مسلم
لبيك يا الله
الرسائل
النقاط
البلد
الشيخ /صالح بن عبد الرحمن الخضيري
الإِسْرَافُ: مَظَاهِرُهُ وَأَضْرَارُهُ.
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل الله فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمَّداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان. أمَّا بعدُ:
فيَا أيُّها النَّاس:
أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل وطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم فهذا سبيل الفوز والعزِّ: (وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ).
أيُّها المسلمُون:
نِعَمُ الله سبحانه عليكم متوالية، وخيراته مترادفة، أسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة، فاشكروا الله إن كنتم إيَّاه تعبدون، ولا تكونوا ممَّن بدَّل نِعَمَ الله كفراً وجحوداً، وعصياناً وإعراضاً، ومن قام بشكر نعم الله عليه فهذا سوف يعود خيره عليه: (وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ).
عبَاد الله:
إنّ من الشكر لله سبحانه أن يقتصد المرء في مُتَعِ الحياة من مأكلٍ ومشربٍ وملبسٍ ومسكنٍ وغير ذلك، ففي هذا امتثال لأمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم وحِفْظ لمال الإنسان وصحته.
قال الله تعالى آمراً بالتوسط في جميع الأمور، ولا سيَّما الإنفاق والأكل والشرب: (وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا).
وقال عن عباد الرحمن: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا).
وقال صلى الله عليه وسلم: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ).
والإسراف هو الإفراط ومجاوزة الحدِّ الذي هو القصد [تفسير القرطبي 4/231] فما جاوز به المرء أمرَ الله فهو سَرْفٌ وإسراف.
ومن الإسراف التبذيرُ وهو إنفاق المال في غير حقِّه، وقال قتادة: "التبذير هو النفقة في معصية الله".
هذا وقد نهى الله عن التبذير فقال: (وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا).
سُئِلَ ابن مسعود عن المبذرين فقال رضي الله عنه: "الذين ينفقون في غير حقّ".
وقال مجاهد: "لو أنفق إنسان ماله كله في الحق لم يكن مبذراً، ولو أنفق مدَّاً في غير حق كان مبذراً".
ومن كلام وهب بن منبه أنه قال: "من السَّرْفِ أن يلبس الإنسان ويأكل ويشرب مما ليس عنده، وما جاوز الكفاف فهو التبذير".
أيُّها المسلمُون:
عليكم بالقصد والتوسُّط في جميع الأمور، فهذه الأمة الإسلامية هي الأمة الوسط، والحسنة بين سيئتين، فمن زاد في أكل أو شرب أو نوم أو ملبس أو مركب أو مسكن أو شراء ما يعنُّ بخاطره ففيه من الإسراف والتبذير بحسبه.
والمبذر يشتري كل شيء، حتى ربما استدان مبلغاً من المال واشترى من الكماليات ما لا يُحتاج إليه إلا مرة واحدة كل خمس سنوات، ولربما حمَّل نفسه مشقَّة الديون في أمور لا قيمة لها، والحياة تستقيم بدونها.
ولربما سأل الناس واستجداهم بسبب التوسّع في أمور لا تصلح إلا للأغنياء القادرين، والله تعالى يقول: (لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا).
فالعاقل يدبّر معيشته الدنيوية بعقل، ولا يجاري غيره ويباهي بالأثاث واللباس والمركب والمسكن وغير ذلك، فإن كان فقيراً فالواجب عليه أن يجتهد في الكسب ويدأب في العمل ليكفَّ نفسه عن الذُّلِّ للخلق، مستصحباً القناعة بما كتبه الله له، مبتعداً عن مسابقة الأغنياء والقادرين، وأمّا إن كان غنياً فعليه أن ينفق باعتدال ولْيتذكر بأن كثرة الأموال عنده لا تبيح له الإسراف والتبذير، وعليه أن يوقن بأنه مسؤول عن ماله من أين اكتسبه وفيمَ أنفقه، هذا فضلاً عن أن تدبير النفقة يحميه بإذن الله من الفقر وقد قيل:
قَلِيلُ المـَالِ تُصْلِحُهُ فَيَبْقَى ** وَلا يَبْقَى الكَثِيرُ مَعَ الفَسَادِ
والمبذر مع هذا يعرِّض نفسه للعين والحسد والحقد عليه.
وكذلك فالمبذر للأموال متشبه بأفعال الشياطين، متَّبع للهوى بعيد عن الحق متعرض للذل والحاجة.
معَاشرَ المسلمين:
"الإسراف داء قتَّال ينبت أخلاقاً سيئة، ويهدم بيوتاً عامرة، الجبن والظلم من آثاره، وقلَّة الأمانة من نتائجه، والإمساك عن البذل في وجوه الخير من صنائعه". [توجيهات وذكرى لابن حميد 4/ 225].
إنه طريق إلى الغفلة والترف، وهما من أسباب سوء المصير، قال الله تعالى: (وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا).
وقال سبحانه: (إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ).
فالمسرف غافل عن أوامر ربه ونواهيه، غارق في شهواته وملذاته، آمنٌ من تقلّبات الدهر ومداولة الأيام.
وكم من عزيزٍ ذَلَّ؟!.
وكم من غني افتقر؟!.
وكم من أناس بدلوا نعمة الله كفراً فحلَّت بهم النكبات؟!.
ومما يذكر في التاريخ: أن أمَّ الوزير (يحيى البرمكي) دخلت على قوم في عيد أضحى تطلب جلد كبش تلبسه، فقالت: لقد مرَّ علي مثل هذا العيد وإن عند رأسي أربعمائة جارية يخدمنني، وأنا مع هذا أرى أن ابني يحيى عاقٌّ لي (أي أنها تستقل مثل هذا العدد من الخدم وتودُّ لو أنه أكثر).
أيُّها الإخوَة:
من الإسراف: ما يتعلق بتكاليف الزواج من التوسع في إعداد الولائم، والمغالاة في المهور، والمبالغة في شراء الأقمشة والكماليات الأخرى.
ومن أمثلة ذلك: أن البعض تكلفها خياطة الثوب الواحد من أثواب الأفراح المئات، بل الآلاف من الريالات، وذلك لثوبٍ يُلبس في بعض ليلة، وقد لا يُلبس مرة أخرى، مع ما يصاحب ذلك من الفخر والخيلاء. عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كُلُوا واشرَبُوا والبِسُوا في غيرِ إسرافٍ وَلا مَخْيَلَة". [رواه أحمد].
فماذا لو أن المرأة صرفت جزءاً من قيمة هذه الأثواب إلى الفقراء والمحتاجين، أو لصالح الدعوة إلى الله ونشر الخير، إذاً لكان أحرى أن توفَّق في زواجها، وتكسب رضى ربها، وتمتثل أمر نبيها صلى الله عليه وسلم.
ومن الإسراف في حفلات الزواج: اختيار القصور المَشِيدة غالية الثمن، والتباهي بجمع الناس، وإحضار المغنيات بالأجرة، للغناءٍ بأغنيات كلها حبٌّ وغرام وفحش، وربما صاحبته الموسيقى، والتسبب في سهر الناس وتفويت صلاة الفجر في وقتها.
كل هذه الأشياء وغيرها من خطوات الشيطان، وهي من الإسراف المذموم والتبذير الممقوت.
فعلى النساء وأولياء أمورهنَّ تقوى الله سبحانه والبعد عن التباهي والمفاخرة والإسراف والمكاثرة وترك الانسياق وراء الموضات والأزياء التي يروِّج لها من لا يريدون بنا خيراً.
وتذكروا - عباد الله - أنّ هناك من الرجال والنساء والأطفال في العالم الإسلامي من هم بأمسِّ الحاجة إلى ما يستر أجسادهم ويسدُّ جوعة أطفالهم وكبارهم، ولْتفكر المرأة والرجل الذين يشترون أنواعاً من الأقمشة والكماليات التي قد لا تستعمل إلا مرة واحدة في الحياة بأنهم قد يُشبعون أسرة فقيرة لمدة شهر أو أشهر بقيمة هذا الثوب أو هذا الشيء.
وما يُقال في ملابس النساء يقال في ملابس الرجال أيضاً، فينبغي الاقتصاد في ثمنها وعددها، ويا حبَّذا لو أن الإنسان إذا اشترى ثوباً أو شيئاً يلبسه تصدَّق بالقديم وأوصله إلى الجمعيات الخيرية لئلا تتكدَّس عنده الملابس.
عبَاد الله:
من الإسراف ما يكون في الأكل والشُّرب، وقد سمعنا قوله تعالى: (وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ).
وكثرة الأكل سبب للبِطنة والسُّمنة، ومُكسلة عند الصلاة ومُذهبة للفطنة، قال علي بن الحسين رضي الله عنهما: جمع الله الطبَّ في نصف آية ثم تلا: (وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ).
ولقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم تقدير الغذاء بياناً يغني عن كلام الأطباء حيث قال: "مَا مَلأَ آدميٌّ وعاءً شرَّاً من بطنِه، بحسبِ ابنِ آدمَ أُكُلاتٍ يُقِمْنَ صلبَهُ، فإنْ كانَ لا محَالة فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ وثُلُثٌ لشرابِهِ وثلثٌ لنَفَسِهِ".
وقال عمر لابنه عاصم رضي الله عنهما: "كُل في نصف بطنك، ولا تطرح ثوباً حتى تستخلفه، ولا تكن من قوم يجعلون ما رزقهم الله في بطونهم وعلى ظهورهم".
وقال بعض السلف: "كلُّ العيش قد جرَّبناه، فوجدناه يكفي منه أدناه".
ومن كلام الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: "الدنيا قليلها يجزي، وكثيرها لا يجزي".
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، واقتصدوا في معيشتكم وسائر أحوالكم، فما افتقر مقتصد، وجانبوا الإسراف وبَطَرَ النعمة، فإنّ الله لا يحب المسرفين.
نفعنا الله بما نقول ونسمع، وهدانا صراطه المستقيم، إنه جواد كريم.
أقول ما تسمعون، واستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمَّداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أمَّا بعدُ:
فاتقوا الله عباد الله وكونوا من الشاكرين.
أيُّها المسلمُون:
المرء الموفَّق إذا وسَّع الله عليه اعتدل في الإنفاق على نفسه وأولاده فلا تقتير ولا إسراف، وأما أعمال البِرِّ ووجوه الخير فينفق عليه بلا حدٍّ، وحين قال العلماء: "لا خير في الإسراف". قالوا: "لا تمنع كثيراً في حقٍّ".
فاتقوا الله يا أمة الإسلام وكلوا واشربوا ولا تسرفوا، وأنفقوا خيراً لأنفسكم ومن يوقَ شحَّ نفسه فأولئك هم المفلحون.
الإِسْرَافُ: مَظَاهِرُهُ وَأَضْرَارُهُ.
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل الله فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمَّداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان. أمَّا بعدُ:
فيَا أيُّها النَّاس:
أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل وطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم فهذا سبيل الفوز والعزِّ: (وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ).
أيُّها المسلمُون:
نِعَمُ الله سبحانه عليكم متوالية، وخيراته مترادفة، أسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة، فاشكروا الله إن كنتم إيَّاه تعبدون، ولا تكونوا ممَّن بدَّل نِعَمَ الله كفراً وجحوداً، وعصياناً وإعراضاً، ومن قام بشكر نعم الله عليه فهذا سوف يعود خيره عليه: (وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ).
عبَاد الله:
إنّ من الشكر لله سبحانه أن يقتصد المرء في مُتَعِ الحياة من مأكلٍ ومشربٍ وملبسٍ ومسكنٍ وغير ذلك، ففي هذا امتثال لأمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم وحِفْظ لمال الإنسان وصحته.
قال الله تعالى آمراً بالتوسط في جميع الأمور، ولا سيَّما الإنفاق والأكل والشرب: (وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا).
وقال عن عباد الرحمن: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا).
وقال صلى الله عليه وسلم: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ).
والإسراف هو الإفراط ومجاوزة الحدِّ الذي هو القصد [تفسير القرطبي 4/231] فما جاوز به المرء أمرَ الله فهو سَرْفٌ وإسراف.
ومن الإسراف التبذيرُ وهو إنفاق المال في غير حقِّه، وقال قتادة: "التبذير هو النفقة في معصية الله".
هذا وقد نهى الله عن التبذير فقال: (وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا).
سُئِلَ ابن مسعود عن المبذرين فقال رضي الله عنه: "الذين ينفقون في غير حقّ".
وقال مجاهد: "لو أنفق إنسان ماله كله في الحق لم يكن مبذراً، ولو أنفق مدَّاً في غير حق كان مبذراً".
ومن كلام وهب بن منبه أنه قال: "من السَّرْفِ أن يلبس الإنسان ويأكل ويشرب مما ليس عنده، وما جاوز الكفاف فهو التبذير".
أيُّها المسلمُون:
عليكم بالقصد والتوسُّط في جميع الأمور، فهذه الأمة الإسلامية هي الأمة الوسط، والحسنة بين سيئتين، فمن زاد في أكل أو شرب أو نوم أو ملبس أو مركب أو مسكن أو شراء ما يعنُّ بخاطره ففيه من الإسراف والتبذير بحسبه.
والمبذر يشتري كل شيء، حتى ربما استدان مبلغاً من المال واشترى من الكماليات ما لا يُحتاج إليه إلا مرة واحدة كل خمس سنوات، ولربما حمَّل نفسه مشقَّة الديون في أمور لا قيمة لها، والحياة تستقيم بدونها.
ولربما سأل الناس واستجداهم بسبب التوسّع في أمور لا تصلح إلا للأغنياء القادرين، والله تعالى يقول: (لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا).
فالعاقل يدبّر معيشته الدنيوية بعقل، ولا يجاري غيره ويباهي بالأثاث واللباس والمركب والمسكن وغير ذلك، فإن كان فقيراً فالواجب عليه أن يجتهد في الكسب ويدأب في العمل ليكفَّ نفسه عن الذُّلِّ للخلق، مستصحباً القناعة بما كتبه الله له، مبتعداً عن مسابقة الأغنياء والقادرين، وأمّا إن كان غنياً فعليه أن ينفق باعتدال ولْيتذكر بأن كثرة الأموال عنده لا تبيح له الإسراف والتبذير، وعليه أن يوقن بأنه مسؤول عن ماله من أين اكتسبه وفيمَ أنفقه، هذا فضلاً عن أن تدبير النفقة يحميه بإذن الله من الفقر وقد قيل:
قَلِيلُ المـَالِ تُصْلِحُهُ فَيَبْقَى ** وَلا يَبْقَى الكَثِيرُ مَعَ الفَسَادِ
والمبذر مع هذا يعرِّض نفسه للعين والحسد والحقد عليه.
وكذلك فالمبذر للأموال متشبه بأفعال الشياطين، متَّبع للهوى بعيد عن الحق متعرض للذل والحاجة.
معَاشرَ المسلمين:
"الإسراف داء قتَّال ينبت أخلاقاً سيئة، ويهدم بيوتاً عامرة، الجبن والظلم من آثاره، وقلَّة الأمانة من نتائجه، والإمساك عن البذل في وجوه الخير من صنائعه". [توجيهات وذكرى لابن حميد 4/ 225].
إنه طريق إلى الغفلة والترف، وهما من أسباب سوء المصير، قال الله تعالى: (وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا).
وقال سبحانه: (إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ).
فالمسرف غافل عن أوامر ربه ونواهيه، غارق في شهواته وملذاته، آمنٌ من تقلّبات الدهر ومداولة الأيام.
وكم من عزيزٍ ذَلَّ؟!.
وكم من غني افتقر؟!.
وكم من أناس بدلوا نعمة الله كفراً فحلَّت بهم النكبات؟!.
ومما يذكر في التاريخ: أن أمَّ الوزير (يحيى البرمكي) دخلت على قوم في عيد أضحى تطلب جلد كبش تلبسه، فقالت: لقد مرَّ علي مثل هذا العيد وإن عند رأسي أربعمائة جارية يخدمنني، وأنا مع هذا أرى أن ابني يحيى عاقٌّ لي (أي أنها تستقل مثل هذا العدد من الخدم وتودُّ لو أنه أكثر).
أيُّها الإخوَة:
من الإسراف: ما يتعلق بتكاليف الزواج من التوسع في إعداد الولائم، والمغالاة في المهور، والمبالغة في شراء الأقمشة والكماليات الأخرى.
ومن أمثلة ذلك: أن البعض تكلفها خياطة الثوب الواحد من أثواب الأفراح المئات، بل الآلاف من الريالات، وذلك لثوبٍ يُلبس في بعض ليلة، وقد لا يُلبس مرة أخرى، مع ما يصاحب ذلك من الفخر والخيلاء. عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كُلُوا واشرَبُوا والبِسُوا في غيرِ إسرافٍ وَلا مَخْيَلَة". [رواه أحمد].
فماذا لو أن المرأة صرفت جزءاً من قيمة هذه الأثواب إلى الفقراء والمحتاجين، أو لصالح الدعوة إلى الله ونشر الخير، إذاً لكان أحرى أن توفَّق في زواجها، وتكسب رضى ربها، وتمتثل أمر نبيها صلى الله عليه وسلم.
ومن الإسراف في حفلات الزواج: اختيار القصور المَشِيدة غالية الثمن، والتباهي بجمع الناس، وإحضار المغنيات بالأجرة، للغناءٍ بأغنيات كلها حبٌّ وغرام وفحش، وربما صاحبته الموسيقى، والتسبب في سهر الناس وتفويت صلاة الفجر في وقتها.
كل هذه الأشياء وغيرها من خطوات الشيطان، وهي من الإسراف المذموم والتبذير الممقوت.
فعلى النساء وأولياء أمورهنَّ تقوى الله سبحانه والبعد عن التباهي والمفاخرة والإسراف والمكاثرة وترك الانسياق وراء الموضات والأزياء التي يروِّج لها من لا يريدون بنا خيراً.
وتذكروا - عباد الله - أنّ هناك من الرجال والنساء والأطفال في العالم الإسلامي من هم بأمسِّ الحاجة إلى ما يستر أجسادهم ويسدُّ جوعة أطفالهم وكبارهم، ولْتفكر المرأة والرجل الذين يشترون أنواعاً من الأقمشة والكماليات التي قد لا تستعمل إلا مرة واحدة في الحياة بأنهم قد يُشبعون أسرة فقيرة لمدة شهر أو أشهر بقيمة هذا الثوب أو هذا الشيء.
وما يُقال في ملابس النساء يقال في ملابس الرجال أيضاً، فينبغي الاقتصاد في ثمنها وعددها، ويا حبَّذا لو أن الإنسان إذا اشترى ثوباً أو شيئاً يلبسه تصدَّق بالقديم وأوصله إلى الجمعيات الخيرية لئلا تتكدَّس عنده الملابس.
عبَاد الله:
من الإسراف ما يكون في الأكل والشُّرب، وقد سمعنا قوله تعالى: (وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ).
وكثرة الأكل سبب للبِطنة والسُّمنة، ومُكسلة عند الصلاة ومُذهبة للفطنة، قال علي بن الحسين رضي الله عنهما: جمع الله الطبَّ في نصف آية ثم تلا: (وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ).
ولقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم تقدير الغذاء بياناً يغني عن كلام الأطباء حيث قال: "مَا مَلأَ آدميٌّ وعاءً شرَّاً من بطنِه، بحسبِ ابنِ آدمَ أُكُلاتٍ يُقِمْنَ صلبَهُ، فإنْ كانَ لا محَالة فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ وثُلُثٌ لشرابِهِ وثلثٌ لنَفَسِهِ".
وقال عمر لابنه عاصم رضي الله عنهما: "كُل في نصف بطنك، ولا تطرح ثوباً حتى تستخلفه، ولا تكن من قوم يجعلون ما رزقهم الله في بطونهم وعلى ظهورهم".
وقال بعض السلف: "كلُّ العيش قد جرَّبناه، فوجدناه يكفي منه أدناه".
ومن كلام الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: "الدنيا قليلها يجزي، وكثيرها لا يجزي".
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، واقتصدوا في معيشتكم وسائر أحوالكم، فما افتقر مقتصد، وجانبوا الإسراف وبَطَرَ النعمة، فإنّ الله لا يحب المسرفين.
نفعنا الله بما نقول ونسمع، وهدانا صراطه المستقيم، إنه جواد كريم.
أقول ما تسمعون، واستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمَّداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أمَّا بعدُ:
فاتقوا الله عباد الله وكونوا من الشاكرين.
أيُّها المسلمُون:
المرء الموفَّق إذا وسَّع الله عليه اعتدل في الإنفاق على نفسه وأولاده فلا تقتير ولا إسراف، وأما أعمال البِرِّ ووجوه الخير فينفق عليه بلا حدٍّ، وحين قال العلماء: "لا خير في الإسراف". قالوا: "لا تمنع كثيراً في حقٍّ".
فاتقوا الله يا أمة الإسلام وكلوا واشربوا ولا تسرفوا، وأنفقوا خيراً لأنفسكم ومن يوقَ شحَّ نفسه فأولئك هم المفلحون.
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى