صلى الله عليه وسلّم يتميز عنهم بلباس ولا هيئة، وكلّ ذلك مع كونه أعلم الناس وأعرفهم بربه سبحانه.
أيّها المؤمنون:
ويدخل في جملة المستكِبْرين كذلك أولئك الذين يجادلون بالباطل، ويردون الحق سعياً وراء شهوة أو شبهة، والقرآن الكريم يفضح أمثال هؤلاء ويبين الدافع وراء خصومتهم وجدالهم بالباطل: (الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كِبْر مَقْتاً عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكِبْر جَبَّارٍ).
فالآية الكريمة تفضح هذا النوع من الناس الذي يجادل في آيات الله ويكابر، ويزعم لنفسه وللناس أنّه إنّما يناقش لأنه لم يقتنع، ويجادل لأنّه غير مستيقن، لكن الله العليم الخبير يقرر أنّه الكِبْر، والكِبْر وحده، فهو الذي يحيك في الصدر، وهو الذي يدعو صاحبه إلى الجدال فيما لا جدال فيه، والى المعاندة فيما هو من الواضحات البينات، ثم أنّه مع ذلك يجادل بغير حجة ولا برهان، ولا هدى ولا كتاب منير.
ويدخل في جملة المستكِبْرين كذلك أولئك المتخلفون عن أعظم شعائر الدين، وأظهر واجباته، وهي الصلاة المفروضة، والتي لا يتخلّف عنها ولا يتكاسل عن أدائها إلا مستكِبْر مغرور، واقرأ إن شئت وقوله تعالى: (فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى * وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى * ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى * أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى).
تأمل بتعبير القرآن البليغ، وهو يتهكم بذلك المفرط المغرور المتثاقل عن الصلاة، ويصور حركة اختياله، بأنه يتمطى؛ يمط ظهره، ويتبختر في مشيته، ذاهباً إلى أهله، داخلاً بيته، من غير أن يشعر بعظم جنايته حين يفرط في الأمانة المناطة به!.
ويا لمصيبتنا بأمثال هؤلاء الذين يصك إسماعهم النداء صباح مساء، فيمنعهم كِبْرهم وغرورهم عن إجابته، تلهيهم صحة ابدأنهم وكثرة أموالهم وإمهال الله لهم عن الاستجابة لله ورسوله.
فإلى الله المشتكى، واليه الملتجأ.
ويدخل في جملة المستكِبْرين أخيراً: أولئك المثقفون بثقافات الغرب وسمومه، الراضعون من حثالة أفكاره وفلسفاته، المتنكرون لقيم الإسلام وفضائله، الراغبون في نبذ موروث الفضائل، واستجلاب كل ذميم و رذيل من أخلاقيات القوم وطبائعهم.
نعوذ بالله من الكفر وأهله.
بارك الله لي ولكم في القرءان العظيم، وسنة نبيه الصادق الأمين، ونفعني وإياكم بما فيهما من الهداية والتبيين.
أقول ما تسمعون، واستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الملك الحق المبين، مالك الملك رب العالمين.
وأصلّي وأسلّم على الهادي البشير، والسراج المنير، بعثه الله تعالى بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون. أما بعد:
فإن الكِبْر أنواع وأشكال، والمستكِبْرون أصناف وأمثال.
ولقد توعد الله سبحانه المستكِبْرين عموما بالذل والصغار، والخزي والهوان، يقول النبي صلى الله عليه وسلّم: "يحشر المتكِبْرون يقوم القيامة أمثال الذر يطؤهم الناس".
فالجزاء من جنس العمل، فحين بغوا في الأرض بغير الحق، وتعالوا فوق الناس بكِبْريائهم وغرورهم، فإنهم يعودون يوم القيامة أقزاماً كالذر يوطئون بالإقدام، ويركلون بالأرجل.
فهناك تسقط الهالات الكاذبة والقيم الزائفة، فما عادوا يملكون شيئا يخدعون الناس ببريقه ويساومونهم بزخرفة وبهارجه.
لقد كان حريّاً بالمستكِبْر أن يتذكّر - قبل أن ينتابه شيء من الغرور أو العجب أو تسول له نفسه احتقار الناس وازدرائهم - كان حريّاً به أن يتذكر الماء الذي خُلق منه، والجيفة التي سيصير إليها، يتذكر أنّه أشبه بهباءة صغيرة في كون الله الواسع العظيم.
ويتذكّر قوله تعالى في الحديث القدسي: "الكِبْرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداً منها عذبته".
وقوله عليه الصلاة والسلام: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كِبْر". [أخرجه مسلم].
فكيف بمن امتلأ كِبْراً، من رأسه حتى أخمص قدميه؟!.
أيها الإخوة الكرام:
إن التواضع لا يصغر كبيراً، ولا يضع رفيعاً، ولا يبطل حقاً، ولكنه يوجب لصاحبه فضلاً، ويكسبه جلالاً وقدراً.
والعارفون بالله الخاشعون له سبحان لا يأبهون في قليل أو كثير من القيم الزائفة والبهارج الخادعة.
هذا رسول الله صلى الله عليه وسلّم يدخل مكة عام الفتح، فاتحاً منتصراً، محرراً لها من ربقة الوثنية والجاهلية، فلا ينفك عن التسبيح والاستغفار والثناء على ربه بما هو أهله، ويدخل شوارع مكة وأزقتها بكل تواضع وخشوع وسكينة واطمئنان، لم تحدثه نفسه في يوم كهذا بعجب أو غرور أو استعلاء وتجبر!.
وهذا عمر يتأسى بنبيّه عليه السلام، فيدخل بيت المقدس فاتحاً مظًّفراً، فيدخله متأبطاً حذاءه، ماشياً غير راكب، في خضوع وتواضع نادرين.
وهذا أبو بكر الخليفة الأول ينطلق وهو إمام للمسلمين، ينطلق إلى بيت عجوز في إطراف المدينة، فيلب شاتها، ويصنع طعامها، وينظّف بيتها! فاعتبروا يا أولى الأبصار.
اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك.
اللهم إنّا نسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والسلامة من كل إثم، والغنيمة من كل بر، والفوز بالجنة، والنجاة من النار.
اللهم أكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك.
اللهم لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة انك أنت الوهاب.
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى