مسلم
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
د. رياض بن محمد المسيميري
المكاسب الخبيثة
اللهم لك الحمد بما أنعمت به علينا من نعمك العظيمة وآلائك الجسيمة؛ حيث أرسلت إلينا أفضل رسلك؛ وأنزلت علينا خير كتبك؛ لك الحمد بالإيمان، ولك الحمد بالقرآن، ولك الحمد بالسنة.
لك الحمد بكل نعمة أنعمت بها علينا في قديم أو حديث، أو سر أو علانية، أو عامة أو خاصة، أو شاهد أو غائب.
لك الحمد حتى ترضى؛ ولك الحمد إذا رضيت، ولا حول ولا قوة إلا بك.
وأشهد ألا إله إلا أنت، وأشهد أن محمداً عبدك ورسولك؛ وصفيك وخليلك، وخيرتك من خلقك، وأمينك على وحيك؛ بعثته إلينا بالهدى ودين الحق لتظهره على الدين كله ولو كره المشركون؛ أما بعد.
معاشر المسلمين:
فكنا قد تحدثنا في الخطبة الماضية، عن مصدر خبيث من مصادر كسب المال الحرام، إلا وهو الغلول والسرقة من بيت مال المسلمين، وذكرنا من النصوص الواضحات، والحجج البينات ما يكفي لردع ذوي القلوب الحية المشفقة من عذاب الله ومقته، الخائفة من خسارة الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين.
واليوم أذكر - أن شاء الله تعالى - تتمة للفائدة، جملة من المكاسب المحرمة، التي يكثر الوقوع فيها، محذراً نفسي وإخواني، من مغبة الانزلاق إليها.
فمن المكاسب الخبيثة المحرمة، بل من أشدها خبثاً، وأعظمها جرماً: الربا، وأمره واضح لا مرية فيه، فالمرابي محارب لله ورسوله، معرض نفسه لأبشع نهاية وأسوأ عاقبة، قال الله تعالى:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ). [سورة البقرة، الآية: 278].
وقال سبحانه:
(فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ). [سورة البقرة، الآية: 279].
وآكل الربا لا يقوم من قبره يوم يقوم إلا كالذي يتخبطه الشيطان من المس، يقول الله تعالى:
(الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ). [سورة البقرة، الآية: 275].
ولقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه، وشاهديه، وجعلهم سواءاً، ففي الصحيح عن جابر بن عبد الله قال: "لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آكِلَ الرِّبَا وَمُؤْكِلَهُ وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَيْهِ، وَقَالَ: هُمْ سَوَاءٌ".
إنّ تحريم الربا أمر معلوم من الدين بالضرورة، ونصوص الكتاب والسنة واضحة الدلالة صريحة العبارة في تحريم الربا ولعن المرابين، وهو محل إجماع المسلمين سلفاً وخلفاً، فلا عبرة إذاً بعد ذلك بفتاوى علماء الضلالة وأحبار السوء، والذين أفتوا بتحليل بعض أنواع الربا سعياً وراء شهوة أنفسهم المريضة وعقولهم السقيمة، فسحقاً لهم وبعداً.
ويدخل في الربا بيع العينة، وما أكثر وقوع الناس فيه. وصورته: إن يشتري الزبون من البائع سلعة معينة بثمن مؤجل، ثم يبيعها الزبون في الحال، على البائع نفسه بثمن أقل من الثمن المؤجل ويقبض المبلغ نقداً.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن عائشة رضي الله عنها: "إنها جاءتها أم ولد لزيد بن أرقم فقالت لها: يا أم المؤمنين، أتعرفين زيد ابن أرقم؟! قالت: نعم، قالت فاني بعته عبداً إلى العطاء، ثمانمائة، فاحتاج إلى ثمنه فاشتريته قبل محل الأجل بستمائة، فقالت عائشة: بئس ما شريت وبئس ما اشتريت، أبلغي زيداً انه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يتب. قالت: فقلت يا أم المؤمنين أرأيت أن تركت المائتين وأخذت الستمائة؟! قالت: نعم، من جاء موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف".
ومن المكاسب المحرمة الرشوة، وهو ما يدفعه زيدٌ من الناس مقابل الحصول على ما لا حق له فيه، أو للتخلص به من حق في ذمته.
وفي الحديث: "لعن الله الراشي والمرتشي والرائش بينهما".
والراشي: هو الذي يدفع الرشوة.
والمرتشي: هو آخذها.
والرائش: هو الواسطة بينهما.
ومن المكاسب المحرمة: الغش والخداع والاحتيال.
وللغش والاحتيال صورة متعددة فمنها:
ما يفعله بعض باعة الطعام، من جعل الردئ في أسفله، وجعل الطيب أعلاه، وقد يقسم بعضهم أن أسفله كأعلاه، أو أنه بضاعة اليوم، وهو بضاعة الأمس أو الذي قبله.
عن أبي هريرة رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على صبرة طعام فادخل يده فيها، فنالت أصابعه بللاً فقال: ما هذا يا صاحب الطعام؟! فقال: أصابته السماء، أي أصابه المطر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، أفلا جعلته فوق الطعام، كي يراه الناس؟! من غش فليس منا". أخرجه مسلم.
ومن الغش وأكل أموال الناس بالباطل كذلك: ما يعلنه بعض أصحاب المحلات والدكاكين عن تقبيل محلاتهم ودكاكينهم، بدعوى عدم التفرغ، أو لدواعي السفر، وهم كاذبون في ذلك، فإنّ الذي دعاهم لبيع محلاتهم ودكاكينهم هو إفلاسهم وقلة زبائنهم، فيأتي مغفل ساذج مسكين، فيرضى منهم بيمين كاذبة غموس بأنّ المحل يدخل ذهباً، وأنّ دخل المحل كذا وكذا من الأرقام الخيالية المزورة، وهذا كله تزوير واحتيال واكل للمال الحرام.
ومن المكاسب المحرمة الخبيثة كذلك: ما يحصل في أماكن بيع السيارات والعقارات ونحوها فيما يعرف بالمزاد العلني، حيث يجتمع بعض المحتالين والمزورين ويزايدون في ثمن السيارة أو الأرض المباعة، ولا رغبة لهم في الشراء، حتى يرتفع ثمنها ثم ينفضون عن المزاد، ليرسو المبيع على الزبون الغريب المسكين، وهذا هو النجش المحرم، الذي صح عن النبي صلى الله عليه وسلم تحريمه بقوله: "ولا تناجشوا".
ومن المكاسب الخبيثة المحرمة: ما يقوم به بعض أرباب المؤسسات والشركات، أو بعض الأفراد من أكل أموال عمالهم، وبخسهم حقوقهم، أو التلاعب بالعقود المبرمة معهم.
فان بعض الكفلاء يستقدم عمّالاً بعقود معينة، وأجور محدودة، فإذا جاءوا إلى هنا خيّرهم كفيلهم بين أمرين أحلاهما مرّ، فإما أن يقبلوا بأقل من الأجر المتفق عليه وإما أن يهددوا بإنهاء العقود، وتسفيرهم إلى بلادهم، وهذا في غاية الظلم والجناية ومخالف لأمره تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ).
وفي صحيح البخاري: حديث يزلزل القلوب لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، عن أبي هريرة ورضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله عز وجل: "ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة، رجل أعطي بي ثم غدر، ورجل باع حراً فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره".
ومن المكاسب الخبيثة المحرمة: ما يقوم به بعض العمال والإجراء، لا سيما العاملون في المباسط والدكاكين والمحلات من أكل أموال كفلائهم، أصحاب تلك المحلات، حتى عزَّ وجود الرجل الأمين، وصدق عليه الصلاة والسلام، فقد أخبر في الحديث الصحيح عن رفع الأمانة فقال: "فَيُصْبِحُ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ فَلَا يَكَادُ أَحَدٌ يُؤَدِّي الْأَمَانَةَ فَيُقَالُ إِنَّ فِي بَنِي فُلَانٍ رَجُلًا أَمِينًا وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ: مَا أَعْقَلَهُ وَمَا أَظْرَفَهُ وَمَا أَجْلَدَهُ، وَمَا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ". [أخرجه البخاري من حديث حذيفة – رضي الله عنه].
ومن المكاسب الخبيثة المحرمة: أكل مال اليتيم من قِبَلِ الأولياء، أو أكل الورثة الكبار لأموال الورثة القُصَّر أو الضعفة من النساء، وغيرهن، يقول الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً).
ومن المكاسب الخبيثة المحرمة: ما يقوم به بعض الأزواج من الاستيلاء على مرتبات زوجاتهم بدعوى حفظه لهن، أو بناء المستقبل المشترك كذباً واحتيالاً، وهو إنما ينوي محض الاستيلاء عليه، والاستمتاع به وحده، ولربما وصل الأمر ببعضهم إلى التهديد بورقة الطلاق، وأخذ الأولاد, وتشتيت الأسرة، والنبي صلى الله عليه وسلم بقول: "لا يحل مال امرئ إلا بطيب من نفسه".
ومن المكاسب الخبيثة المحرمة كذلك: الاستقراض من الناس، من غير نية إرجاع ما استقرضوه، وذلك سحت وظلم، قال عليه الصلاة والسلام: "من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله". [أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه].
ومن المكاسب الخبيثة المحرمة: ما يقوم به بعض المتسولين على أبواب الملوك والأمراء، أو على أبواب المساجد وغيرها من سؤال المال بلا حاجة، وقد يكتب بعضهم المعاريض الكاذبة، ويختلق الحجج الواهية لاستجداء عطف الناس، وهو سحت لا مرية فيه، ففي [صحيح مسلم] من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقي الله، و ليس في وجهة مزعة لحم".
وفي صحيح [مسلم كذلك] عن قبيصة بن مخارق الهلالي، رضي الله عنه، قال: "تحملت حمالة، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله فيها، فقال: أقم حتى تأتينا الصدقة – أي الزكاة - فنأمر لك بها، ثم قال: يا قبيصة أنّ المسألة، لا تحل إلا لأحد ثلاثة رجل تحمل حمالة، فحلت له المسألة، حتى يصيبها ثم يمسك، ورجل إصابته جائحة، اجتاحت ماله، فحلت له المسألة، حتى يصيب قواماً من عيش - أو قال: سداداً من عيش - ورجل إصابته فاقة، حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجا من قومه: لقد أصابت فلاناً فاقة، فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش - أو قال: سداداً من عيش - فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحتاً يأكلها صاحبها سحتاً".
بارك الله لي ولكم في القرءان العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون، واستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله المتفرد بالجلال والكمال تعظيما وتكبيراً، المتفرد بتصريف الأحوال تقديراً وتدبيراً، المتعالي بعظمة ومجده، الباعث نبيه بالهدى ودين الحق بشيراً ونذيراً.
وأشهد إلا اله إلا هو الحي القيوم، مالك الملك رب العالمين.
وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله سيد الأولين والآخرين، أما بعد:
أيها المسلمون:
فإنّ استعراض بعض هذه المكاسب المحرمة والتطرّق لها لا يعني عدم وجود غيرها.
كلا، فالمكاسب والمعاملات المحرمة كثيرة، وكثيرة جداً، ولا يتسع المقام لذكرها في خطبة أو خطبتين، أو جلسة أو جلستين.
إلا أنه من المفيد ذكر بعض الأسباب التي أدت إلى وقوع كثير من المخالفات الشرعية في مجتمعات المسلمين، لا سيما ما ظهر حديثاً، إذ أن وصف تلك الأمراض الاجتماعية، دون تأمل في الأسباب التي أدت إلى وجودها، ومن ثم معرفة وسائل علاجها وبترها، فان ذلك مناف للحكمة وقصوراً في الطرح، ومن هنا فأقول:
إن من أهم الأسباب التي أدت إلى انتشار الكسب الحرام في مجتمعات المسلمين عموماً: ضعف عقيدة الإيمان بالله واليوم الآخر، حيث تنطفئ جذوة الخوف والخشية من سوء العاقبة ووخامة المصير، ويضمحل جانب المراقبة لله رب العالمين، فيتحول العبد إلى إنسان ممسوخٍ في عقيدته، متناقضاٍ في تصرفاته، متخبطاٍ في سلوكه، لا يبالي في أي واد هلك!.
ومن الأسباب كذلك: طول الأمل ونسيان الموت، أخرج [مسلم من حديث أنس] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَهْرَمُ ابْنُ آدَمَ وَتَشِبُّ مِنْهُ اثْنَتَانِ الْحِرْصُ عَلَى الْمَالِ وَالْحِرْصُ عَلَى الْعُمُرِ".
وهكذا يظل ابن آدم غافلاً وهو يركض وراء جمع المال من أي طريق وقد أصم أذنيه، وأعمى عينيه عن كل موعظة أو نصيحة، حتى اختطفه الموت، من بين أكتاف ماله، ثم أُخِذَ جثة هامدة لا روح فيه، وأُلقي في قبره وحيداً، تاركاً ما جمعه خلف ظهره، وصدق الله إذ يقول: (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ). [سورة الأنعام، الآية: 94].
ومن الأسباب كذلك: غياب الثقافة الإسلامية الصحيحة، وفقد التنشئة التربوية السليمة في كثير من بلاد المسلمين.
ونتيجة لذلك نشأت أجيالٌ ممسوخة في عقائدها، متخبطة في ولائها، متناقضة في سلوكياتها وتصرفاتها، لذا كان لزاماً على العلماء وطلبة العلم والدعاة القيام بواجب النصيحة والتذكير وبث الوعي في أوساط الأمة.
كما أنّ على القائمين على الإعلام والتعليم في بلاد المسلمين تربية الناس على الفضيلة والأمانة والعفاف، وتصحيح الخلل في المناهج التعليمة، والسياسات الإعلامية.
نسأل الله تعالى أن يصلح حالنا، وأن يرقق قلوبنا، ويغفر حوبنا، ويغفر ذنوبنا.
إلا وصلوا على النبي المصطفى، والرسول المجتبى، فإنّ الله تعالى أمرنا بذلك في كتابه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً).
المكاسب الخبيثة
اللهم لك الحمد بما أنعمت به علينا من نعمك العظيمة وآلائك الجسيمة؛ حيث أرسلت إلينا أفضل رسلك؛ وأنزلت علينا خير كتبك؛ لك الحمد بالإيمان، ولك الحمد بالقرآن، ولك الحمد بالسنة.
لك الحمد بكل نعمة أنعمت بها علينا في قديم أو حديث، أو سر أو علانية، أو عامة أو خاصة، أو شاهد أو غائب.
لك الحمد حتى ترضى؛ ولك الحمد إذا رضيت، ولا حول ولا قوة إلا بك.
وأشهد ألا إله إلا أنت، وأشهد أن محمداً عبدك ورسولك؛ وصفيك وخليلك، وخيرتك من خلقك، وأمينك على وحيك؛ بعثته إلينا بالهدى ودين الحق لتظهره على الدين كله ولو كره المشركون؛ أما بعد.
معاشر المسلمين:
فكنا قد تحدثنا في الخطبة الماضية، عن مصدر خبيث من مصادر كسب المال الحرام، إلا وهو الغلول والسرقة من بيت مال المسلمين، وذكرنا من النصوص الواضحات، والحجج البينات ما يكفي لردع ذوي القلوب الحية المشفقة من عذاب الله ومقته، الخائفة من خسارة الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين.
واليوم أذكر - أن شاء الله تعالى - تتمة للفائدة، جملة من المكاسب المحرمة، التي يكثر الوقوع فيها، محذراً نفسي وإخواني، من مغبة الانزلاق إليها.
فمن المكاسب الخبيثة المحرمة، بل من أشدها خبثاً، وأعظمها جرماً: الربا، وأمره واضح لا مرية فيه، فالمرابي محارب لله ورسوله، معرض نفسه لأبشع نهاية وأسوأ عاقبة، قال الله تعالى:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ). [سورة البقرة، الآية: 278].
وقال سبحانه:
(فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ). [سورة البقرة، الآية: 279].
وآكل الربا لا يقوم من قبره يوم يقوم إلا كالذي يتخبطه الشيطان من المس، يقول الله تعالى:
(الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ). [سورة البقرة، الآية: 275].
ولقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه، وشاهديه، وجعلهم سواءاً، ففي الصحيح عن جابر بن عبد الله قال: "لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آكِلَ الرِّبَا وَمُؤْكِلَهُ وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَيْهِ، وَقَالَ: هُمْ سَوَاءٌ".
إنّ تحريم الربا أمر معلوم من الدين بالضرورة، ونصوص الكتاب والسنة واضحة الدلالة صريحة العبارة في تحريم الربا ولعن المرابين، وهو محل إجماع المسلمين سلفاً وخلفاً، فلا عبرة إذاً بعد ذلك بفتاوى علماء الضلالة وأحبار السوء، والذين أفتوا بتحليل بعض أنواع الربا سعياً وراء شهوة أنفسهم المريضة وعقولهم السقيمة، فسحقاً لهم وبعداً.
ويدخل في الربا بيع العينة، وما أكثر وقوع الناس فيه. وصورته: إن يشتري الزبون من البائع سلعة معينة بثمن مؤجل، ثم يبيعها الزبون في الحال، على البائع نفسه بثمن أقل من الثمن المؤجل ويقبض المبلغ نقداً.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن عائشة رضي الله عنها: "إنها جاءتها أم ولد لزيد بن أرقم فقالت لها: يا أم المؤمنين، أتعرفين زيد ابن أرقم؟! قالت: نعم، قالت فاني بعته عبداً إلى العطاء، ثمانمائة، فاحتاج إلى ثمنه فاشتريته قبل محل الأجل بستمائة، فقالت عائشة: بئس ما شريت وبئس ما اشتريت، أبلغي زيداً انه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يتب. قالت: فقلت يا أم المؤمنين أرأيت أن تركت المائتين وأخذت الستمائة؟! قالت: نعم، من جاء موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف".
ومن المكاسب المحرمة الرشوة، وهو ما يدفعه زيدٌ من الناس مقابل الحصول على ما لا حق له فيه، أو للتخلص به من حق في ذمته.
وفي الحديث: "لعن الله الراشي والمرتشي والرائش بينهما".
والراشي: هو الذي يدفع الرشوة.
والمرتشي: هو آخذها.
والرائش: هو الواسطة بينهما.
ومن المكاسب المحرمة: الغش والخداع والاحتيال.
وللغش والاحتيال صورة متعددة فمنها:
ما يفعله بعض باعة الطعام، من جعل الردئ في أسفله، وجعل الطيب أعلاه، وقد يقسم بعضهم أن أسفله كأعلاه، أو أنه بضاعة اليوم، وهو بضاعة الأمس أو الذي قبله.
عن أبي هريرة رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على صبرة طعام فادخل يده فيها، فنالت أصابعه بللاً فقال: ما هذا يا صاحب الطعام؟! فقال: أصابته السماء، أي أصابه المطر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، أفلا جعلته فوق الطعام، كي يراه الناس؟! من غش فليس منا". أخرجه مسلم.
ومن الغش وأكل أموال الناس بالباطل كذلك: ما يعلنه بعض أصحاب المحلات والدكاكين عن تقبيل محلاتهم ودكاكينهم، بدعوى عدم التفرغ، أو لدواعي السفر، وهم كاذبون في ذلك، فإنّ الذي دعاهم لبيع محلاتهم ودكاكينهم هو إفلاسهم وقلة زبائنهم، فيأتي مغفل ساذج مسكين، فيرضى منهم بيمين كاذبة غموس بأنّ المحل يدخل ذهباً، وأنّ دخل المحل كذا وكذا من الأرقام الخيالية المزورة، وهذا كله تزوير واحتيال واكل للمال الحرام.
ومن المكاسب المحرمة الخبيثة كذلك: ما يحصل في أماكن بيع السيارات والعقارات ونحوها فيما يعرف بالمزاد العلني، حيث يجتمع بعض المحتالين والمزورين ويزايدون في ثمن السيارة أو الأرض المباعة، ولا رغبة لهم في الشراء، حتى يرتفع ثمنها ثم ينفضون عن المزاد، ليرسو المبيع على الزبون الغريب المسكين، وهذا هو النجش المحرم، الذي صح عن النبي صلى الله عليه وسلم تحريمه بقوله: "ولا تناجشوا".
ومن المكاسب الخبيثة المحرمة: ما يقوم به بعض أرباب المؤسسات والشركات، أو بعض الأفراد من أكل أموال عمالهم، وبخسهم حقوقهم، أو التلاعب بالعقود المبرمة معهم.
فان بعض الكفلاء يستقدم عمّالاً بعقود معينة، وأجور محدودة، فإذا جاءوا إلى هنا خيّرهم كفيلهم بين أمرين أحلاهما مرّ، فإما أن يقبلوا بأقل من الأجر المتفق عليه وإما أن يهددوا بإنهاء العقود، وتسفيرهم إلى بلادهم، وهذا في غاية الظلم والجناية ومخالف لأمره تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ).
وفي صحيح البخاري: حديث يزلزل القلوب لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، عن أبي هريرة ورضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله عز وجل: "ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة، رجل أعطي بي ثم غدر، ورجل باع حراً فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره".
ومن المكاسب الخبيثة المحرمة: ما يقوم به بعض العمال والإجراء، لا سيما العاملون في المباسط والدكاكين والمحلات من أكل أموال كفلائهم، أصحاب تلك المحلات، حتى عزَّ وجود الرجل الأمين، وصدق عليه الصلاة والسلام، فقد أخبر في الحديث الصحيح عن رفع الأمانة فقال: "فَيُصْبِحُ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ فَلَا يَكَادُ أَحَدٌ يُؤَدِّي الْأَمَانَةَ فَيُقَالُ إِنَّ فِي بَنِي فُلَانٍ رَجُلًا أَمِينًا وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ: مَا أَعْقَلَهُ وَمَا أَظْرَفَهُ وَمَا أَجْلَدَهُ، وَمَا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ". [أخرجه البخاري من حديث حذيفة – رضي الله عنه].
ومن المكاسب الخبيثة المحرمة: أكل مال اليتيم من قِبَلِ الأولياء، أو أكل الورثة الكبار لأموال الورثة القُصَّر أو الضعفة من النساء، وغيرهن، يقول الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً).
ومن المكاسب الخبيثة المحرمة: ما يقوم به بعض الأزواج من الاستيلاء على مرتبات زوجاتهم بدعوى حفظه لهن، أو بناء المستقبل المشترك كذباً واحتيالاً، وهو إنما ينوي محض الاستيلاء عليه، والاستمتاع به وحده، ولربما وصل الأمر ببعضهم إلى التهديد بورقة الطلاق، وأخذ الأولاد, وتشتيت الأسرة، والنبي صلى الله عليه وسلم بقول: "لا يحل مال امرئ إلا بطيب من نفسه".
ومن المكاسب الخبيثة المحرمة كذلك: الاستقراض من الناس، من غير نية إرجاع ما استقرضوه، وذلك سحت وظلم، قال عليه الصلاة والسلام: "من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله". [أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه].
ومن المكاسب الخبيثة المحرمة: ما يقوم به بعض المتسولين على أبواب الملوك والأمراء، أو على أبواب المساجد وغيرها من سؤال المال بلا حاجة، وقد يكتب بعضهم المعاريض الكاذبة، ويختلق الحجج الواهية لاستجداء عطف الناس، وهو سحت لا مرية فيه، ففي [صحيح مسلم] من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقي الله، و ليس في وجهة مزعة لحم".
وفي صحيح [مسلم كذلك] عن قبيصة بن مخارق الهلالي، رضي الله عنه، قال: "تحملت حمالة، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله فيها، فقال: أقم حتى تأتينا الصدقة – أي الزكاة - فنأمر لك بها، ثم قال: يا قبيصة أنّ المسألة، لا تحل إلا لأحد ثلاثة رجل تحمل حمالة، فحلت له المسألة، حتى يصيبها ثم يمسك، ورجل إصابته جائحة، اجتاحت ماله، فحلت له المسألة، حتى يصيب قواماً من عيش - أو قال: سداداً من عيش - ورجل إصابته فاقة، حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجا من قومه: لقد أصابت فلاناً فاقة، فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش - أو قال: سداداً من عيش - فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحتاً يأكلها صاحبها سحتاً".
بارك الله لي ولكم في القرءان العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون، واستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله المتفرد بالجلال والكمال تعظيما وتكبيراً، المتفرد بتصريف الأحوال تقديراً وتدبيراً، المتعالي بعظمة ومجده، الباعث نبيه بالهدى ودين الحق بشيراً ونذيراً.
وأشهد إلا اله إلا هو الحي القيوم، مالك الملك رب العالمين.
وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله سيد الأولين والآخرين، أما بعد:
أيها المسلمون:
فإنّ استعراض بعض هذه المكاسب المحرمة والتطرّق لها لا يعني عدم وجود غيرها.
كلا، فالمكاسب والمعاملات المحرمة كثيرة، وكثيرة جداً، ولا يتسع المقام لذكرها في خطبة أو خطبتين، أو جلسة أو جلستين.
إلا أنه من المفيد ذكر بعض الأسباب التي أدت إلى وقوع كثير من المخالفات الشرعية في مجتمعات المسلمين، لا سيما ما ظهر حديثاً، إذ أن وصف تلك الأمراض الاجتماعية، دون تأمل في الأسباب التي أدت إلى وجودها، ومن ثم معرفة وسائل علاجها وبترها، فان ذلك مناف للحكمة وقصوراً في الطرح، ومن هنا فأقول:
إن من أهم الأسباب التي أدت إلى انتشار الكسب الحرام في مجتمعات المسلمين عموماً: ضعف عقيدة الإيمان بالله واليوم الآخر، حيث تنطفئ جذوة الخوف والخشية من سوء العاقبة ووخامة المصير، ويضمحل جانب المراقبة لله رب العالمين، فيتحول العبد إلى إنسان ممسوخٍ في عقيدته، متناقضاٍ في تصرفاته، متخبطاٍ في سلوكه، لا يبالي في أي واد هلك!.
ومن الأسباب كذلك: طول الأمل ونسيان الموت، أخرج [مسلم من حديث أنس] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَهْرَمُ ابْنُ آدَمَ وَتَشِبُّ مِنْهُ اثْنَتَانِ الْحِرْصُ عَلَى الْمَالِ وَالْحِرْصُ عَلَى الْعُمُرِ".
وهكذا يظل ابن آدم غافلاً وهو يركض وراء جمع المال من أي طريق وقد أصم أذنيه، وأعمى عينيه عن كل موعظة أو نصيحة، حتى اختطفه الموت، من بين أكتاف ماله، ثم أُخِذَ جثة هامدة لا روح فيه، وأُلقي في قبره وحيداً، تاركاً ما جمعه خلف ظهره، وصدق الله إذ يقول: (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ). [سورة الأنعام، الآية: 94].
ومن الأسباب كذلك: غياب الثقافة الإسلامية الصحيحة، وفقد التنشئة التربوية السليمة في كثير من بلاد المسلمين.
ونتيجة لذلك نشأت أجيالٌ ممسوخة في عقائدها، متخبطة في ولائها، متناقضة في سلوكياتها وتصرفاتها، لذا كان لزاماً على العلماء وطلبة العلم والدعاة القيام بواجب النصيحة والتذكير وبث الوعي في أوساط الأمة.
كما أنّ على القائمين على الإعلام والتعليم في بلاد المسلمين تربية الناس على الفضيلة والأمانة والعفاف، وتصحيح الخلل في المناهج التعليمة، والسياسات الإعلامية.
نسأل الله تعالى أن يصلح حالنا، وأن يرقق قلوبنا، ويغفر حوبنا، ويغفر ذنوبنا.
إلا وصلوا على النبي المصطفى، والرسول المجتبى، فإنّ الله تعالى أمرنا بذلك في كتابه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً).
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى